سعد في حداثته

انتهز المؤلف فرصة وجود حضرة صاحب المعالي محمد فتح الله بركات باشا في «منية المرشد» في هذا الصيف، فزاره في شهر أغسطس الماضي ١٩٢٩، وقام بهذا البحث عن حداثة الفقيد المغفور له سعد زغلول باشا، وقد زار لأجل ذلك أيضًا بلدة «أبيانة» التي ولد فيها الزعيم الأكبر وحادَثَ بعضًا من الذين عاصروه فيها، ثم ضم أقوالهما إلى ما وقف عليه من معالي فتح الله باشا في هذا الصدد.

***

(١) موقع بلدة أبيانة

تقوم بلدة أبيانة الآن على شاطئ فرع رشيد من جهته الشرقية وفي شمال مدينة فوه، وهي في موضعها الحاضر تشبه موضع بيت الأمة بالنسبة لنهر النيل، وترجع في إدارتها إلى مركز فوه من أعمال مديرية الغربية.

وقد كانت أبيانة في عصر الفراعنة الأقدمين شطرًا من بحر الروم المعروف الآن بالبحر الأبيض المتوسط، فلما انحسر الماء عنها بِرُسُوب طمي النيل، ظهرت قطعة من الأرض بشكل جزيرة في البحر، فأنشئت عليها تلك البلدة وكانت تعتبر يومئذٍ من ضواحي مدينة متليس العظيمة؛ حيث تقوم اليوم مدينة فوه، وكان فرع النيل الغربي الذي هو فرع رشيد الآن، والمعروف قديمًا بالفرع البليوتيني، ينتهي إلى هذه المدينة قبل ظهور مدينة رشيد، وبلغ من عمرانها في القرن الخامس عشر للميلاد أنها صارت أعظم مدينة في مصر بعد القاهرة، حتى إن القناصل الأجانب اتخذوها مقامًا لهم بعد الفتح العثماني.

(٢) الوصول إلى أبيانة

وقد سلكت للوصول إلى أبيانة طريق دسوق بالسيارة من دمنهور، فبلغتها بعد مسيرة ساعة ونصف ساعة، ولما كان معالي فتح الله بركات باشا يمضي جانبًا من فصل الصيف في أراضيه الواسعة في منية المرشد، وهي تبعد عن أبيانة نحو عشر دقائق بالمركبة، استصوبتُ أن أستهلَّ بحثي بزيارةِ معاليه أولًا لأقف منه على ما تحويه حافظته النيرة من المعلومات والذكريات، واثقًا من أنها ستكون أكبر مُعين لي على تحقيق غايتي؛ لِما كان بين معاليه والمغفور له خاله العظيم من روابط الصداقة والألفة المتينة، ويرجع تاريخ هذه الصلة الوثيقة التي كانت تربط أحدهما بالآخر إلى الأيام التي كانا يلعبان فيها مع المغفور له أحمد فتحي زغلول باشا، إما في دار آل بركات في منية المرشد أو في دار آل زغلول في أبيانة نفسها، فرحب معاليه بالفكرة التي حدت بي إلى زيارته، وأفاض في الإفضاء إلي بذكرياته. وكان كلما استرسل في كلامه، ازداد إعجابي بمقدرته على امتلاك ناصية حديثه، وهو ما يَعترف له به خصمه قبل صديقه.

(٣) أسرة زغلول في أبيانة

وكان أول ما اهتممت بمعرفته من فتح الله باشا، هل عنده أو عند أحد غيره من أفراد أسرته أو أسرة خاله ما يستدل منه على أصل أسرة زغلول أو على تاريخ السنة التي نَزَحَت فيها إلى أبيانة، فأجابني سلبًا، ولكن يؤخذ من قرائن شتى أن أسرة زغلول ليست قديمة العهد في أبيانة، وأن تاريخها فيها لا يرجع إلى أبعد من قرن ونصف قرن على الأكثر، أما موطنها قبل ذلك العهد فمجهول.

فسألت فتح الله باشا هل يعلم لماذا أُسْمِيَ سعد بهذا الاسم، فأجاب بأنه عَلِمَ بعد البحث أن أول رجل من أسرة زغلول ظهر في أبيانة كان اسمه سعد. فقلت وهل كان سعد يحب هذا الاسم؟ فقال: لا أذكر أنه أبدى مرة واحدة ارتياحه إليه، بل إنه كان يتضايق منه في شبابه؛ إذ يظهر أن سعدًا الأصلي لم يكن خليقًا بهذا الاسم.

وذكرتُ لمعالي محدثي أن بعضهم يدَّعي أن سعد باشا لم يَزُرْ أبيانة إلا مرة واحدة بعد رحيله عنها وهو شاب، وذلك لما خفَّ إليها في سنة ١٩١٠م ليكون في استقبال سمو الخديوي السابق عند زيارته لها. فقال فتح الله باشا على الفور: «هذه رواية لا تطابِق الحقيقة بتاتًا؛ فإن سعد باشا كان يكثر من تردده على مسقط رأسه كلما سمح له وقته بزيارة أهله، فإنه لما كان يتلقى العلم في الأزهر الشريف كان يجيء إلى أبيانة في كل عطلة صيفية مستصحبًا معه جماعة من أصدقائه أمثال الشيخ محمد عبده وقاسم أمين وإبراهيم اللقاني والشيخ عبد الكريم سلمان، الذي صار فيما بعد مفتشًا عامًّا للمحاكم الشرعية وغيرهم. ولما اشتغل بالمحاماة كان لا ينقطع عن زيارة أبيانة من وقت لآخر حتى إذا تربع في كرسي الوزارة زارها غير مرة، ورافقه إليها في إحدى تلك المرات المغفور له مصطفى فهمي باشا، وأقام معه فيها سبعة أيام.»

(٤) سعد في الجبة والقفطان

فسألت فتح الله باشا عن أقدم ذكرى يتمثلها في مخيلته المغفور له سعد باشا، فأجابني بقوله إن أقدم صورة مرتسمة في ذهنه للفقيد العظيم هي منظره وهو يتأهب للرحيل إلى القاهرة لكي ينتظم في سلك الأزهر الشريف، بعدما انتهى من حفظ القرآن الكريم في الكتَّاب الوحيد الذي كان موجودًا في أبيانة في ذلك الحين، وكان رحمه الله يلبس يومئذٍ الجبة والقفطان والعمامة، فانتهزتُ هذه الفرصة لأسأل معالي محدثي عن التاريخ الذي خلع فيه سعد باشا الملابس العربية واستبدل بها الملابس الإفرنجية، فأجاب قائلًا: «إن المرجَّح جدًّا أن سعد باشا استعاض عن زيه العربي بالزي الإفرنجي قبل وقوع الثورة العرابية بسنة.»

فقلت لفتح الله باشا: «وهل تحفظون معاليكم أو هل يحفظ أحد من أقاربكم ثوبًا من الأثواب الوطنية التي كان الفقيد العظيم يلبسها قبل ارتدائه الملابس الإفرنجية؟» فقال إنه لم يبقَ من ملابس سعد العربية سوى جبة حمراء، وهي محفوظة اليوم في بيت الأمة مع سائر مخلفات دولته.

(٥) الرئيس الجليل في الكتَّاب

فقلت لمعالي محدثي إنه من الثابت أن سعد باشا حفظ القرآن في الكتَّاب الذي كان موجودًا في أبيانة، فهل يزال هذا الكتاب قائمًا أو هل يزال صاحبه عائشًا؟ وإذا كان قد انتقل إلى جوار ربه، فهل هناك بين سكان أبيانة الحاليين من كان يتردد على ذلك الكتَّاب مع سعد باشا في شبابه؟

فقال فتح الله باشا: «إن المنزل الذي كان يقول فيه ذلك الكتاب قد انهارت أركانه، وليس بين سكان أبيانة الأحياء مَن عاصر سعدًا في ذلك العهد، ولكنني أعرف نجل الفقي أحمد زيدان الذي أنشأ الكتَّاب المذكور، واسمه أحمد زيدان كأبيه، وقد دخل الكتَّاب قبيل خروج سعد باشا منه، وهو الشخص الوحيد الذي لا يزال على قيد الحياة ويذكر شيئًا عن أيام الفقيد العظيم في الكتَّاب، فإذا كنتم ترغبون في الاجتماع به ففي استطاعتي أن أدعوه إلى موافاتكم هنا غدًا صباحًا.» فشكرت معاليه على عنايته وأعربت له عن رغبتي في مشاهدة أحمد زيدان المذكور في أقرب وقت ممكن.

وسألت فتح الله باشا: «هل انتقل سعد باشا يومئذٍ من أبيانة إلى القاهرة رأسًا، أم قصد قبل ذلك إلى جهة أخرى؟» لأنني فهمت من سياق حديثه أنه رحمه الله لم يتوجه إلى العاصمة مباشرة، فقال معاليه: «إن هذه نقطة لم يلتفت إليها أحد من الذين كتبوا عن سعد باشا قبل الآن، فإن الفقيد العظيم لم يذهب إلى القاهرة رأسًا كما هو المفهوم، بل ذهب أولًا إلى دسوق ليتلقن أصول تجويد القرآن الكريم على المقرئ الشهير الشيخ عبد الله عبد العظيم، مقرئ معهد سيدي إبراهيم الذائع الصيت، فأقام فيها فترة قصيرة من الزمان ثم استأنف سفره إلى العاصمة.»

(٦) حديث العم أحمد زيدان

وفي صباح اليوم التالي بعدما استيقظتُ من النوم وتناولتُ طعام الفطور، جاءني أحد الخدم وأبلغني أن فتح الله باشا ينتظرني في حديقة الدار، فأسرعتُ إليه فألفَيْتُه جالسًا مع شيخ في العقد السابع من عمره لابسًا الملابس العربية، ولما دنوتُ منه لأحييه قال لي معاليه وهو يشير إليه: «هذا هو العم أحمد زيدان الذي تبحث عنه، فَسَلْهُ ما تشاء.» فصافحت زميل سعد القديم وجلست على مقربة منه أطرح عليه السؤال تلو السؤال عن حداثة فقيد مصر العظيم.

فأخبرني أنه في نحو الثانية والستين من عمره، وأن سعدًا كان يتقدمه في السن ببضع سنوات، وأن والده هو الذي أنشأ الكتَّاب الذي تعلَّم فيه سعد القرآن الكريم، وأن عدد التلاميذ الذين كانوا يترددون على الكتاب كان يناهز التسعين، وأنه عندما يغلق عينيه ويعرض ذكريات تلك الأيام في مخيلته يشاهد الفتى سعد زغلول حاملًا لوح الخشب بيده، أو ماضيًا في تسميع القرآن الكريم لأستاذه. ومما يذكره عنه أيضًا، كأنه يراه اليوم ماثلًا أمامه، أنه كان يميز عن إخوانه بطول قامته ونحولة جسمه.

(٧) مقدرة سعد على حفظ القرآن

ويقول العم أحمد زيدان، بعدما يُشهد الله على صدق ذمته وصحة أقواله، إن سعدًا امتاز منذ عهده الأول في الكتاب بذكائه ونجابته وقوة ذاكرته، وإن «لوحته» لم تكن تمرُّ على «الأستاذ» إلا مرة واحدة ليصححها، في حين أن لوحات الآخرين كانت تمرُّ عليه مرات، وإنه أجاد حفظ القرآن الكريم حتى بزَّ جميع أقرانه بمراحل، وبلغ من جبروته على نفسه أنه كان ينشد ثلاثة أرباع المصحف كل يوم؛ فكان ينشد ربعًا قبل الظهر، وربعًا بعد الظهر، وينشد الربع الثالث في المساء. وكان الأستاذ يلح عليه بالاكتفاء بربعين في اليوم فيأبى ويصر ويظل مقيمًا على عناده، إلى أن يجيبه الأستاذ إلى طلبه ويجلس إزاءه ليصغي إلى إنشاده، واستمر سعد على هذا المنوال سنة كاملة، وهي آخر سنة كانت له في ذلك الكتَّاب.

فسألت العم أحمد زيدان عن السن التي كان فيها سعد باشا لما انتقل إلى القاهرة، فقال أنه يجهل هذه التفاصيل ولكن سعدًا كان قد بلغ أشده في ذلك الحين.

فقلت لزميل سعد القديم: «وهل كان زملاء سعد يحبونه؟» فقال: «إنهم كانوا يحترمونه أكثر مما كانوا يحبونه؛ لأن الحسد كان يملأ قلوبهم منه، فكان إذا غاب يومًا عن الكتَّاب هللوا وصفقوا ودخلوا على والدي وهم يصيحون: «الخيبة غاب النهارده يا أستاذ».»

(٨) سعد باشا «خيبة» في اللعب

فقلت للعم أحمد زيدان: ومن كانوا يعنون بلفظة «خيبة»؟ فقال ببساطة: «سعد باشا.» فقلت: «كيف كان سعد باشا ذكيًّا ومجتهدًا كما قلتَ قبلًا، وكيف كانوا يسمونه خيبة كما تقول الآن؟» فضحك العم أحمد زيدان وقال: قد كان ذكيًّا في داخل الكتَّاب، ولكنه كان خيبة في اللعب، وخصوصًا في لعب الكرة، وكان من المحقق أن الفريق الذي يلعب معه يخسر دائمًا؛ ولذلك سموه خيبة على سبيل المداعبة والمزاح، حتى إن والدي كان يلتبس عليه الأمر أحيانًا فيناديه في بعض الأيام بقوله له: «تعالَ يا خيبة»، ثم يفطن إلى خطئه فيقول حالًا: «طيب تعالَ معلهش.»

وزاد العم أحمد زيدان على ما تَقدَّم قولَه إن سعد باشا كان يرهب جانب والده (العم أحمد زيدان الكبير)؛ لأن والدته الست مريم زغلول كانت تعهد إليه أحيانًا في تأديبه عندما تغضب عليه لمسلكه في البيت، وهو يذكر أنه رآه مرة مطروحًا على الأرض موثوق اليدين ووالده (أي العم أحمد زيدان الكبير) ينهال بالجريد على قدميه؛ عظة له وعبرة ولغيره من زملائه.

وهنا ابتسم فتح الله باشا وقال: «صحيح! ياما خدنا ضرب، وكان يكفي أن يذكروا أمامنا اسم الفقي لنرتعش خوفًا وجزعًا.»

(٩) سعد وفتحي وفتح الله

وبعدما انتهيت من حديثي مع العم أحمد زيدان، التفتَ إليَّ فتح الله باشا وقال: هذه أول مرة أسمع فيها حكاية اسم «خيبة» عن سعد باشا، وقد كان سعد باشا ينفر حقيقة من اللعب واللهو في ذلك الزمان، وكثيرًا ما كان يغضب على أخيه فتحي باشا لأنه كان يجاريني في لعبي، وكانوا إذا سألوه لماذا يُعرِض عنا في معظم الأحيان يجيب السائلين بقوله: «دول عيال مدلعين»، غير أنه كان يشترك معنا أحيانًا في اللعب، وخصوصًا عندما كنت أذهب لزيارتهم في أبيانة؛ فكنا نلعب في الفناء الذي يقوم عليه الآن سلاملك بيت سعد باشا هناك.

فسألتُ فتح الله باشا من باب التفكهة عن أنواع اللعب التي كان يلعبها مع سعد باشا وفتحي باشا، فقال: إننا كنا نلعب إما «الاستغماية» أو «الكرة».

(١٠) سعد باشا يرث أخلاقه

وأدى بنا هذا الحديث إلى الكلام عن أخلاق سعد باشا، فقلتُ لفتح الله باشا إن الفقيد اشتهر في حياته بعناده وصلابة رأيه وقوة شكيمته، فهل يعتقد أنه ورث هذه الصفات عن أحد من أهله؟ فقال معاليه: إن هذا مؤكد، ومما لا ريب فيه أنه ورثها عن جده الشيخ عبده بركاته (والد أم سعد باشا وجد فتح الله باشا من أبيه) وعن والده إبراهيم زغلول وعن خاله عبد الله بركات (والد فتح الله باشا) وسأسرد لكم حكاية واحدة عن كلٍّ منهم ثم أَدَعُ لكم أن تقارنوا بين أخلاقهم وأخلاق سعد باشا.

قال فتح الله باشا: «كان الشيخ عبده بركات جد سعد باشا مشهورًا في هذه المنطقة بسلطته ونفوذه، فغضب عليه المدير التركي في يوم من الأيام وأراد التشهير به، فجمع أعيان الدائرة بجوار ساقية من السواقي، ولما اكتمل عقدهم قال لهم: «لقد أرسلت أطلب من الشيخ عبده بركات أن يحضر إلى هنا، وإذا كنتم تعتقدون أن هذا الرجل عظيم وقوي البطش فأنتم مخطئون، وسترون الآن كيف سأعامله وكيف أنني لن أفرج عنه قبل أن يلمس وجهه الأرض.» ثم أتى برجل مغضوب عليه وأمر بربطه بقدمَي أحد الثورين الكبيرين اللذين يديران الساقية تعذيبًا له على مرأًى من الحاضرين، وما هي إلا فترة قصيرة حتى أقبل الشيخ عبده بركات على جواده ينهب الأرض نهبًا، وما كاد يترجل عن صهوة حصانه حتى لمح ذلك المنكود الحظ المربوط بقدمَي الثور، فأسرع إليه وفك رباطه وأطلق سراحه، فدهش الحاضرون وتوقعوا أن يأمر المدير بقطع رأسه، ولكن لم يكن من هذا إلا أن نهض واقفًا ورحب بالشيخ عبده مكرمًا وفادته، ثم التفتَ إلى الحاضرين وقال لهم: «أيها الجبناء، إن الشيخ عبده بركات الذي كنتم تنتظرون تنكيلي به لَأشرفُ منكم جميعًا؛ فقد كنتم ترون هذا الرجل يتعذب وهو مربوط بقدمَي الثور فلم يحرِّك أحدكم ساكنًا لإنقاذه أو لالتماس العفو عنه، فاهنأ يا شيخ عبده بشهامتك.» وانطلق عائدًا إلى ديوانه.»

(١١) الشيخ إبراهيم زغلول

ثم انتقل فتح الله باشا إلى الكلام عن الشيخ إبراهيم زغلول والد سعد باشا فقال: «حدث مرة أن عمدة في مديرية الغربية تعدى على موظف برتبة مأمور مركز، وكان المأمور يسمى يومئذٍ ناظر قسم، فصدر الحكم على العمدة بالإعدام شنقًا وبتعليقه ثلاثة أيام في ساحة المديرية عبرة لمن يعتبر، وكانت عاصمة المديرية إذ ذاك في المحلة الكبرى، واتفق بعد أيام أن ناظر القسم مرَّ على زراعة الشيخ إبراهيم زغلول، فأغلظ له في القول فاجتذبه الشيخ إبراهيم من فوق صهوة جواده وأثخنه ضربًا موجعًا ثم تركه يذهب في حاله، غير أن الحادث نمي سريعًا إلى صهره عبد الله بركات، فامتطى صهوة جواده وقصد إلى أبيانة، وقابل الشيخ إبراهيم زغلول ولامه على تصرفه وذكره بحادثة العمدة المشنوق، فلم يحفل بهذا اللوم وقال إنه كان يدافع عن كرامته، فأسرع عبد الله بركات بجواده حتى أدرك الناظر المضروب قبل أن يصل إلى الديوان فاسترضاه وانتهى الحادث.»

(١٢) عبد الله بركات وولكوكس

أما الحكاية الثالثة فكانت عن عبد الله بركات والد فتح الله باشا وخال سعد باشا؛ وخلاصتها أنه في سنة ١٨٩٠ كان المستر ولكوكس المشهور مفتشًا للري، وكان ذلك في أوائل عهده في خدمة الحكومة المصرية وقد تغير ماء النيل في جهة منية المرشد بسبب السد الذي كان يبنى في فرع رشيد، فصدر الأمر إلى أصحاب الوابورات الزراعية بألا يديروها بماء ترعة «البدالة» كما كانوا يفعلون قبلًا، بل من ماء النهر رأسًا، فأبى عبد الله بركات أن يذعن لهذا الأمر، وأوصى رجاله بأن يديروا وابوره من ترعة البدالة، فمرَّ بزراعته المستر ولكوكس فأمر بتوقيف الوابور، وبعد قليل مرَّ بها عبد الله بركات فأمر بإعادة تسيير الوابور بماء الترعة، ثم لم يلبث المستر ولكوكس أن مرَّ بها مرة ثانية فأمر بتوقيف الوابور، فعاد عبد الله بركات وأمر بتسييره، فعاد المستر ولكوكس وأمر بتوقيف الوابور للمرة الثالثة، فعِيلَ صبر عبد الله بركات، فجمع رجاله وقال لهم: «إنني ذاهب لأقتل المستر ولكوكس، فإنه خير لي أن أقتل بسببه على أن أرى أرضي تموت أمامي.» ومضى إلى مكتب المستر ولكوكس مسرعًا، فلما دخل عليه قال هذا: «ماذا فعلت يا عبد الله أفندي؟ فإنني كلما أمرت بتوقيف وابورك تأمر أنت رجالك بتسييره ومخالفة أمري؟!» فقال له عبد الله بركات: «وقد عدت الآن فأمرتهم بإعادة تسييره، وإنه لخير لي أن أموت هنا من أن أرى أرضي تموت أمامي.» فابتسم المستر ولكوكس وقال: «إن رأسك يا عبد الله أفندي كهذه (وأمسك مكتبه الخشبي بيده) فأنت رجل عنيد جدًّا، فارجع إلى وابورك وخذ له ماءً من الترعة كما تريد.»

(١٣) حَزْم سعد باشا وشجاعته

وما أتم فتح الله باشا كلامه حتى سألته عن أحزم موقف يعتقد أن سعد باشا وقفه في حياته، فقال: «مما لا ريب فيه أن حزم سعد باشا تجلى بأجلى مظهره في الخطبة السياسية الوطنية الجامعة الرنانة التي ارتجلها قبل إلغاء الحماية في جمعية الاقتصاد والتشريع السياسي على مسمع من المستشار القضائي الإنجليزي، وأعلن فيها بطلان الحماية وحق مصر في التمتع باستقلالها.»

figure
سعد يبتسم.

فسألته: «وما هو أشجع موقف وقفه سعد باشا في نظركم؟» فأجاب معاليه: «إنه بلا شك الموقف الذي وقفه عند مغادرته لميناء عدن إلى جزائر سيشل، فإنكم تعلمون أن سعد باشا نقل يومئذٍ وحده إلى البارجة التي أقلَّتْه إلى سيشل؛ إذ لم يسمح لأحد منا في بادئ الأمر بمرافقته إليها، وكان كلٌّ من الزملاء يتسابق إلى أن يكون في ركاب سعد، مع أن السائد على أفكارنا كان أنه ذاهب إلى الأبد، وأن من يبقى في عدن قد يعود إلى الوطن، فلما أزف موعد الرحيل رافقناه إلى الميناء ونحن نبكي ونولول كالأطفال، أما هو فكان رابط الجأش ساكن الجنان ثابت الخطى جهوري الصوت، لم يذرف دمعة واحدة حتى آخر لحظة، مع أنه كان يشعر في تلك الساعة أنه يودعنا الوداع الأخير، وأنه لن يعود إلى مصر بعد ذلك أبدًا.»

(١٤) دار سعد في أبيانة

وهنا كانت الساعةُ الثانية عشرة مساءً قد أزفت، فختم فتح الله باشا حديثه بأن أبلغني أنه أمر بإعداد مركبته لتكون تحت تصرفي في صباح الغد لتقلَّني إلى أبيانة لزيارة دار سعد باشا فيها، فكررت له الشكر على عنايته. وفي صبيحة اليوم التالي قبل أن أتوجه إلى أبيانة حدثني معاليه عن الدار التي ولد فيها سعد باشا، فقال إن الدار الأصلية التي رأى فيها الفقيدُ العظيم نورَ الحياة لم يَعد يبقى لها أثر، وكانت دارًا فسيحة وسعت في بعض الأحيان رب البيت وحرمه وأولاده الثمانية وسبعة عشر تابعًا، علاوة على الضيوف، وكانت تضم بين جدرانها جناحًا خاصًّا لنزولهم وإقامتهم.

وفي نحو سنة ١٩٠٠ هدم المغفور له سعد باشا البيت القديم وأعاد بناءه على الطراز الحديث، وهو البيت الذي يشغله «الحرملك» اليوم، وبنى رحمه الله السلاملك بجواره في الفناء الذي كان يلعب فيه فتحي باشا وفتح الله باشا، وقد وقف دولتُه هذا البيتَ على أولاد إخوته، ويقطن فيه الآن أنجال المرحوم عبد الله بك زغلول نجل المرحوم الشناوي أفندي زغلول، أخي سعد باشا.

(١٥) جولة في دار الفقيد العظيم

وبعد عشر دقائق كنت واقفًا أمام دار سعد باشا في أبيانة أسرح الطرف في البقعة التي ولد فيها زعيم مصر الأكبر، فالتفتُّ إلى محمد بك زغلول نجل المرحوم عبد الله بك زغلول وقلت له: «هل كان يظن سكان أبيانة أن الفتى سعدًا الذي رأى النور في هذه البقعة الوضيعة سيرفع يومًا علم الاستقلال في بلاده، وأن بيته سيصبح على مرِّ الأعوام كعبة يؤمها المصريون وحرمًا يقدسه الوطنيون؟» وهنا حانت مني التفاتة إلى الفناء المحيط بالدار، فألفيته مملوءًا بأكوام التراب وقد تصاعدت الروائح الكريهة من بعضٍ منها، فتوغلتُ في السير وكنت كلما تقدمتُ خطوة إلى الأمام أشاهد مظهرًا آخر من مظاهر الخراب الذي بدأ يسود ذلك المكان، أما البقعة التي كان يقوم عليها الجناح الذي ولد فيه سعد باشا في الدار القديمة، وتقع هذه البقعة الآن خلف «الحرملك» في مكان السور الذي يفصل الدار عن الطريق العام، أما هذه البقعة فلم تَعد في الواقع سوى أكوام مكدسة من الحجر والتراب، وقد تفشت منها بعض الروائح أيضًا، فاستولى عليَّ حزن شديد سيتسرب مثله إلى قلب كل من يقرأ هذه السطور التي تعجز عن وصف الحالة الراهنة، وليس من رأى كمن سمع! ولئن كانت الظروف لم تسمح لي بدخول الحرملك والسلاملك إلا أن في مظهرها الخارجي وحده ما يكفي لمضاعفة ذلك الحزن، فمتى يحل اليوم الذي يهتم فيه المصريون بمسقط رأس زعيمهم يا ترى؟ ومتى نراهم يشمرون عن ساعد العمل والجد ليصونوا ذلك البيت التاريخي من كل عبث وخراب؟

(١٦) من هو العم علي طلحة؟

وكان فتح الله باشا قد أوصاني قبل ذهابي إلى أبيانة بأن أبحث فيها عقب وصولي إليها عن شخص يدعى علي طلحة، عرف سعد باشا في حداثته، ثم رافقه إلى القاهرة كخادم بسيط لما كان الفقيد العظيم يشتغل فيها بالمحاماة، فلما اجتمعتُ بمحمد بك زغلول في أبيانة سألتُه عن علي طلحة المذكور، فأشار إلى رجل مسنٍّ صغير القامة نحيل الجسم كان يسير على مقربة منا وقال لي: «هذا هو علي طلحة.» فناديته وسألته هل يذكر سعد باشا فقال: «إذا كنتُ أنا لا أذكره فمن ذا الذي يذكره إذن؟!» ومما هو جدير بالذكر هنا أن والدة علي طلحة هي التي أرضعت سعد باشا وهو طفل، وكانت تُرضِع معه طفلتها التي ولدت في الوقت عينه، وكان اسم الطفلة «فرحانة»، فكانت أم علي طلحة تحمل «سعدًا» على ذراع و«فرحانة» على ذراع آخر، ويا لهما من اسمين بهيجين! وكأنَّ ريبًا خامر علي طلحة في الباعث لي على سؤاله عن ذكرياته عن سعد باشا، فسألني لماذا أريد سماعها فأخبرته بالغاية منها، فسُري عنه وأخذ يجاوبني على أسئلتي بصراحة.

(١٧) سعد وأخوه الشناوي أفندي

وقبل أن أنقل إلى القراء المعلومات التي أدلى بها إليَّ العم علي طلحة، تَحسُن الإشارة إلى أن الشيخ إبراهيم زغلول والد سعد باشا تزوج مرتين، فرُزِق من الزوجة الأولى خمسة بنين وهم: شلبي والشناوي وأحمد ومحمد وعبد الرحمن، ورُزِق من الزوجة الثانية: سعدًا وفتحيًّا وفرج الله، وقد توفي هذا الأخير وهو حدث.

ويقول العم علي طلحة إن الشيخ إبراهيم زغلول انتقل إلى جوار ربه ونجله سعد لم يناهز بعدُ الثالثةَ من عمره، فاهتم به شقيقه الشناوي أفندي، الذي كان ثاني أنجال الشيخ إبراهيم زغلول وأدخله الكتَّاب، ثم أرسله إلى القاهرة ليدخل الأزهر الشريف.

فقلت للعم علي طلحة: «أتريد أن تقول بذلك إنه لولا الشناوي أفندي لما كان سعد باشا قد دخل الكتَّاب وانتظم في سلك الأزهر؟»

فقال: «إنني لا أشك في ذلك.» فقلت: «هل لك أن تخبرني لماذا كان الشناوي أفندي هو الذي يهتم بشئون أفراد أسرته أكثر من غيره؟» فقال: «لأن سائر إخوته كانوا يشتغلون بالزراعة، أما هو فظل في البلد وصار عمدة.» فقلت: «وهل تستطيع أن تعلل سبب اهتمام الشناوي أفندي بسعد باشا وفتحي باشا أكثر من اهتمامه بسائر إخوته فسهر على تعليمهما بعناية؟» فقال: «إن لذلك ثلاثة أسباب: أولها أن الشناوي أفندي تزوج من شقيقة زوجة أبيه الثانية؛ أيْ من شقيقة والدة سعد وفتحي، فكان من الطبيعي أن يعطف عليهما عطفًا خاصًّا بحكم هذه الصلة. أما السبب الثاني فكان ينحصر فيما شاهده الشناوي أفندي في سعد وفتحي من الذكاء المفرط منذ نعومة أظفارهما، ويلي ذلك السببُ الثالث وهو أن سعدًا وفتحيًّا كانا أصغر إخوتهما سنًّا، فكان هناك مجال لتعليمهما وتثقيف عقليهما.» فقلت: «إن هذه الأسباب الثلاثة وحدها لا تكفي، ولا بد أن الشناوي أفندي كان طيب القلب.» فقال العم علي طلحة على الفور: «أما عن طيب قلبه فحدِّث ولا حرج؛ ومن ذلك أنه لما ذهبت إلى العاصمة في خدمة سعد باشا بلغه يومًا أنني مريض ومتعب، فسافر إلى القاهرة وعادني ولما رآني في حاجة إلى تبديل الهواء عاد بي إلى هنا وكان يسهر على معالجتي كأني شقيقه.»

(١٨) سعد باشا وكيف أَحبَّ العلم

فسألتُ العم علي طلحة: «وهل كان سعد باشا ميالًا إلى الدرس والحفظ؟» فأجاب: «إنه أبى أن يذهب إلى الكُتَّاب في بادئ الأمر، فلم يكن من الشناوي أفندي إلا أنِ «اتَّكَّ» عليه، فاضطر إلى الإذعان لرغبته، وكان كلما تكاسل في فروضه «يتَّك» عليه ويضربه، فلم يَنْقَضِ على دخوله الكتَّاب وقت قصير حتى بدأ يتلذذ بتوسيع مداركه ومعارفه، فأكب على الدرس والحفظ بعناية واجتهاد، ولم يلبث أن أصبح «ألفة» الكتَّاب، فازداد شغفه بالعلم والتحصيل، فلما كاشفه الشناوي برغبته في إرساله إلى العاصمة ليدخل الأزهر، رقص للفكرة من شدة فرحه رغم الحزن الذي استولى على الست مريم بسبب فراقه.» فقلت للعم علي طلحة: «وما هي أوقع ذكرى تركها سعد باشا في نفسك؟» فتردد قليلًا ثم قال: «كان شديدًا … لا يعذر من يتوانى في تأدية الواجبات الملقاة على عاتقه.» فقلت: «وهل كان الباشا شديد التدقيق في مأكله؟» فقال: «إنه لم يعرف هذا التدقيق إلا بعد مرضه، أما قبلًا فإن أحب أنواع المآكل إليه كان السمك، فلما مرض صار يُكثر من أكل الفراخ مع الخضار.» فقلت: «وهل كان دولته يُفْرط في التدخين؟» فقال: «كثيرًا، حتى إنك كنت تشم رائحة الدخان في ملابسه بعد عودته إلى بيته، ولكن الغريب أنه أبطل التدخين دفعة واحدة لما أثبت له الأطباء أنه مضر بقلبه حتى صار يعتقد أنه لا يستطيع شم رائحته، وفعلًا كان يحظر على زواره أن يدخنوا في مكتبه.»

وختمت حديثي مع العم علي طلحة بأن قلت له مبتسمًا: «وهل أنت سعيد يا عم علي لأنك عرفت سعد باشا هذه المعرفة الوثيقة؟» فقال: «وهل كانت لنا بركة غيره؟!» فقلت: «ومن تقصد بلفظة لنا هذه؟» فقال: «البلد كلها … يعني مش عارف؟!» وهنا انهمرت الدموع من عينيه فغدا لا يقوى على الكلام، فوضع يديه على وجهه وابتعد عنا وهو ينتحب.

•••

ولما انتهت مهمتي في أبيانة قفلت راجعًا إلى منية المرشد؛ لأستأذن من فتح الله باشا في العودة إلى العاصمة شاكرًا لمعاليه ما لقيته من حفاوته وإكرامه وحسن رعايته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤