الفصل الأول

المشهد الأول

(لندن – غرفة في القصر الملكي.)

(يدخل دوق نورفوك من باب ودوق بكنجهام من الباب الآخر وبصحبته اللورد أبرجاني.)

بكنجهام :
عِمْ صباحًا ومرحبًا! لم أرَكَ منذ لقائنا الأخير في فرنسا!
كيف حالك؟
نورفوك : شُكرًا لمعاليك! أنا في أتم الصحة وما زلتُ في عجبٍ مما شاهدتُه هناك!
بكنجهام :
لقد أصابَتْني الحُمَّى على غير انتظار،
فمكثتُ رهين المَحبسِ في غرفتي. ٥
أثناء اللقاء بين شَمسَي المجد والبهاء،
أثناء اللقاء بين العَلمَين الساطعَين،
في سهل أندرين.
نورفوك :
لقد شهدتُ اللقاء في وادٍ بين مدينتَي جينيس وآردي
ورأيتُهما يتبادلان التحية على ظهر الجياد،
ثم يترجَّلان ويتعانقان حتى أصبحا كالجسد الواحد! ١٠
ولو أصبحا جسدًا واحدًا
لما بَزَّهُما أربعة ملوكٍ متوَّجين!
بكنجهام : كنتُ طيلةَ ذاك الوقتِ حبيسًا في غرفتي.
نورفوك :
لقد فاتك مشهد المجد على الأرض!
قد يقول الناس إنَّ الأُبَّهة كانت بِكْرًا حتى تلك اللحظة،
ثم اقترنَت ببهاءٍ أغنى وأسمى! كانت أيام الاحتفال ١٥
يفوق بعضها بعضًا، حتى حل يوم الختام فجمع
روائع الأيام كلها! كنتَ ترى الفرنسيين اليوم
يتلألئون في أرديةٍ ذهبية كأنهم أصنامٌ وثنية،
يطغى بريقُها على سناء الإنجليز، ثم تراهم في الغد ٢٠
وقد ألبسوا بريطانيا ثراء الهند وأُبَّهتها!١
كان كل رجل يَبْرق كأنه كنزٌ من الذهب!
وكان خدمهم القصار أيضًا يرتدون ملابسَ موشَّاة
بالنضار مثل صور الملائكة في الكنائس، ونساؤهم كذلك؛
إذ لم يتعوَّدْن التعب، وكاد العرق أن يتفصَّد منهن
لارتداء تلك الملابس الفاخرة، ٢٥
واصطبغت خدودهن بلونٍ وردي كأنه طِلاءٌ مصطنع!
كان العرض يُوصَف ليلةً بأنه لا يُبارى
فإذا كان عرض الليلة التالية
طغى عليه فبدا كالأبله الفقير!
كان الملكان متعادلَين في البهاء
يتبادلان المكانة الأولى والأخيرة في الحضور والغياب، ٣٠
فإذا حضر أحدهما كان الأفضل وفاز بالثناء.
وإذا حضر كلاهما قال الناس إنهم لم يَروْا إلا واحدًا،
ولم يجرؤ ناقد على التشدُّق بكلمة تنتقص أيًّا منهما.
وعندما أمَر هذان الشمسان (كما يدعونهما)
مناديهما بدعوة الكُماة الأشراف للنزال،
شهدنا مبارزةً لا يستطيع الفكر أن يحوطها، ٣٥
ورأينا رأي العين قصصَ الخوارق
فصدقناها، حتى لقد آمن الناس
بما رُوِيَ من خرافات بييس.٢
بكنجهام : لا بُد أنكَ تُبالغ في وصفك.
نورفوك :
قسمًا بكرم مَحْتِدي، وبالتزامي الشرف والأمانة،
إن رواية أي شيءٍ مهما يكن من بلاغة الراوي،
تُفقِدها بعض طلاوتها وحيويتها، ٤٠
ولا يُفصِح عن الفعل مثلُ وقوعه.
كان كل شيءٍ ينطق بسناء الملك،
ولم يخرج شيءٌ عن موقعه في تقديم العرض،
فساعد النظام في إبراز مواطن الجمال،
وكان المسئولون يؤدُّون واجبهم كاملًا بوضوح وجلاء.٣
بكنجهام :
ولكن من الذي دبَّر هذا الاحتفال العظيم؟ ٤٥
مَن الذي صوَّر جسده وفصَّل أطرافه؟
نورفوك : هو مَن تَحدُس! رجلٌ لا شأن له أصلًا بالموضوع! وثِقْ في قولي.
بكنجهام : أرجوك، أَفصِح عنه سيدي.
نورفوك : لقد عُقِد الاحتفال بناءً على أوامر القس الأكبر، ذي النظر الثاقب، كاردينال يورك. ٥٠
بكنجهام :
وفَّقَه الشيطان! لا تسلم فطيرة إنسان من أصابعه النهِمَة.٤
ما شأنه هو بهذه الملاهي الدنيوية الصارخة؟!
إني لأَعجَب كيف يستطيع هذا اللحيم٥ أن يمتص بجسده ٥٥
أشعة الشمس واهبة الصحة، ويمنعها من الوصول إلى الأرض!
نورفوك :
لا شك يا سيدي أن به خصالًا أصيلة تُحفِّزه
لتحقيق هذه الغايات؛ فهو لا ينتسب إلى سُلالةٍ عظيمة
من أمثال من يرسمون طرائق الحياة لأبنائهم، ٦٠
ولا هو ممن يُطلب إليهم تأدية الخِدْمات الجليلة للدولة،
بل وليس له معاونون بارزون يَسعَون بين يدَيه،
ولكنه مثل العنكبوت ينسج بيته من خيوط يفرزها جسمه!
وهذا يُوضِّح لنا أن جدارته في القوة التي تشُقُّ
طريقه في الحياة، وهي هبةٌ من السماء، ٦٥
اشترى له بها مكانًا متاخمًا للملك.
أبرجاني :
كيف لي أن أعرف ما وهبَتْه السماء له؟!
فلينظر ذو البصر الثاقب في هذا الأمر،
أما أنا فأرى أن كبرياءه، تُطِل من خلال جوارحه جميعًا!
وأنَّى يأتي بذلك إن لم يكن من الجحيم؟
الشيطان ضنينٌ بصفاته،٦ أو قل إنه أسبغها عليه ٧٠
جميعًا كي ينشئ في ذاته جحيمًا جديدًا!
بكنجهام :
قل بحق الشيطان لماذا تصدَّى بنفسه،
(ودون استشارة الملك) لتعيين مرافقيه في رحلته إلى فرنسا؟
لقد أَعَد قائمةً بجميع أعيان البلد، وكان يرمي من ذلك ٧٥
أن يتكبد معظمُهم نفقاتٍ باهظة دون أن يفوز بشرفٍ يُذكر!
وقد كتَب الخطاباتِ التي أرسلَها إليهم بنفسه،
رغم عدم مصادقة المجلس الملكي عليها!
أبرجاني :
أعرف يا قريبي ثلاثة على الأقل ٨٠
باعوا بعض عقاراتهم، وأنفقوا جانبًا كبيرًا من ثمنها،
ولن يعودوا أبدًا إلى سابق ثَرائهم.
بكنجهام :
ما أكثر الذين أنقض ظهورهم رهنُ ضِياعِهم
للإنفاق على هذه الرحلة الباذخة! وماذا كانت نتيجة
هذا الزهو الأجوف؟ محادثات لم تثمر شيئًا ذا بال! ٨٥
نورفوك : يُحزِنني أن أقول إن اتفاقية السلام التي عقَدناها مع الفرنسيين لا تستحق ما أُنفق في سبيلها!
بكنجهام :
بل سرعان ما أعقب الاتفاقية هبوب
تلك العاصفة المقيتة، حتى لقد اجتمعَت آراء الناس، ٩٠
ودون تشاوُرٍ فيما بينهم، على التنبُّؤ بالنهاية المحتومة،
وهي أن تلك العاصفة التي خضَّبتْ جلبابَ السلم
تُنذر بتمزيقه فجأة!
نورفوك :
وها هي بوادرها! إذ خرقَت فرنسا المعاهدة،
وصادَرتْ بضائع تُجَّارنا في إقليم بوردو. ٩٥
أبرجاني : أهذا سببُ إخراس صوت السفير؟
نورفوك : أُقسِم إنه كذلك.
أبرجاني :
يا له من سِلمٍ بالاسم وحسَب!
ويا للثمَن الباهظ الذي دفعناه في شرائه!
بكنجهام : عجبًا! كيف دبَّر الكاردينال الأعظم ذلك كله؟
نورفوك :
اسمحوا لي يا صاحب السعادة أن أقول ١٠٠
إن رئيس الدولة قد لاحظ الخلاف الشخصي
بينك وبين الكاردينال؛ ومِن ثَمَّ فأنا أسدي إليك نصيحة
(صادرة من قلبٍ يتمنَّى الحفاظَ على شرفكَ وموفور سلامتك)
وهي ألا تُغْفل عند التصدي لخبث الكاردينال،
سُلطانه النافذ! وأن تنظر أيضًا في
قدرة كراهيته على إحداث الأذى؛ إذ لن يدخر وسيلة
في طوقه مهما تكن! أنت عليم بطبيعته
وتدرك أنه منتقمٌ جبَّار، وأنا أعرف أن سيفه
ذو حدٍّ بتَّار قاطع، وهو سيفٌ طويل ١١٠
يُمكِّنه من الوصول إلى أقصى أهدافه،
فإن لم يستطع الوصول قذَف به كنصل السهم
فأصاب الهدف!
أرجو أن تنزل مشورتي مكانًا راسخًا في قلبك
وستجد في ثناياها السلامة. عجبًا!
ها هي الصخرة قادمة،
بعد أن نصحتُك بتحاشيها!
(يدخل الكاردينال وولزي، وأمامه تابع يحمل صندوقَ ختم الملك، وبعض الحراس، واثنان من الكتَبة يحملان بعض الأوراق، وعندما يمُر الكاردينال بدوق بكنجهام يَحدِجُه بنظراتِ احتقار، ويُبادلُه الدوق النظراتِ نفسها.)٧
الكاردينال :
وكيل دوق بكنجهام؟ أنت هنا؟ ١١٥
أين تقرير مراجعة حساباته؟
الكاتب : تفضَّل يا سيدي.
الكاردينال : وهل استعَدَّ لمناقشته شخصيًّا؟
الكاتب : نعم يا صاحب الغِبْطة.
الكاردينال :
سنعرف منه المزيد إذن، وسوف يُقلِّل بكنجهام
من حجم الديون الواردة في هذا الكتاب الضخم!

(يخرج الكاردينال مع حاشيته.)

بكنجهام :
إن كلب الجزار ذو أنيابٍ سامَّة٨ ١٢٠
وليس في طَوْقي تكميم فمه!
والأفضل ألا أُوقظه من سباته!
إن دفتر الدائن قيمتُه أكبرُ من كَرم المَحتِد!
نورفوك :
عجبًا لك كيف تغضب؟
اسأل الله الصبر، نهر الدواء الوحيد لمرضك.
بكنجهام :
إني أقرأ في نظراته ما يضمره لي من الشر. ١٢٥
ولقد اقتحمَتْني عينه كأنني أحقر الحقراء،
ولا بد أنه يُدبِّر لي في هذه اللحظة مكيدةً ما.
لقد ذهب إلى الملك وإذن سأتبعُه،
وأَدحَر نظراتِه بنظراتي الصادقة.
نورفوك :
بل اصبر يا مولاي! ولتقهر حكمتُك سَورة غضبك ١٣٠
كي ترسم لك طريق خُطاك! إن الصعود إلى القمم الشمَّاء يقتضي البطء أولًا. أما الغضب فهو كالفرس الفائر الثائر،
إذ أطلقتَ له العِنان فسيكبو!
إنكَ أرجح عقلٍ أطلب المشورة منه في إنجلترا،
فاطلُب لنفسك ما تُسْديه لصديقك.
بكنجهام :
بل سأذهب إلى الملك، وأتكلَّم بلسان مَحْتِدي الكريم،
حتى أمحق صفاقة ذلك المولود في إبسويتش،
أو أُعلن أنه لم تعُد لعُلوِّ المكانة قيمة!
نورفوك :
أرجوك استمع لنصحى.
إن أعددتَ أُتونًا لعدُوِّك فلا تَزِد لهيبه ١٤٠
فتكتوي أنتَ بناره! إنكَ إن كنتَ
تطارد أحدًا وعدوتَ جَموحًا مهتاجًا فلسوف تسبقه،
فإذا سبقتَه لم تدركه! ألا تعلم أن النار إذا
زاد لظاها تحت القِدْر غلى ما فيه وفار؟
قد يبدو لك أن السائل يعلو ويزيد،
لكن الفائر مسكوبٌ ضائع! اسمع نصحي! ١٤٥
إني لأُكرر: لن تجد في إنجلترا من هو أقدرُ منك
على إرشادك حين تصُبُّ رحيق العقل
لتطفئ أُوَار الغضب أو لتُخفِّف من غُلَوائه.
بكنجهام :
إني شاكر لك يا سيدي، وسوف أعمل بنصيحتك، ١٥٠
ولكنني لا أذكر ذلك الشخص الذي بلغ الذروة في الصلَف بدافع الحقد عليه، بل بدافع الإخلاص والصدق؛
فلديَّ معلوماتٌ استقيتُها من مصادرها الصحيحة،
وبراهينُ واضحةٌ مثل الغُدران الصافية في شهر يوليو،
تلك التي تكشف لنا عن كل حَصاةٍ في القاع، ١٥٥
وهي تدمغُه بالفساد والخيانة.
نورفوك : لا تقُل إنه خائن.
بكنجهام :
بل سأقولها للملك وأسوق الدليل عليها صُلبًا
كصخور الشاطئ! إن هذا القَس مثل الثعلب أو الذئب،
أو هو ثعلب وذئب معًا؛ إذ يتساوى لديه النهَم
بمكر الإيقاع بالفريسة، والميل للأذى بالقدرة على إحداثه! ١٦٠
فذهنُه يُحفِّزه ومنزلتُه تُمكِّنه من إظهار سطوته،
وذهنُه ومنزلتُه يؤثِّر أحدهما في الآخر،
بحيث يُظهِر السطوة في فرنسا مثلما أظهرها هنا!
وهكذا فقد أوحى لمولانا الملك بهذه المقابلة الأخيرة،
التي تكلَّفتْ كثيرًا!
لقد ابتَلَعَتْ مبلغًا كبيرًا من الخزانة العامة،
لكنها كانت كالكأس لم تحتمل التنظيف فانكسرت!
نورفوك : هذا هو الواقع حقًّا!
بكنجهام :
أرجوك أن تُصغي إليَّ سيدي! إن هذا الكاردينال الماكر
قد صاغ مواد المعاهدة وفقًا لهواه، وصادق الطرفان ١٧٠
عليها كأنما قال كُن فيكون! لكنها غير ذات نفعٍ
كأنها عكاز تقدِّمه لجسدٍ ميت، ولكن رجل البلاط٩ العظيم ذلك الكاردينال هو الذي أنجزها فلا بد أن تكون
على ما يُرام! إن وولزي العظيم (المعصوم من الزلل)
هو الذي فعل ذلك، وبعد ذلك وقع حادث
أعتَبره جَرْوًا أنجبته الكلبة العجوز؛ أي الخيانة! ١٧٥
إذ حضر الإمبراطور شارل متظاهرًا بأنه يريد زيارة
خالتَه الملكة (وهذا هو ما أعلن عنه في الواقع)
ولكن دافعه الحقيقي هو التحادُث سِرًّا مع وولزي؛
إذ كان يخشى أن تؤدِّي المعاهدة بين إنجلترا وفرنسا ١٨٠
وما ينجُم عنها من التقارُب بينهما
إلى الإضرار بمصالحه! فمن خلال ائتلافهما أطلَّت
رءوس أذًى تتهدَّده! وهكذا عقَد صفقة مع الكاردينال
وفقًا لمصادر معلوماتي الموثوق بها.
والثابت عندي أن الإمبراطور دفع إليه المال، ١٨٥
قبل أن ينال منه ما وعده به، وهكذا أُجيب إلى طلبه
حتى قبل أن يتقدم به! فلما شَقَّ الطريق رصفَه بالذهب
وأفصح الإمبراطور عن رغبته في أن ينقُض الملك عهده،
وينتهك معاهدة السلام المذكورة. وإذن فلا بد للملك أن يعرف (وسوف أتولَّى اطلاعه بنفسي بعد قليل) ١٩٠
أن الكاردينال يشتري ويبيع شرفه وَفْق هواه،
وتحقيقًا لمصالحه الشخصية.
نورفوك :
يؤسفني أن أسمع ذلك عنه، وأتمنى أن يكون اتهامه
قد شابه بعض الخطأ!
بكنجهام :
بل لم أخطئ في حرفٍ واحد! ولسوف أسوقُ ١٩٥
التهمة وفقًا لبراهين الإدانة بحذافيرها!

(يدخل براندن وأمامه ضابط يحمل السلاح، وبعض جنود الحرس.)

براندن :
إلى مهمتك أيها الضابط! نَفِّذ الأوامر!
سيدي! يا دوق بكنجهام وصاحب مقاطعات
هيريفورد وستافورد ونورثامبتون! ٢٠٠
إني أُلقي القبض عليك بتهمة الخيانة العظمى،
باسم مولانا صاحب الجلالة الملك!
بكنجهام :
انظر سيدي اللورد ما يحدُث!
لقد وقعتُ في الشرك! وسوف أَهلِك
بسبب المكر والتآمُر!
براندن :
يؤسفني أن تُحرم حُرِّيتَك، ٢٠٥
ويحزنني أن أَشهد ما يحدُث! ولكن مشيئة صاحب السمو
أن تُساقَ إلى البُرج.١٠
بكنجهام :
لن يُجديَ أن أدفع ببراءتي! فقد أُصِبتُ بوَصْمة،
صُبغَت بالسواد أنصع خصالي بياضًا! فلنمتثل
لإرادة السماء في هذا الأمر وفي كل ما عداه! سمعًا وطاعة! ٢١٠
وداعا يا لورد أبرجاني!
براندن :
لا تُودِّعه فعليه أن يصحبك؛
فمشيئة الملك أن تظل في البرج حتى يبُتَّ في أمرك،
ونُحيطَكَ علمًا بذلك.
أبرجاني :
أقول كما قال الدوق، وأمتثل لإرادة السماء، ٢١٥
وأُطيع أمر الملك.
براندن :
معي أمرٌ من الملك باحتجاز اللورد «مونتاكيوت»،
و«جون دي لاكار» صاحب اعترافات الدوق،
وشخصٍ يُدعى «جلبرت بيرك» وهو أمينُ خزائنه.
بكنجهام :
هكذا هكذا! هؤلاء هم أطراف المؤامرة،
وأرجو ألا يكون هناك غيرهم. ٢٢٠
براندن : بل هناك قَس من شارترو.
بكنجهام : تعني نيكولاس هوبكينز؟١١
براندن : بعينه.
بكنجهام :
إن وكيلي كاذب! فالكاردينال الأعظم قد لوَّح له
بالذهب. إني لأشهد ساعةَ أجلي الآن!
وما عُدتُ سوى ظل بكنجهام المسكين،
تغشَى جسمَه في هذه اللحظة ظُلَّة من الغَمام ٢٢٥
تحجب ضوء الشمس الساطعة! وداعًا أيها اللورد!

(يخرجون.)

المشهد الثاني

(نفس المشهد – غرفة في مبنى المجلس الملكي الخاص.)

(صوت الأبواق – يدخل الملك مستندًا إلى كتف الكاردينال، مع الأشراف والسير توماس لافيل. يجلس الكاردينال عند قدمَي الملك من الناحية اليمنى.)

الملك :
إن حياتي نفسها وقلبها الخافق
يلهجان بالشكر لك على هذه الرعاية الفائقة؛
إذ كنتُ في مرمى مؤامرة راشت سِهامَها وصوبَتْها
فشكرًا لك على قَمْعها! نادُوا رجل بكنجهام
وليقف بين أيدينا، وسأسمع اعترافه بنفسي
وروايته المفصَّلة لخيانات سيده.

(ضجة من خارج المسرح وأصوات تطالب بإفساح المكان للملكة، ثم تدخل الملكة يتقدَّمها دوق نورفوك، ومن بعده دوق سافوك. ينهض الملك من العرش ويرفعها إليه ويُقبِّلها ويُجلِسها إلى جانبه.)

الملكة : بل عليَّ أن أُطيل الركوع لأني ألتمس منكم طلبا.
الملك :
بل انهضي وخذي مكانك بجانبنا! أما طلبك فلا تذكري ١٠
نصفه الأول، فأنت تتمتَّعين بنصف سلطاننا!
وأما نصفه الآخر فقد أجبتُكِ إليه قبل أن تطلبيه!
قولي ما تطلُبين وسوف تنالينه!
الملكة :
شكرًا لجلالتكم. كل ما ألتمسه هو حبكم لذاتكم،
دون أن تتخلَّوا في هذا الحب عن شرفكم، ١٥
ورفعة مقام سُموِّكُم.
الملك : أكملي حديثك يا قرينتنا!
الملكة :
لقد ذكَر لي نفرٌ غير قليل، وكلهم من ذوي الإخلاص لكم،
أن الرعية تشكو مُر الشكوى
من الأوامر التي صدَرتْ في الآونة الأخيرة، ٢٠
فصدَّعتِ الإخلاص في قلوبهم جميعًا،
ومع أنهم يلومون الذي أصدر الأوامر؛ أي الكاردينال الكريم،
فإنهم يُوجِّهون مُر اللوم أيضًا إلى جلالتكم، باعتباركم
صاحب تلك المطالب الباهظة! وهكذا فإن الملك
مولانا وسيدنا، الذي ندعو السماء أن تصون شرفَه ٢٥
مما يُلوِّثه، لم يسلم من جارح القول،
ومن الألفاظ التي تزلزل أركان الإخلاص وتقوضه
وتكاد تبدو ناطقةً بصوت العصيان الجهير!
نورفوك :
بل هي تبدو كذلك فعلًا! فإن رجال صناعة النسيج
لم يستطيعوا أن يتحمَّلوا هذه الضرائب؛ ومِن ثَمَّ فصَلوا كثيرًا ٣٠
من عُمَّالهم، من غزَّالين وندَّافين وقصَّارين ونسَّاجين!
ولما كانوا عاجزين عن مزاولة حِرفٍ أخرى
فقد باتوا جَوعَى! ودفعهم الجوع
وعدم تَوافُر مصادرِ رزقٍ أخرى إلى الثورة، ٣٥
مستميتين في معارضة الضرائب،
والخطر قائمٌ على قدمٍ وساقٍ بينهم.
الملك :
الضرائب؟ علام فُرضَت وما مقدارها؟
أيها الكاردينال! أنتَ يا من شارَكْتنا مسئولية فرضها،
هل علمتَ بهذه الضرائب؟
الكاردينال :
لا تؤاخذني يا مولاي! فأنا لا أحيط إلا إحاطة
فردٍ واحد بما يتعلق بأمور الدولة،
وإذا كنتُ في مقدِّمة الصف فإن آخرين
يسيرون معي بنفس الخطوات.
الملكة :
بلى يا مولاي! إنك لا تُحيط حقًّا بما يزيد
عن عِلمِ سواك! ولكنك صاحب قرارات يعرفها الجميع! ٤٥
وهي كالعَلقَم لمن يعرفها ويتمنَّى لو جَهِلها، ومع ذلك
فلا مناص من إحاطتهم بها! إن هذه الضرائب (التي
يريد مليكي أن يحيط بها) تؤذي الأسماع،
وتنقُض ظهور من يحملها. ٥٠
يقولون إنكَ الذي فرضتَها، هذا وإلا كان يظلمونك
ظلمًا شديدًا!
الملك :
تعودين إلى ذكر الضرائب؟ ما هذه الضرائب؟ أخبرونا
ما طبيعتها وما نوعها؟
الملكة :
لقد تجاسرتُ أكثر مما ينبغي حين رجوتُك الصبر،
ولكن يُشجِّعني ما وعدتَني به من عفو! ٥٥
إن الرعية غاضبة من فرض الاستقطاعات،
ومعناها إرغام كل فرد على دفع سُدس رأسماله
فورًا ودون إبطاء! بحجة الإنفاق على
حروبك في فرنسا!
وهذا هو ما أكسَب الأفواه جرأة،
ودَفَعَ الألسنة إلى لفظ واجباتها،
وجمَّد الولاء في القلوب الباردة، ٦٠
وحلَّت اللعنات محل الدعوات،
فإذا بالطاعة النابعة من الولاء
تخضع للغضب الجائح في نفوس الأفراد؛ ٦٥
ولذا فأرجو من سُموِّكم أن تنظروا في المسألة
على وجه السرعة، فلا أرى الآن قضيةً أهم منها.
الملك : أقسم بحياتي إن ذلك ضد إرادتنا.
الملك :
لقد تألَّم الكثيرون لذلك؛ فالرجل علَّامة نحرير، ١١٠
وحديثه لا يُجارى ولا يُبارى، وقد جادت الطبيعة عليه
بمواهبَ وافرة، بل قد تبحَّر في الدرس حتى أصبح جديرًا
بتعليم وتخريج كبار المعلمين، دون الرجوع إلى أحد سواه.
ومع ذلك فإن هذه الخصال السامية قد تضل الطريق ١١٥
إذا فسد القلب، بل إنها لتخذ أشكالًا خبيثة
أقبح عشر مرات من سابقِ جمالها! كان هذا الرجل الكامل
يُعَد من الأعاجيب، وكان يستولي على أسماعنا ويسحرها
عندما يتحدث حتى لتمُر الساعة كأنها دقيقة! ١٢٠
هذا الرجل يا مليكتنا قد كَسى الفضائلَ التي كان يتمتع بها
أرديةً شائهة، فاصطَبغ بالسواد كأنما
كساه سِناجَ الجحيم!
فلتمكثي بجانبنا وسوف تسمعين
من كاتم سره السابق أنباءً تُحزِن كل شريف! ١٢٥
هيا أيها الكاردينال! مُرْهُ أن يُعيد على أسماعنا
ما سبق أن قصَّه من المؤامرات التي حاكها
فمهما سمعنا من تفاصيلها لا بد أن نطلب المزيد!
الكاردينال :
تقدَّمْ أيها الرجل وأخبرنا بلسانٍ جسور
كل ما استطعت أن تجمعه من معلومات عن دوق بكنجهام، ١٣٠
تكلم باعتبارك من الرعايا المخلصين!
الملك : تكلَّم ولا تخشَ شيئًا!
الوكيل :
كان من عادته أولًا أن يقول إنه إذا
مات الملك دون وريثٍ للعرش فسوف يجتهد حتى يستولي على
صولجان الملك! وكان يدُس ذلك القول في ثنايا حديثه ١٣٥
كل يوم. بل لقد سمعتُه يقول هذه الكلمات نفسها لصِهره
لورد أبرجاني، ويُقسِم أمامه أن يثأر من الكاردينال!
الكاردينال :
أرجو من سُموكم أن تلاحظوا مدى الخطر الكامن هنا؛
أي إنه إذا فَشِل في الوصول إلى عرشكم السامي،
فلن يتورع خبثُ طويته عن تجاوز شخصكم ١٤٠
إلى أشخاص أصدقائكم!
الملكة :
سيدي الكاردينال! أنت علَّامة تعرف معنى الإحسان!
فلتعرض القضية دون تحامُل.
الملكة :
تكلم أيها الرجل! قل كيف أقام دعوى حقه في العرش
إذا لم أنجب وريثًا؟ وعلى أي أساس؟ هل سمعته ١٤٥
يتكلم عن ذلك في أي مناسبة؟
الوكيل :
كان دافعُه إلى ذلك
نبوءةً جوفاء أدلى بها نيكولاس هنتون١٢
الملك : ومن هو هنتون هذا؟
الوكيل :
إنه يا سيدي قَس من الشارترو
وهو صاحب اعترافه، وهو الذي ما فتئ يسقيه
ألفاظ السيادة والملك.
الملك : وكيف عَرفتَ ذلك؟ ١٥٠
الوكيل :
قُبَيل رحيل سُموِّكم إلى فرنسا، كان الدوق يقيم في
قصر الروز، بأبرشية القديس لورانس بولتني في لندن،
وطلب مني أن أخبره عن رأي أهل لندن
في رحلتكم المزمَعة إلى فرنسا، فقلتُ له إن الناس ١٥٥
يخشَون غَدْر الفرنسيين وما ينطوي عليه من خطر
على الملك. وعلى الفور قال إن ذلك هو ما يخشاه حقًّا.
وإنه يؤكِّد صحة كلماتٍ معيَّنة نطَق بها راهبٌ جليل. ١٦٠
ثم أردَف قائلًا: كثيرًا ما أرسل لي ذلك الراهب
يرجوني أن أسمح للقس جون دي لاكار بزيارته في ساعةٍ مناسبة
حتى يحدثه عن موضوعٍ مهم. وبعد أن
أقسم يمين الكتمان جعله يحلف يمينًا مُغلَّظة بألا يبوح ١٦٥
بشيء مما يسمع لأي إنسان سواي.
وبعد ذلك قال الراهب بثقة ونبرات بالغة الرزانة
للقس: «أخبِر الدوق أنه لن يُكتب البقاء للملك
ولا لأي وارثيه، وحُثَّه على أن يعمل على اكتساب ١٧٠
محبة العامة، إذا كُتب للدوق أن يحكم إنجلترا.»
الملكة :
أعرف خير المعرفة أنكَ كنتَ وكيل أعمال الدوق،
وأنكَ قد فُصِلتَ من عملك بسبب شكوى مستأجري الأرض منك!
حَذارِ إذن من اتهام شخصٍ شريف بدافع الحقد
وإلا أفسدتَ نفسك الشريفة. ١٧٥
أقول لك حَذارِ، وأرجوك من كل قلبي أن تسمع لي!
الملك : بل فليستمر!
الوكيل :
قسمًا بحياتي لا أقول إلا الصدق!
إذ ذكرت لمولاي الدوق أن نبوءة الراهب
قد تكون وهمًّا صوَّره له الشيطان،
وأنه من الخطر الارتكان إليها إلى هذا الحد، ١٨٠
حتى لا تدفعَه إلى أفكار وأهداف يُصدِّقها
فيعمل على تحقيقها بالمكيدة والمكر!
ولكنه قال إن ذلك هُراء،
وإنها لن تصيبه بأي أذًى! ثم أضاف قائلًا:
«لو أن الملك قضى نحبه في مرضه الأخير ١٨٥
لطارت رأس الكاردينال ورأس توماس لافيل!»
الملك :
حقًّا؟ وضيعٌ إلى هذا الحد؟
حقًّا حقًّا إنه ليُضمِر السوء والأذى!
ألديك أدلةٌ أخرى؟
الوكيل : نعم يا مولاي.
الملك : أخبرنا بها …
الوكيل :
عندما كنا في جرينتش، وبعد أن قام سُموُّكم بتوجيه
اللوم إلى الدوق بشأن السير وليام بولمر … ١٩٠
الملك :
أذكُر ما حدث آنذاك! إذ كان من أتباعي المخلصين،
فَضَمَّه الدوق إلى رجاله! لكن استمر … ماذا جرى؟
الوكيل :
قال حينئذٍ إنه لو أُرسِل إلى البرج، وهو
ما كان يتوقَّعه، لتَظاهَر بالانصياع ثم أغمد فيه خنجره!
وأوضح ذلك بأنه سيكون قد نفَّذ خطَّة والده
إزاء ريتشارد المغتصب! ١٩٥
إذ طلب أن يقابله عندما كان في سولزبري،
ولو أُجيب إلى طلبه لتَظاهَر بأداء واجبه وغرس
السكِّين في قلبه!
الملك : الخائن الجبَّار!
الكاردينال :
مولاتي! كيف يحيا الملك في أمان ٢٠٠
وهذا الرجل حُرٌّ طليق؟
الملكة : أصلح الله الأحوال!
الملك : أتريد أن تزيد على ما قُلتَه؟ أفصح!
الوكيل :
وبعد أن أقسم بوالده الدوق، وبالسكِّين أيضًا،
تمطَّى ثم وضع إحدى يدَيه على الخنجر والأخرى على صدره،
وصعَّد ببصره إلى السماء،
وحلف يمينًا مخيفة معناها ٢٠٥
أنه لو لقي العَنَت لفعل ما لم يفعله والده،
ولامتاز عليه امتياز الأداء على العزم الخائر!
الملك :
تلك غايته! أن يُغمِد سكينه في جسدنا!
إنه معتقل فقدِّموه للمحاكمة على الفور، ٢١٠
فإذا وجد في القانون رحمةً فسوف ينالها،
وإذا لم يجد تلك الرحمة فلن أجود بها عليه.
قسمًا بالليل والنهار إنه لخائنٌ من ناصية رأسه
إلى أخمُصِ قدَمه.

(يخرجون.)

المشهد الثالث١٣

(غرفة في القصر الملكي.)

(يدخل كبير الأمناء واللورد ساندز.)

كبير الأمناء :
لا أُصدِّق أن السحر الفرنسي قد لَعِب بعقول الناس
فأحدَث هذه الألوان الغريبة من السلوك!
ساندز :
هذا شأن العادات الجديدة، مهما تكن مدعاةً للسخرية،
بل مهما انتقصَت من صفات الرجولة!
كبير الأمناء :
أظن أن الإنجليز لم يكسبوا من الرحلة الأخيرة إلى فرنسا ٥
إلا عادة زَمِّ ملامحهم وبَسْطها أثناء الحديث!
ما أغربها! إنك إن شاهدتَهم وهم يُقطِّبون
لأقسمتُ إن أنوفهم نفسها كانت من مستشاري الملك
بيبان أو الملك كلوتاريوس!١٤
بل انظر كيف يُصعِّرون خدودهم! ١٠
ساندز :
لقد اختلفَت طريقة مَشْيهم كأنهم اتخذوا سيقانًا جديدة!
بل سيقانا عرجاء! ويُخيَّل لمن لم يشاهدهم من قبلُ
أن ورمُ مفصل الركبة قد تفشَّى بينهم إلى جانب العَرَج!
كبير الأمناء :
قسمًا بالموت يا سيدي اللورد!
إن أزياءهم تُوحي بملابسِ الوثنية
بل لَتتناقَض مع جميع ملابس بلدان المسيحية. ١٥
كيف حالك يا سير توماس لافل!
(يدخل توماس لافل.)
ما وراءك من أنباء؟
لافل : لا شيء حقًّا سوى المنشور الجديد المعلَّق على باب القصر!
كبير الأمناء : بأي شأن؟
لافل :
عن إصلاح أحوال أبطالنا العائدين من فرنسا،
والذين مَلَئوا القصر بالمنازعات والضجيج والخياطين! ٢٠
كبير الأمناء :
يسعدني أن أسمع ذلك! ليت هؤلاء السادة يعلمون
أن رجال البلاط الإنجليزي لا يحتاجون إلى زيارة قصر اللوفر
حتى يتحلَّوا بالحكمة!
لافل :
يقول المنشور إن عليهم أن يتخلَّوا عن
ملابس التهريج وريش القبَّعات الذي أتَوْا به من فرنسا، ٢٥
وأساليب التمييز بين درجات الشرف
التي تُفصِح عن الجهل، مثل المبارزات وإطلاق الصواريخ،
والإساءة إلى من هم أَفضلُ منهم
كعادة الفرنسيين، وأن يقلعوا تمامًا
عن إيمانهم برياضة التنس١٥ والجوارب الطويلة، ٣٠
والسراويل القصيرة المزركَشة، وسائر ملابس السيَّاح،
وأن يعودوا إلى رشدهم مثل الشرفاء،
هذا وإلا فإن عليهم أن يرجعوا إلى رفقاء لهوهم
في فرنسا! وأتصور أنهم يستطيعون هنا،
بإذن خاص من الملك١٦ أن يتمادَوْا ما شاء الله لهم أن يتمادَوْا في فجورهم، فيضحك الناس منهم! ٣٥
ساندز : آن أوان إعطائهم الدواء؛ فإن أمراضهم أصبحت مُعدية!
كبير الأمناء :
ما أفدح خسارة نسائنا عندما يُقلِعون
عن هذه المظاهر الجوفاء!
لافل :
لا شك في هذا! سيسود الحزن يا سيدي بالتأكيد!
فهؤلاء الأنذال الماكرون يستطيعون أن يَقْضوا وطرهم ٤٠
بحيلٍ ناجعة، ولا يمكنكَ أن تنافس
أغنيةً فرنسية ومعزوفة على الكمان!
ساندز :
فليعزف الشيطان بهم! سيُسعِدني أن يغادروا البلاد
فلا شك أنه من المُحال إصلاح حالهم!
فإذا ذهبوا استطاع سيدٌ ريفي بسيط مثلي،
حُرِم العزف ردحًا طويلًا من الزمن،
أن يعود إلى أغانيه الساذجة، ٤٥
فيشنِّف بها الآذان ساعة أو بعض ساعة،
بل قد تُعتبَر من الموسيقى الحديثة أيضًا!
كبير الأمناء :
نعم ما قلتَ يا لورد ساندز! لم تسقط أسنان شبابك بعدُ!
أَصبتَ يا سيدي اللورد! بل ولن تسقط.
ساندز : طالما ظللتُ أدِبُّ على الأرض!
كبير الأمناء (إلى لافل) :
ولكنك لم تقل لي أين كنتَ ذاهبًا
يا سيد توماس؟
إلى قصر الكاردينال، حيث دعيتَ أنتَ أيضًا! ٥٠
لافل : كدتُ أنسى! إنه يقيم الليلة حفلة عَشاءٍ عظيمة.
كبير الأمناء :
دعا إليها كثيرًا من الأعيان رجالًا ونساءً،
وستحضرها بالتأكيد أجمل جميلات المملكة.
لافل :
إن لذلك الكاهن نفسًا فياضة، ٥٥
ويدًا مثمرة كالأرض التي نأكل من خيرها،
وأنداؤه تسَّاقط على الجميع.
كبير الأمناء : لا شك في نُبله، ولا يقول بغير ذلك إلا أَسْود اللسان!
ساندز :
قد حُق له ذلك يا سيدي اللورد! فلديه كل ما يؤهله لذلك،
فإن أمسك يده كانت خطيئة أقبح من فساد العقيدة، ٦٠
وعلى الرجال من أمثاله أن تسخو أيديهم
كل السخاء، فهم قدوةٌ تُحتذى!
كبير الأمناء :
وهم لا شك قدوة! ولكن ما أقلَّ الذين يُظهِرون مثل
ذلك الكرم العظيم! إن سفينتي في انتظاري١٧
لا تتخلَّف يا سيدي اللورد. هيا بنا يا سير توماس الكريم
وإلا تأخَّرنا عن موعدنا، وذلك ما لا أرضاه؛ ٦٥
إذ إنني قد تلقَّيتُ التكليف بأن أتولَّى مع السير هنري
جيلفورد إدارة حفل الليلة.
ساندز : أنا طوع أمرك.

(يخرجون.)

المشهد الرابع

(قاعة في قصر يورك – تُعزف المزامير.)

(منضدةٌ صغيرة أمام مقعدٍ مرتفع للكاردينال، ومنضدةٌ أكبر للضيوف، ثم تدخل آن بولين وشتى الآنسات والسيدات والسادة من الضيوف من باب، ويدخل السير هنري جيلفورد من بابٍ آخر.)

جيلفورد :
أيتها الآنسات والسيدات! إن صاحب الغبطة يُرحِّب بِكُنَّ جميعًا
فأهلًا وسهلًا بِكُن! لقد وهب هذه السهرة للحُسْن والمرح!
وهو يرجو أن تكون كل واحدةٍ
في هذه الزمرة من النبيلات،
قد طَرحَت كل ما يشغل بالها خارج هذه القاعة!
وهو يودُّ أن يسود الفرح والسرور ٥
بقَدْر ما تبعث عليه الصحبة الطيبة والنبيذ الحسَن
والترحاب الحار بين أخيار الناس!
(يدخل كبير الأمناء واللورد ساندز والسير توماس لافل.)
أهلا بك سيدي اللورد! كيف تأخَّرتَ؟!
إن تفكيري في هذه الطاقة من الفاتنات
جعلني أطير بجناحيَّ إلى المكان!
كبير الأمناء : أنتَ شابٌّ يا سير هنري جيلفورد!
ساندز :
سيدي سير توماس لافل! لو كان الكاردينال ١٠
يتمتَّع بنصف أفكاري الدنيوية،
لقدَّم لهؤلاء الحسان بعض المرطبات قبل أن يجلسن!
فهذا من شأنه أن يَسُرَّهن حقًّا! قسمًا بحياتي
ما أرقَّ هذه الزمرة من الجميلات!
لافل : أتمنى لو كنتَ أنتَ صاحب اعتراف واحدة أو اثنتَين! ١٥
ساندز :
ليتني كنتُ كذلك! إذن لجعلتُ التكفير عن الخطيئة
سهلًا ميسرًا!
لافل : سهلًا إلى أي حد؟
ساندز : بالسهولة التي يُوفِّرها الفِراش الناعم!
كبير الأمناء :
أيتها الجميلات! أرجوكُن الجلوس! أرجو أن تتولَّى
يا سير هاري إرشاد الواقفات في هذا الجانب إلى مقاعدهن، ٢٠
وسأتولى أنا الجانب الآخر! لقد دخل صاحب الغبطة.
لا لا! لا ينبغي هذا الجمود! ولا يصح أن تجلس
اثنتان متجاورتَين وإلا بردَت حرارة الجو!
سيدي اللورد ساندز! أنت الذي سيضمن اليقظة
في أجفانهن! اجلس بين هذه الآنسات!
ساندز :
أُقسم إني أودُّ ذلك وأشكر معاليكم! ٢٥
أرجو الصفح يا آنساتي الرقيقات إذا أفلتَت مني عبارةٌ رعناء،
اغفرن لي فقد ورثتُ ذاك من والدي!
آن بولين : هل كان مجنونًا يا سيدي؟
ساندز :
بل مجنون حقًّا! فاض به الجنون وبرَّح به العشق!
لكنه لم يكن يعَضُّ أحدًا،١٨ بل
يُقبِّل الفتاة عشرين قُبلةً في نفَسٍ واحد!
مثلما أفعل الآن! (يُقبِّلها).
كبير الأمناء :
أحسنتَ يا سيدي اللورد! وهكذا جلس الجميع! ٣٠
أيها السادة! ستجب عليكم الكفَّارة إذا قضَت هذه الجميلات
وعلى وُجُوههن العُبوس!
ساندز : أبرشيَّتي صغيرة! وكذا كفَّارتي!١٩ دعوني وحدي!

(موسيقى المزامير، يدخل الكاردينال وولزي يجلس في مكانه.)

الكاردينال :
مرحبًا بكم يا ضيوفنا الكرام! أرجو من الجميع،
آنساتٍ وسيدات وسادة، أن يُطلِقوا العِنان للمرح ٣٥
والا كانوا يخاصمونني! فلنشرب نَخْب صحتكم جميعًا
تأكيدًا لترحابي!
ساندز :
إنكم يا صاحب الغبطة نبيل،
وأريد قدحًا كبيرة أُودِعُها آيات شكري،
فتتولى عنِّي التعبيرَ عنه!
الكاردينال :
سيدي اللورد ساندز! أنا ممتنٌّ لك! ٤٠
وعليك أن تُدخل البهجة على من تجلس إلى جوارهن!
أين المرح أيتها الآنسات والسيدات؟
من المسئول عن ذلك أيها الرجال؟
ساندز :
لا بُد أن يصعد النبيذ الأحمر أولًا إلى خدودهن الجميلة،
وعندها ستنطلق ألسنتهن يا سيدي اللورد،
حتى ما نجد فرصةً للحديث!
آن بولين : سيدي اللورد ساندز! إنكَ تحب اللهو واللعب. ٤٥
ساندز :
خصوصًا إذا ربحتُ،
فلأشرب نَخْبكِ يا آنستي، فهو نخبُ نجاحي!
آن بولين : لن تستطيع ربح شيء!

(صوت الطبل والنفير وطلقات نارية.)

ساندز : قلتُ لمعاليكم إنهن لن يلبثن حتى يُثرثِرن!
الكاردينال : ماذا كان ذلك؟
كبير الأمناء : فلينظر بعضكم ماذا حدث.
الكاردينال :
ما هذه الأصوات الحربية وما غايتها؟ ٥٠
لا تخشَين شيئًا آنساتي سيداتي؛
فجميع قوانين الحرب تمنحُكنَّ امتيازاتٍ خاصة.

(يدخل خادم.)

كبير الأمناء : ماذا حدث؟ ماذا كان ذلك الصوت؟
الخادم :
جماعة من الأجانب، يبدو أنهم من النبلاء،
رست سفينتُهم عند مرسانا وهم في طريقهم إلينا،
سُفراءَ نابهين لأُمراءَ من الأجانب. ٥٥
الكاردينال :
يا كبير الأمناء الكريم،
اذهب فقابلهم بالترحاب اللائق؛
فأنت تتحدَّث الفرنسية، وأرجوك أن تحتفي بهم،
وتأتي بهم إلى حضرتنا حيث تسطع شمس هذا الجمال عليهم
بسَنَاها وسَنَائها، فليرافقه بعضكم. ٦٠
(ينهض الجميع وتُرفع الموائد.)
معذرةً أيها الضيوف لقطع حبل المأدُبة،
لكننا سوف نصل ما انقطع! تفضَّلوا، كلوا هنيئًا مريئًا،
ولينهمر ترحيبي بكم من جديد … أهلًا وسهلًا بكم.
(موسيقى المزامير، يدخل الملك٢٠ مع آخرين يلبسون الأقنعة، ويرتدون ثياب الرعاة، يتقدَّمهم كبير الأمناء، فيمُرُّون على الفور أمام الكاردينال ويُقدِّمون له التحيةَ الرسمية.)
تلك زمرة من الأشراف لا شك، ماذا يبتغون؟
كبير الأمناء :
إنهم لا يعرفون الإنجليزية؛ ولذلك طلبوا مني أن أقول لكم، ٦٥
يا صاحب الغبطة، إن خبر هذه الحفلة الرائعة،
التي تجمع بين كَرم المَحتِد وسحر الجمال،
قد تناهى إلى أسماعهم، فصمَّموا على الحضور هذا المساء!
لم يستطيعوا بسبب ما يُكِنُّونه للجمال من تقدير
إلا أن يتركوا قطعانهم٢١ ويلتمسوا من سعادتكم، ٧٠
السماح لهم برؤية هذه الآنسات، وقضاء ساعة
سرورٍ وطَربٍ معهن.
الكاردينال :
قل لهم يا كبير الأمناء إنهم قد شرفوا منزلي المتواضع،
وأنا أقدم لهم ألفَ شكرٍ على ذلك،
وأرجوهم أن يشاركونا السرور والطرب.

(الضيوف يختارون من يرقص معهم، ويختار الملك آن بولين.)

الملك : أجملُ يدٍ لامستُها في حياتي! أيها الجمال! أنا لم أعرفك قبل الآن. ٧٥

(تستمر الموسيقى، ويستمر الرقص.)

الكاردينال : سيدي.
كبير الأمناء : صاحب الغبطة.
الكاردينال :
أرجو أن تُخبرهم على لساني،
أن من بينهم شخصًا أَجدَر بهذا المكان مني،
وأنَّني لو عرفتُه فسوف أتنحَّى له عن مكاني،
بدافع الحب والواجب جميعًا. ٨٠
كبير الأمناء : سأخبرهم يا مولاي.

(يتهامَس مع المقنَّعين.)

الكاردينال : ماذا يقولون؟
كبير الأمناء :
يقولون إن مثل هذا الشخص موجود فعلًا،
ويطلبون من غبطتكم أن تتعرَّفوا عليه،
ولا مانع لديه في أن يأخذ مكانكم.
فلأنظر فيمن حولي! أرجو عفوَكُم يا سادتي الأفاضل!
الكاردينال :
هذا هو! لا بد أن يكون ذلك هو الملك. ٨٥
(طارحًا قناعه) لقد تعرَّفتَ عليه حقًّا أيها الكاردينال!
الملك :
ويا لها من حفلةٍ رائعة! أحسنتَ أيها اللورد!
لو لم تكن كاهنًا أيها الكاردينال لساء ظني بك!
يسعدني أن جلالتَكُم مسرور!
الكاردينال : يا كبير الأمناء! أرجوك اقترب قليلًا! ٩٠
figure
الفصل الأول، المشهد الرابع؛ لوحة تمثل الحفلة في منزل الكاردينال وولزي في مسرح الجلوب يوم ٢٩ يونيو ١٦١٣م، رسمها الرسام ك. والتر هودجز، وتظهر في أعلى الصورة أُولى سحائب الدخانِ الناجم عن الحريق الذي أتى على المسرح.
الملك : من هذه الغادة الفاتنة؟
كبير الأمناء :
ابنة السير توماس بولين، وهو فايكاونت روتشفورد!
وقد يَسُر جلالتَكُم أن تعرف أنها إحدى وصيفات الملكة!٢٢
الملك :
قسمًا بالسماء، إنها رقيقة وممتعة!
حبيبة الفؤاد، كيف أطلب الرقص معكِ ولا أُقبِّلك؟ ٩٥
فلنشرب نَخْبا في صحتكم جميعًا يا سادة!
الكاردينال :
هل أعدَدتَ المائدة يا سير توماس لافل،
في القاعة الداخلية الخاصة؟
لافل : نعم يا سيدي.
الكاردينال : أخشى يا مولاي أن يكون الرقص قد أجهَدكُم بعض الشيء!
الملك : بل أجهدني كثيرًا. ١٠٠
الكاردينال : الهواء نقيٌّ منعش يا مولاي في القاعة المجاورة.
الملك :
ننتقل إليها إذن! فليتقدَّم كل رجل وزميلته في الرقص!
لن أستطيع يا زميلتي الرقيقة أن أتخلَّى عنك: هيا معي
فهذا واجبي، ولنفرح ونمرح! يا أيها الكاردينال الكريم،
سنشرب ست كُئوسٍ في صحة هذه الفاتنات،
وتعزف الموسيقي كي نرقص رقصةً أخرى، ١٠٥
ثم نحلُم بالفوز بالمركز الأول! فلتَعزِف الموسيقى!

(يخرجون على أنغام الأبواق.)

١  أي كانوا أقل بهاءً وأُبَّهة حتى بدا الإنجليز بالمقارنة في ثراء الهند وأُبَّهتها، وصورة «جمال الهند وكنوزها»، واردة في مسرحية هنري الرابع الجزء الأول، التي كتبها شيكسبير أيضًا، في الفصل الثالث، المشهد الأول، البيتَين ١٦٦-١٦٧.
٢  بييس من بلدة ساوثامبتون بطلٌ إنجليزي أسطوري نُسبَت إليه وقائعُ خرافية.
٣  السطور من ٤٢–٤٥ منسوبة في طبعة بنجوين (من تحرير جورج هاريسون) إلى بكنجهام خلافًا للطبعات الأخرى، وخلافًا لشتى طبعات الأعمال الكاملة لشيكسبير وأحدثها طبعة أكسفورد من تحرير كريج.
٤  هذا التعبير في الإنجليزية الحديثة مصطلحٌ عام to have a finger every pie ولكنه في شيكسبير استعارةٌ حية تتطلَّب النقل بصورتها الحية بدلًا من مجرَّد معناها، و«النَّهم» هنا أصلها «الطموح».
٥  في الأصل قطعة من اللحم، ويتضمَّن التعبير تعريضًا بأن أباه كان جزارًا.
٦  الكبرياء من الخطايا المهلكة الثلاث؛ أي الخطايا التي لا ينجو صاحبها من النار، أما الخطيئتان الأُخريان فهما الغضَب والحسَد.
٧  يقول الشراح: إن الكاردينال وحاشيته يدخلون من باب في أقصى المسرح، ويجري الحوار بين الكاردينال وكاتب دون أن يسمعه الحاضرون، حتى ولو سمعه الجمهور، ثم يخرج الجميع من الباب الآخر تاركين بكنجهام وصحبه.
٨  إشارةٌ واضحة إلى أن والد وولزي كان جزارًا، وشيكسبير يحاكي في هذا مَن سبقه من نقَّاد وولزي مثل وليام روي، في قصيدته التي كتبَها عام ١٥٢٨م، بعنوان: «اقرأ أبياتي دون غضب»، وسكيلتون في العديد من قصائده.
٩  طبعة الفوليو تورد count بدلًا من court التي اقترحَها بوب واتبعَه في ذلك كل الشراح والمحقِّقين، وبوب يقول إنه يُصحِّح خطأً واضحًا وحسب.
١٠  أي إلى السجن.
١١  تُورِد طبعاتٌ أخرى اسمًا آخر هو مايكل هوبكينز.
١٢  «هنتون» هو اسم المكان لا اسم القَس، ويقول الشراح إن شيكسبير وضع هذا الاسم خطأً مكان اسم «هوبكنز».
١٣  يتضح من هذا المشهد والمشهد الذي يليه مدى نجاح الكاتب في ضغط زمن الأحداث؛ إذ إن محاكمة بكنجهام كانت في سنة ١٥٢١م، ولكن الملك هنري لم يقابل آن بولين إلا في عام ١٥٢٦م، وفي تلك السنوات أنعم بلقَب البارون على لورد ساندز وأصبح هو نفسه كبير الأمناء!
١٤  Pepin وClotharius كانا من ملوك فرنسا في القرنَين السادس والثامن والميلاديَّين. وقد تحوَّلا في كتب التاريخ إلى أساطير ترتبط بالصفات المذكورة.
١٥  كانت تلك الرياضة شائعة في فرنسا ومقصورةً على الطبقة الراقية في إنجلترا.
١٦  العبارة اللاتينية curn privilegio تعني حرفيًّا «مع التمتع بالحصانة»، ولكن الأصل هو التعبير القانوني الخاص باستنكار طبع كتاب من الكتب، مثل الكتاب المقدس، وهو له cum privilegio imprimendum solum ومن ثَمَّ فالإشارة هنا إلى معنى الإذن الخاص على نحوِ ما جاء في الترجمة.
١٧  كان للوجهاء سُفنٌ تُقلُّهم من مكان إلى مكان في نهر التيمز.
١٨  كان المعتقَد أن المجنون بعض الناس، وقد وردَت عبارةٌ مماثلة في مسرحية «أنطونيو وكليوباترة» (شيكسبير) في الفصل الثاني، المشهد الخامس، السطر ٨٠: «ادعُ العبد أن يرجع؛ فأنا على ما بي من جنون لن أعَضَّه!»
١٩  في الأصل cure تعني علاج الخطيئة أو التكفير عنها، وهو واجب قسيس الأبرشية. والترجمة تُورِد المعنى المزدوج المضغوط في التورية، في كلمتَين منفصلتَين.
٢٠  وجود الملك في هذه الحفلة من ابتداع شيكسبير؛ فالملك لم يحضر الحفلة، ولم يقابل آن بولين فيها!
٢١  باعتبارهم من الرعاة، حسبما وردَ في الإرشادات المسرحية.
٢٢  بوب يُغيِّر ترتيب العبارات في هذه الإجابة على النحو التالي:
«إذا سمح لي جلالة مولاي، إنها ابنة السير توماس بولين فايكاونت روتشفورد، وإحدى وصيفات الملكة.»
أما في طبعة الفوليو (التي تتبعها طبعة البنجوين) فالسطران ثلاثة أسطر وفقًا لما هو وارد في الترجمة. وقد فضَّلتُ اتِّباعَ ما جاء في الطبعة القديمة والالتزام به.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤