المقدمة

ظَهرتْ أول طبعةٍ من هذه المسرحية، في آخر القسم الذي يتضمَّن المسرحيات التاريخية من طبعة «الفوليو» الأُولى لمسرحيات شيكسبير عام ١٦٢٣م. ومعنى «الفوليو» هو «القَطْع الكبير» عندنا؛ أي حجم الصفحة الذي يبلُغ ضِعف حجم هذا الكتاب الحالي بالعربية، ويدل أصلها على الطيِّ مرةً واحدة للصحيفة الكبيرة المعتادة في طبعات الصحف اليومية محليًّا وعالميًّا. ونص المسرحية المطبوع في هذه الطبعة يختلف إذن عن نصوصِ كثيرٍ من المسرحيات الأخرى في أنه لم يُطبع في حياة الشاعر (فيما يُسمَّى بطبعات «الكوارتو»؛ أي ربع حجم الصحيفة أو ما يوازي «القطع المتوسط» لدينا) وإن كان قد طُبع بعد ذلك بتعديلاتٍ كثيرة، أدخلها كبار المحقِّقين والناشرين. أما النص المطبوع عام ١٦٢٣م، فهو بالغ الوضوح، ويتضمَّن تقسيم المسرحية إلى فصول ومشاهد (بخلاف النصوص الأخرى)، إلى جانب إرشاداتٍ مسرحية وافية، والظاهر أنها كانت ضرورية بسبب مشاهد «الفُرجة» الكثيرة التي تتسم بالجاذبية، و«الثراء البصَري» وهو يُعتبر عنصرًا مهمًّا من عناصر هذا العرض الخاص. ويقول فوكس Foakes مُحرِّر طبعة آردن Arden (١٩٥٥م و١٩٦٢م) التي اعتَمدتُ عليها في هذه الترجمة: «إن لغة «هنري الثامن» تتسم أحيانًا بالتعقيد، وتتضمَّن صعوباتٍ كثيرة في التفسير، ولا يُعزى من ذلك إلى التحريف إلا أقل القليل.» — وهذه هي العبارة بالإنجليزية.
The language of Henry VIII is sometimes complicated, and offers many difficulties of interpretation, but few that can be attributed to corruption. p. xv.
ولذلك فقد اضطُرِرتُ إلى إدراج الحواشي في الهامش، وإثبات ما يحتاج إلى الإثبات من الحقائق التاريخية التي يصوِّرها النص، إلى جانب الخلافات التي ترجع إلى جمهور المحقِّقين والناشرين مثل الدكتور صمويل جونسون Samuel Johnson والشاعر ألكسندر بوب Alexander Pope، والأساتذة و. أ. رايت W. A. Wright محقِّق طبعة كلارندون (وقد أشرتُ إليها باسم كلارندون فحسب) وك. ديتون K. Deighton محقِّق طبعة ماكميلان، وبولر Pooler محقِّق طبعة آردن الأولى التي صدَرتْ عام ١٩١٥م، ثم صَدرتْ منقَّحةً عام ١٩٣٦م، وهي خلافات في التفسير وقراءة النص لا يمكن تجاهلُها لأن بعض اللاحقين (مثل الأستاذ جورج هاريسون محقِّق طبعة بنجوين التي كنتُ اعتمدتُ عليها أول الأمر) يأخذ ببعضها ويترك البعض الآخر، وكان لزامًا عليَّ مِن ثَمَّ أن أُقارن وأختار، ثم أُثبِت في الهامش آراء الآخرين، إيمانًا مني بأن الترجمة لونٌ من التفسير القائم على الاختيار أيضًا.
وإذا كنتُ لم أعرض لمشكلات النص والتحقيق في ترجمتي لمسرحية «الملك لير» (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٩٦م) إلا عرضًا عابرًا في المقدمة، فإنني لا بد أن أعرض لهذه المشكلات تفصيلًا هنا، بسبب ما شاع في طبعات شيكسبير الحديثة من أن هذا النص لا يُنسب بأكمله إلى شيكسبير، وأن جون فلتشر John Fletcher شاركَه كتابتَه. وكان فلتشر يصغُر شيكسبير بنحو ١٥ سنة، واشتُهر عنه مشاركة فرانسيس بومونت Francis Beaumont في كتابة المسرحيات، وله وحده ١٦ مسرحية، وكثيرًا ما يُشار إلى ما كتَبه هو وبومونت باسم فلتشر فقط، وإلى الأسلوب باسم الأسلوب «الفِلِتْشَري»!
وهذه هي المشكلة الأولى التي لا بد من التصدِّي لها بسبب أهميتها العامة؛ أي التي لا تقتصر على تحقيق نصوص شيكسبير؛ فحتى منتصف القرن التاسع عشر لم يكن أحدٌ يشُكُّ في نسبة النص إلى شيكسبير، ولكنَّ أستاذًا يُدعى ج. سبيدنج J. Spedding نشر مقالًا في مجلة اسمها Gentleman’s Magazine عام ١٨٥٠م، بعنوان «مَن كتَب مسرحية شيكسبير «هنري الثامن»؟» يقول فيه إنه تمكَّن من تمييز أسلوبَين مختلفَين في المسرحية «الأول معقَّد وحافل بالصور الشعرية» والثاني «تقل فيه نسبة الفكر والخيال إلى الألفاظ والصور». وأعَدَّ إحصاءً بالسطور التي تنتهي بنهاية الجملة، وعِلَلِ الزيادة (العَروضية) في الأبيات، وانتهى من ذلك إلى الزعم بأن هذه من السمات التي يتميَّز بها الأسلوب المعتاد لفلتشر؛ ومِن ثَمَّ أعَدَّ قائمة بما يمكن أن يُنسب في المسرحية إلى شيكسبير وما يمكن أن يُنسب إلى فلتشر، باستثناء الفصل الرابع؛ إذ ذكر أنه أقوى من أن يُنسب إلى فلتشر وأضعف من أن يُنسب إلى شيكسبير. وفي العام نفسه كتب صمويل هيكسون Samuel Hickson مقالًا يحمل عنوانًا مماثلًا في مجلة Notes and Queries ينتهي فيه إلى الرأي نفسه، وإن كان ينسب الفصل الرابع إلى فلتشر. ولم يلبث سبيلنج أن وافَقَه في رأيه.

وقبل أن نعرض لتفاصيل القضية نُورِد نموذجًا مما يعتبره سبيدنج أسلوبًا مميزًا لشيكسبير، بسبب انتظام الإيقاع الشعري وعدم الخروج عن البحر إلا في المواضيع ذات الدلالة الدرامية، وهو ما حاكيتُه في الترجمة المنظومة بالعربية، وهذا هو النموذج الذي أَوردَه جورج هاريسون، مُحرِّر طبعة بنجوين من المسرحية: إنه إجابة وولزي على الملك، في المشهد الثاني من الفصل الثالث:

My Sovereign, I confess your royal graces
Shower’d on me daily, have been more than could
My studied purposes requite, which went.
Beyond all man’s endeavours … My endeavours
Have ever come short of my desires,
Yet fill’d with my abilities; Mine own ends
Have been mine so, that evermore they pointed
To th’good of your most Sacred Person, and
The profit of the State. For your good graces
Heap’d upon me (poor Undeserver) I
Can nothing render but allegiant thanks,
My prayers to heaven for you; my loyalty
Which ever has, and ever shall be growing,
Till death (that Winter) kill it.
Ill.ii. 166–179
مولاي، إنني أُقِر بالعطايا الملكية،
وكل ما أمطرتَني به من النعم … في كل يوم،
تلك التي تفوق ما أستطيع أن أناله مهما بذلتُ من جهود،
بل فوق ما يستطيع أي فرد أن يحقِّقه.
أمَّا إذا كانت جهودي قد أتت ببعض خيرٍ لي،
فإن غايتي كانت وما تزال تحقيق الذي
يعود بالخير العميم دائمًا
لشخصكم، وما له من بالغ القداسة،
وثروة البلاد كلها! وفي مقابل المكارم العظيمة
تلك التي أغدَقتموها (فوق من لا يستحقها، أنا الضعيف).
لا أستطيع غير الشكر والولاء،
وكل دعوةٍ من أجلكم إلى السماء،
وإخلاصي الذي ما انفَك ينمو، بل وسوف يظل ينمو،
بل ولن يُفْنِيه إلا الموت (ذلك الشتاء).

أما النموذج الثاني فهو حديثٌ منفرد يقوله وولزي أيضًا على المسرح، بعد إدراك انهيار آماله، وضياع حظوته لدى الملك، واقتراب النهاية المحتومة:

So farewell, to the little good you bear me. 350
Farewell? A long farewell to all my Greatness.
This is the state of Man; today he puts forth
The tender leaves of hopes, tomorrow blossoms,
And bears his blushing honors thick upon him:
The third day, comes a frost; a killing frost, 355
And when he thinks, good easy man, full surely
His greatness is a-ripening, nips his root,
And then he falls as I do. I have ventur’d
Like little wanton boys that swim on bladders:
This many summers in a sea of Glory,
But far beyond my depth: my tigh-blown Pride
At length broke under me, and now has left me
Weary, and old with service, to the mercy
Of a rude stream, that must for ever hide me.
Vain pomp, and glory of this World, I hate ye, 365
I feel my heart new open’d. Oh how wretched
Is that poor man, that hangs on Princes’ favours!
There is betwixt that smile we would aspire to,
That sweet aspect of Princes, and their ruin,
More pangs, and fears than wars, or women have; 370
And when he falls, he falls like Lucifer,
Never to hope again.
III.ii, 350–372
إذن وداعًا للقليل مما تضمرانه من كل خير! ٣٥٠
وداعٌ؟ بل وداعٌ دائم للمجد والعظمة!
فذاك حال كل إنسانٍ هنا في يومه!
قد ينشر الأوراق من آماله الغضة،
ويشهد البراعم الحسناء في غده،
ويحمل الورود القانيات الوافرات في مدارج الشرف،
لكنه يرى الصقيع القاتل الثقيل قادمًا في ثالث الأيام، ٣٥٥
وعندما يظن وهو ناعم في الخير والهناء،
أن الثمار أوشكت على النضوج، وأن مجده لا شك قد أتي،
يرى الصقيع ناخرًا جذورها،
والجذع قد هوى كما أهوي أنا!
لقد نزلتُ سابحًا في بحر مجدٍ صاخب، ٣٦٠
مثل الصغار السابحين يُمسِكون بالقرب.
وكنتُ كلَّ صيفٍ أضرب الأمواج حتى اجتزتُ منطقة الأمان.
وبعدها شَهِدتُ كبريائي مثل قرية الصغار تنفجر،
ورحتُ أهوي منهكًا محطَّمًا من طول ما جهدت،
وتحت رحمة البحر العنيف إذ سيطويني إلى الأبد!
يا ريف مجد العالم الخاوي وزيف الأبهة! ٣٦٥
لشد ما أُبغضكا! إني لأشعر أن قلبي يتفتَّح.
ما أتعس الذي يعيش عالةً على رضى الأُمراء ما أفقرَهُ!
فبين بسمةٍ نُحاول اقتناصها وبسمة الرضى على المُحيَّا،
وبين وَهْدةِ السقوط والهلاك ألوانٌ من الألم،
وهُوَّةٌ من المخاوف التي تزيد عن هول الحروب أو مخاوف النساء. ٣٧٠
فإنه عند السقوط مُبلِسٌ كأنه إبليسُ قد ضاع الرجاء منه للأبد!
وقد وضعتُ الأرقام هنا لمساعدة القارئ على المقارنة، ويُعلِّق هاريسون على الفرق بين النصَّين قائلًا إن «النهايات الضعيفة» إيقاعيًّا في الحديث المنفرد الأخير هي مما يُزعم أنه ينتمي إلى أسلوب فلتشر أكثر ما يميِّز أسلوب شيكسبير، والمقصود بالنهايات الضعيفة استناد حروف القافية على مقطعٍ غير منبور مثل left me (٣٦٢)، وhide me (٣٦٤)، وhate ye (٣٦٥)، وهذا أيضًا مما قاله سبيدنج، ولكنه ليس من جوهر حجته؛ إذ يستند جوهر الحُجَّة على تفاوُت «المستوى اللغوي» بين أجزاء المسرحية، وتفاوت الإيقاعات أيضًا، وهذا ما دفعَني إلى اقتباس هاتَين الفِقرتَين اللتَين يزعم سبيدنج نسبتهما إلى كاتبَين مختلفَين. ولن أُفيض في تحليل الإيقاعات فهي واضحةٌ لمن يقرأ النص بصوتٍ عالٍ. وأرجو أن أكون قد وُفِّقتُ في نقلها إلى العربية حتى يُحِس بها القارئ العربي، ولكنني سأشير قبل العرض السريع لقضية الاشتراك في الكتابة إلى أن طبعة بنجوين قد صَدرتْ عام ١٩٥٨م؛ أي قبل أن ينشر سايراس هوي Cyrus Hoy دراسته الرائعة (التي سنعود إليها) بأربعة أعوامٍ، والتي يُثبِت فيها بما لا يدع مجالًا للشك أن الفِقرة الثانية هي أيضًا من تأليف شيكسبير، وأنا أدعو القارئ إلى تأمُّل بعض الملامح الأساسية في أسلوب شيكسبير، والتي يعرفها كل دارسٍ مهما صغُر حظُّه من التعمُّق في علم الأسلوب، وأهمها «الاستعارة الممتدَّة extended metaphor»؛ أي المبسوطة على مدى أبياتٍ متعاقبة؛ فحديث «وولزي» الأخير يستند إلى ثلاث استعاراتٍ ممتدة؛ الأولى هي استعارة الشجرة وهي تزهر وتثمر ثم يقتل الصقيع الثمر، والثانية هي استعارة السباحة في اليم والغرق، والثالثة هي استعارة السقوط الذي لا أمل بعده ولا رجاء كأنه سقوط إبليس، والملمح الآخر هو «التعبير المضغوط compressed» الذي يقتضي البَسْط عند ترجمته، وهناك ملامحُ أخرى مثل الاستعارة الخاطفة swift shifting وتردُّد الإيحاءات بالطباق المعنوي، وسوف نعود للصور الشعرية فيما بعدُ.
وفكرة الاعتماد على التحليل الأسلوبي، أو ما يُسمَّى بالأدلة الداخلية internal evidence، للتوصل إلى معرفة المؤلف الحقيقي للنص فكرةٌ ذات جاذبيةٍ لا تُقاوم، أو قل على الأقل إنها فكرةٌ وجد فيها الباحثون مجالًا خصبًا للبحث والكتابة، فانهَمرتِ المقالات التي تُؤيد تقسيم هيكسون أو تُعارضه أو تُدخل عليه بعض التعديلات، وهذا هو ما شاع في معظم الطبعات التي أشرتُ إليها في البداية:
البرولوج فلتشر
الفصل الأول: المشهد الأول والمشهد الثاني شيكسبير
الفصل الأول: المشهد الثالث والمشهد الرابع فلتشر
الفصل الثاني: المشهد الأول والمشهد الثاني فلتشر
الفصل الثاني: المشهد الثالث والمشهد الرابع شيكسبير
الفصل الثالث: المشهد الأول فلتشر
الفصل الثالث: المشهد الثاني، السطور ١–٢٠٣ شيكسبير
الفصل الثالث: المشهد الثاني، السطور ٢٠٤–٤٥٩ فلتشر
الفصل الرابع: المشهد الأول والمشهد الثاني فلتشر

الفصل الخامس: المشهد الأول

شيكسبير
الفصل الخامس: المشهد الثاني والمشهد الثالث والمشهد الرابع فلتشر
الختام فلتشر
وتبارى النقاد في العثور على الأدلة النصية التي تؤكِّد مشاركة فلتشر في كتابة المسرحية، وإن كان معنى الأسلوب الذي يستندون إليه أقربَ إلى ما نُسمِّيه بناء الجملة أو التركيب Syntax؛ إذ كان مقصورًا على بناء عباراتٍ بعينها ومدى تواتُرها في أماكنَ معيَّنة من النص، مثل وقوع else في آخر الجملة — «وإلا تأخرنا عن موعدنا We Shall be late else» (١ / ٣ / ٦٥)١ أو التركيب and a [adjective] one (مثل he makes a supper and a great one (١ / ٣ / ٥٢)) الذي يُماثِل العامية المصرية «عامل حفلة — لأ وإيه! حاجة هايلة!» بدلًا من «عامل حفلة هايلة». أما مقابل هذا التركيب في الفصحى فيتطلَّب التوكيد اللفظي: «يقيم حفلة عشاء، حفلة رائعة!» إلى جانب استخدام بعض الكلمات في معانٍ محدَّدة مثل sink بمعنى ruin (الهبوط أو يهبط بمعنى يُدمِّر أو الدمار)، ولكن أهم الأدلة قاطبةً هو تفضيل كلٍّ من الشاعرين لصيغٍ معيَّنة من الأفعال المساعدة والضمائر، فشيكسبير يُفضِّل (does) doth وفلتشر (has) hath وشيكسبير يُفضِّل كتابة them كاملة وفلتشر يحذف (’em) th وشيكسبير يُفضِّل you وفلتشر يُفضِّل .ye وقد أعَدَّ أ. ك. بارتريدج A. C. Partridge إحصاءً كاملًا لهذه الاستخدامات في كتاب عنوانه: «The Problem of Henry VIII Reopened, Cambridge إعادة فتح ملف مشكلة هنري الثامن» أصدره عام ١٩٤٩م، وأظن ظنًّا أنه استفاد من كتابٍ أصدَره ثورندايك في أول القرن عن تأثير بومونت وفلتشر في شيكسبير، ونُشر في الولايات المتحدة؛ إذ يعتمد اعتمادًا مبالغًا فيه على استخدام them الكاملة و’em المبتسَرة A. H. Thorndike, The Influence of Beaumont and Fletcher On Shakespeare, Worcester, Mass, 1901, pp. 24–44.
والواقع أنه لا يجد ما يَشين أو يَعيب التعاون بين شاعرَين وخصوصًا بين فلتشر وشيكسبير؛ فقد تعاون الشاعران في كتابة مسرحيةٍ طُبعَت عام ١٦٣٤م، بعنوان «نبيلان تربطهما صلة القرابة» (The Two Noble Kinsmen) ويظهر اسماهما على الغلاف جنبًا إلى جنب، كما اشتركا في كتابة مسرحيةٍ مفقودة هي «كاردينيو Cardenio» وإن كانا قد سجَّلاها باسمَيْهما في الشهر العقاري الإنجليزي، استنادًا إلى ما ذكره تشيمبرز في كتابه الضخم «وليم شيكسبير: دراسة للحقائق والمشاكل» — مجلدان — عام ١٩٣٠م، W. S. Chambers William Shakespeare: A Study of Facts and Problems وقد ورد ذكرها في المجلد الأول في صفحة ٥٢٨ وصفحة ٥٣٨؛ ومِن ثَمَّ فليست مسألة التعاون بالمسألة التي تتسبَّب في أي حرج للشاعرَين، وكان كلاهما قادرًا على الإفصاح عنها لو حدثَت، ولكن عدم وجود أدلةٍ تاريخية لا ينفي إمكانية حدوثها استنادًا إلى الأدلة النصية. أما القول بأن المسرحية قيمتها الفنية أدنى من قيمة أعمال شيكسبير الأخرى ومِن ثَمَّ فنسبتُها إليه مشكوكٌ فيها فهذا مردودٌ عليه، والخلاف بين النقاد في تقدير قيمتها الفنية يشهد بأن الحكم على القيمة الفنية لم يتبلور حتى الآن بصورةٍ قاطعة، ولا يكفي حتمًا لنفي نسبة المسرحية لشيكسبير.
ولنُناقش الآن مبدأ الاستناد إلى الأدلة النصية. لقد قام عددٌ من كبار الباحثين والنقاد بتفنيد هذه الأدلة دليلًا دليلًا. وكان أولَهم وأكثرَهم إقناعًا أستاذٌ متخصص هو بيتر ألكسندر الذي أصدر عام ١٩٣٠م، كتابًا عنوانه مقالات ودراسات، يتضمَّن فصلًا عنوانه «التاريخ الحَدْسي أو مسرحية هنري الثامن لشيكسبير» P. Alexander, Essays and Studies, London 1930 وعنوان الفصل هو Conjectural History or Shakespeare’s Henry VIII ويدحض فيه (في الصفحات ٨٥–١٢٠) الأدلة الإحصائية، مُبينًا أن خصائص نهايات الأبيات وعِلَل الزيادة العَروضية هي من خصائص أسلوب شيكسبير في مسرحياته الأخيرة، وأنها كانت شائعةً في كتابات معاصريه في أوائل القرن السابع عشر وغير مقصورة على فلتشر، كما لا تخلو منها الفصول والمشاهد المنسوبة إلى شيكسبير. كما رصد الاختلافات الكثيرة بين الأسلوب المنسوب إلى فلتشر؛ أي المستقَى من مسرحياته المنشورة، وبين الأسلوب المستخدم في المشاهد المنسوبة إليه في هذه المسرحية، وخصوصًا كثرة وجود العبارات الاعتراضية هنا parentheses، وعدم انتهاء الجملة نحويًّا بانتهاء السطر أو البيت run-on lines، والأمثال السائرة، والتكرار، فوجد أنها أقل كثيرًا في مسرحياته عنها في الأسلوب المنسوب إليه هنا. وقد أكَّد ذلك كتابٌ أصدره بولدوين ماكسويل عام ١٩٣٩م، وعنوانه «دراسات في بومونت وفلتشر وماسينجر»، وخصوصًا في الفصل الخاص باللغة Baldwin Maxwell, Studies in Beaumont, Fletcher and Massinger. كما أثبت باحثٌ آخر هو هاردين كريج أن اختلاف الأسلوب في المسرحية قد يكون متعمَّدًا، فالمُلاحَظ كما يقولُ أَنَّ المَشاهِد التي ينسبها الباحثون إلى شيكسبير هي المَشاهِد التي تتطلب أسلوبًا «رسميًّا» رفيعًا ويتسم ﺑ «الفخامة»، بينما تُنسب المَشاهِد «العاطفية» إلى فلتشر! أفلا يمكن أن يُغيِّر الكاتب من أسلوبه تبعًا للمقتضيات الدرامية من مشهد إلى مشهد؟ واسم كتابه هو:
Hardin Craig, An Interpretation of Shakespeare (New York, 1948).

كما أننا إذا وسَّعنا من نطاق النظرة إلى الأسلوب وجدنا أن الكلمات والعبارات المنسوبة إلى فلتشر شائعةٌ شيوعًا كبيرًا في كتابات تلك الفترة.

أما أقوى دليلٍ إحصائي يُورِده الباحثون على وجود أسلوب فلتشر في المسرحية فهو كثرة ورود صيغة ye وer في بعض أجزاء المسرحية المنسوبة إليه. ولكن فوكس Foakes يرُدُّ على ذلك قائلًا إن تواتُرها في هذه الأجزاء أقل من تواتُرها في أسلوب فلتشر المعتاد؛ فهو يضرب مثلًا بمسرحية كتبَها فلتشر في الفترة نفسها تقريبًا (١٦١٠–١٦١٣م) واسمها «بندقة Bonduca» إذ يجد في نص طبعة «الفوليو» من هذه المسرحية المنشور عام ١٦٤٧م، عددًا لا يقل عن ٣٤٩ من صيغة ye وعدم ورود you تقريبًا. أما في المشهد الأول من الفصل الرابع المنسوب إليه في «هنري الثامن» فنجد أن you ترد ١٢ مرة، وye ثلاث مرات، وأن الأخيرة لا تَرِد إلا في أربعة سطور يقولها «السيد الثالث» (انظر النص) في وداع سيدَين آخرَين (١١٣–١١٦). ويُفسِّر فوكس ذلك قائلًا إن تغيُّر هذه الصيغ قد يُعزَى إلى تدخُّلٍ من جانب الكتَبة أو النُّساخ أو رجال الطباعة. وتشهد على ذلك مسرحية «بندقة» نفسها؛ إذ يُوجد مخطوطٌ لها ما يزال في حالةٍ جيدة، ويختلف اختلافًا شاسعًا عن طبعة «الفوليو»، ويبدو أن المحاسب الخاص بفرقة التمثيل التي قدَّمَت النص كان قد أعدَّه لأحد هُواة جمع المخطوطات، أو ربما كان مُلقِّن الفرقة هو الذي أعدَّه، وفقًا لما يقوله فوكس Foakes، وفي هذا النص نجد أن كلمة you هي المستخدمة بدلًا من ye في طبعة الفوليو في ١٧٢ حالة، وقد نُشر النص فعلًا عام ١٩٥١م (وإن لم أطَّلع عليه) وهو من تحقيق و. و. جريج وف. ب. ويلسون W. W. Greg and F. P, Wilson، في سلسلة طبعات جمعية مالون Malone Society Reprints، وأشار إلى المخطوط باحثٌ يُدعى ر. س. بولد في أهم مرجعٍ ببليوغرافي عن أعمال بومونت وفلتشر وهو:
R. C. Bold, Bibliographical Studies in The Beaumont and Fletcher Folio, 1938.
وحسبما يقول «بولد» فإن استبدال هذه الألفاظ في الفوليو يقل قليلًا عما يذهب إليه فوكس Foakes. ووفقًا لعادة رجال الطباعة من التدخل في النص بالتعديل والتبديل فقد يكون نص «هنري الثامن» الذي لم يصل إلينا إلا في طبعة «الفوليو» قد امتدت إليه يد المصحِّح أيضًا، مثلما حدث في حالة مسرحية ريتشارد الثالث»، على نحوِ ما أوضَحَت أليس ووكر في كتابها «المشكلات النصية في طبعة الفوليو» Alice Walker, Textual Problems of the First Folio الصادر عام ١٩٥٣م؛ إذ استعاض المحرِّر بكلمة you عن كلمة ye، وهو ما حدث أيضًا في مسرحية «طرويلوس وكريسيدا»، مما يؤكِّد تفضيل مُحرِّري طبعة «الفوليو» الصورة you وقيامهم بوضعها مكان ye في مسرحياتٍ أخرى كذلك، يحتمل أن يكون من بينها نص «هنري الثامن»، كما يذهب إلى ذلك فيليب ويليامز الابن في مقال نشره في مجلة Studies in Bibliography عام ١٩٥٦م (وأشار إليه فوكس Foakes). ومن المحتمل أن صيغ الكلمات الأخرى التي يستند إليها الباحثون في تحديد مؤلِّف النص قد تعرَّضَت للتغيير هي أيضًا؛ إذ تذكُر أليس ووكر في صفحة ٦٢ من كِتابها أن ناشري طبعة الفوليو كانوا يستخدمون has وdoes مكان hath وdoth في طبعة الكوارتو، وتُضيف قائلةً إن العكس قد حدث عند طباعة مسرحية «عطيل»، في طبعة الكوارتو استنادًا إلى مخطوطٍ لا يرقى إليه الشك.
وأعتقد أن القارئ العربي سوف يكتفي بهذا القَدْر من الدحض ﻟ «الأدلة الداخلية» (المستمدة من الأسلوب) وهو دحضٌ يستغرق مئات الصفحات في الكتب المتخصصة. ولتنظر الآن إلى الأدلة الخارجية، فطبعة الفوليو التي تتضمن النص لم تُورِد أيَّ مسرحية اشترك مؤلفٌ آخر مع شيكسبير في كتابتها، والناشران هما همنجز وكونديل Hemings and Condell المشهود لهما بالصدق وتَحرِّي الدقة، وهما يؤكِّدان في تقديمهما للطبعة أنها تتضمن مسرحيات شيكسبير «كاملةً غير منقوصة وعلى نحوِ ما أبدعَها قلمه» ولم يقل أحد في أي وقتٍ سابق على النشر باحتمال مشاركة أحد في كتابة أيِّ مسرحية في المجموعة، والخصائص الأسلوبية العامة كما رأينا في البداية تشير إلى مؤلفٍ واحد.
ويُقدِّم فوكس Foakes دليلًا دامغًا على أن للنص مؤلفًا واحدًا وهو استعمال المصادر التاريخية؛ فالمعروف أن شيكسبير اعتمد في المسرحية على كتاب تاريخ إنجلترا الذي كتبه هولنشد Holinshed وعلى المؤرخ الآخر فوكس Foxe وكذلك على حوليات «هالي»، والنص يدل على الدقة الشديدة في اتِّباع المصادر، والقدرة الفائقة على ضغط الحوادث، واقتباس كثيرٍ من العبارات بل والأقوال منها، فإذا افترضنا وجود مؤلفَين اثنَين، فيجب أن نفترض اتفاقهما التام في اختيار الفِقرات التي تُصوِّر أحداث المسرحية، وتُطابِق وجهة نظرهما فيما يتعلق بالضغط الزمني والتنسيق الدرامي. وهذا شِبْه مُحال، بل إن أسلوب فلتشر في الكتابة التاريخية يختلف اختلافًا بينًا؛ ففي مسرحية «بندقة» لا يستخدم فلتشر أي اقتباساتٍ مباشرة من كتاب هولنشد بينما تَحفِل مسرحية «هنري الثامن» بهذه الاقتباسات (انظر كتاب بولدوين ماكسويل المشار إليه آنفًا).

وأما النظرية البديلة القائلة بأن شيكسبير لم يكمل المسرحية وتركَها لصديقه فلتشر حتى يُكمِلها بدلًا منه، فمن الصعب قَبولها بسبب ما تتسم به المسرحية من دقة في اختيار المادة المستقاة من المصادر، وإعادة ترتيبها زمنيًّا ودراميًّا على امتداد الفصول الخمسة.

ويذهب جمهور النقاد إلى أن «وحدة التصوُّر والروح» تشهد بأن الكاتب مؤلِّفٌ فرد؛ فالشخصيات الرئيسية تُقدَّم إلينا لأول مرة في المشاهد المنسوبة إلى شيكسبير، وهذه المشاهد أيضًا هي التي ترسم بناء الحبكة، وتُشير إلى المشاهد الأخرى وما يقع فيها (وبعضها منسوب إلى فلتشر). والعديد من هذه المشاهد التي يُظَن نسبتها إلى فلتشر تتضمن بعض «السادة» الذين يتحدثون عما وقع أو مشاهد احتفال (مثل مأدبة الكاردينال وولزي ومشهد التعميد) وهي مشاهدُ تتطلب أسلوبًا يختلف مثلًا عن مشهد محاكَمة كاثرين (الملكة)؛ ومِن ثَمَّ فقد ترجع الاختلافات اللغوية إلى ضرورة تغيير الأسلوب وفقًا لطبيعة المشهد. أما من زعموا (مثل سبيدنج) بأن المسرحية تفتقر إلى التماسُك والوحدة فقد ردَّ عليهم كبار الشعراء والأدباء، وأهمهم سوينبيرن Swinburne في كتابه A Study of Shakespeare (دراسة لشيكسبير، ١٨٧٩م، والطبعة التي بين أيدينا هي الطبعة الرابعة الصادرة عام ١٩٠٢م) والدكتورة كارولاين سبيرجون في كتابها الشهير الصور الفنية عند شيكسبير ودلالاتها Caroline Spurgeon, Shakespeare’s Imagery and What It tells us (١٩٣٥م)؛ إذ لفَتتِ الأنظار إلى الوحدة التي يتسم بها بناء الصور الشعرية في المسرحية كلها مما يقطع بأن مؤلِّفها واحد، فقد وضعَت يدها على أهم ملمحٍ من ملامح هذه الصور، وهو الحركة المادية العنيفة، التي تهَب اللغة طابعًا ديناميكيًّا، يُعوِّض المسرحية عما تفتقر إليه من الحركة الجسدية؛ ﻓ «التفاعلات» داخل نفوس الشخصيات، والمؤامرات التي يَحوكُها «وولزي»، ومحاكمات الأشخاص وسقوطهم، يُقدِّمها شيكسبير إلينا من خلال الحركة، وخصوصًا من خلال صورة تحمُّل الأعباء والخلاص منها، أو من خلال صور حركة السقوط، فالذي يبدأ في المشاهد الافتتاحية يستمر في المشاهد التالية؛ إذ نقرأ في البداية عمَّن «دبَّر الاحتفال العظيم … مَن صوَّر جسده وفصَّل أطرافه» (١ / ١ / ٤٥-٤٦)، وعن المعاهدة التي كالكأس التي «لم تحتمل التنظيف فانكسَرتْ» (١ / ١ / ١٦٨)، وعن «قَطْع الحماية عن الرعايا»، وعما «يتسلل إلى قلب الضمير» (٢ / ٢ / ١٧)، ثم نجد الصور نفسها في مشهدٍ منسوب إلى فلتشر، حيث تُوصَف مؤامرات وولزي على النحو التالي:
لقد نجح في فصم عُرى التحالف
بيننا وبين إمبراطور إسبانيا (ابن شقيقة الملكة)،
كما نجح في النفاذ إلى أعماق قلب الملك، وبَثَّ فيه
التشكُّك من صحة زواجه، وغرس فيه بذور الأخطار
وآلام الضمير …
٢ / ٢ / ٢٤–٢٧

كما تصطبغ الصور بصبغة المرض، وتنتشر في طول المسرحية وعَرْضها، وهي تُوحي بالظلم أو بالمعاناة النفسية والذهنية، كما تنتشر صور الشمس والضياء، والشمس ترتبط عند شيكسبير، كما هو معروف، بصورة الملك، إلى جانب صور البحر والعواصف وتحطُّم السفن، وهي الصور ذات الحيوية الدافقة في المسرحية، وهي التي تبرز أهم اللحظات الدرامية فيها في جميع أجزائها. والدكتورة كارولاين سبيرجون تُورِد العشرات من هذه وتلك جميعًا.

أما فوكس Foakes فإنه يتصدَّى للتشابه الكبير بين روح التعاطُف والرحمة التي تسود هذه المسرحية ومسرحيات شيكسبير الأخيرة مثل «العاصفة» The Tempest و«حكاية الشتاء» The Winter’s Tale وغيرهما. وينتهي من ذلك إلى أن يقول:

إن روح فلتشر غريبةٌ عن ذلك تمامًا؛ ومِن ثَمَّ فلدينا من الأسباب ما يُبرِّر الإبقاء على مسرحية «هنري الثامن» حيث وضعها هيمنج وكونديل؛ أي بين مؤلَّفات شيكسبير. أما إذا كان لا بُد من الزجِّ باسم فلتشر فأعتقد أن نصيبه أقلُّ كثيرًا مما يُوحي به التقسيم المعتاد للفصول والمشاهد، وأقصى ما يمكن أن يُنسب إليه هو مشهدٌ أو مشهدان.

(مقدمة طبعة «آردن» (١٩٥٥م)، صفحة ٢٥)
وفي طبعة عام ١٩٦٢م، أضاف فوكس Foakes إلى المقدِّمة أحدث الآراء المبنية على الدراسات اللغوية والأدبية الحديثة، خصوصًا الدراسة التي أعدَّها سايراس هوي Cyrus Hoy وسبقَت الإشارةُ إليها وقام فيها بتحليل جميع أعمال فلتشر وأساليب الطباعة (وما يعتريها من تصحيح أو تحريف للنصوص) وانتهى فيها إلى أن دور فلتشر في بعض المشاهد التي جرى العُرف على نسبتها إليه، (وهي ٢ / ١ و٢ / ٢، و٣ / ٢ من السطر ٢٠٣ حتى آخر المشهد، و٤ / ١ و٤ / ٢) لم يزد على «تنقيح فِقرة كتبها شيكسبير أو إدراج فِقرة من تأليفه في سياقٍ شيكسبيري». وهو ينتهي إلى أن السمات المميزة لِلُغة فلتشر يمكن رصدُها بسهولة في المشاهد التالية: ١ / ٣ و١ / ٤ و٣ / ١ و٥ / ٢ و٥ / ٣ و٥ / ٤؛ ومِن ثَمَّ فهو يُقلِّل عدَد المشاهد المنسوبة إلى فلتشر إلى أكثر من النصف من حيث عدد الأبيات. ويختتم فوكس Foakes هذه الإضافة قائلًا: ليت المناقشة حول تدخُّل فلتشر في النص تتوقَّف عند الحُكْم الرزين الذي انتهى إليه «هوي Hoy» وهو:

مَن يبحث عن حقيقة نصيب فلتشر في «هنري الثامن» فسيجده حيث تُوجد الحقيقة بصفةٍ عامة؛ أي في مكانٍ وسط بين الآراء المتطرفة التي ورثناها عنها، فالذين ينكرون وجوده تمامًا في المسرحية مخطئون؛ لأنه لا شك موجود، والذين ينسبون إليه عشر مشاهد ونصف مشهد من مشاهد المسرحية الستة عشر مخطئون إذ ينسبون إليه أكثر مما يستحق.

(مقتبسة من مقدمة «آردن»، صفحة ٢٧ و٢٨)

والطريف أن أحدث طبعة للمسرحية (١٩٩٠م) وهي طبعة نيوكيمبريدج قد حقَّقتْ أمنية «فوكس»؛ إذ يختتم «جون مارجسون» مناقشته للموضوع بإعلان اتفاقه مع «هوي»!

وقد قُدِّمتِ المسرحية على المسرح لأول مرة في ٢٩ يونيو عام ١٦١٣م، وهذا تاريخٌ مهم لأنه تاريخ الحريق الذي شَب في مسرح الجلوب Globe، وكان سبب الحريق فيما ذكره المؤرخون هو إطلاق عيارٍ ناري من مِدفعٍ صغير يشبه مِدفع الهاون؛ إما في حفل الكاردينال وولزي في آخر الفصل الأول أو في حفل التعميد في المشهد الأخير. ولمَّا كانت المسرحية تُوصف آنذاك بأنها جديدة، فقد اتفق جمهور النقاد والباحثين على أنها كُتبَت إما في أواخر عام ١٦١٢م، أو أوائل عام ١٦١٣م، ولغة المسرحية كما سبق أن ذكرنا تتفق مع لغة مسرحيات شيكسبير الأخيرة، أو ما يُسمَّى بالرومانسيات الأخيرة. ومصادرها معروفة؛ فهي كما سبق أن ذكرنا تاريخ إنجلترا الذي ألَّفه هولنشد، وكتاب تاريخٍ آخر من تأليف فوكس Foxe، وشيكسبير يتبع ما أَوردَه هذان بصورةٍ بالغة الدقة، ويكاد يُكرِّر العبارات التي أورداها حرفيًّا في الحوار. ولن نقف طويلًا عند تاريخ التأليف أو المصادر، بل سنُورِد لمحةً عن مواقف النقاد من النص، وهي مواقفُ تتسم بالتعارُض والتناقُض أحيانًا.
وأول ملاحظةٍ مهمة هي أن المسرحية عانت من التجاهُل النقدي بسبب قضية مشاركة فلتشر؛ أي بسبب تحوُّل الاهتمام من النص إلى التساؤل عن مؤلِّف النص، ولم يبدأ الاهتمام الحقيقي بها باعتبارها نصًّا دراميًّا إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، عندما تبلْورَت المذاهب النقدية في النقد الإنجليزي نفسه بفضلِ ما أتى به النقد الجديد أولًا من ضرورة التركيز على النص، وبسبب دراسة الأستاذ فوكس Foakes في مقدمته لطبعة آردن والتي تقع في نحو ٢٥ صفحة (١٣ ألف كلمة) وتقترب كثيرًا من المنهج البنيوي بسبب تركيزها على البناء الذي يتميَّز بالتناقضات أي «المقابلات» أو التعارضات الثنائية، وإن كانت لا تُغفِل الجوانب الأخرى للنص. وفي التسعينيات خَرجَت علينا بعض الدوريات المتخصِّصة في شيكسبير بمقالاتٍ مناهضة للمنهج البنيوي ولكنها تُقِر بفضل فوكس Foakes، وأهمها في رأيي دراسة رنَّة المفارقة والثورية الساخرة في المسرحية باعتبارهما من سمات الحداثة في نص لا بد من اعتباره شرفًا مسرحيًّا في المقام الأول، وهي الدراسة التي كتبها جون مارجسون John Margeson في صَدْر طبعة عام ١٩٩٠م من المسرحية في سلسلة نيو كيمبريدج شيكسبير. ويمكن القول بصفةٍ عامة إن الاتجاه النقدي الحديث أصبح يرى جوانبَ إيجابية في المسرحية لم يسبق للنقَّاد رصدها.
كان من أوائل من كتَبوا عن المسرحية باعتبارها نصًّا دراميًّا ناشرُ الأعمال الكاملة لشيكسبير نيكولاس رو Nicholas Rowe في طبعة عام ١٧٠٩م، وكان ذلك بطبيعة الحال في عصر الكلاسيكية الجديدة، فاهتم مثل معاصريه بالإشارة إلى عدم محافظة الكاتب على «الوحدات» الدرامية الثلاث، وخصوصًا وحدَتَي الزمان والمكان، واعتبر ذلك عيبًا من عيوب المسرحيات التاريخية بصفةٍ عامة، ولو أنه امتدح مبدأ المواءمة أو اللباقة decorum؛ أي اتفاق صفاتِ وأفعال وأقوال كل الشخصيات مع مكانتها في المجتمع والعالم، وهو مبدأٌ أساسي من مبادئ الكلاسيكية الجديدة (طبعة ١٩٩٧م، الصفحتَين ٢٩-٣٠). ويُعرِب رو عن إعجابه بشيكسبير بسبب عدم إظهاره عيوب الملك هنري الثامن على نحو ما رواه المؤرخون، قائلًا إن ذلك يدُل على احترام الكاتب لذكرى الملكة إليزابيث (ابنة الملك)، كما يمتدح دون إسهابٍ تصويرَ الكاتب لأحزان الملكة كاثرين، قائلًا إنه يشير «الشفقة» و«الخوف» ويقترب بمصيرها من مصير المأساة، وذلك أيضًا من أصول الكلاسيكية الجديدة التي ازدَهرتْ في القرن الثامن عشر. وكان الإعجاب الذي أثارته عروض هذه المسرحية على امتداد القرن الثامن عشر — أساسًا بسبب ثراء المناظر وجمالها pageants — كفيلًا بلَفْت نظر كبار النقاد إليها، وربما أثَّرتِ العُروض في تقدير قيمتها الدرامية، مع التركيز على مأساة الملكة كاثرين، إذ ركَّز الدكتور صمويل جونسون Samuel Johnson على مصيرها المأسوي واعتبرها البطلَة الحقيقية، وقد تَنبَّه إلى سر نجاحها الجماهيري، وامتدح المشاهد التي تظهر فيها الملكة، وأثنى بصفةٍ خاصة على المشهد الثاني من الفصل الرابع، قائلًا إنه يفوق أيَّ جزءٍ آخر من مآسي شيكسبير، بل وربما كان أفضل من أيِّ مشهدٍ كتَبه أي شاعرٍ آخر (طبعة ١٩٥٧م، من ملاحظات حول شيكسبير Notes to Shakespeare، الصفحتَين ٦٥-٦٦) وهو يُثني بصفةٍ خاصة على الرقَّة والشفَقة والتعاطُف في هذا المشهد، لكنه يستثني سائر المسرحية من إطرائه.
وظلَّت آراء جونسون سائدة حتى جاء سبيدنج في منتصف القرن التاسع عشر وألقى بقنبلة التشكيك في نسبة المسرحية إلى شيكسبير على نحو ما أشرنا آنفًا، فأثار لدى نقاد العصر الفكتوري نوازع القيم «الأخلاقية»؛ أي البحث في القيمة المعنوية أو الروحية لأحداث المسرحية، خصوصًا بسبب عبارته الشهيرة التي تقول «إن المسرحية تكاد لا تُقدِّم إلا الانتصار النهائي للشر»؛ ومِن ثَمَّ فهو يَنعَى على المسرحية الافتقار إلى التماسُك المعنوي في بنائها (أو عدم التماسُك الأخلاقي incoherent moral design) وقد رَدَّ على ذلك بيتر ألكسندر في الفصل المشار إليه من كتابه الصادر عام ١٩٣٠م (مقالات ودراسات) قائلًا إنه يرى الكثير مما يستحق المديح، سواء في بناء المسرحية أو في تطوير موضوعاتها الأساسية، وهو يُفصِّل القول في نمط بناء المسرحية من خلال البناء الموسيقى الذي يعتمد على «التكرار والتنويع repetition with variation»؛ أي إن «الثيمة» (خيط الفكرة) تتكرر على امتداد المسرحية في صورٍ مختلفة؛ أي في صورٍ تتنوَّع لتؤكِّد الجوهر، بمعنى أن العَرَض (بفتح الراء) الذي يمثله العَرْض (بتسكين الراء) يتغيَّر ولكن الجوهر واحد، وهو في رأيه «موضوعٌ» أخلاقي، يتمثل في تفاهة العظمة الدنيوية وبَهْرَجها الزائف. ويضيف ألكسندر إن ما يُوحِّد المسرحية حقًّا هو هذا العنصر البنائي، إلى جانب جو التسامُح والتعاطُف الذي يسود المسرحيات الرومانسية عند شيكسبير. وأظن ظنًّا أن ألكسندر كان يرُدُّ على آرثر سايمونز Arthur Symons أيضًا، الذي ردَّد ما قاله سبيدنج تقريبًا في تقديمه للأعمال الكاملة لشيكسبير التي حرَّرها الممثل الذائع هنري إيرفنج Henry Irving وف. أ. مارشال F. A. Marshall عام ١٩٢٢م.
ووَصَل هذا التراشُق النقدي في النصف الأول من القرن العشرين إلى ذروته في عام ١٩٤٨م، عندما أصدر الأستاذ ولسون نايت Wilson Knight كتابه الشهير «إكليل الحياة The Crown of Life» الذي يُعلِن فيه أن هذه المسرحية أحد الأمثلة الرائعة على فن شيكسبير، وأنها تستعين بالحفلات الصاخبة، والمناظر الخلَّابة، والطقوس الجذَّابة، لإضفاء معانٍ وطنية ودينية على الحدث، وأن الملك رمز الانتماء الوطني والقوة الدينية معًا، وأن هذه المعاني تتجسَّد في حركة المجموعات على المسرح وما يصاحبها من موسيقى واستعراض للأُبَّهة والفخامة. وهو يبالغ كثيرًا في تفسير دلالة هذه الحفلات والشعائر، فيعتبرها دليلًا على جلَد الأمة وطموحها وآمالها العريضة؛ ولذلك يزعم أن المسرحية تتضمن أكبر وأصدق قَدْر من المشاعر الدينية؛ فهي ترُكِّز على معنى العدالة والحق والخير والإحسان؛ ومِن ثَمَّ فهي جديرة باحتلال الذروة بين المسرحيات التاريخية والرومانسية، ولكن هذه المبالغة سرعان ما أحدثَت ردَّ فعلٍ عنيفًا من جانب بعض محرِّري طبعات شيكسبير ممن أثَّروا تأثيرًا كبيرًا في الفكر النقدي، وأهمهم فوكس Foakes وماكسويل، الأول في طبعة آردن (١٩٥٥م) (حيث تجاهل تمامًا آراء ويلسون نابت) والثاني في طبعة نيو شيكسبير (١٩٦٢م) حيث ركَّز في مقدمته على نقاط الضعف الدرامي في المسرحية.
وسوف نعود إلى فوكس Foakes فيما بعدُ بسبب مقدِّمته البالغة العمق، بينما نعرض عرضًا سريعًا لآراء الآخرين. أما ماكسويل فيقول في مقدِّمته إنه مقتنع بأن فلتشر قد شارك مشاركةً كبيرة في تأليف النص؛ لأن نجاح المسرحية الجماهيري لا ينفي أن النص يفتقر إلى ما يُسمِّيه ﺑ «الحياة الدرامية الحقَّة» وهو يُعرِّف هذه الصفة بأنها «الأهمية» أو «الضخامة momentousness»، وهي كلمةٌ غامضة أقصى ما يُفهم منها هو الحكم على قيمة ما يُقدَّم من أحداث وأقوال، وهو يشير إلى أن «المادة» substance هزيلةٌ بسبب عدم وضوح تصوير الملك باعتباره الشخصية الرئيسية، مدللًا على أن الكاتب يُقدِّم صورًا متباينة له دون أن يحسم موقفه من أيٍّ من هذه الصور، والنتيجة في رأيه أن المسرحية تفتقر إلى وضوح الاتجاه direction (أو ما نُسمِّيه اليوم بالتوجُّه orientation)؛ ومِن ثَمَّ تفتقر إلى المعنى العام. وهو لا يُعفِي المَشاهِد التي تُصوِّر الملكة كاثرين؛ إذ يقول إنها مشاهدُ تفتقر إلى «انطباعٍ موحَّد»، بل ولا يظهر فيها «انطباعٌ مركَّب» على الإطلاق. وهذا هو أيضًا ما ينتهي إليه كليفورد ليتش Clifford Leech في كتابه عن المسرحيات التاريخية لشيكسبير الذي صدر في العام نفسه؛ إذ يقول في صفحة ٣٤ إن القارئ لا يشعر أثناء سير الأحداث أنه يسير في خطٍّ محدَّد نحو «رؤية مركَّبة complex» للشخصيات والموقف، أو أنه ينفُذ إلى مستوياتٍ متزايدة العمل من الدلالة والمعنى. ويبدو، بدلًا من ذلك، أن الكاتب يقدم إلينا سلسلة من البدائل في النظر إلى «الشخصيات والمواقف» وأنَّ تَنوُّع الاستجابة للمسرحية مردُّه عدم إحكام النظرة إلى المادة؛ أي عدم التيقُّن مما يريد الكاتب توصيله، وهو ما يميِّز «طريقة» أو «فن» (manner) فلتشر.
ويخرج القارئ من قراءة الفصل الخاص بهذه المسرحية في الكتاب المذكور وهو William Shakespeare, The Chronicles بأن ليتش «يتوقَّع» أو «يطلب» من الكاتب إعلاء شأن قيمةٍ إنسانيةٍ محدَّدة دون إفساد المسعى بالتطرُّق إلى ضعف البشر الذي يحُول دون تحقيق تلك الغاية، فهو يشير إلى خيط الفكرة السائدة وهي أن الزمان حُوَّلٌ قُلَّب، وأن أمجاد الدنيا زائلة، ويوحي في كتابه بأن هذا «الموضوع» كان يقتضي من الشاعر أن يؤكِّد الحركة الداخلية في الدراما نحو غايةٍ أسمى، ولكن الكاتب في رأيه يضيع جهوده في تصوير المؤامرات الخسيسة والصغار والأحابيل وخداع النفس. وينتهي من ذلك إلى أن المسرحية «لا تتضمَّن أي درسٍ سياسي»؛ لأن الشخصيات الخيِّرة والشرِّيرة تنتهي إلى المصير التعس نفسه! (صفحة ٣٩).
والذي أُدهَش له أن يخرج الناقد بهذه النتيجة بناءً على ما ذكَره من أسباب؛ فالمسرحية التاريخية تختلف تعريفًا عن المسرحية الخيالية في أنها تخضع للحقائق التي يعرفها الجمهور، وهي تقدِّم «مادَّتها» في إطار رؤيةٍ تفسيرية للتاريخ، وكل تاريخ لا يعدو أن يكون تفسيرًا، والتفسير الذي يقدِّمه شيكسبير هنا، مهما تكن إضافات فلتشر أو تدخلاته: هو انهيار «النظام القديم» حسبما يُسمِّيه الأستاذ جيفري بولو Geoffrey Bullough وبداية العصر الجديد؛ أي حكم أُسرة تيودور وما يرمز له الملك هنري الثامن من الوعد بحكم الملكة إليزابيث، وقد عاش شيكسبير معظم سني حياته في ظل هذا الحكم. ويرجع خطأ النقاد الذين يعيبون على النص افتقاره إلى مزايا التراجيديا الشيكسبيرية المألوفة (في «هاملت» مثلًا أو في «ماكبث») هو أنهم كانوا يريدون بطلًا تراجيديًّا أوحد، يتعاطفون معه أو يدينونه؛ أي حدثًا دراميًّا محدَّدًا تلتقي فيه نوازع الشخصيات وينتهي إلى ذروةٍ تقليدية (كلاسيكية)، بدلًا من رؤية ما يرمي إليه الكاتب من خلال ما كتَبه؛ أي من خلال ما يبادر أن النص يريد أن يقوله.
والمدخل الصحيح في رأيي هو مدخل فوكس Foakes الذي لا يربط المسرحية بالمسرحيات التاريخية أو التراجيديات التي سبقَتْها بل بالمسرحيات الرومانسية؛ إذ إن المعنى الدرامي في هذه المسرحيات لا ينبع من عمق تحليل شخصيةٍ معينة، بل من البناء العام للمسرحية والقرى المحرِّكة لها، والبناء هنا في رأيه يعتمد على المحاكمات الأربع — لدوق بكنجهام، وكاثرين، وولزي، وكرانمر — وهي محاكمات تمثل مراحلَ متعاقبة على طريق «الوعي» العام، أو الرؤية العامة لذلك العصر، والتي تؤدي إلى ثبات النظام الذي أوجد إنجلترا الحديثة. وسلسلة التوازيات والتناقُضات الثنائية سلسلةٌ محكمة يستعيض بها شيكسبير عن الأحداث الفردية التي يقوم بها أبطالٌ تراجيديون كلاسيكيون، والبناء هنا إذن هو البطل، مثلما كان البناء هو البطل في «روميو وجوليت» ثم في «حلم ليلة صيف»، فهو بناء يعتمد على التقابُلات والتعارُضات ثم ينتهي بالتوافق. ويُسهِب فوكس في تحليل هذه المحاكمات، والحديث عن دور أبناء الشعب في المسرحية، من خلال شخصيات السادة gentlemen والجمهور غير المثقَّف، وكذلك دور المناظر والحفلات التي تنهض بأدوارٍ طقسية لا غنى عنها في هذا اللون من المسرح.
وقد أكَّد هذا الاتجاه الحديث أولًا هاورد فيلبرين Felperin في كتابه عن رومانسيات شيكسبير عام ١٩٧٢م، ثم عاد ألكسندر ليجات Leggatt فأفرد له مقالًا مهمًّا عام ١٩٨٥م، وكلٌّ منهما يُركِّز على الطابع الأسطوري الذي يضفيه شيكسبير على التاريخ الإنجليزي في هذه المسرحية، وهو طابع يقترب بالمسرحية كما يقول فيلبرين من الأبنية القصصية أو السردية القديمة، وكان مثله الأعلى هو الكتاب المقدَّس، وهو يمثِّل له أيضًا «كوميديا إلهية» تتضمن ألوانًا من العذاب والمعاناة حتى تصل إلى إحقاق الحق والعدالة والسِّلْم، أو كما يقول «الحرية الروحية»، فكلُّ سقطةٍ تراجيدية في المسرحية هي، من هذا المنظور، سقطةٌ حميدة لأنها تؤدِّي إلى تحرير النفس من الالتصاق بالأرض وعَرَض الدنيا الزائل، وهو يُقيم توازيًا بين هذه المسرحية و«مسرحيات الأخلاق»؛ أي morality plays في العصور الوسطى، فيرى أن وولزي يلعب دور الشيطان (إبليس) أو الرذيلة، وأن كاثرين تلعب دور ملاك الخير مع زوجها هنري الذي يمثِّل هنا دور ملكٍ خاطئ سبقه عددٌ كبير من الملوك الخُطاة. وفيلبرين إذن يحاول تحديد «النوع الأدبي» الذي ينبغي قَبوله حتى نقبل هذه المسرحية، فالسرد عُنصرٌ قصصي، والاحتفالات عنصرٌ رومانسي أساسي، ولكنهما يتزاوجان هنا في بناءٍ درامي، وإن كان ذلك الناقد يأخذ على شيكسبير التزامه الشديد بالسياق التاريخي الحقيقي، ويأخذ عليه في الوقت نفسه حَذْف الكثير من ذلك التاريخ (صفحة ٢٠٩، من كتاب Shakespearean Romance، ١٩٧٢م).
وقبل أن نعرض لغير هؤلاء من النقاد يحب أن نذكُر أن هذه المسرحية التاريخية كانت تتضمن أحداثًا وشخوصًا معروفة للجمهور؛ ولذلك فإن مقال ليجات يُقيم وشائجَ وثيقة بين الرؤية المثالية للتاريخ التي تضمَّنتْ نبوءة كرانمر في آخر المسرحية، والواقع الأليم الذي تُصوِّره الأحداث والشخصيات، وهو يقول إن تحقيق الرؤية في عصر جيمس الأول (وقت كتابة المسرحية) كان أول معنًى له هو «فصل الكنيسة عن الدولة» أو إقامة علاقةٍ جديدة بينهما، وهذا هو المعنى الذي كان الجميع يعرفونه آنذاك ولا يعرفه قُراء العربية، مما يتطلب بعض الشرح والتفصيل. وعنوان مقال ليجات هو Henry VIII and (1985) the Ideal England, Shakespeare Survey, 38.

تقع أحداث المسرحية في أوائل القرن السادس عشر الميلادي، وفي وقتٍ لم تكن دول أوروبا الحديثة قد اتخذَت طابعَها وحدودها المعروفة، بل ولم تكن اللغات الأوروبية الجديدة قد تبلْورَت بصورةٍ كاملة، وكانت اللغة الإنجليزية تسير في طريق التطوَّر من لغة تشوسر المتوفَّى عام ١٤٠٠م حتى وصلت إلى النضج في أيدي كُتاب آخر القرن وعلى رأسهم شيكسبير، وكان الجو العام هو ما يُوصف بجو التحوُّل من تُراث العصور الوسطى إلى عصر النهضة. وقد يجد البعض أن ذلك تاريخٌ متأخر للنهضة، ولكن هذا هو ما يذهب إليه المؤرِّخون المحدَثون، خصوصًا تريفيليان صاحب التاريخ الاجتماعي لإنجلترا، وهو الكِتاب الذي استعنتُ به أكثر من غيره في رسم صورة فترة المسرحية.

ولما كنتُ أومن، مثل ليجات، بأن جوهر المسرحية لا يكمن في تصوير مأساة فردٍ بعينه، ولا في علاقة الشخصيات بعضها بالبعض، بل في الجوِّ العام الذي يُملي الأحداث إملاءً، ويُرهص فيه بالتحوُّل من سلطة البابا، رأس الكنيسة الكاثوليكية، إلى سلطة الملك الذي أصبح رأس الكنيسة الإنجليزية؛ ومِن ثَمَّ التحول من الكاثوليكية تدريجيًّا إلى البروتستانتية في عصر خلفاء الملك هنري الثامن، فأعتقد أن الفهم الكامل للمسرحية لن يتأتَّى إلا بإدراك الواقع التاريخي للشخصيات الرئيسية الحقيقية، وعلى رأسها في نظري الكاردينال وولزي، والملك هنري الثامن، وزوجته كاثرين، ثم زوجته الجديدة آن بولين.

وُلد وولزي Wolsey عام ١٤٧٥ في إبسويتش Ipswich بمقاطعة سافرك Suffolk، وكان أبوه جزَّارًا ولكنه أنفق بسخاءٍ على تعليمه حتى تخرَّج في أكسفورد وحصل على الشهادة الجامعية في العلوم اللاهوتية ولمَّا يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، وكان ذا موهبةٍ فذة في الإدارة لفتَت أنظار رجال الجامعة، فعَهِدوا إليه، بعد تسلُّمه عمل الكاهن في ١٤٩٨م، بالإشراف على الشئون المالية في كلية مودلين Magdalen٢ وكانت الشئون المالية لا تنفصل عن الإدارة، وما لبث أن أثبت نجاحًا منقطع النظير في تجديد الكلية وبناء برج لها، واشتُهر بذلاقة اللسان وحسن المعشر، والطموح الشديد، والتفاني في العمل، وأصبح الكاهن الخاص (chaplain) للسير ريتشارد نانفان Nanfan نائب قائد حامية كاليه (المدينة الفرنسية التي كانت تابعة لإنجلترا)؛ إذ بهَره سِحْر بيانه وإخلاصه الشديد، فزكَّاه إلى الملك هنري السابع الذي حكم إنجلترا من عام ١٤٨٥م إلى ١٥٠٩م، وعندما تُوفي نانفان عام ١٥٠٧م، اتخذ الملك ذلك القسيس الشاب كاهنًا خاصًّا له فأثار حسد الكثيرين. وحذَّره الملك من مكائد القصر ونصَحه بمواصلة الجد والاجتهاد، ويقول بعض المعاصرين إن الملك أبعده عن القصر عمدًا بتعيينه رئيسًا لكاتدرائية لِنكُن Lincoln حتى يكون بمأمنٍ من أحابيل الحساد.
كان وولزي في عنفوان شبابه حين تُوفي الملك هنري السابع عام ١٥٠٩م، وخلَفَه الملك هنري الثامن الذي كان ما يزال في الثامنة عشرة، وكان طالبًا مجتهدًا برع في اللغات القديمة فكان يؤلِّف باللاتينية وهو في هذه السن المبكرة، ويعزف الموسيقى ويكتُب الشعر، واستَهوَته رسائل وولزي المكتوبة بلاتينيةٍ سلسلة تنمُّ عن ذكاءٍ متوقد، كما بلغَت أسماعَه أنباءُ الإنجازات الإدارية والمالية لذلك القسيس العصامي فقرَّر استدعاءه واصطفاه لنفسه، وقرَّر تعيينه مديرًا لصندوق البر والإحسان التابع للملك royal almoner وهو الصندوق الذي كان يعتمد على بعض موارد الأوقاف endowments في الإنفاق على الفقراء. ولم تمضِ سنواتٌ معدودة حتى بزَغ نجم وولزي في سماء القصر الملكي؛ إذ كان هنري الثامن يعمل بمشورته وينتصح بنصحه، وكان الملك آنذاك يفتقر إلى الخبرة اللازمة بشئون السياسة الدولية بل وعازفًا عنها، فأول مذاقٍ لها لديه كان زواجه ممن تكبره سنًّا ومن لا يحبها، لأسبابٍ سياسية، وهي كاثرين خالة الإمبراطور شارل الإسباني، وكان دائم التطلع إلى الحب الذي قرأ عنه في أشعار اليونان والرومان، فكان يقضي سَحَابة يومه في الصيد والقنص والاستماع إلى القيان وتطارُح الشعر في المساء، وكان اهتمامه الشديد بالرياضة البدنية والمهارة الحربية لا يترك له وقتًا للنظر في أمور الدولة؛ ولذلك فقد كان يُرحِّب بكل ما يقترحه عليه الكاهن ذو البيان الساحر، ويكاد يقتصر دوره على التوقيع والموافقة على ما يقوله الكاهن بنبراتٍ خفيضة تمثل أقصى درجات الخضوع والخشوع وتقوى الله.

وما انقضَت السنة الرابعة من حكم هنري الثامن (١٥١٣م) حتى لاحت للكاهن فرصةٌ نادرة لتحقيق أوَّل طموحاته في مجال السياسية، فأقنع الملك بضرورة الهجوم على فرنسا وضم أراضيها إلى إنجلترا أثناء انشغال لويس الثاني عشر بالحرب في إيطاليا. وكان الصراع قائمًا ومحتدمًا بين إسبانيا التي يحكمها الإمبراطور شارل ابن أخت الملكة (وكان اسمها جوانا)، وبين فرنسا؛ ولذلك فلو تمكَّن الملك من عقد حِلْف مع إسبانيا لتأمين حملته في فرنسا فسوف يُكتب له النجاح. ورأى هنري الثامن أن النجاح العسكري سيُوطِّد سلطانه في القارة الأوروبية (وفي إنجلترا بطبيعة الحال) وأنه سوف يساعده كذلك في تحقيق المثل الأعلى للملوك في العصور الوسطى، وهو المثل الأعلى الذي وَرِثه عن أسلافه واستقاه من قراءاته؛ إذ سوف يعود منتصرًا بأكاليل الغار، وسوف يدخل لندن على صهوة جواده فيُحيِّيه أبناء الشعب، ويتغنَّى الشعراء بمدائحه وهو بعدُ في الرابعة والعشرين!

وأبحر الجيش الإنجليزي بقيادة الملك وكبار النبلاء والفرسان، وحقَّق نصرًا كبيرًا طارت أنباؤه بفضل رسائل وولزي وأتباعه عام ١٥١٣م، فأثلج الصدور وأحيا الأمل في نفوس الشعب بقرب استعادة أراضي فرنسا وضمها إلى إنجلترا. وبلغ من سرور الملك أن استجاب لطلب وولزي فاقترح على البابا ليو العاشر أن يُعيِّنه أسقفًا للكاتدرائية التي عمل فيها نائب رئيس ذات يوم (كاتدرائية لِنْكُن) وإن كان يريده في الحقيقة أن يظل إلى جواره.

ويقول بعض المعاصرين إن طلب وولزي الذهاب إلى لِنْكُن رغم طموحاته السياسية الكبيرة من أهم الدلائل على ذكائه الأصيل ودهائه الفطري؛ إذ كان يريد أن يكون الملك هو الذي يسعى إليه ويطلبه حين يشعر بالعجز في غيابه عنه، وهكذا فلم تمضِ شهور على تعيينه أسقفًا لكاتدرائية لِنْكُن (فبراير ١٥١٤م) حتى عيَّنه الملك (عن طريق البابا بطبيعة الحال) أسقفًا لكاتدرائية بورك (سبتمبر ١٥١٤م) تمهيدًا لتحقيق ما كان وولزي يطمح فيه حقًّا وهو أن يكون كاردينالًا — والكاردينال هو أعلى منصبٍ ديني يمكن للبابا أن يمنحه. وفعلًا أصبح وولزي الكاردينال العظيم في عام ١٥١٥م.

ويقول بعض المؤرخين إن فطنة وولزي جعلَتْه يضع الأسس اللازمة لاستمرار النصر الذي تحقَّق على الفرنسيين، وذلك بالتمهيد لعقد صلح مع فرنسا، فاقترح تزويج لويس الثاني عشر من ماري شقيقة هنري، وكُتُب التاريخ حافلة بالأحابيل التي لجأ إليها لتحقيق هذه الغاية، فهي حقًّا ممَّا يطمح إليه كل ملكٍ منتصر، لا لاستتباب السلم فحسب بل للاحتفاظ بوَقْع النصر وأصدائه في القارة؛ إذ أصبح هنري الثامن وهو في شرخ الشباب ملكًا مرهوب الجانب، وأَصبحَت أوروبا تتطلع إليه بعيونٍ حذرة.

ولكن السِّلْم الذي ساد مؤقتًا لم يكن قائمًا على الأسس التي تكفُل استمراره، وأهمها القوة الاقتصادية اللازمة لإعداد الجيش وتجهيزه؛ فالمعروف أن الملوك آنذاك لم يكن لديهم «جيشٌ نظامي» بالمعنى الحديث للتعبير، ولكنهم كانوا يقومون بتعبئة الجنود عن طريق النبلاء والأشراف عندما ينشأ ما يدعو لشن حملةٍ ما أو للدفاع عن البلد ضد الغزاة، وكان كبار الضباط من ذوي الخبرة في تنظيم المعارك وفنون القتال ثم الذين يتولَّون هذه التعبئة في العادة؛ ولذلك فهُم دائمًا على صلةٍ بالقيادة السياسية التي كانت تتمثل في المجلس الملكي الخاص Privy Council وفي رئيسه الذي يتمتع بحظوةٍ كبيرة لدى الملك، فإذا علمنا أن السلطة الفعلية كانت في أيدي كبار رجال الكنيسة الذين يتمتَّعون بعضوية هذا المجلس، ليس بسبب سطوتهم الدينية فحسب بل أيضًا بسبب ثرائهم الفاحش، أدركنا أن وصول وولزي إلى منصب الكاردينالية كان معناه جمع خيوط السلطة في يده، وهكذا لم يكن من المستغرب أن يعينه الملك رئيسًا للمجلس في ديسمبر عام ١٥١٥م، فيُصبح بهذه الصفة رئيسًا للوزراء بتعبيرنا الحديث (أو الوزير الأول بالتعبير التونسي) أو الوزير وحسب بتَعبير العرب القدماء، وكان اسم المنصب آنذاك هو Chancellor واسمه بالكامل هو Lord Chancellor of England، وهي الكلمة التي أُسيئ فهمها بسبب الخلط بينها لدينا وبين كلمة counsellor بمعنى المستشار (في الخارجية) وكلمة councillor بمعنى عضو المجلس (عادة عضو المجلس البلدي أو المحلي في بريطانيا).٣
ومن ثَمَّ فقد كان رئيس الوزراء يجمع بين السلطة الدينية بصفته كاردينالًا والسلطة الزمنية temporal أو العلمانية secular (أي سلطة الدولة) باعتباره يمثِّل سلطة الملك، ولكن الكنيسة الإنجليزية لم تكن مستقلَّة عن سلطة البابا فكان لزامًا على من ينشد السلطة الحقيقية أن يستمدها من البابا، وهكذا سعى وولزي حتى يحصل من البابا على منصب «القاصد الرسولي legate a latere»؛ أي ممثل البابا الخاص في إنجلترا، وهو المنصب الذي يتيح له أن يتحدث باسم البابا، وأن يُصْدر القرارات الدينية التي تستمد قوتها من قوة رئيس الكنيسة الكاثوليكية الأكبر في روما.
ورغم سعادة الملك واطمئنانه إلى ذكاء وولزي ونشاطه، فقد كان ما يزال يطمح في أن تكون إنجلترا هي الحَكَم arbiter في منازعات القارة الأوروبية التي لم تَهدَأ بين القوتَين العُظميَين آنذاك وهما فرنسا والإمبراطورية الرومانية المقدَّسة، وأن يسود سلامٌ دائم؛ أي سلام يتضمن التسليم بسيادة إنجلترا على شمال أوروبا كلها لتأمين طرق التجارة الإنجليزية مع هولندا وبلجيكا وبلدان الشمال التي لم تكن قد استقرت حدودها السياسية استقرارًا كاملًا آنذاك. وحاول وولزي تحقيق آمال الملك عن طريق إعلان خطبة ماري ابنة الملك من كاثرين (خالة إمبراطور إسبانيا) إلى ابن فرانسيس ملك فرنسا، وكانت الطفلة في الثانية والطفل لا يتجاوز عمره سبعة شهور، وصاحَب إعلانَ الخطبة الإعلان عن حلفٍ أوروبي (أي معاهدة سلام) بين جميع القوى الكبرى، وبذل وولزي جهودًا جبارة لإنجاح هذه المعاهدة، فأقام حفلًا ضخمًا لم يشهد تاريخ إنجلترا له مثيلًا في لندن، حتى يشعر المتدربون بمدى القوة الاقتصادية لإنجلترا ومِن ورائها، بطبيعة الحال، القوة العسكرية والسياسية. وكانت هذه هي الفرصة التي استغلها وولزي في إقناع البابا بتعيينه «قاصدًا رسوليًّا». ويقول بعض المؤرخين إنه قدَّم الأموال ﻟ «الجميع» على سبيل الرشوة، لتحقيق هذا الهدف، الذي نجح في تحقيقه فعلًا كما قلنا، فأصبح يجمع سلطة الدين والدنيا في عام ١٥١٨م.

ولكن حفل التوقيع أظهر للملك مدى ثراء الكاردينال (ورئيس الوزراء) الذي لم يكن يتقاضى أي مرتَّباتٍ من خزانة الدولة. ولا بد أن الملك قد سمع أيضًا عن المبالغ الكبيرة التي أنفقها الكاردينال لتحقيق مراميه. ويختلف المؤرخون حول تحديد موقف الملك من الكاردينال في تلك الأيام المبشرة بالسلام الأوروبي، وإن كان معظمهم يميل إلى تصديق السجلات المعتمدة التي تُفصِح عن الثقة الكبيرة التي كان الملك يُولِيها له، ويجب ألا ننسى في خِضَم هذا البحر السياسي المتلاطم الموج أن الملك كان مشغولًا آنذاك بعجز زوجته عن إنجاب مولودٍ ذكر من صلبه يرث عرش إنجلترا، وأنه كان قد فقد تمامًا أي دافع لمواصلة الارتباط بزوجته كاثرين، فهجرها في المضجع وبدأ يفكِّر في وسيلة لإنهاء الزواج. وتتضمن كتب التاريخ بعض الإشارات إلى الجهود التي بذلها وولزي في تدبير بديلٍ للملكة؛ أي العثور على ملكةٍ أخرى تساعده في تحقيق طموحاته السياسية من خلال إحلال السلام في أوروبا، وكان يطمح في أن يجد للملك زوجةً فرنسية إذا استطاع إيجاد السبل القانونية (الشرعية) لإعلان بطلان زواج الملك بكاترين، وكان يميل إلى اختيار أخت الملك فرنسيس واسمها «رينيه».

وفي العام التالي (١٥١٩م) تبيَّن لوولزي بوضوح وجلاء أن علاقة الملك بزوجته قد انتهت. ويبدو أنه غض الطرف عن العلاقات الغرامية التي كان الملك يقيمها مع بعض نساء القصر؛ إذ إن هنري اتخذ عشيقةً له في ذلك العام هي إليزابيث بلاوتد Plowted، وأنجبَت له ابنًا سفاحًا، ففرح به، وأنعم عليه بلقب دوق ريتشموند وسومرست، وفكَّر في أن يقف وراثة العرش عليه، ولكن وولزي تدخَّل بسلطته الدينية وثناه عن عزمه.

وعندما نصل إلى عام ١٥٢٠م، وهو العام الذي اختاره شيكسبير بدايةً لأحداث المسرحية، نصل إلى نقطة البداية حقًّا في الصراع الذي أضفى عليه الكاتب السمات الدرامية، من خلال تجميع الخيوط المتفرقة، والتي عرضنا لبعضها في حياة وولزي، ونعرض الآن للبعض الآخر في حياة الملك.

كان الملك (عند بداية المسرحية) في التاسعة والعشرين، منفصلًا عن زوجته الإسبانية، ويبحث جادًّا عن بديل، وكانت الأحوال السياسية ما تزال مضطربة في القارة الأوروبية. ونرى في المشهد الأول تركيزًا على لقاء العاهلَين الفرنسي والإنجليزي الذي دبَّره الكاردينال وولزي، سعيًا لإقرار السلام في أوروبا، ومحاولة منه في التقريب بين الدولتَين عسى أن ينجح في تزويج أحدهما من أُسرة الآخر.

كان هنري الثامن هو الابن الثاني للملك هنري السابع، أول ملوك أسرة تيودور Tudor، وقد وُلِد في جرينتش في ٢٨ يونيو عام ١٤٩١م. وعندما تُوفِّي أخوه الأكبر آرثر في عام ١٥٠٢م، أصبح وريثًا للعرش. وعندما آل إليه الملك في عام ١٥٠٩ تعلَّقتْ به آمال الشعب، بل إن المؤرخين يبالغون في تصوير مدى تفاؤلهم به وتطلُّعهم إلى لونٍ من الاستقرار الذي حُرموه سنواتٍ طويلة.

أما زوجته كاثرين فكان قد زوَّجه منها أبوه رغم إرادته، بعد أن تُوفي أخوه آرثر عام ١٥٠٢م. والذي حدَث هو أن آرثر كان في الخامسة عشرة وكان مريضًا عندما تزوَّج كاثرين التي كانت في السادسة عشرة عام ١٥٠١م (١٤ نوفمبر)، ولم يَبقَ في قيد الحياة بعد ذلك سوى أشهرٍ معدودة، وكانت كاثرين تُصِر على أنه لم يَبنِ بها، وهنا يختلف المؤرخون في مدى صحة ذلك؛ فالوقائع تساند احتمال عدم إتمام الزواج فعليًّا، رغم إجراء مراسمه العلنية. وعلى أي حال فعندما مات آرثر أصبَحَت كاثرين أرملة (عذراء في زعمها) وكانت قد أحضَرتْ معها صداقًا قَدْره مائتا ألف من الدوكات، وهو مقدار من الذهب يصل إلى عشرات الملايين من الدولارات بعملة العصر الحاضر، وكره هنري السابع أن تعود إلى إسبانيا بهذا المبلغ، فقرَّر أن يزوجها من هنري ابنه الثاني، الذي كان ما يزال في الحادية عشرة.

واستَنكَر وارام Warham كبير الأساقفة آنذاك ذلك الزواج المقترَح، وأيَّده الأسقف فوكس Foxe استنادًا إلى آية في الكتاب المقدَّس تقول «وإذا أخذ رجلٌ امرأة أخيه فذلك نجاسة … يكونان عقيمَين» (سفر اللاويين، ٢٠: ٢١) ووافَق على الزواج أساقفةٌ آخرون استنادًا إلى آيةٍ أخرى هي: «إذا سكن إخوة معًا ومات واحدٌ منهم وليس له ابن … أخو زوجها يدخُل عليها ويتخذها لنفسه زوجة» (سفر التثنية، ٢٥: ٥). وهكذا كان لا بد أن يحتكم الجميع إلى البابا وكان اسمه آنذاك يوليوس، الذي أصدر فتوى عام ١٥٠٣م، بأن الزواج حلال، ولكنَّ فتوى البابا لم تحسم الأمر تمامًا؛ إذ ظل الفقهاء في خلاف، وإن كان الخلاف هذه المرة حول حق البابا في الإفتاء، ممَّا يُرهص بنوازع الاستقلال عن كنيسة روما. ولم تهدأ المسألة، رغم إعلان الخطبة رسميًّا عام ١٥٠٣م، إلا عندما أُعلن تأجيل الزواج بسبب صغر عمر هنري؛ إذ كان هنري ما يزال في الثانية عشرة، وكان يرى في المرأة غير الجميلة التي تكبره بست سنواتٍ زوجةً لا يشتهيها قلبه كما سبق أن ذكرنا، فطلب إعلان بطلان الزواج لأن أباه أكرهه عليه، ولكن والده أصَر، وأصَرَّ معه كثيرون ممن كانوا في قلق على الأوضاع السياسية والعسكرية، وكانوا يرون فيه إنقاذًا للبلد من الحرب مع إمبراطوريةٍ قوية من المستحسن أن تساندهم في صراعهم التقليدي مع فرنسا. وهكذا تزوَّج هنري الثامن كاثرين، قُبيل أن يبلغ الثامنة عشرة؛ أي بعد أن مات أبوه وتولى العرش في ٢١ أبريل ١٥٠٩م.

وبعد سبعة شهور أنجبَت كاثرين أول طفلٍ لها مات عند الولادة، (٣١ يناير ١٥١٠م)، وبعد ذلك بعام أنجبت طفلًا آخر مات بعد بضعة أسابيع (١٥١١م)، وسقَطَت في طفلها الثالث (١٥١٣م) والرابع (١٥١٤م)، ممَّا جعل الملك يفكِّر من جديد في إعلان بطلان الزواج، ولكن عندما أنجبَت كاثرين طفلة أسماها ماري عام ١٥١٦م، تفاءل الملك لأن الطفلة ظلَّت في قيد الحياة (وهي التي أصبحَت ملكةً فيما بعدُ) وعاوده الأمل في إنجاب وريث للعرش، ولكنَّ آماله تحطَّمتْ عندما أنجبَت كاثرين ابنًا آخر وُلِد ميتًا في عام ١٥١٨م.

في بداية المسرحية إذن نرى الملك وقد فقد الأمل في نجاح زواجه، إلى جانب ظهور مشكلة وراثة العرش وما يمكن أن تتسبَّب فيه من مشكلات، ونرى الكاردينال وولزي وهو يعمل جاهدًا على إقامة الروابط العائلية بين الدولتَين، ونعلم من الخلفية التاريخية أن خطبة ماري لولي عهد فرنسا (رغم أنهما كانا طفلَين) أثارت انزعاج كبار رجال الدولة (اللوردات؛ أي كبار المُلَّاك)؛ لأن ذلك معناه أن تكون بريطانيا خاضعةً لفرنسا؛ ومن ثَمَّ عارضوه، وكان من بينهم لورد نورفوك ودوق بكنجهام. ويختلف المؤرخون في مدى صحة ما ورد في كتاب تاريخ إنجلترا (من تأليف رافائيل هولنشد) الذي استند إليه شيكسبير بصورةٍ كاملة، عن اعتزام دوق بكنجهام الاستيلاء على العرش، ولكنهم يُجمعون على أن خطبة ماري إلى ولي عهد فرنسا كانت تمثِّل خطرًا داهمًا على البلاد. ويبدو أن المعارضة الرئيسية كانت من جانب دوق بكنجهام Buckingham، ويُفسِّر ذلك أحد المؤرخين قائلًا إنه لم يكن يرى أنه من كبار رجال الدولة فحسب بل كان يعتقد أنه يتحمل مسئولية حماية سلامة الأمة من مَغبَّة الانسياق وراء الأحلاف الأوروبية. ولا شك أن هذه المعارضة السياسية كان معناها إفساد خطَط الكاردينال وولزي، بل كان معناها تحطيم آماله الطموحة التي لم يكن لها حدود؛ ولذلك دبَّر للقضاء على بكنجهام، ورأى شيكسبير في ذلك موقفًا دراميًّا يُرهص بالموقف الدرامي «المتكرِّر» للمؤامرات والدسائس التي أودَت بجميع من عمل في خدمة الملك، وبنهاية الكاردينال وولزي نفسه، ﻓ «كما تدين تدان».
ويُصوِّر شيكسبير على لسان الراوي نورفوك ما حدث في اللقاء بين الملكَين الإنجليزي والفرنسي عام ١٥٢٠م، ويصوِّر أيضًا موقف بكنجهام، ولكنه لا يصوِّر ما حدث بعد ذلك إذ عندما ترك هنري الثامن «حليفه» ملك فرنسا (فرانسيس) عاد إلى كاليه في يوليو ١٥٢٠م (أي بعد ١٧ يومًا فقط) ليعقد اتفاقًا مع الإمبراطور الإسباني شارل، في حضور الكاردينال وولزي أيضًا، وهو الاتفاق الذي تراجَع فيه عن عزمه على مصاهرة الأُسرة المالكة الفرنسية! أي إن وولزي كان في الحقيقة يُسيِّر دفَّة السياسية الإنجليزية، ولم يكن مِن ثَمَّ على استعداد لقبول أي معارضٍ من أي طرف. ولقد خرج من هذه المغامرات كلها بثروة يصعُب حصرها؛ إذ أمر الملك رهبانَ دير سانت أولبانز Albens ﺑ «اختيار» وولزي رئيسًا لهم وتقديم صافي دخل الدير له، عوضًا له عن تكاليف الرحلة.
ولنقرأ الآن ما كتبه تريفيليان في كتابه «تاريخ إنجلترا الاجتماعي»، ص٩٤، عن وولزي:
«كان هنري السابع وابنه هنري الثامن يتسمان بالحماس للعقيدة السلفية (orthodoxy)، ولم يهمل أيٌّ منهما واجبه في إحراق الهراطقة (أصحاب البدع الدينية سواء منهم المصلح أو المجدِّد أو المارق) وكثيرًا ما استعانا بالأساقفة للعمل مستشارين للدولة أو وزراء، وفقًا لتقاليد القرون الوسطى، وكانت الذروة التي أَسدلَت الستار على تلك التقاليد تعيين الكاردينال وولزي وزيرًا (رئيسًا للوزراء بلغة العصر الحديث) للملك هنري الثامن؛ إذ اجتمعَت في وولزي كبرياء الكنيسة القروسطية.٤ وجبروتها على نحوٍ لم يسبق له مثيل. كان وولزي أداةً لسلطة البابا، ولكنه زاد من سيطرة هذه الأداة على الكنيسة الإنجليزية، فكان يعامل النبلاء والسادة من غير رجال الكنيسة كأنما هم ترابٍ يطؤه بقدمَيه؛ ومِن ثَمَّ ساعَد سلوكه هذا في إشعال نار الثورة المضادة للكهنوت التي صاحبَت سقوطه. كان يعمل في منزله ما يقرب من ألف شخص، وكان يسير في موكبٍ رسمي يسبقه فيه حاملو القضبان الفضية والجلَّادون الذين يرفع كلٌّ منهم بلطة الإعدام. وكانت مصادر ثرائه متعددة لا تكاد تُحصى، ومن بينها راتب باعتباره رئيس أساقفة يورك، وأسقف دارام Durham، ورئيس دير سانت أولبانز Albans، وإن كان يهمل القيام بواجبات أيٍّ من هذه المناصب. ويقول كاتب سيرة وولزي وهنري الثامن (البروفسور بولارد، ص٣٢٠-٣٢١): إن الكاردينال كانت ثروته تعدل ثروة الملك تقريبًا. وإنه استطاع بدهائه أن يُدبِّر للابن الذي أنجبه سفاحًا الحصول على دخل عدة كنائس وأبرشيات وأديرة لكنه لم يستطع أن يُمكِّنه من دخل أبرشية دارام البالغة الثراء. وكما كان بالغ الزهو والخيلاء، شديد الجشع والطمع، يعيش في بذخٍ وأُبَّهة لاحد لهما، كان سخيًّا شديد السخاء في الإنفاق على إنشاء المعاهد والكليات الجامعية والعليا والتي كانت روعتها لا تُجارى ولا تُبارى في زمانها. لقد كان حقًّا من أمراء الأُسرة الأوروبية الحاكمة التي تخطت الحدود الجغرافية الضيقة، وطالما انحنى أمامها الرجال وركَعوا، وإن كان ذلك قد قُضي عليه إلى الأبد في إنجلترا. ومع ذلك فقد كرَّس نفسه لخدمة الملك وتفانى فيها أكثر مما كرَّس نفسه لخدمة المصالح الدينية للكنيسة. وكان وولزي في ذلك كله من أعظم الشخصيات وأصدقها تمثيلًا لروح القرون الوسطى في تاريخنا، وقد وصلَت طاقتها إلى ذروة جبروتها بعد انتهاء موقعة بوزورت فيلد (أي انتهاء الحرب بين الأسرتَين المالكتَين في إنجلترا) بأكثر من أربعين سنة.» (G. M. Trevelyan, English Social History, p. 94)
وينبغي ألا يُدهَش القارئ العربي من ذكر الأبناء غير الشرعيين لرجال الدين أو للملك؛ فإن وولزي قد أنجب ابنًا وبنتًا سفاحًا، ولم يكن أبناء السفاح يكتبون اسم الأب بل اسم العم، وكان يُطلَق على الواحد منهم اسم «ابن الأخ nephew». والطريف أن كلمة المحاباة في اللغة الإنجليزية nepotism مشتقة من هذه الكلمة، فهي مأخوذة من الإيطالية nepotismo المشتقة من nepote بمعنى ابن الأخ، وأصلها اللاتيني هو nepotis وهي حالة المضاف إليه من nepos بمعنى الحفيد أو ابن الأخ، وقد ارتبطت المحاباة بالكلمة لطول ما أظهر القُسس في العصور الوسطى من إسباغ الفضل والتفضيل على أبنائهم الذين كانوا ينجبونهم سفاحًا ويطلقون عليهم لقب أبناء الأخ! أما الملك، فقد كان ذلك من حقه: ويقوله ول ديورانت Will Durant في كتابه قصة الحضارة (وأنا أعتمد هنا على ترجمة الدكتور عبد الحميد يونس للجزء الرابع من المجلد السادس، القاهرة، ١٩٧٢م).

وكان في ذلك العهد قانونٌ غير مكتوب ينص على حق الملك في إرضاء نوازع غرامه خارج حدود الزواج إذا كان قد أُجبر على الزواج ممن لا يحبها من أجل مصلحة الدولة.

ولذلك لم يكن من الغريب أو المدهش ألا يعترض وولزي على مغامرات الملك الغرامية؛ إذ لم يلبث هنري الثامن أن اتخذ عشيقةً أخرى (عام ١٥٢٤م) هي ماري بولين ابنة السير توماس بولين، وكان دبلوماسيًّا يعمل بالتجارة أيضًا، وذا ثراءٍ كبير، وكانت أمها هي ابنة دوق نورفوك وتنتمي لأُسرةٍ عريقة هي أسرة هاوارد، ويبدو أن الملك قد طارح الأم الغرام أيضًا؛ إذ إنه لم يستطع إنكار التهمة حين ألقاها أحد النبلاء في وجهه، ولكن ذلك كله، كما يقول، ديورانت، كان من «الهفَوات التي تُغتفَر في ذلك العصر الطَّروب» (ص٦٤).

ويعتمد شيكسبير في تقريره لشخصية وولزي على ما يحيط به المتفرجون أو جمهور القراء عنه، وعما هو معروف عن تاريخ العصور الوسطى؛ ولذلك فنحن أبناء العربية نجد كل ذلك غريبًا لأننا لا نستطيع أن نتصوَّر كيف يكون رجل الدين منكبًّا على الدنيا ومباهجها إلى هذه الدرجة، وتعجز عن إدراك وجهة نظره التي يمكن تلخيصها في أنه كان يرى نفسه ممثلًا لمملكة السماء على الأرض، فكان الكاردينال وولزي يتلقَّى الأموال من ملك فرنسا ومن إمبراطور إسبانيا باعتبارها هدايا «في سبيل إعلاء كلمة الله»، وهي لم تقتصر على الهدايا العينية بل كانت تصِلُه أيضًا في صورة مُرتَّباتٍ منتظمة، وكان يحصل على ذلك كلِّه إلى جانب الرواتب، التي يحصل عليها من دخل أبرشيتَين، وست ورواتب للقسس، ومرتَّب رئيس جامعة، ومرتَّب رئيس دير سانت أولبانز St. Albans، وأسقف باث Bath، وأسقف ويلز Wales، ورئيس أساقفة يورك York، ومدير أبرشية ونشستر Winchester، وشريك أسقف وُسْتَرْ Worcester، وأسقف سولزبري Salisbury وهما إيطاليان ويقيمان في إيطاليا.
وقبل أن نعود إلى المسرحية يجمُل بنا أن نُصوِّر الأحوال الدينية التي سادت آنذاك، أو ما وصلت إليه عند بداية المسرحية، ولا شك أن ذلك الجو العام كان معروفًا للقُراء في عصر الملكة إليزابيث وجيمس الأول (الذي قُدِّمَت المسرحية في عهده). كان عدد الأبرشيات في إنجلترا بلغ نحو ٨٠٠٠ إلى جانب ستمائة دير للرهبان و١٣٠ ديرًا للراهبات. وقد كتب ريتشارد فوكس Fox إلى وولزي عام ١٥١٩م، يقول إنه قد يئس تمامًا من إصلاح حال الكنيسة؛ إذ كان القسس يَروْن أن ترقيتهم في سلك الكهنوت تتوقَّف على ما يجمعونه من مال، فتسابقوا في الحصول على المُكُوس من الفلاحين وصغار التجار (العشر من كل شيء). ومن الطبيعي ألا يستجيب وولزي لهذه الشكوى لأنه كان هو نفسه على رأس هذا النظام الكنسي. ويقول فرود في كتابه عن هنري الثامن (Froude, Henry VIII, vol. II pp. 114-115) إن مورتون Morton كبير الأساقفة اتَّهَم رئيس رهبان دير سانت أولبانز في عام ١٤٨٩م (الذي خلفَه وولزي فيما بعد) بالاتجار «في المقدَّسات والرتب والوظائف الدينية، ومزاولة الربا والاختلاس والإقامة علنًا وباستمرار مع العاهرات والعشيقات داخلَ أرباض الدير وخارجَه» (ص١١٤). كما «اتَّهَم الرهبان بأنهم يحيَون حياةً داعرة … لا بل إنهم يُدنِّسون الأماكن المقدَّسة، حتى كنائس الرب ذاتها، بمضاجعة الراهبات، وما أبغضَ ذلك إلى قلوب المؤمنين!» (ص١١٥)، بل إنه ذهب إلى القول بأنهم حوَّلوا ديرًا صغيرًا مجاورًا إلى «ماخورٍ عام» (نفس الصفحة).
وأهمُّ من ذلك كله ما شاع عن الخروج عن الدين، أو المروق أو التجديف في الدين، والذي يدخل جميعًا في باب الهرطقة، أو البدعة التي يعاقَب مُرتكِبُها بالإعدام حَرقًا. وكانت سلطة الكنيسة في معاقَبة الهراطقة لا حدود لها، وكانت أحكامهم لا رادَّ لها، فأشاعت الخوف في النفوس وقذفَت الرعب في القلوب. وكان من بين ما يُعَدُّ من قبيل الهرطقة الدخول في جدل حول القربان المقدَّس، أو القول بأنه يكفي أن يُقدَّم من الخبز، والتشكيك في السلطة الإلهية للقسس؛ أي السلطة المفوَّضة للقس من الرب في الحكم بأن الشخص مؤمن أو كافر، وفي التكريس أو الحل، أو القول بأن القرابين المقدَّسة ليست ضرورية للحصول على الخلاص، أو التشكيك في قيمة زيارة قبور الأولياء والصالحين، وفي قيمة الصلاة من أجل الموتى. والجدير بالذكر أن بعض الأملاك الشاسعة والأراضي الخصبة كانت موقوفة على الإنفاق على هذه الصلوات (chantries)، وكذلك الدعوة إلى أن يتوجه الإنسان بالصلاة إلى الله فقط، والزعم بأن الإيمان وحده قادر على أن ينقذ الإنسان من النار بغض النظر عن صالح الأعمال، وبأن المسيحي المخلص لا يلتزم أو له ألا يلتزم بأي قانونٍ بشري لم يأت به المسيح؛ ومن ثَمَّ القول بأن الكتاب المقدَّس والكنيسة هما المرجع الأوحد للعقيدة، والدعوة إلى تعميم الزواج بين الجميع بمعنى إلغاء الأيمان التي يحلفها القسس بأن يظلُّوا دون زواج، وكان يطلق عليها «أيمان العفة» (Vows of Chastity). وكانت بعض هذه الأفكار نابعةً من تفسير المثقَّفين الشبان وتذييلاتهم لترجمة الكتاب المقدس إلى الإنجليزية التي تُنسب إلى ويكليف Wycliffe (١٣٣٠–١٣٨٤م) والتي شاعت وانتشَرتْ بين الطبقات الفقيرة، ودعَت كل من يعرف لغته الأم إلى التساؤل عن صدقِ ما يدعو إليه الكهنة إذا لم يجد له سندًا في الكتاب. وعلى امتداد القرن كله (أي حتى عهد هنري الثامن) كانت هذه التفسيرات والتذييلات تلقى الهجوم والسخرية، ويُطلَق على من يُردِّدها لفظ المتشدِّق الأجوف، وعلى التشدُّق الأجوف لفظ lollardry، وكانت الأفكار في مجموعها تُعتبَر مرادفة للهرطقة. وذلك قبل أن يُصدِر مارتن لوثر ترجمتَه للكتاب المقدَّس من اليونانية إلى الألمانية عام ١٥١٧م، ولا يجب أن ننسى ما حدث قبل مائة عام تقريبًا؛ أي في ١٤٠٨م؛ إذ دعا رئيس الأساقفة السير توماس أرندل Sir Thomas Arundell إلى عقد مجمعٍ مقدَّس لرجال الكنيسة انتهى فيه إلى منع ترجمة الكتاب المقدَّس إلى اللغة الوطنية، وانطلق مندوبو الكنيسة في كل مكانٍ للبحث عن النسخ الإنجليزية وإحراقها، ولكن الحظر لم يكن محكمًا برغم جميع الجهود المبذولة؛ إذ ما تزال بين أيدينا نحو ٢٠٠ نسخة من هذه الترجمة يرجع تاريخها إلى ما بين عامَي ١٤٢٠م و١٤٥٠م. ويذهب المؤرخون إلى أن «المتشدِّقين» قد اشتد ساعدهم في النصف الأخير من القرن الخامس عشر، وكانوا من العوامل التي أوجدَت المناخ الملائم للإصلاح الديني الذي نهض به هنري الثامن، فلولا التأييد الشعبي لما استطاع كبار علماء التنوير مثل إرازموس Erasmus وصحبه التأثير في الجيل الجديد.

إننا نجد أنفسنا مع بداية المسرحية على فُوَّهة بركان، ولم تكن المشكلة التي يركِّز عليها شيكسبير؛ أي موضوع الطلاق من كاثرين والتزوُّج من آن بولين، إلا الفتيل الذي أشعل النار، أما اللهيب الحقيقي فكان لهيب ثورة الإصلاح الديني التي قادها الملك، باسم الدين الصحيح، فبذر أُولى البذور التي ضربَت جذورها في التربة الإنجليزية في عهد خلَفه، وآتت أُكلها في عهد الملكة إليزابيث، وهي التحول من الكاثوليكية إلى البروتستانتية.

ولكن من هي آن بولين «الفتيل الذي أشعل النار»؟ كانت آن هي الشقيقة الصغرى لعشيقة الملك (ماري برلين). وقد أرسلها والدها للدراسة في فرنسا وهي بعدُ في العاشرة، وعندما عادت إلى البلاط عام ١٥٢٢م، لم تكن قد تجاوزَت الخامسة عشرة، وكان سلوكها في البلاط ينمُّ على الذَّوق الرفيع الذي كان الإنجليز ينسبونه إلى تقاليد فرنسا المستقاة من فنون عصر النهضة، سواء في الملبس أو طريقة الكلام أو في الميل إلى الرقَّة والرشاقة في كل ما تقوله وتفعله، وسرعان ما التحقَت بخدمة الملكة (أي أصبحَت من وصيفاته) فاقتربَت من كبار أهل البلاط واستطاعت بموهبتها الكبيرة أن تحذقَ أساليب حياته وتُحيط بدسائسه ومؤامراته. ويقول معاصروها إنها ليست رائعة الجمال؛ فهي قصيرة القامة، وبشرتُها داكنة، وفمها واسع، وعيناها سوداوان، ولكنها كانت بعيدة مهوى القرط، وشعرها البني ينسدل على كتفَيها، وحركتها رشيقة، وبديهتها حاضرة، فتغزَّل فيها الشاعر سير توماس وايات، وتشبَّب بها، كما أوقعَت في حبائلها أحد كبار رجال الدولة وهو السير هنري بيرسي Sir Henry Percy الذي ترقَّى فيما بعدُ فأصبح لورد نورثمبرلاند Lord Northumberland، وأُشيع أنه تزوَّجها سرًّا، ولكن طموحها لم يقف عند هذا الحد، على خلاف ما يُصوِّره شيكسبير في المسرحية.

ويقول المؤرخون إن أقدم ما يشهد على تولُّه الملك هنري الثامن بها هو رسائل الغرام التي كان يُرسِلها إليها منذ يوليو عام ١٥٢٧م، ولكن العلاقة كانت ولا شك قد بدأَت قبل ذلك التاريخ. وإذا كان شيكسبير قد صوَّر لقاء الملك بها في الحفل الذي أقامه وولزي تصويرًا يحمل أصداء «روميو وجوليت»، فهذا خيال شاعرٍ محض! بل إن العبارة التي يقولها الملك عندما يراها ﻟ «أول مرة» في الحفل هي نفس العبارة التي يقولها روميو عندما يرى جوليت في حفل أُسْرة كابيوليت وهي «أنا لم أشاهدِ الجمال ولم تَعرِفه عيناي قبل الآن!»

والصدق التاريخي هنا يقتصر على جوهر الحدث؛ أي افتتان الملك بالفتاة، أما أنها هي التي دفعَتْه إلى طلب الطلاق فمسألةٌ خلافية، فالملك كان ينتوي الطلاق منذ أمدٍ بعيد، وكان موضوع إنجاب وريثٍ يخلفُه على عرش إنجلترا شغله الشاغل، وكان الشعب يُشارِكه القلق، فالحرب الأهلية بين أُسرتَي يورك ولانكاستر بسبب الخلاف على تولي العرش كانت ذكراها ما تزال عالقة بالأذهان (١٤٥٤–١٤٨٥م) والأُسرة الحاكمة التي يمثِّلُها الملك لم تَقضِ في الحكم إلا اثنتَين وأربعين سنة، وكان آخرون يطمعون في ارتقاء العرش؛ ولذلك فإن حُبه للفتاة، مهما يكن صادقًا وعميقًا، كان الشرارة وحسْب التي أوقدَت البركان الساكن.

وعلى أي حالٍ فإن هنري الثامن طلب من وولزي مساعدته في إعلان بطلان زواجه من كاثرين عن طريق إقناع البابا بذلك، ولكن البابا كان حينذاك أسيرًا عند إمبراطور إسبانيا، ولم يكن الإمبراطور على استعدادٍ لمساعدة الملك في التخلُّص من الملِكَة التي هي خالتُه (أي حالة الإمبراطور). وكان وولزي يتصوَّر أن الطلاق سوف يمكِّن الملك من الزواج من رينيه أخت ملك فرنسا، مما يساعده في خطَطه السياسية، لا تلك الفتاة التي لم تتجاوز العشرين، والتي لا تُمثِّل له أي قيمةٍ سياسية، ومع ذلك فقد عَمِل على تحقيق رغبة الملك.

وأَحَس الملك أن وولزي ليس مخلصًا في تحقيق رغبته، ولا بد أن آن بولين كانت تُحفِّز الملك على إتمام الطلاق وتمارس أقصى ما تستطيعه المرأة من ضغوط وحيل، فأرسل مندوبًا عنه إلى البابا الأسير «كليمانت»، اسمه السير وليام نايت، بطلبَين محدَّدَين؛ الأول أن يسمح له بالاحتفاظ بزوجتَين إذا تعذَّر الطلاق، والثاني أن يُصدِر فتوى بتحليل زواجه من فتاة كانت له علاقاتٌ جنسية مع أختها! ولكن الملك تراجع في آخر لحظة وألغى المطلب الأول. ويقول لنا بولارد في كتابه عن وولزي (ص٢٠٧): إن الملك لا بد قد أصابه الذهول عندما تلقَّى من أحد مندوبيه في روما، وهو إيطالي يُدعى جوفاني كاسالي Giovanni Cassali خطابًا بعد ذلك بثلاث سنوات يقول له فيه إن البابا قد اقترح عليه آنذاك (أي في عام ١٥٢٧، عندما بعث إليه وليام نايت) بأنه يستطيع أن «يسمح لجلالتكم بالجمع بين زوجتَين!» ولم يستطع البابا الأسير لدى الإمبراطور شارل أن يسمح بالطلاق لأن معنى ذلك الحكم بأن البابا السابق أخطأ حين سمح بالزواج أصلًا! وأخيرًا أرسل الملك إلى البابا طلبًا بعقد محكمة؛ أي جلسة فقهية، للنظر في صحة زواجه من كاثرين، وأن يرسل لهذا الغرض مندوبًا عنه وممثلًا له بحيث يلتزم الملك بالحكم الذي يُصدِره. وكان البابا متردِّدًا، ولكن الملك هنري استطاع بفضل جهود وولزي أن يعقد حلفًا مع فرانسيس ملك فرنسا لشن حملة على إمبراطور إسبانيا وفك أَسْر البابا إذا نجحَت الحملة — في يناير ١٥٢٨م — وعندها رأى البابا أملًا في الخلاص من الأَسْر، فوافق على إرسال مندوب عنه هو الكاردينال كامبيجيو (كسامبيوس في مسرحية شيكسبير).

ولمَّا عَلِم مَلِك فرنسا أرسل خطابًا شديد اللهجة إلى البابا يُؤنِّبه فيه على اتخاذ قرارٍ يعارض فيه قرار البابا السابق (يوليوس الثاني) فانزعَج البابا، وأرسل إلى مندوبه يطلب منه تأجيل البَتِّ في القضية (وهو ما يُصوِّره شيكسبير من خلال استياء الملك لهذا «التسويف»). وكانت دوافع هنري في هذه الآونة قد تبلْورَت، فلم يكن، كما يظن كامبيجيو، مدفوعًا بالحب الجارف للفتاة آن بولين وحسْب، ولكنه كان يُعيد النظر في حساباته جميعًا، خصوصًا فيما يتعلق بموقف إنجلترا من كنيسة روما، وتلك السلطة التي بدت له أكبر مما يمكن لملكٍ ما أن يحتمله! كان كامبيجيو يتصوَّر حسبما كتب إلى البابا في فبراير ١٥٢٩م، أن العاطفة المشبوبة هي التي تتحكَّم في تصرفات الملك، غير مُدركٍ للتحولات الاجتماعية والفكرية التي كانت تُحفِّز الملك إلى معاداة الكهنوت، شأنه في ذلك شأن رعاياه، وإلى معاداة البابا بصفةٍ خاصة، باعتباره رمزًا لسلطة أصبحَت — بسبب الفساد الذي شاب ممارستها — غير صالحة للعصر الجديد.

ويحافظ شيكسبير على الحقائق التاريخية في تصويره للمحاكمة، ولكنه لا يُظهِر التيارات الاجتماعية والفكرية التي أدَّت إلى نشوء هذا الموقف، فهو يُصوِّره من وجهة نظر الشخصيات العليا، متبعًا في ذلك المذهب الكلاسيكي في الدراما، وهو يُصوِّر المأساة الإنسانية للملكة، وإن كان يحذف أنها أقسمَت أنها كانت عذراءَ عندما تزوَّجها الملك، حتى لا يجعل كفَّةَ الحكم تميل في صالحها، وضد الملك، وربما لم يجد «المساحة الزمنية» الكافية لرصد كلِّ هذه العوامل.

فالمسرحية تبدأ زمنيًّا في عام ١٥٢٠م، وتنتهي بمولد إليزابيث في عام ١٥٣٣م؛ أي إن الفترة الزمنية تنتهي بنا إلى بداية الهجوم على الكهنوت والقضاء على سلطان الكنيسة الكاثوليكية الرومانية التي كان وولزي رمزها الواضح بل وقُوَّتها الجبَّارة. ويقول لنا البروفسور بولارد صاحب ترجمة وولزي إن وولزي كان يمتطي دائمًا صهوة جوادٍ جامح، وإنه استغل السلطة البابوية في إنجلترا استغلالًا شديدًا فجنح الفرس به وأودى به وبها! أي إن انتهاء المسرحية هو بداية لا نهاية، وإن كانت نهاية وولزي هي بداية التحول الذي لم تكن أحوال الملك الشخصية إلا مظاهره البادية، بينما كانت جذوره تضرب في تربة الشعب على أوسع نطاق. ويضيف بولارد قائلًا:

«كان الخلاف الأساسي بين وولزي وهنري ينحصر في أن الكاردينال يناصر سلطة الكهنوت، بينما كان الملك يناصر سلطة الدولة، وهذا هو الذي كان يميِّز الكنيسة الرومانية عن الكنيسة الإنجليكانية، لا أي مسألةٍ أخرى من مسائل اللاهوت، فالسلطة الأولى في أيدي القس والسلطة الثانية في يدي الملك … ولقد أدَّى سلوك وولزي إلى أن أصبحَت الكنيسة سلطةً مستبدة، وكان سلطانها يتمثل في تحكُّمها في أبناء الشعب لا في طاقتها على حكم نفسها، وهكذا فإن انتصار هنري وضمه الأديرة إلى الدولة أنقذ الكنيسة الإنجليكانية من السقوط في الهوة التي تردت فيها الكنيسة وفقًا لمفهوم وولزي؛ أي الكنيسة البابوية المستبدَّة التي تتناقض مع روح حق تقرير المصير، وهي الروح التي كانت تتغلغل في وجدان الأمية وتعيد تشكيلها.»

(Pollard, pp. 369-370)
وعندما تنتهي المسرحية بمولد إليزابيث تكون إنجلترا قد دخلَت مرحلة تحوُّلٍ بطيء يصطرع فيها دعاة السلفية مع دعاة التجديد والإصلاح، على مدى عقدٍ كامل سجَّل أحداثَه مؤرخو الفترة، ولنا في كتاب رحلات، ليلاند The Itinerary of John Leland شاهدٌ حي على التحوُّل الاجتماع الذي شَهِدَتْه إنجلترا في هذه الفترة، والذي بدأ يتخذ صورةً بارزة بعد سقوط وولزي؛ فزواج الملك هنري الثامن من آن بولين كان يرتبط في نظره وفي نظَر الشعب باستقلال إنجلترا كدولةٍ ذات سيادة عن سلطة روما، ولا يمكن أن يكون الاستقلال كاملًا طالما كان في الدولة ممثِّل للبابا (القاصد الرسولي) بفرض آراءه على رجال الدين في البلد. ويذهب بعض المؤرخين إلى أن موقف هنري الثامن من مسألة الطلاق والأزمة الشخصية لم تكن إلا عَرَضًا من أعراض التحول، أما التحوُّل الحقيقي فهو ما يرصده المؤرخون في موقف الشعب من الكهنوت وانتشار روح التنوير الجديدة، التي وُلِدَت في ألمانيا بترجمة مارتن لوثر للكتاب المقدَّس، وكانت قد بذرت بذورها كما قلنا بترجمة ويكليف في القرن السابق، ثم بلغَت أَوْجَها في الصدام بين الملك وبين الكهنوت، والذي انتهى بتأميم الأديرة ثم حل الأوقاف في عهد خليفته إدوارد السادس.
ومن ثَمَّ فإن تركيز شيكسبير على المشكلة الشخصية للملك هو تركيزٌ على العَرَض لا على الجوهر، والجوهر هو روح التنوير التي كان الملك يرفع لواءها مهما يكن من تمسُّكه بأهداب العقيدة السلفية، وقد تجاهل شيكسبير قضية ترجمة الكتاب المقدَّس إلى الإنجليزية التي قام بها وليام تيندال William Tyndale في الفترة التي تُغطِّيها أحداث المسرحية، وهي الترجمة التي بدأَها بإصدار العهد الجديد في عامَي ١٥٢٥-١٥٢٦م، معتمدًا على الأصل العبري والأصل اليوناني لا على النسخة اللاتينية، وكان يرمي بذلك إلى توعية الشعب من غير المتعلمين (ومن غير رجال الكنيسة بطبيعة الحال) بما جاء في الكتاب المقدس، حتى يستطيع كل من يعرف الإنجليزية أن يقرأ الكتاب المقدَّس وأن يفهمه (ولو قرأه عليه آخرون). وقد طُبع الكتاب في ألمانيا وتخاطف الشعب النسخ عند وصولها، وكان من الطبيعي أن يثور عليه كبار السلفيين بحجة أخطاء الترجمة أو لتأثُّره الواضح بأفكار مارتن لوثر، ولكن هذه الحُجَّة مردود عليها، بل إن المترجم نفسه قد رَدَّ على انتقادات توماس مور Thomas More للترجمة في كتابٍ ضخم، أظهر فيه تمكُّنه من اللغات القديمة وإحكامه «للصنعة» إحكامًا لم يسبق له مثيل، ولكن الفتنة كانت قد بدأَت، ورأى الملك في عام ١٥٣٠م، أن يُخمِدها بمنع تداوُل الكتاب، وأصدر وولزي مرسومًا يمنع حيازة المؤلَّفات (بما فيها المترجمات) غير المُعتمَدة من الكنيسة (والمقصود بها طبعًا الكنيسة الكاثوليكية التي يرأسها البابا).
ويذهب كولتون Coulton في كتابه عن الحياة في القرون الوسطى إلى أن معارضة ترجمة الكتاب المقدَّس إلى اللغات الحية في أوروبا كان وراءها حرص الكهَّان على الاحتفاظ لأنفسهم بحق تفسير النصوص اللاتينية على نحو ما يناسب أهواءهم، والواقع أن مفهوم العلم والمدرسة في العصور الوسطى كان قائمًا على هذا الأساس، فكان طلب العلم هو طلب الإحاطة باللاتينية، وكانت المدارس التي كان يُطلَق عليها Grammar Schools هي مدارس تعليم الكتابة باللاتينية، وكانت تقتصر إلى حدٍّ كبير على الذين يعتزمون الدخول في سلك الكهنوت، خصوصًا من أبناء القادرين أو من «أبناء إخوة» الكهَّان (أي الأبناء الذين أتَوْا بهم سفاحًا كما سبق أن أشرنا) فاللاتينية هي لغة العلم، والعلم هو العلم بالكتاب المقدَّس وشروحه وتاريخ القديسين والأولياء والصالحين من مُفسِّرين ورهبان، وهي أيضًا لغة إيطاليا الكاثوليكية والتي كانت تتحول تدريجيًّا إلى الإيطالية الحديثة؛ ومِن ثَمَّ فإن الاعتصام بالكتاب المقدَّس المكتوب باللاتينية يكفُل عزل الكهنوت عن الشعب، ويجعل الكاهن صاحب الحق الأوحد في «هداية» العامة وتوجيه خُطاهم.
وبعث وولزي إلى رجال الكنيسة في كل مكان يطلب مُوافاتَه بالمُترجِم «الزنديق» الذي كان يمضي قُدمًا في ترجمة العهد القديم (١٥٣٠م) وعملاء وولزي له بالمرصاد، وما لَبِث أن بَثَّ إمبراطور إسبانيا عيونَه لمعرفة مكانه، ثُمَّ ألُقي القبض عليه في أنتويرب Antwerp، وسُجن نحو عامٍ ونصفِ عام في سجنٍ بالقرب من بروكسل، ثم أُعدِم حرقًا عام ١٥٣٦م، على الرغم من تَشفعِ توماس كرومويل وزير هنري الثامن له. ومن المفارقات أن النسخة الإنجليزية التي وضعَها أصبحت أساس النسخة الحالية المعروفة باسم نسخة الملك جيمس من الكتاب المقدَّس، وهذا كله ما أغفلَه شيكسبير بسبب اعتماده على تاريخ إنجلترا الذي كتبه هولنشد فقط. ويجمُل بنا أن نقرأ ما كتبه تريفيليان عن نهاية العصور الوسطى التي آذن ذلك بها:

«في العَقد الذي قام فيه ليلاند برحلاته في إنجلترا (١٥٣٤–١٥٤٣م)، وسجَّل ملاحظاته عما شاهَد وسمع، قام الملك هنري الثامن باستخدام البرلمان في إحداث الثورة التي أطاحت بالكهنوت، والتي نستطيع أن نعتبرها، دون غيرها، أعظم شاهدٍ على انتهاء المجتمع القروسطي في إنجلترا؛ فإن قيام كنيسةٍ وطنية تتمَّتع بالاستقلال وترفُض سلطة البابا أتاح إمكان إخضاع الكهنوت للسلطة العلمانية، وتقسيم الأملاك الشاسعة والنفوذ الاجتماعي للأديرة على أفراد الشعب. وكانت هذه الأحداث مجتمعة تُمثِّل ثورةً اجتماعية. وقد صاحَب تلك الثورة قَدْرٌ محدود من التغييرات الدينية التي سمح بها الملك هنري الثامن الذي يرى المؤرِّخون أنه ممن تشرَّبوا الروح الحديثة التي تدعو إلى نَشْر الكتاب المقدَّس بالإنجليزية بين جميع طبقات الشعب، وإلى القضاء على الأشكال الساذجة للتديُّن من تقديسٍ لتماثيل الأولياء ومخلَّفات القدِّيسين، وإلى إنشاء معاهدةٍ علمية تنتمي حقًّا لروح عصر النهضة في أكسفورد وكيمبريدج بدلًا من الفلسفة الاسكولاتية الكنسية والفقه الديني القديم، وكانت هذه الروح الحديثة تُعتبَر في نظر هنري الثامن ضربًا من الإصلاحات الكاثوليكية القويمة التي يأمُر بها الدين الصحيح. ولم يتوقَّف في غضون تلك الإصلاحات عن كراهيته للبروتستانت واضطهادهم، ولو لم يكن ذاك موقفه فربما فقد عرشه في ظل المناخ الفكري السائد آنذاك. ومع ذلك فإنه قد ساهَم بهذه الإصلاحات في إيجاد نظامٍ اجتماعي وكنسي جديد، كان من المُحال الإبقاء عليه في السنوات اللاحقة وما أتت به من مظاهر التحوُّل دون إقامته على أساسٍ بروتستانتي صريح.

كانت حركة الإصلاح في إنجلترا حركةً سياسية ودينية واجتماعية في الوقت نفسه، وكانت مظاهرها الثلاثة ترتبط ارتباطًا شديدًا بعضها بالبعض … فالعَداء للكهنوت كان ظاهرةً اجتماعية تتفق مع شتَّى أشكال النظر إلى الدين والعقيدة. وكان العَداء للكهنوت هو النغمة الأساسية للحركة الفكرية التي أَحَس بها المثقَّفون والعامة جميعًا، وهي التي مكَّنَت الملك من الانفصال عن البابوية وتأميم الأديرة وحل الأوقاف، في وقتٍ كان عدد البروتستانت الإنجليز ما يزال يمثِّل أقليةً ضئيلة تُعاني من الاضطهاد.

كان هنري الثامن قد تلقَّى تعليمه على ضوء المناهج المعادية للكهنوت التي وَضعَها إرازموس وأصدقاؤه في أكسفورد، وهم رجال يتمتَّعون بإخلاصٍ ديني صادق وينتمون للمذهب السلفي القويم، وإن كان قد أثارَهُم وأغضبَهم ما كان صغار الكهنة وحقراؤهم يلجئون إليه من تحايلٍ لابتزاز النقود من الجهلة والمؤمنين بالخرافات. وكان إرازموس وصحبه يُناصِبون طوائف الرهبان وقسس الطوائف (وتُسمَّى طوائف الإخوان الشحَّاذين الأربع) Four Mendicant Orders٥ عَداءً مستحكمًا باعتبارها الطوائف الداعية إلى تعميم الجاهلية وجمود الفلسفة الاسكولائية وباعتبارها معادية لدراسة الكتاب المقدَّس في أصله اليوناني، وهو الأصل الذي كان إرازموس وكوليت يعتبرانه معيار الصدق الديني.

ولننظُر إلى بعض ما كتَبه إرازموس في هذا الباب، وهو الذي يُفصِح إفصاحًا صريحًا عن عَداءٍ لا هوادة فيه للكهنوت؛ ففي الكتاب الذي كتَبه باللاتينية وأعطاه عنوانًا ساخرًا هو «تقريظ الحماقة»، نراه يدين الرهبان «لأنهم يُراعُون مراعاةً شديدة ويحافظون بكل ما أوتوا من قوة على كثيرٍ من الطقوس السخيفة البلهاء والقواعد التقليدية التافهة العجفاء.» ويؤكِّد أن المسيح لم يكن ليكترث إطلاقًا لهذه الطقوس والقواعد، وهي التي توسَّل بها هؤلاء ليكفُلوا لأنفسهم معيشة بذخ وترف، و«التهام اللحم وملء البطون حتى كادت تنفجر.» وهو لا يُعفي قُسس الطوائف «الحقراء» (الذين يعيشون على الصدقات) ويسخر من وعظهم سخريةً مريرة قائلًا: «إن أسلوبهم في الوعظ برُمَّته يوحي بأنهم قد تلقَّوا دروسًا من الدجَّالين الطوَّافين، وإن كان الدجالون لا شك يتفوَّقون عليهم كثيرًا.» ويواصل إرازموس هذا الهجوم على امتداد صفحات وصفحات.

فإن كان هذا الرجل، الذي يُعتبَر أعظمَ عالِمٍ في أوروبا وأشدَّ أبنائها ثقافةً ورقَّة طبع، والذي كان يحُطٌّ من قَدْر الخطوات الثابتة القوية والمباشرة التي اتخذها مارتن لوثر، يستطيع أن يكتب مثل هذا الكلام باللاتينية عن الرهبان وقسس الطوائف، فلنا أن نتخيل نبرة الكُتاب الشعبيين الذين هاجموا الكهنوت والذين وجَّهوا كلامهم إلى أبناء الشعب الإنجليزي بلغته الوطنية.» لقد دارت المطابع وأصدرت العديد من أمثال هذه الهجمات، وأثارت في هجماتها طمع الناس من غير رجال الدين وطموحهم إلى الثراء الفاحش والممتلكات الشاسعة للكنيسة، والتي كانت قد فقدَت منذ فترة أهم أسلحة دفاعها عن حِمَاها، ألا وهو سلاح النفوذ المعنوي والرهبة الدينية.

وعلى سبيل المثال فقد نشر سايمون فيش كُتيبًا بعنوان «ابتهال الشحَّاذين»، قبل تأميم الأديرة بسنواتٍ قليلة، وقرأ هنري الثامن ذلك الكُتيب دون أن يُظهِر أدنى استياء منه، وقرأه أبناء لندن فأعربوا عن ابتهاجهم البالغ به، وهو يتوجَّه فيه بالخطاب إلى الملك قائلًا:

«في العهود الغابرة لأسلافك النبلاء، تسلَّل إلى مملكتكم في مكر ودهاء، نوعٌ آخر من الشحَّاذين والمتشردين الذين يلبسون مسوح القداسة ولا يزاولون أي مهنة، وهي مسوحٌ زائفة قوية وبالغة التأثير (ولا يشوبها أي ضعف) … وهم الأساقفة، ورؤساء الأديار، ومقدَّمو الأديار، والشمامسة، ورؤساء الشمامسة، ومعاونو الأساقفة، والكهَّان، والرهبان، ورجال الكنيسة، وقسس الطوائف، وبائعو صكوك الغفران، والمحضرون الكنسيون، ومن ذا الذي يستطيع أن يُحصي عدد هذا الضرب العاطل الهدَّام من الرجال الذين أخذوا (بعد أن نبذوا كل عمل يمارسه الإنسان) يسألون الناس إلحافًا حتى تمكَّنوا من الاستيلاء على أكثر من ثلث مملكتكم كلها؟ فهم أصحاب أجمل المقاطعات والمساكن، وأخصب الضياع والأراضي. وهم يستولون إلى جانب ذلك كله على نسبة العُشْر من كافة المحاصيل، ومن المروج والمراعي والكلأ والصوف والمهور والعجول والحملان والخنازير والإوز والدجاج … بل إنهم ليحرصون بالغ الحرص على الدقة في تحصيل هذه الأرباح، حتى إن الفلَّاحة الفقيرة يجب أن تُقدِّم إليهم عُشر عدد البيض جميعًا وإلا حُرمَت من حقوقها «المقدَّسة» في عيد الفصح، واعتُبرَت مارقة في الدين … تُرى ما مقدار النقود التي يحصل عليها المحضرون ابتزازًا كل عام؛ إذ إنهم يعلنون الناس بالحضور إلى محاكم ممثلي الأساقفة، ثم يُعْفونَهم من طلب الحضور لقاء مبلغٍ من المال؟ … ومَن تلكَ التي تقبل العمل بيدَيها مقابل ثلاثة بنسات في اليوم إذا كان في وسعها أن تحصل على عشرين بنسًا في اليوم على الأقل في اليوم لقاء النوم ساعة مع قس من قسس الطرائف أو راهب أو كاهن؟»

والنتيجة التي ينتهي إليها مؤلِّف الكُتيب هو «ضرورة الاستيلاء على ثروة الكهان وخصوصًا ثروة الرهبان وقسس الطوائف، لصالح الملك والمملكة، وضرورة قيامهم بالعمل مثل غيرهم من الرجال، بل والسماح لهم بالزواج حتى يتسنَّى لهم أن يتركوا زوجات الآخرين في حالهن».

G. M. Trevelyan, English Social History, pp. 100–103.
والذي نَستشِفُّه من تأمُّل المهاد التاريخي لأحداث المسرحية أن إنجلترا كانت تشهد تغيُّرًا بطيئًا ولكنه ثابت الخطى نحو الإصلاح الديني، ويتجلى ذكاء شيكسبير في تجميع أحداث ١٣ سنة أو أكثر في عملٍ درامي لا يستغرق عرضه أكثر من ثلاث ساعات، إذا رأينا كيف يجعل الملك ممثلًا لطموح الشعب في إسقاط سلطة الكهنوت، ويجعل وولزي ممثلًا للكهنوت الذي ينتهي به الأمر إلى السقوط! وتتَجلَّى عبقريَّته الدرامية في إيجاد مساحات الألوان «الرمادية»؛ أي التي تجمع بين الأبيض والأسود بدرجاتٍ متفاوتة، فهو يُنصِف وولزي على لسان خادم الملكة بعد أن يُعرِّضَه لأشد ألوان القدح على لسانها وعلى لسان الآخرين. وهو يجعل الملك شديد التمسُّك بالعقيدة السلفية، شديد العَداء لمارتن لوثر وأتباعه، وللهراطقة المارقين، حتى وهو يُقدِم على الإصلاحات الدينية التي يعرفها المتفرِّج أو قارئ المسرحية. وهو في هذا يؤكِّد الحقائق التاريخية التي يرويها تريفيليان:
«كان الرأي العام في إنجلترا، بين عامة الشعب خارج الكنيسة وبين رجال الكنيسة أنفسهم، يموج بتياراتٍ متغيرة ومتضاربة؛ أي إنه لم يكن قد انقسم في عهد هنري الثامن إلى حزبَين ثابتَين، حزب الإصلاح والحزب الرجعي، بحيث يمكن التفريق بينهما بوضوح. وفي خضم هذه الأمشاج المختلطة تمكَّن الملك من فرض مذهبه الذي يضم العناصر المحدَّدة التي انتقاها من هذا وذاك؛ فإن سياسته المناهضة للبابوية والأديرة لم يُنقِذها من الفشل إلا كبار النبلاء المحافظين، مثلما حدث في عام ١٥٣٩م، عندما قامت الثورة في الشمال، التي عُرفَت باسم «حركة الحج المبرور»؛ إذ تصدَّى لها لورد نورفوك، ولورد شروزبري، والأسقف جاردنر والأسقف بونر، وكلٌّ منهم كان لا يقل حَدبًا عن الملك على إحراق أتباع مارتن لوثر. ويذكُر راوز في كتابه عن تاريخ مقاطعة كورنوول تحت حكم أُسرة تيودور (ص٢٢٢) Rowse’s Tudor Cornwall أن جميع الكبار الذين انهمكوا في تأميم الأديرة وحل الأوقاف في كورنوول كانوا من الكاثوليك، ولم يكن من بينهم بروتستانتيٌّ واحد. ومن ناحيةٍ أخرى فإن رجلَين من أعظم المُتنوِّرين في عصر النهضة الأكاديمية والإصلاح وهما السير توماس مور والأسقف جون فيشر (وهما من أعز أصدقاء إرازموس) فضَّلا الإعدام على الموافقة على طرح سلطة البابا وإخضاع الكنيسة للدولة.»
(المرجع نفسه، ص١٠٨-١٠٩)

ويذهب بعض المؤرخين إلى أن حاجة الملك إلى المال كانت من الدوافع التي جعلَتْه يتجه إلى تأميم الأديرة، وقد يكون ذلك صحيحًا، ولكننا لا نستطيع أن ننكر ما يقوله تريفيليان عن «روح التنوير» التي كانت وراء استقلال الكنيسة الإنجليزية؛ ولذلك فإن المواجهات التي تجري في المسرحية بين رجال الدين، خصوصًا تلك السهولة التي يُدينون بها أعداءهم ويُرسِلونهم إلى السجن أو الإعدام، ونكوصهم عن آرائهم أمام سلطة الملك، تؤكِّد أن الملك كان يواجه فكر التعليم القروسطي، وينشد العدالة للطبقات الوسطى الناشئة آنذاك.

كان التغيُّر بصفةٍ عامة في صالح الطبقات المتوسطة والأغنياء، بينما كان قانون حماية الفقراء هو البديل الذي استندَت إليه الدولة في رعاية المتضررين من حل الأوقاف وتأميم الأديرة، ويقول تريفيليان:

«كان المذهب البروتستانتي ينزع إلى إضفاء الاحترام والتبجيل على الزواج، والتفاني في حياة العمل والإنتاج، مما يمثِّل ردَّ فعلٍ عنيفًا للمذهب القروسطي القائل بأن حياة «المتديِّن» الصادق هي عدم الزواج والانعزال عن الدنيا في الدير. وكان السماح للقس بالزواج (بأمر من الملك إدوارد السادس ثم من الملكة إليزابيث) أحد مظاهر هذا التغيير الفكري. وكان المثل الأعلى البروتستانتي هو المنزل المتديِّن، الذي يقرأ فيه أفراد الأُسرة الكتاب المقدَّس وكتاب الصلوات، إلى جانب حضورهم صلوات الكنيسة وشعائرها …

وكان اللون الجديد من الدين الإنجليزي يعتبر العمل مثلًا أعلى قائلًا إن التجارة والزراعة أنشطة تُبذل في سبيل الله، وكما قال جورج هيربرت:

من يكنس غرفة طاعة لشريعتك،
فإنه ينظِّفها وينظِّف سريرته.

لقد كان لونًا من الدين المناسب لشعب من التجار والمزارعين.»

(المرجع نفسه، ص١٢٧)

ويضيف ترافيليان قائلًا:

وكان الوقت الذي شَهِد بذر بذور هذه الأفكار والأعمال التي شاعت وتفشَّت في القرن اللاحق، هو عصر الملك إدوارد السادس وأخته الكبيرة، بينما كان كرانمر يقوم بإعداد كتاب الصلوات، والملكة ماري تقتل البروتستانت فتُقدِّم الشهداء الذين لا غنى عنهم لانتشار أي دينٍ جديد، فإذا كانت الثورة المناهضة للكهنوت في عصر هنري الثامن قد شابها انقضاضٌ مقيت وشَرهٌ بغيض لالتهام ثروة الكنيسة، فإن الشهداء الذين خلَّد فوكس Foxe ذكرهم في كتابة الذائع ضربوا المثل على التفاني، وأوحوا بذلك الأساس الأخلاقي المتين الذين كان الدين الجديد على مستوى الأمة كلها يحتاج إليه حتى تتضح ملامحه وتشتد أركانه. وعندما جلسَت الملكة إليزابيث على عرش إنجلترا كان الكتاب المقدَّس وكتاب الصلوات هما الأساس الفكري والروحي للنظام الاجتماعي الجديد (ص١٢٨).
وإزاء هذا كله نرى أن نبوءة كرانمر في ختام المسرحية ليست مجرد حلم، وليست وهمًا من الأوهام الجوفاء، بل هي صورة يرسمها شيكسبير للنظام الاجتماعي، خصوصًا إذا ذكرنا أبعاد التحوُّل الاجتماعي الواسع النطاق في عصر الملكة إليزابيث، وهذا ما ذهبَت إليه الأستاذة فرانسيس ييتس Yates في كتابها العظيم «آخر مسرحيات شيكسبير»: مدخل جديد، (١٩٥٧م)؛ Francis Yates, Shakespeare’s Last Plays: A New Approach, London, 1957.
إذ إنها تربط بين هذه المسرحية وبين مسرحية سيمبلين Cymbeline باعتبارهما أعمالًا تُبشِّر بالعصر الجديد، كما أنها ترى في احتفالات التعميد في نهاية المسرحية انعكاسًا لروح الاحتفال بزواج الأميرة الصغيرة إليزابيث، على نحوِ ما فعل فوكس Foakes في مقدِّمته الطويلة، وهي تُقدِّم أدلةً تاريخية لا شك فيها على اهتمام القُراء ورُوَّاد المسرح بهذا الزواج، وإحساس العامة في مطلع القرن السابع عشر بالتغيُّرات التي أتى بها النظام الجديد، وتعلُّق آمال الكثيرين بازدهار الإصلاح البروتستانتي في العهد الجديد، واعتبارهم أن الأمير هنري الصغير (أحد أحفاد هنري الثامن) لو تولى الملك فسوف يواصل جهود أسلافه المصلحين، ولكنه تُوفي في سن مبكرة. وهي تري مُحِقَّة أن المسرحية تمثل تحقيقًا دراميًّا لرؤية التاريخ الإنجليزي باعتباره صراعًا بين سلطة الملك وسلطة البابا «والسلطة الأولى قرينة العدالة والنظام والسلم، بينما تجر السلطة الثانية في أعقابها الظلم والحروب» (ص٧٠). وأعتقد أن الاتجاه الحديث بصفةٍ عامَّة يؤكد ويؤيد الربط بين نظرة فرانسيس ييتس إلى المسرحية في إطارها التاريخي وبين نظرة فوكس Foakes إليها باعتبارها بناءً دراميًّا له منطقه الذي يُرهِص بالنظام الجديد.
وقد سبق أن أشرنا إلى ما ذكره ليجات في هذا الصدد، ونضيف اتجاهًا جديدًا في النظر إلى المسرحية باعتبارها مزيجًا من مسرحية القصر الغنائية الراقصة أو ما يُسمَّى court masque وبين الرومانس، وأهم الكتب الحديثة في هذا الصدد تستلهم مقالًا كتبه ج. د. كوكس في مجلة التاريخ الأدبي الإنجليزي ELH، العدد ٤٥، عام ١٩٧٨م، بعنوان «هنري الثامن ومسرحية القصر الغنائية»، الذي يلتقط فيه الخيط من كتاب الأستاذ ستيفن أورجيل Stephen Orgel بعنوان «وهم السلطة: المسرح السياسي في عصر النهضة الإنجليزية»؛ The Illusion of Power: Political Theatre in the English Renaissance الصادر عام ١٩٧٥م، ولكن أهم كتاب صدر في الثمانينيات هو كتاب روي سترونج Roy Strong بعنوان الفن والسلطة: احتفالات عصر النهضة في الفترة ١٤٥٠–١٦٥٠م (Art and Power, Renaissance Festivals 1450–1650)، الصادر عام ١٩٨٤م؛ لأنه يشرح بالتفصيل كيف كانت الموسيقى والرقص واللوحات الاستعراضية tableaux والمواكب processions من العناصر المعترف بها في الدراما الكلاسيكية، ضاربًا الأمثلة على تأثيرها الدرامي المباشر في النظَّارة باعتبارها جزءًا من نسيج المسرحية، ومدافعًا عن وجودها في هذا النص باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من «الحدث»، فالدراما الحديثة كما نعرف ليست كلامًا فقط، ولهذا فإن شيكسبير تعمَّد إدراج الإرشادات المسرحية المطوَّلة تحقيقًا لغرضه، ونقطة البدء كما يقول سترونج هو أن نُحدِّد نوع المسرحية على ضوء ما «تفعله» المسرحية لا على ضوء ما نتوقَّعه منها، وهو يَستَشهِد بمقالٍ كتبه الناقد الأشهر نورثروب فراي Northrop Frye بعنوان «رومانسية أم مسرحيةُ قصرٍ غنائية A Romance or a Masque?»، في كتاب بعنوان «إعادة النظر في رومانسيات شيكسبير» من تحرير c. McG. Kay وH. E., Jacobs صدر عام ١٩٧٨م، وبغيره ممن رأى هذه الإمكانية في «هنري الثامن».
ونختتم هذا العرض الموجَز بفِقرة من مقدِّمة جون مارجسون، محرر طبعة نيوكيمبريدج (١٩٩٠م)، يقول فيها:
أثار النقد الذي كتب في الآونة الأخيرة سؤالًا آخر لم يُجِب عليه أحد حتى الآن، أو قل إنه ربما دل على أن الخلاف على المسرحية لم يُحسم بعدُ، وهو: هل العامل الذي يُحدِّد الصورة الذهنية لمسرحية «هنري الثامن» ويتحكَّم في بنائها ونسيجها معًا، هو سياقها التاريخي، أو المناسبة «الجماهيرية» الخاصة التي ترتبط بنشأتها، والقضايا السياسية والدينية التي اختلف عليها الناس في إنجلترا إبَّان حكم الملك هنري، واستمرَّت تُعكِّر صفو حكم الملك جيمس الأول؟ هل تُعتبَر المسرحية عملًا أدبيًّا يتصل ويعتمد على إدراك الجمهور لهذه القضايا على نحو ما تفترض فرانسيس بيتس وجلين ويكام Glynne Wickham؟ أم تُعتبَر هذه المسائل السياقية هامشية بالقياس إلى الصفات النوعية لمسرحية الأخلاق والمسرحية التاريخية والرومانسية ومسرحية القصر الغنائية، بعد صهرها في عملٍ مسرحي مستقل؟ وهناك من يقولون إن «هنري الثامن»، باعتبارها مناظرَ مسرحية أو عرضًا مسرحيًّا بصريًّا، تُعتبَر لونًا من الدراما الذي يقل فيه عنصر المحاكاة عن عنصر الاحتفالية الذي تُنظِّمه مشاهد «الفرجة» والطقوس؛ فالعناصر التي تربط العمل بمسرحية القصر الغنائية توحي، على نحو ما أشار إليه كوكس Cox وفراي Frye، بمجتمعٍ مثالي أو لون من الوجود المثالي، بينما نجد بها أنماطًا مناهضة لتقاليد مسرحية القصر الغنائية وهي تهدم العناصر السلفية السائدة في المسرحية. ولم يعُد هناك في الواقع أدنى اتجاه إلى نبذ «هنري الثامن» باعتبارها مسرحية تفتقر إلى الحياة الدرامية، ولا تثير اهتمام المتفرج أو القارئ إلى درجةٍ كبيرة.
(ص٣٢)
figure
لوحة تُصوِّر الملك هنري الثامن وهو يطأ بقدمه البابا كليمانت، وهي اللوحة التي صدَّر بها جون فوكس John Foxe كتابه عن تاريخ إنجلترا وعنوانه الأعمال والآثار (١٥٨٣م)، وهي تُبيِّن الملك وهو يتلقَّى الكتاب المقدس من كرانمر بينما يتراجع مندوبو البابا في فَرَق وهلَع، وتُعتبَر تجسيدًا للرأي البروتستانتي الشائع في القرن السادس عشر من انتصار الملك على البابا.
ويُقدِّم مارجسون بعد ذلك وجهة نظره النقدية الخاصة عن نص المسرحية، مؤكدًا وحدة العناصر التي تتكوَّن منها وتلتحم في نسيجٍ متجانس بحيث تُعتبَر «لونًا جديدًا من الدراما» يقع في مكانٍ وسط بين المسرحية التاريخية والرومانسية، ويتَميَّز بالتورية الساخرة irorsy في البناء والنغمة، ويصبح لونًا من الدراما التعبيرية من خلال الاستخدام الواسع النطاق لعناصر الفرجة (المناظر الخلَّابة) والموسيقى والرقص. ويُخصِّص مارجسون جانبًا كبيرًا من مقدِّمته لمناقشة هذا اللون الجديد من الدراما فيصفه بأنه «تجريبي»، ويُقيم الأدلة على الإمكانيات الكبيرة التي أتاحَتْها هذه النزعة التجريبية لإخراج مسرحيةٍ تتقيَّد بأحداث التاريخ ولا تستطيع تغييرها ومع ذلك تقدم رؤيةً فنية أصيلة من خلال البناء، وهو يُحلِّل البناء في ١١ صفحةً كاملة للتدليل على قوة التورية الساخرة على إخراج هذه الرؤية الفنية، ويختتم دراسته بأن يؤكِّد أن المسرحية تقبل تفسيراتٍ كثيرة مختلفة، سواء باعتبارها محاولةً لاكتشاف نمو السلطة الملِكية، أو باعتبارها مأساةَ اثنَين من كبار الأضداد وهما الملكة كاثرين والكاردينال وولزي، أو باعتبارها عرضًا ساخرًا لفترةٍ تاريخية كان لا بد فيها من اتخاذ قراراتٍ حاسمة تتعلَّق بمستقبل الدولة.

ولا أعتقد أن القارئ العربي سوف يحتاج إلى المزيد من الآراء النقدية للاسترشاد بها في تفهُّم هذا النص العسير التفسير؛ فما أوردناه يكفي، وإن كان لا بد هنا من إضافة كلمة حول الترجمة المنثورة التي اخترتُها وكان يمكن أن تكون نظمًا على نحو ما فعلتُ في الفِقرتَين الواردتَين في أول المقدمة. والسبب الأول في اختيار النثر بدلًا من النظم هو الذي أوردتُه في مُقدِّمتي لترجمة «يوليوس قيصر» (هيئة الكتاب، ١٩٩١م)، وهو باختصار محاولة الالتزام الدقيق بالأبنية الفكرية والشعورية للعبارات في الترجمة، وعدم تغييرها في الصياغة المنظومة، خصوصًا بسبب الخلاف الناشب حول اختلاف الأساليب ونسبة بعضها إلى فلتشر؛ إذ رأيتُ أن التدخُّل بالإيقاع العربي سيضيف حتمًا نغمةً غريبة عن هذه الأساليب، وأن محاولة الاقتراب الحرفي والدقيق من النص الأصلي أصدقُ للمسرحيات التاريخية وأقربُ للحفاظ على روح الوقائع المروية؛ فالنظم العربي يميل إلى إلغاء البعد الزمني وإيجاد روح الألفة، وهذا ما لا تتطلبه هذه المسرحية التي تمثِّل لقُراء العربية وقائعَ تاريخيةً حقيقية مرتبطة بزمان ومكان من المحال تجريد أيٍّ منهما.

وإزاء الاختلافات الكبيرة في تفسير النص كان لا بد من إدراج هوامش مهمة، وقد فضَّلتُ إدراجها في نفس الصفحة، رغم تعطيلها للقارئ، حتى لا أُرهِقه بالعودة إلى ثبَتٍ في آخر النص نادرًا ما يعود إليه القارئ في الأحوال العادية. كما كتبتُ الأسماء بصورتها المنطوقة في النص والمقدمة، وكثيرًا ما كنتُ أضع الاسم الأجنبي أيضًا لمساعدة من يعرف اللغة الإنجليزية، أما البرولوج والخاتمة فهما مُترجَمان نظمًا، وكذلك أغنية القينة للملكة.

وقد اعتمدتُ في الترجمة على ثلاث طبعات هي طبعة آردن، من تحرير فوكس Foakes وطبعة نيوكيمبريدج من تحرير جون مارجسون Margeson وطبيعة بنجوين من تحرير جورج هاريسون Harrison، كما استعنتُ بالمراجع الشيكسبيرية المعروفة والمذكورة في سياق المقدِّمة قبل الترجمة وبعدها، وعدَّلتُ النص وفقًا لبعضِ ما عثرتُ عليه من «قراءات» أصدَق. ولا يفوتُني أن أشكر صديقي الدكتور ماهر شفيق فريد الذي أمدني بطبعة بنجوين، وصديقي ماهر حسن البطوطي الذي أرسل لي من نيويورك طبعتَي آردن ونيوكيمبريدج، وكثيرين من الأصدقاء الذين أمدُّوني بالمراجع التي استندتُ إليها في كتابة المقدِّمة وخصوصًا الصور الزيروكس من كثير من فصول الكتب والمقالات التي استعنتُ بها في التعرُّف على اتجاهات النقد للمسرحية ومهادها التاريخي، خصوصًا الدكتور حيان الساعي الذي أرسل لي من لندن معجم شيكسبير (العمدة) من تأليف شميث في صيف هذا العام.
figure
الممثل العظيم هنري إيرفنج Henry lrving في دور الكاردينال وولزي بمسرح ليسيوم Lyceum عام ١٨٩٢م، وقد شاركَتْه البطولة إلين تيري في دور الملكة كاثرين.

أرجو أن أكون قد وُفِّقتُ في تقديم صورةٍ عربية لمسرحيةٍ غير مألوفة لشاعر الإنجليزية الأكبر؛ فإنها لم تُترجم من قبلُ، فيما أعلم، إلا ترجمةً ناقصة قام بها في العشرينيات أحمد محمود العقاد وأحمد عثمان القربي، ولم أجد لها أي نصٍّ عربي حديث.

والله من وراء القصد.

محمد عناني
القاهرة، ١٩٩٦م
١  أي السطر ٦٥ من المشهد الثالث من الفصل الأول، وهذا هو الاختصار المعمول به في النصوص المسرحية الأصلية والمترجمة — بدلًا من ف١، م٣، ٦٥.
٢  الاسم العلَم يُنطق ماجدلين، ولكن اسم الكلية يُنطق مودلين، ورُوعي في كتابة جميع الأسماء طريقةُ النطق لا طريقة الهجاء؛ ولذلك وُضِعَت الألفاظ الأجنبية بين أقواس.
٣  يُلاحظ أن هذا الخلط ما يزال قائمًا؛ إذ يُطلق على رئيس ألمانيا الحالي لقب مستشار بالعربية، ولكنه في الحقيقة رئيس الوزراء!
٤  نسبة إلى القرون الوسطى، وهي كلمة نحتها الدكتور عبد الحميد يونس وأشاعها.
٥  وهي تشبه الطرق الصوفية لدينا، وتُسمَّى طوائف الشحاذين لأنها تعتمد على الصدقات، وكلمة Friar تعني في الأصل «الأخ»، والطوائف هي طائفة الفرنسيسكان (التي ترتدي اللون الرمادي) وطائفة أوغسطين (إخوان أوستين) وطائفة الدومينيكان (الوُعَّاظ الذين يرتدون الأسود) وطائفة الكرمليين في (اللون الأبيض).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤