النقد١

في إنجلترا مجلة أدبية.

ولا يعجب القارئ هنا من صيغة هذا الخبر، فإن بقاء مجلة أدبية في هذه الأيام في أي مكان خبر يذاع كما تذاع غرائب الأخبار! فقد أصبحت قراءة الأدب البحت أندر القراءات، وأصبح قيام مجلة مقصورة على قراءة الأدب في إحدى اللغات أعجوبة يشار إليها بين الأعاجيب! نعم حتى ولو كانت هذه اللغة أسير اللغات وأكثرها قراء وكتابًا كاللغة الإنجليزية التي يتكلمها ويعرفها أكثر من مائة وخمسين مليونًا في العالم الأرضي، والتي يصح أن يقال إن أمتها هي أرقى الأمم قاطبة في هذا الزمان، فليست المسألة هنا مسألة ارتقاء أو هبوط، ولا مسألة قوة أو ضعف، ولا مسألة سيادة أو استعباد، ولكنها هي داء فشا في هذا الزمان لا يوائم الآداب الرفيعة ولا الآداب الرفيعة توائمه، وهو فيما أحسب من أدواء الشعبية والحرية في دورهما هذا العارض بين النشوء القريب، والنضج السوي المنظور.

فالذين يشكون ركود الآداب في أمم الشرق يخطئون إذا حسبوا هذا الركود من الأدواء الموضعية، أو من عوارض الضعف والجهالة، ويطمئنون — إن كان في ذلك داعية اطمئنان — حين يعلمون أن أقوى الأمم وأعلمها في أيامنا هذه تضعف عن احتمال مجلة واحدة تجد في الكتابة ولا تهزل، وتعنى بالتثقيف ولا تعنى بالتسلية، ولست أعلم علم اليقين والتفصيل ما الحال في فرنسا وإيطاليا وألمانيا، ولكنني أعلم عن إنجلترا ما فيه الكفاية وأعرف أن مجلات كثيرة اعتمدت هناك على الآداب الرفيعة فبقيت حينًا تغالب الكساد والخسارة، ثم احتجبت أو امتزجت إحداهن بأخرى ليتآزرا على الظهور ويتعاونا على النفقة، ولم يبقَ من المجلات على رواج يكفل النفقة والربح الجزيل إلا مجلات اللغو والثرثرة وصحف الفضول والمجانة، فهذه — مع الآداب التمثيلية التي تلهو بها الجماهير — هي آداب الجيل الحاضر التي صرفت الناس عن آداب الجد والرصانة، وحظيت عندهم بالإقبال الذي ليس بعده إقبال.

ما سر هذا الإدبار الغريب بعد تلك النهضة العالية التي بدأت فيما بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وبشرت يومئذ بمستقبل زاهر سعيد؟ السر كما قلت آنفًا هو الشعبية والحرية في دورهما الحاضر بين النشوة والاستواء، فإن الشعبية قد جعلت الحكم في القراءة لكثرة الجماهير، وهي في جهلها المشهور وسقم ذوقها المأثور لا تفقه من الآداب إلا اللغو والمجانة، ولا تخال أنها مطالبة بالإصغاء إلى المرشدين والمهذبين، أما الحرية فمعناها الساذج المفهوم اليوم هو أن يكون الإنسان وحده قائمة بذاتها منقطعة بدخائلها لها حقوقها وعليها واجباتها، ولا شأن لها بأحد ولا شأن لأحد بها، ومعناها الساذج كذلك أن تكون أنت مستقلًّا من الناس بهمومك وأشجانك وغير متصل بهم، إلا فيما يتعلق بمنافعك وأعمالك فليس ما ينوبك أو ينوبهم إلا سرًّا مقفلًا تطويه الصدور، وليس ينبغي أن يكون الحديث بينك وبينهم إلا لغطًا تنقضي به الساعات وتوصل به فترات اللعب والسرور، وما تسمعه في الأندية والمجالس في هذا المنوال تقرؤه في الكتب والصحف ثم تعود إلى التحدث به في الأندية والمجالس دواليك بغير اختلاف! ومتى سكت صوت العطف وبطلت شجون النفس فلعمري ماذا بقي للآداب والأدباء؟ إنما قوام الآداب منذ خلقها الله العطف وأحاديث النفوس، وما صنع الشعراء العظام منذ ظهروا في هذه الدنيا إلا أنهم يبثوننا موجدة نفس آدمية، ويجتذبون أسماعنا إلى نجي لا يروق اليوم في الأندية والمجالس ولا على المسارح وصفحات الأوراق، وزد على ذلك أن الحرية هي في عرف الكثرة الغالبة أن يصنع الإنسان ما يشاء ولو جاوز حدود العفة والحياء، ومتى ارتفع حجاب الحياء فأي حديث شريف يسمع في ضوضاء الفتنة ولجب البهيمية والهراء؟ لا حديث إلا ما يشغل الإنسان بأوضع ما فيه عن أرفع ما فيه، ويجعل الجد النبيل في حكم الرزانة المكروهة بين السكارى المعربدين والبغاة القاصفين.

تلك آفة الجيل الحاضر ستجري مجراها إلى حين، ونعود إلى خبرنا الغريب الذي لا يزال في انتظار الإتمام!

في إنجلترا مجلة أدبية تسمى «الكتي» تصدر كل شهر مرة، وتسكتب مشاهير الأدباء في طرف وأفانين يحمدها القارئ العجلان، ولا ينكرها القارئ الحصيف. سألت هذه المجلة بعض النقاد والقصاص والموسيقيين والمصورين رأيهم في النقد، وأثره في الابتكار والتشجيع وهل هو من عوامل الحث والنشاط أو من عوامل التثبيط والركود، فكانت الأجوبة من أولئك الذي خبروا النقد وذاقوا حلوه ومره دليلًا على شيء، إن لم يكن هو الحق في هذا الباب فهو على الأقل موضع للتأمل والاعتبار.

قال ستيفن لكرك: «لا أحسب أن للنقد أقل قيمة! وكل ما يحتاج إليه الكاتب في المثابرة هو المداد والبخور، ومع هذا قد لا تكون لعمله قيمة؛ لأنه ربما كان لا يحسن الكتابة، ففي هذه الحالة لن يستطيع كل نقاد الدنيا أن يجدوا عليه المثابرة ولا الثناء.»

ولكن خير مشجع لما في نفوسنا من الملكة الفنية هو الثناء. إذ حياة الفن إعجاب وتقدير، فلا أخال روبنسون كروزو قد كتب حرفًا وهو في عزلته بتلك الجزيرة!

أما أنا فالذي أحتاج إليه حين أنوي الكتابة الفكهة أن أجد إلى جانبي إنسانًا يقول: «يا لله! هذا ظريف!» فإن لم أكن كتبت شيئًا ظريفًا إلى تلك اللحظة فإني كاتبه بعد ذاك!

وقال ملن بعد أن ذكر أن أكثر النقاد إنما يلومون زيدًا؛ لأنه لا يكتب مثل عمرو، ويلومون عَمْرًا لأنه لم يكتب مثل زيد: «إن النقد الوحيد الذي قد يساعد المنقود أية مساعدة هو ما يجيء من ناقد أقام الدليل على أنه يألف شخصية المؤلف وأسلوبه ونظرته إلى الحياة، ثم هو يأسف لأن ذلك المؤلف قد تخطى شخصيته في هذا الموضع أو ذاك، ولكن هذا النمط من النقد نادر، وهو مع ندرته لا يسهل على المؤلف أن يستفيد منه، إذا كانت كبرى حاجته هي الثناء.»

وقال جون هاسال المصور: إنه لم ينتفع قط بالنقد؛ لأن طريقة التصوير الحديثة بالألوان المائية ليس لها مراجع يعتمد عليها النقاد في البلاد الإنجليزية.

وقال جيرالد جولد الناقد: إنه يتكلم باعتباره كاتبًا ناقدًا فيقول: إن للنقد الإنجليزي اليوم منزلة عالية، وإن الغبن الذي يلقاه بعض المؤلفين عن حقد أو حماقة لا يذكر إلى جانب ما قد يحف بهم من الفهم والسخاء.

وقال نورمان أونيل الموسيقي: «كان أقوم الانتقادات التي تلقيتها على أعمالي ما جاءني من قبل إخواني الموسيقيين، ولكنني أقول إن التقدير هو الماء والغذاء لمعظم الفنانين.»

وقالت السيدة أ. دوجلاس: إنها لولا مقال تقريظ قوبلت به أولى رواياتها لكان أكبر ظنها أنها ما كانت لتثابر على الكتابة.

وقال سسل روبرتس الناقد: «أجترئ على أن أقول بلا تلعثم أن ليس للنقد أية قيمة ما لم يكن مشفوعًا بثناء، وأنني قد جربت في النقد على أن أدع الكتاب وشأنه، إن لم يكن في طاقتي أن أقول فيه كلمة طيبة بين ثنايا المراجعة.»

هذه آراء طائفة من أشهر الفنانين في البلاد الإنجليزية يجنح أكثرها إلى جانب الثناء، ويستصغر أثر النقد في الابتكار والتشجيع، وأصوبها على ما أعتقد هو رأي ملن الذي قال: «إن النقد الوحيد الذي قد يساعد المنقود أية مساعدة، هو ما يجيء من ناقد أقام الدليل على أنه يألف شخصية المؤلف وأسلوبه ونظرته إلى الحياة، ثم هو يأسف لأن ذلك المؤلف قد تخطى شخصيته في هذا الموضع أو ذاك.»

فليس المؤلف المطبوع بحاجة إلى الثناء ولا إلى النقد، ولكنه بحاجة إلى الألفة والفهم أو هو على الأصح بحاجة إلى المجاوبة والمجاذبة من النفوس التي تفهم طبيعته فهم وفاق أو فهم خلاف، فقد تكون أنت على خلاف طبيعته في أكثر الأشياء، ولكنك إذا فهمته وجاذبته الرأي أيقظت قواه، وأحييت ملكاته وأعنته على عرفان نفسه والإخلاص لسريرته، وربما كان هذا الخلاف أذكى وأجدى عليه وأظهر أثرًا في التسجيع والتوليد من محض الثناء والإعجاب، فإنما حاجة الفنان أن يحس الحياة بكل جوانبها، وهو لن يحسها حق الإحساس ما بقيت نفسه مغلقة في غلافها لا تتصل بغيرها على وفاق أو خلاف، ولا يرى أثرها في النفوس على إعجاب وإنكار ولا تزال كلما أرسلت إلى الملأ برسول ذهب إلى حيث لا يرجع، أو رجع إليها مثقلًا بالخيبة والكنود، فأما إذا هو اتصل بمن يوافقه فعرف نفسه مكررة في غيره أو اتصل بمن يخالفه فسبر قوته وراض دخيلة طبعه، فتلك هي المرانة التي تحييه وتستجيشه وتنقذه من شلل البطالة والجمود الذي يصيب القرائح والعقول، كما يصيب الأجسام والأعضاء.

فالنقد الصحيح هو الذي يفطن إلى شخصية المنقود، ويألف عيوبها كما يألف حسناتها ويطالبها بالأمانة لتلك العيوب، كما يطالبها بالأمانة لتلك الحسنات؛ وأجمل الإنصاف أن تصاحب المؤلفين الذين تتخيرهم على هذه الشريطة فترضى بخيرهم وشرهم، وتترقب آياتهم وزلاتهم وتماشيهم على خبرة بما يسرون به وما يسوءون، فإن أحسنوا فنعم ما فعلوا وإن أخطئوا خطأهم المألوف فقد تبتسم لهم كما يبتسم الصديق لصديق يثوب حينًا بعد حين إلى لازمة فيه مضحكة أو شنشنة تعرفها من أخزم! وفي هذه الحالة قد تلذنا العيوب كما تلذنا الحسنات، بل قد نبحث عن تلك العيوب ونتحراها كما نستثير أحيانًا لوازم أصدقائنا لنعبث بها في براءة وإشفاق.

لهذا يعيش بعض الشعراء مذكورًا مألوفًا بمائة بيت تروى له وتدل عليه، ولا يعيش غيره بعشرة دواوين تحفظها المكاتب والقراطيس؛ لأن الأول قد استطاع ان يدل على شخصه بأبياته المائة، فاقترب إلى النفوس وأصبح مفهومًا عندها على الصداقة والإلفة التي تغفر الزلة وترضي كل خلة، ولم يستطع الآخر أن يكون صديقًا مألوفًا لقرائه، بل ظل صاحب أشعار وقصائد ليس إلا فخفي شأنه، وعاش أو مات بمعزل عن أولئك القراء.

ولكن كيف ترانا نهتدي إلى الفنان الذي يستحق منا الصداقة واغتفار العيوب؟ أترانا نصادق كل مؤلف، ونغفر كل عيب لأنه عيب! أم أن هناك غرضًا نتوخاه قبل سواه من النقد والاطلاع؟ وماذا يكون ذلك الغرض الذي يحسن بنا أن نتوخاه؟

الجواب بديهي لا يطول بنا التنقيب عنه: إن النقد هو التمييز والتمييز لا يكون إلا بمزية، والطبيعة نفسها تعلمنا سننها في النقد والانتقاء حين تغضي عن كل ما تشابه، وتشرع إلى تخليد كل مزية تنجم في نوع من الأنواع، فسواء أنظرنا إلى الغرائز التي ركبتها في مزاج الأنثى أم إلى الغرائز التي ركبتها في مزاج الفنان — وهما المزاجان الموكلان بالإنتاج والتخليد في عالمي الأجسام والمعاني — فإننا نجد الوجهة في هذا وفي ذاك واحدة، والغرض من التخليد هنا وهناك على اتفاق، أما هذه الوجهة فهي الالتفات إلى المزية البارزة التي تظهر على غمار المتشابهات والمنكرات، وأما هذا الغرض فليس هو إلا حفظ المزايا وتخليد النماذج وتنويع الصفات، فالنقد الخالق هو النقد الذي يجري على سنة الطبيعة، أو هو النقد الذي يعنى بحفظ النماذج وتخليدها، ويعرض لنا «الشخصيات» التي تبرز في الحياة بعنوان جديد، وقد تكون مزية هذه الشخصيات أنها تريك الأشياء الدارجة كما هي بلا زيادة ولا تجميل، فلا تعجب لذاك ولا تحسبه تناقضًا في مقاصد الطبيعة، فإن رؤية الأشياء الدارجة كما هي ليست من الدارج المألوف بين أصحاب الشخصيات والملكات.

جِدِ الشخصية أولًا وكن أنت جديرًا بإيجادها، ثم كن على ثقة أنك واجد لا محالة ذلك المنقود الجدير بأن تحصي له الحسنات والعيوب، وهنا قد يكون المنقود شاعرًا، وقد تقرأ شعره بيتًا بيتًا فلا تقع فيه على بيت رائع أو معنى خالب أو أسلوب رشيق، ولكنك إذا جمعته كله وقعت منه على شخصية برزت فيها الحياة بنموذج معزول ذي عنوان ظريف، فهذا الشعر هو الذي يحفظ ويخلد؛ لأنه نموذج حي لو ظهر في عالم الأجساد لبادرت الطبيعة إلى الإغراء بالنظر إليه والإغرام بحفظ نوعه والتنويع في صفاته، أما في جماعة اللفظيين والحرفيين الذين ينقلون النقد من الشاعر إلى شعره، فهؤلاء يدعون الشيء ليلهوا بظله، وينتقلون من الحياة إلى ما ليس له في ذاته حياة.

وكأنا قد انتهينا إلى أن النقد الخالق هو ذلك النقد الذي يهتدي إلى «النماذج» في عالم الآداب والفنون، وأن وظيفته هي إحياء كل نموذج يهتدي إليه بمجاوبته وإذكاء فضائله وشحذ ملكاته، ولن يكون الناقد على هذه الصفة إلا إذا كان هو نموذجًا من الطراز الممتاز لا من الطراز الدارج المألوف.

١  ٢٨ يناير سنة ١٩٢٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤