في الثقافة الإسلامية

أوفى الكتب العربية قاطبة لمن أراد الاطلاع على ثقافة الدولة الإسلامية، هو كتاب «إخوان الصفاء».

فليس في كتب هذه اللغة جميعًا كتاب واحد يجمع من مادة الثقافة العربية ما جمعه هذا الكتاب من علوم زمانه ومعلوماته، وأساطيره وفروضه التي وُرثت عن حضارات الأمم السابقة واللاحقة، من الكلدان، والفرس، والهند، واليونان، والعرب الأولين، وسائر الأمم القديمة منقولًا بعضه عن لغات هذه الأمم نصًّا أو منقولًا عن أمة بعد أمة، حتى نُسيت مصادره الأولى، ولم تبقَ في الذاكرة إلا مصادره الأخيرة، وفائدة هذا الكتاب من هذه الوجهة لا تقدر، ولكنها ليست بفائدته الفريدة؛ لأنه يفيد القارئ الذي يترجم عن اللغات الإفرنجية في هذا العصر عند المضاهاة بين الكلمات التي ننقلها الآن، والكلمات التي نقلها المترجمون في عهد الدولة العربية، ويفيد المشتغل بأطوار المذاهب والأفكار في الحضارات الإنسانية جميعًا، فيرى المسافة التي عبرتها الإنسانية من القول بمذهب الشوق بين الأجسام والأرواح إلى القول بمذهب الجاذبية، ومن القول بأن حب البقاء هو أساس الأخلاق إلى القول بأن تنازع البقاء هو قانون الحياة؛ ومن القول بأن المخلوقات ترقى على سُلَّمها جمادًا فمعدنًا فنباتًا فحيوانًا فإنسانًا فمَلَكًا إلى القول بالنشوء والتطور على الرأي الحديث، وهكذا مما لا يقع تحت الحصر في هذا المقام، ولا بد فيه من المراجعة والاستقصاء.

وقد يفيد الاطلاع على هذا الكتاب غير هذه الفوائد أن القارئ يجد فيه مثالًا نادرًا لاختلاط الثقافات والحضارات في عصر واحد على نمط واحد لا نعرفه في هذا العصر ولا نعرف له نظيرًا مذكورًا في العصور الماضية، فمع كثرة الأمم التي انتقلت معارفها إلى الأمة الإسلامية، لم تتمازج هذه المنقولات، ولم يزل كل منها محتفظًا بطابعه: الهندي للهند، والفارسي للفرس، واليوناني لليونان، والكلداني للكلدان، كأنها عناصر غريبة لا تقبل المزج الكيمي، ولا يزال كل منها مفروزًا على حِدَة مستعدًّا للرجعة إلى أصله، وليس كذلك امتزاج الأفكار في عصرنا الحاضر، ولا امتزاجها في عصر اليونان والرومان، فأما في العصر الحاضر فالعلم الحديث له قاعدة واحدة هي قاعدة التجريب والاستقلال، فكل ما جرى على هذه القاعدة دخل في بنية العلم كله، وخرج من كونه معلومات تقول بها هذه الأمة أو تلك، إلى كونه علمًا عامًا يقول به جميع بني الإنسان، وأما في عصر اليونان أو الرومان فلم يكن هناك حائل من العقيدة الدينية بين آراء أمة وآراء أمة أخرى؛ ولم يكن الاقتباس الحر ممنوعًا في الفنون والآداب، ولا في الأساطير والأديان، فكان الامتزاج بين الثقافات أسرع كثيرًا من الامتزاج بينها في عهد الدولة الإسلامية، واتفق لهذا أن العالم بأسره في الشرق والغرب أخذ بأقوال البابليين الأقدمين في الكواكب وطوالع الأيام، وبقيت هذه الأقوال ملحوظة إلى اليوم في أسماء الأيام عند الأوربيين المعاصرين.

•••

لماذا يسمي الإنجليز المعاصرون يوم الأحد Sunday أو يوم الشمس؟ لأن البابليين الأقدمين جعلوه أول أيام الأسبوع، وجعلوه لذلك يوم الشمس، إذ كانت هي أكبر الأجرام السماوية عندهم، وبها يكون الابتداء، وكان البابليون يرتبون الأيام ترتيبًا عدديًّا يبدأ باليوم الأحد وينتهي بالسبعة ففعل العرب الأقدمون مثل ذلك، وصارت الأيام عندهم هي عندنا الآن: الأحد فالاثنين فالثلاثاء فالأربعاء فالخميس فالجمعة — يوم الاجتماع والسوق عند البابليين — فالسبت أو السبعة منطوقة فيها التاء كما كان ينطقها البابليون والفينيقيون، وكما ينطقها اليوم السوريون خلفاء البابليين والفينيقيين، وكان اليوم السابع من أيام الأسبوع هو اليوم الأخير وهو يوم زحل أبعد السيارات وأنحسها، فكان الأقدمون يتشاءمون من العمل فيه ويخلدون إلى الراحة فرارًا من نحسه وفشله، ثم ما زال هذا التشاؤم حتى جعله الإسرائيليون فريضة دينية، وأوجبوا الراحة في يوم السبت بعد الفترة التي قضوها في أسر البابليين.

اقرأ في كتاب إخوان الصفا فصلًا في «معرفة أرباب الساعات» تجد فيه: «أن رب يوم الأحد الشمس، ورب يوم الاثنين القمر، ورب يوم الثلاثاء المريخ، ورب يوم الأربعاء عطارد، ورب يوم الخميس المشتري، ورب يوم الجمعة الزهرة، والسبت زحل.»

وراجع أسماء الأيام في اللغات الإفرنجية يظهر لك أن تلك الأسماء إن هي إلا ترجمة هذا الكلام، وأن الأوربيين من أمم الشمال إلى أمم الجنوب كانوا يأخذون عقائدهم من الشرقيين منذ آلاف السنين.

فيوم الأحد Sunday معناه بالإنجليزية يوم الشمس كما تقدم.
ويوم الاثنين Munday أو Moonday معناه يوم القمر، وهو أكبر الكواكب بعد الشمس في رأي الأقدمين.
ويوم الثلاثاء Tuesday معناه يوم تيو، وهو المريخ عند أبناء أوربا الشمالية، وترجمته بالفرنسية Mardi أي يوم مارس وهو المريخ باللغتين الفرنسية والإنجليزية.
ويوم الأربعاء Wednesday معناه بالإنجليزية يوم أودين وهو يوم عطارد عند أمم الشمال التي تسلسل منها الإنجليز، وترجمة اسم اليوم بالفرنسية Mereredi أو يوم مركيور Mercure وهو عطارد في اللغات الإفرنجية الحديثة.
ويوم الخميس Thursday معناه يوم ثور إله الرعد والصواعق عند أمم الشمال، وإله الرعد والصواعق عند اليونان والرومان هو جوبتيير أو المشتري، وترجمة اسم اليوم بالفرنسية Jeudi أو يوم المشتري.
ويوم الجمعة Friday معناه يوم فراي زوجة أودين، وربة الحب عند أمم الشمال التي تسلسل منها الإنجليز كما تقدم، وترجمة اسم اليوم بالفرنسية Wenderdi أي يوم الزهرة.
ويوم السبت Saturday معناه يوم زحل The day of Saturn كما كان معناه ومعنى الأيام الأخرى عند البابليين.

فالعقائد الشرقية والآراء الفلكية الشرقية قد شملت أوربا شمالًا وجنوبًا، ودخلت في أديان الغربيين وفنونهم وأشعارهم توتون ويونان ولاتين وغيرهم من شعوب الشمال والجنوب، قبل أن شملتهم المسيحية — الشرقية أيضًا — بألفي سنة أو أكثر من ذاك، وقد بقيت آثارها في أسماء أيامهم إلى اليوم بعد أن نسيت هذه العقائد في بلاد الكلدان والعرب ولم تبق لها هذه المعاني في أسماء الأيام عندنا نحن الشرقيين.

لا بل أنت تقرأ في الجزء الرابع من إخوان الصفاء فترى فصولًا في روحانيات الكواكب يقولون فيها: إن «دائرة زحل تنبت منها روحانيات تسري في جميع العالم من الأفلاك والأمهات، ومن أفعال هذه الروحانيات الموت وسكون الحركة، وأن دائرة المشتري تنحط منها قوى روحانيات تسري في جميع العالم يكون بها اعتدال البائع، وتأليف القوى المتنافرات، وروحانيته مستولية على مواليد الأنبياء صلوات الله عليهم، وأصحاب النواميس ومواضع الملائكة المنبثة من دائرته النازلين من فلكه الخارجين من بابه مواضع الصلوات وبيوت العبادات، وأن دائرة المريخ تنبث منها قوى روحانية تسري في العالم من الأفلاك والأركان والمولدات، وبها يكون النزوع والنهوض، وفعلها المختص بالحيوان ما يظهر فيه من الغضب والتعدي والشر، وكذلك في عالم الإنسان ما يكون من الحروب والفتن ومن بقاع الأرض مواضع النيران وعمل الحديد، وأن دائرة الزهرة تنبث منها قوى روحانية تسري في جميع جسم العالم وأجزائه، وبها يكون زينة العالم وحسن نظامه وبهاء أنواره ورونق أزهاره، وزخرف الكائنات وحسن الموجودات واعتدال النبات والشوق إلى الزينة ومحبة الجمال وطلب الكمال، كما ينبث من دم المعدة شهوة الملاذ إلى جميع مجاري الحواس، وأفعال روحانيتها في العالم العشق والمحبة والتزين بالزينة الحسنة، وأن دائرة عطارد تنبث منها قوى روحانيات تسري في جسم العالم وأجزائه، وبها تكون المعارف والعلوم والخطوط والإلهام والرؤيا والوحي والنبوة، كما تنبث من الدماغ القوة الوهمية وما يتبعها من الذهن والتخيل والفكر والروية والتمييز والفراسة، ولها من الكلام الشعر والخط والنظم وغير ذلك …» إلخ إلخ.

فإذا قرأت هذا وعرضته على الأساطير التي يسمونها الآن الأساطير اليونانية أو الرومانية وجدتهم يقولون: إن عطارد رب الشعر والفنون، وإن الزهرة ربة الحب والجمال، وإن المريخ رب الفتن والحروب، وإن زحل رب الخراب والشقاء، إلى آخر ما يعرفه من اطلعوا على تلك الأساطير، وما كان اليونان على علم بشيء من رصد الأفلاك وخواصها المزعومة إلا ما نقلوه عن البابليين. حتى إن اسم الفلك عندهم «الأسترنومي» مأخوذ من كلمة «أستر» اسم الزهرة عند البابليين، وهي عندهم ربة الحب وزوجة مروداخ أو المشتري كبير الأرباب، وأستر عند البابليين كذلك هي البرج السادس أو برج العذراء، واسمها في لغتهم «بنوث» أي البنت باللغة العربية، وهذا هو أصل كلمة «فينوس» إلهة الجمال والحب عند الرومان واليونان، فقد كانوا يكتبونها بالباء قديمًا ولا تزال الكلمات التي وردت فيها بالباء محفوظة في اللغات الأوربية، والتصحيف يسير جدًّا بين بنوس وبنوث بمعنى البنت في اللغة البابلية.

فكل ما جاء في أساطير اليونان عن الأفلاك وما رتبوه عليها من العقول العشرة المتصرفة في مقادير الكون إن هو إلا تصحيف لآراء الشرقيين القديمة في الفلك والنجوم، وكل ما أضيف إلى الفلك من الرياضيات والهندسيات إنما اقتبسه طاليس، وفيثاغوراس، وإقليدس، من المصريين والبابليين والهنود كما هو محقق في التاريخ. وما كان اليونان يبنون ولا يعرفون الهندسة والعلوم حين كانت للمصريين والبابليين الصروح والمراصد والمدارس والثقافات والسجلات التي أُثبتت فيها أرصاد الفلك منذ آلاف السنين، فإذا امتاز اليونان بعد ذلك بشيء من تمحيص العلم فما استطاعوا ذلك؛ إلا لأنهم ضعفاء لم تكن لهم دولة موطدة ولا كهانة عظيمة السلطان تستأثر بالعلم وتدخله في نطاق الدين فيختلط فيه التمحيص والاعتقاد.

ولم يخفَ لب هذه الحقيقة على إخوان الصفاء، فقالوا في الرسالة الحادية عشرة من العلوم الناموسية والشرعية: «اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه أن علماء الهند هم العارفون بصناعة النجوم المخصصون باسم الكهانة، ويلحق بهم في العلم بذلك حكماء الفرس ومن بعدهما اليونانيون.» ولو كان لإخوان الصفاء سبيل تحرِّي التاريخ كما نتحراه اليوم لعلموا أن هناك حضارة أخرى انقطع ما بينهم وبينها كان أهلها على علم كبير بالفلك، والرياضة، والكهانة، وهي الحضارة المصرية الهيروغليفية، ومع هذا لم يسلم إخوان الصفاء من الخطأ حين أسندوا إلى اليونان كثيرًا مما ليس لهم؛ لأن اللغة اليونانية كانت قد أصبحت لغة رسمية في دولة الروم الشرقية فتُرجمت إليها كتب كثيرة ليتدارسها القسوس في الأديرة ولم يكن مصدرها من علماء الإغريق، فلما ترجم العرب ما ترجموه من آثار الحضارات القديمة جاءهم معظم ذاك من الكتب اليونانية فأسندوه إلى اليونان.

•••

فيما تقدم مثل وجيز من المقابلات التي يوجبها الاطلاع على كتاب إخوان الصفاء، وفي الكتاب أمثلة شتى لاستخراج المقابلات في كل باب من الأبواب، نرجو أن يتفرغ لاستقصائها الباحثون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤