القدم الكبيرة

استيقظ «مُحب» مبكرًا، وبعد الإفطار نزل هو و«نوسة»، وتوجَّها إلى منزل «عاطف» حيث كان في انتظارهما، فاتجه الثلاثة إلى عنوان «حمدي»، أمَّا «لوزة» فذهبت إلى «تختخ».

اقترب الثلاثة من منزل «حمدي»، كانت نوافذه مغلقة، والباب مُغلق، ولا أثر للحياة في البيت.

قال «مُحب»: شيءٌ غريب! هل ما زال الرياضي نائمًا حتى الآن؟ إن الرياضيين عادةً يستيقظون مبكرين.

عاطف: إنها ملاحظة مهمة فعلًا وعلينا أن نعرف، فلعله يكون قد خرج قبل أن نأتي.

كان هناك كشك يبيع المثلجات قريبًا من البيت، فاتجه الثلاثة إليه، وطلبوا ثلاث زجاجات من الكوكاكولا، وكانت فرصةً لتبادل الحديث مع البائع.

قالت «نوسة»: هل زبائنك كثيرون يا عم؟

رد الرجل: الحمد لله … إن الجميع هنا يُحبونني؛ فأنا في هذا المكان منذ زمنٍ بعيد، وأعرف كل السكان، وهم يعرفونني أيضًا.

نوسة: هل تعرف «حمدي»؟

الرجل: الأستاذ «حمدي» المدرِّس؟

نوسة: هل هو مدرِّس؟

الرجل: نعم إنه مدرِّس لغة إنجليزية … ويسكن في هذا المنزل.

وأشار الرجل إلى منزلٍ آخر غير منزل «حمدي» الذي ذهب إليه الأصدقاء.

قال «عاطف»: هل هو ضخم الجسم؟

ضحك الرجل قائلًا: ضخم الجسم؟! هل تقول نكتة؟ إنه قصيرٌ ورفيع مثل عود الكبريت … ولكنه رجلٌ متعلِّم ومثقف.

مُحب: وهل هناك «حمدي» آخر؟

الرجل: لعلك تقصد الأستاذ «عبد الحميد»، إن الناس يُنادونه باسم «حمدي» أيضًا.

نوسة: نعم … هذا هو الرجل الذي نبحث عنه، هل هو ضخم الجسم؟

الرجل: جدًّا فهو طويلٌ وعريض، وأولاد الحتة يُسمُّونه الدبَّابة.

ابتسم الأصدقاء لهذا التشبيه؛ ولأنهم وجدوا الرجل الذي يبحثون عنه أيضًا.

عاطف: وهل هو بطل رياضي فعلًا؟

الرجل: نعم إنه بطلٌ في رفع الأثقال، ولكنه هذه الأيام يعيش بطريقةٍ عجيبة.

ابتسم الأصدقاء لهذه الملاحظة، وقالت «نوسة» لتشجعه على الاستمرار في الحديث: ماذا تقصد يا عم بهذه الطريقة العجيبة؟

قال الرجل: إنني لا أُحب الحديث عن سكان الشارع، ولكن الأستاذ «حمدي» يخرج من مسكنه في الساعة الرابعة صباحًا، وأنا أراه لأنني أستيقظ في نفس الساعة لأصلي الفجر، ثم لا يعود إلَّا في الثالثة بعد الظهر، حيث يقضي في منزله ساعة، ويخرج مرةً أخرى ولا يعود إلَّا في العاشرة ليلًا.

كان هذا الحديث كافيًا، فانصرف الأصدقاء، وقد قرَّروا العودة في الثالثة ليروا «حمدي» عن قرب. وفعلًا انصرفوا إلى الكازينو حيث قضوا الوقت، وعندما اقتربت الساعة من الثالثة، عادوا إلى الشارع مرةً أخرى.

وقف الأصدقاء وكأنهم يُصلحون دراجاتهم قريبًا من منزل «حمدي»، وقال «مُحب»: أعتقد أننا سنرى اللص الآن، لقد تذكَّرت أن جميع حوادث السرقة التي يقوم بها اللص الشبح تقع في الصباح، ولعل «حمدي» يخرج مبكِّرًا لاختيار المسكن الذي سيسطو عليه، ثم يرتكب جريمته ويعود بغنيمته.

عاطف: إننا بهذا نكون قد وصلنا إلى حل اللغز الغامض بأسرع ممَّا كنا نتصوَّر.

في الثالثة تمامًا ظهر «حمدي»، وعرفوه من أوصافه التي قالها الرجل، وكان يحمل حقيبةً صغيرةً ممَّا يستعمله ركَّاب الطائرات، وكان ضخمًا قوي الجسم، ومن المؤكَّد أن مقاس قدمه لا يقل عن «٤٧»، وربما أكثر. وهكذا اطمأن الأصدقاء إلى أنهم عثروا على الرجل المطلوب، فغادروا مكانهم مسرعين، في طريقهم إلى «تختخ» لإخباره بكل ما حدث.

عندما وصلوا إلى مكان «تختخ» لم يجدوه، فأُصيبوا بالقلق، لقد أصبحوا قريبين من اللص ذي القدم الكبيرة … اللص الشبح الذي لا يراه أحد، وهم لا يُريدون أن تضيع دقيقة واحدة ما دام اللص قد وقع.

حضر «تختخ» و«لوزة» فقابلهما الأصدقاء الثلاثة بعاصفةٍ من الكلام، كلٌّ منهم يُريد أن يُدلي بمعلوماته قبل الآخر، فرفع «تختخ» يده قائلًا: واحد … واحد … من فضلكم.

قالت «نوسة»: أعتقد أننا وصلنا إلى اللص الخفي … إن كل المواصفات تنطبق عليه … فهو ضخم الجسم … سريع الحركة … وفي حياته شيءٌ غريب …

وأكمل «مُحب» قائلًا: إنه يخرج كل يوم في الرابعة صباحًا ولا يعود قبل الثالثة، ولا أحد يعرف ماذا يفعل في هذه المدة …

وقال «عاطف»: ولعلك تذكر يا «تختخ» أن حوادث السرقات كلها حدثت في الصباح الباكر … أي نحو التاسعة أو قبل ذلك بقليل.

نوسة: هناك شيءٌ هام؛ إنه يحمل حقيبةً صغيرةً في يده، يبدو أنها الحقيبة الصغيرة التي يُخفي فيها المسروقات.

لمعت عينا «تختخ» عندما سمع كل هذا، وقال في كلماتٍ بطيئة: وصلتم فعلًا إلى شيءٍ هام … ويجب علينا ألَّا نترك هذه الفرصة تُفلت منا.

عاطف: وهل حصلتم على معلوماتٍ ذات قيمة عن اللواء «سيف الدين»؟

ردَّت «لوزة»: للأسف الشديد. إن اللواء «سيف الدين» وأسرته قد سافروا إلى المصيف، وليس هناك سوى البوَّاب، وبالطبع سيكون من المضحك أن نسأله عن حذاءٍ مقاس «٤٧».

مُحب: ما هي خطتك يا «تختخ» مع «حمدي»؟

تختخ: ليس أمامنا إلَّا مراقبة «حمدي» مراقبةً كاملة، أي نبدأ من الرابعة صباحًا حتى نعرف أين يذهب … وعلى ضوء هذه المراقبة سوف نعرف كل شيء.

لوزة: هل ستذهب وحدك؟

تختخ: بالطبع؛ فلا يمكن المراقبة بطريقةٍ جماعية، وإلَّا لفتنا الأنظار إلينا.

وافترق الأصدقاء وهم يتوقَّعون أخبارًا هامةً في اليوم التالي، أمَّا «تختخ» فقد ذهب إلى فراشه مبكِّرًا، وضبط المنبه على الساعة الثالثة صباحًا؛ فقد قرَّر أن يستيقظ في هذه الساعة ليقوم بالتنكُّر، حتى يستطيع أن يمشي خلف «حمدي»، دون أن يلفت أنظار أحد إليه.

وفي الموعد المحدَّد دقَّ جرس المنبه، وكان «تختخ» شبه مستيقظ، فقام فورًا وارتدى ثياب المتسوِّل التي استخدمها منذ أيام، ثم تسلَّل من باب الحديقة الخلفي وانطلق إلى منزل «حمدي».

كانت شوارع «المعادي» خاليةً في هذه الساعة المبكِّرة من الصباح، وكأنها مدينة مهجورة، لولا رجال الشرطة الذين كانوا يتحرَّكون هنا وهناك … وبعض المارة ممن تستدعي أعمالهم اليقظة المبكرة.

استقبلت «تختخ» نسائم الفجر الهادئة النظيفة، فأحسَّ بنشاطه يتجدَّد، وذهنه يصفو تدريجيًّا … وصاح ديك … ونبح كلب … فكأن «المعادي» غابةٌ صغيرة تسكنها الحيوانات الأليفة … خاصةً ورائحة الورود كانت تملأ الشوارع، وأغطية الأسوار الخضراء من اللبلاب ترسم صورة الغابة المهذَّبة فعلًا.

ووصل «تختخ» إلى منزل «حمدي» والساعة تقترب من الرابعة، فتلفَّت حوله وهو لا يتوقَّع أن يرى أحدًا … ولكن كانت هناك مفاجأة في انتظاره؛ لقد كان هناك متسوِّل آخر يقف قريبًا منه … لم يشكَّ «تختخ» لحظةً واحدةً أنه الشاويش «فرقع».

لقد أثبتت دورة التدريب التي حضرها الشاويش أنها أفادته جدًّا؛ فها هو ذا لأول مرة يسير في الطريق الصحيح … ويصل إلى المتهم بسرعة … وقال «تختخ» في نفسه: لقد سبقنا الشاويش هذه المرة … وهو بالطبع يملك سلطة القبض على المتهمين … ولعله يقبض على «حمدي» اليوم … وينتهي اللغز … وتنتهي قصة القدم الكبيرة كلها.

وفي الرابعة صباحًا بالضبط، فُتح الباب، وظهر «حمدي» على عتبته، يحمل الحقيبة الصغيرة … ولكنه كان يرتدي ملابس رياضية … «شورت» وفانلةً وحذاءً من الكاوتش.

اهتمَّ «تختخ» بالحذاء … كان ضخمًا وله نعل من الكاوتش … فلم يشك «تختخ» لحظةً واحدةً في أن «حمدي» هو اللص ذو القدم الكبيرة.

أغلق «حمدي» باب مسكنه بالمفتاح، ثم سار بهدوء فتتبعه المتسوِّلان اللذان لم يكونا إلَّا «فرقع» و«تختخ».

كان «حمدي» يسير بنشاط، فاضطرا المتسوِّلان إلى متابعته، ولكن سرعته بدأت تزيد تدريجيًّا فاضطرا إلى الجري. ولمَّا وصل إلى الكورنيش اتجه إلى باب أحد الشركات، حيث ترك حقيبته مع البوَّاب، ثم انطلق يجري … فلم يتردَّد الشاويش «فرقع» في الجري خلفه، أمَّا «تختخ» فقد ابتسم … لقد فهم كل شيء … وحتى يتأكَّد اقترب من البوَّاب الذي ترك معه «حمدي» الحقيبة، وسأله: هل هذا هو الأستاذ «حمدي» … الرياضي المعروف؟ نظر إليه البوَّاب في احتقارٍ وقال: وهل يُهمك أن تعلم هذا؟

تذكَّر «تختخ» أنه يلبس ثياب المتسوِّل فقال في ذلة: نعم … لقد كنت أعرفه وهو صغير … وكنت أيامها بطلًا كما هو الآن.

أحسَّ البوَّاب أنه تسرَّع في احتقاره لهذا المتسوِّل فقال: إنه فعلًا «حمدي» الرياضي المشهور … وهو يقوم بهذا التدريب يوميًّا لإنقاص وزنه، فيلف «المعادي» بقدر ما يستطيع، ثم يعود إلى الشركة في موعد دخول الموظفين، حيث يأخذ حمَّامًا، ثم يرتدي ملابسه التي يتركها معي في هذه الحقيبة، ويقوم بعمله الذي ينتهي في الثانية والنصف.

شكر «تختخ» البوَّاب، لقد استنتج كل هذه المعلومات بمجرَّد أن رأى «حمدي» في ملابسه الرياضية، ثم عندما شاهده يجري، وأخذ «تختخ» يضحك ويضحك … كلما تصوَّر الشاويش «فرقع» وهو يجري خلف الرياضي القوي حتى تنقطع أنفاسه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤