كُنَّاشَة الأسبوع

اقترحتُ على نفسي، واقترح علي بعض صحبي، أن أجعل للكتابة الأدبية يومًا من أيام الأسبوع على هذه الصفحة التي أشغلها بأحاديث السياسة سائر أيامه، فأجبت مقترَحي، ومقترح صحبي، ولم يبقَ إلا اختيار الموضوع الصالح للتكرار والاستمرار، فما عسى أن يكون ذلك الموضوع؟

وأحسب الشرط الأول أن نختاره موائمًا لقراءة الصحف اليومية، حيث يتناول الكتاب المسائل العامة تناولًا عامًّا يقل فيه التخصص، ويكثر فيه التعميم، ولا يحتاج قارئه اليوم أو غدًا إلى مراجعة ما سبق من فصول.

فمع التزام هذا الشرط الذي لا بد منه في الآونة الحاضرة ماذا نختار من أبواب الكتابة؟ وماذا يلائمني ويلائم القارئ من عنوان شامل لكل ما يكتب في هذا الباب؟

خطرت لي الكتابة عن المطبوعات الحديثة من مصنفات الآداب وما إليها، فقلت: هو موضوع صالح للتناول في كل صفحة أدبية، داخل في كل باب يقع عليه الخاطر، بل هو أدخل في جميع الأبواب من كل موضوع، وإذا صح تعريف أناتول فرانس للنقد «إنه هو سياحة روح متطلعة — أو عظيمة — بين آيات الآداب والفنون.» فأحاديث السياحة أمتع الأحاديث، وأَقْمَنُها بالتجديد والاتصال مع قراءة الصحافة اليومية، وهي أشبه بالرياضة السريعة والانتقال من بلد في الذهن إلى بلد، أو من كتاب إلى كتاب.

لكن أين هي الكتب التي توالينا وتلاحقنا بالصدور من المطابع كل أسبوع.

وإذا رجعنا إلى القيمة دون العدد فهل نخطئ إذا حورنا السؤال وسألنا: بل أين هي الكتب التي توالينا وتلاحقنا بالصدور كل شهر، بل كل عام؟

إن هذه الكتب لجد نادرة، وقد يمنع الناقد مانع آخر أن يغشى هذا الباب، وهو ضيق الصدور بنقد الناقدين، فهبنا أغضينا عن هذا المانع، وقلنا مع القائلين: إن السائح الأدبي خليق أن يقتحم من المضايق كل محرجة حتى ضيق الصدور، فهل نظفر بخمسين كتابًا يتسع للنقد والتعقيب، ويجدي نقده والتعقيب عليه كل عام، وهل يتسنى للناقد الأمين أن يدرس الكتاب من هذه الكتب النادرة في مدى أسبوع واحد؟

فهمس في خلدي وأنا أسائل نفسي هذه الأسئلة هامس يقول وهو يتردد: «وما الرأي في الكتب الأوربية»؟

ولقد حق للهامس أن يتردد وهو يناجيني بهذا الإيماء، وإلا فما الرأي في ملاحقة الطوفان؟ وما الرأي في عالم فسيح شامل للغرب كله، لا تنقضي منه ساعة واحدة على غير كتاب نفيس في مسألة تَمُتُّ إلى الأدب والتفكير الأدبي من قريب أو بعيد؟

أمامي أربعة ثبوت يرسلها إلي الطابعون الإنجليز مدونًا فيها ما يعتزمون إصداره في مستهل الخريف، وتحت كل اسم من أسماء هذه الكتب صفحة كاملة، تتجاوز تلخيص فكرة الكتاب واقتباس بعض الفهرس للدلالة على ما فيه.

أمامي هذه الثبوت الأربعة، وأنا أعوم فيها بنظري عومًا عسى أن أقف عند جزيرة تغنيني في هذه السياحة عن سائر الجزر فلا أجد منها إلا كل جزيرة خضراء زاهية يطول عندها الوقوف بل المكوث، وهذا في ثبوت الأسماء فكيف بالكتب وألوف الصفحات؟ وهذا في مستهل الخريف فكيف بأواسطه وأخرياته وما يليه من ثبوت الشتاء؟ وهذا في أربعة بيوت فكيف بأربعين؟ وهذا في إنجلترا فكيف بالأقطار كافة؟

ليكاد الإنسان يُعَوِّل هنا على القرعة والمصادفة دون التمحيص والتدقيق في الاختيار.

أو يكاد الإنسان ينطوي على الجوع؛ لأنه لا يدري في هذا الخوان الحافل أين يكون الابتداء؟ وكيف يطيب الانتهاء؟

وهبْنا اجتزأنا بقضمة من ذلك الخوان كل أسبوع، فمن الواجب قبل هذا ولا جدال أن تكون هذه الكتب من العموم والشيوع في مصر، بحيث يصح التخاطب فيها والتعقيب عليها بين الناقد وكثرة القراء، أو بحيث يوقن الناقد أنه سيضع يده على ما شاء من الكتب، فإذا هو مصادف ذلك المبحث الشائع الذي لا مناص منه لخلق «الجو الفكري» حول كل كتاب منقود.

فكيف يتأتى نقل أوربا إلى مصر، أو نقل مصر إلى أوربا لتوحيد جو ليس توحيده بأيسر من توحيد أجزاء الشمس والهواء؟ إنما نحن بصدد السياحة لا بصدد الخوارق والمعجزات!

نعم، إن بعض الكتب قد يغنيك تلخيصه عن اتساع أفق المطلعين عليه، ولكنك لا تضمن الاطراد في هذه المزية، ولا يزال فيها بعض الاعتساف والاصطناع، بعد كل محاولة وتقريب، كالذي يحكي لك طعم ما أكل لتشركه في لذة الأكل، وفي هضمه، واستمرائه، وقلَّما تغني حقيقة الحكاية عن حقيقة الطعام.

فماذا إذن نختار إذا عز الاطراد في الكتابة عن المصنفات العربية والمصنفات الأوربية على نحو ما يستراح إليه في صحافة مصرية؟

خطر لي موضوع طريف طالما فكرت فيه.

خطر لي موضوع «الشخصيات» ودراستها من الوجهة النفسية.

وخطر لي أن هذا الموضوع قد يصح للكاتب أن يتناوله على أسلوبين:

أسلوب أشبه بالكتب منه بالصحف، وذاك أن يخلق الكاتب «شخصية واحدة» تطوف بالناس وبأحوال الحياة، ونستعرضها على مختلف وجوهها فتتجلى في ملاحظتها وملابستها أسرار تلك الشخصية وما جبلت عليه من الغرابة والشذوذ، أو من الألفة التي نهملها وننساها لفرط ما نراها بيننا كل يوم.

هذا أو أسلوب آخر أشبه بالتجدد الصحفي والانتقال الأسبوعي، وذاك أن نرسم في كل أسبوع شخصية من الشخصيات التي نعرفها، ويستطيع القراء أن يعرفوها بالمشاهدة أو بالقياس.

ونحن بحمد الله قد وصلنا إلى طبقة من الارتقاء الاجتماعي يسمح بالإكثار — إن لم نقل بالإفراط — من الشخصيات المنوعة، والنماذج المفرقة، والعناصر الآدمية التي لولا انتماؤها إلى آدم لقلت إنها تنتمي إلى مئات العناصر الحيوانية.

وعلماء الاجتماع يزعمون أن هذا علامة من علامات الارتقاء؛ لأن تشابه الأفراد على نسق واحد خلة تكثر في القبائل الأولية التي يشبه فيها كل إنسان كل إنسان؛ لقلة الملكات الإنسانية، والصناعات الحضرية، والشواغل النفسية التي يتم بها تنوع الأفراد.

فإن صح ما زعموا فنحن بحمد الله في ارتقاء، فقد كثرت بيننا «الشخصيات» حتى لا تجلس في مكان فيه خمسة أو ستة أو سبعة إلا أيقنت أنك واجد بينهم «شخصيات» خمسًا أو ستًّا أو سبعًا تتسابق في لفت الأنظار، وجذب الملاحظات: كل منهم له بدواته وعاداته، وكل منهم له حقائقه ودعاواه، وكل منهم لهم علانيته ونجواه، وكل منهم يستغرب من غيره بعض ما هو فيه، وينحى على صاحبه بما هو خليق أن ينحى به على نفسه، فلو جردته نقائض وألوانًا لرأيت حربًا مستعرة في نفس واحدة، ولكنها حرب بين خصوم تفرقهم النقائض والألوان، وتجمعهم الأنانية والغرور.

فما لنا لا نرسم في كل أسبوع شخصية واحدة من هذه الشخصيات وعندنا منهم ألوف؟ رأي جميل، ولكنه من وحي شيطان خبيث، وإن كان شيطان آداب وفنون!

أفترسم كل أسبوع شخصية مختلفة، ولا تجمع في العام كل من تعرف من الأصدقاء والإخوان؟

لو كنت رسامًا بالريشة وقلم الرصاص لنجوت بجريرة ما تصنع؛ لأن المغالطة في دلالة الخطوط غير المغالطة في دلالة الكلمات.

فأما وأنت ترسم بالكلمات والعبارات فأنَّى لك النجاة من التعريف والتسمية ولو بالكنايات؟ وأنى لك بمن يقبل كل ما فيه؟ وأنى لك بمن يحمد لك الأمانة في رسمه، أو الخيانة في رسم غيره؟

قد يعرف بعض القراء أننا نجمع في مجالسنا حديقة للحيوانات الآدمية يحمل فيها كل أديب أو مصور أو ممثل أو معلم أو مغن عنوان حيوان يماثله في الخلقة أو الأخلاق، فما قول القراء إذ يعلمون أن التسمية إنما تكون دائمًا بإجماع الآراء إلا رأيًا واحدًا هو رأي صاحب الاسم في كل دور؟

فالناس على استعداد لحمد الأمانة الفنية في وصف الآخرين، وحمد الخيانة الفنية فيما يخصهم من الأوصاف، ومن عالج الرسم الكتابي للشخصيات بغير الطريقة الديموقراطية التي اتبعناها في حديقتنا فهو ضامن أن يُغضب طلاب الأمانة، وطلاب الخيانة على السواء.

قال قائل جرى في خلدي بعد طول الأُخوذ والردود: ولم الحيرة وفي وسعك أن تؤلف بين جميع هذه الموضوعات؟

إن اتفق كتاب عربي يستحق النقد فكتاب عربي، وإن اتفق كتاب أجنبي ميسر التلخيص فكتاب أجنبي، وإن اتفقت شخصية تستعرض الأحوال في مقالة واحدة فشخصية تتولى الاستعراض، وإن اتفقت شخصية مأمونة العواقب في رسمها وتمثيلها فلتكن هي معرض الفرجة في ذلك الأسبوع.

قلت: رأي جميل من شيطان سليم، وما العنوان؟

العنوان لا يضل مختاره بعد تنويع الموضوعات، وتشتيتها على تلك الأنماط.

العنوان «كُنَّاشَة الأسبوع».

والكناشة تحتمل السطر والسطرين إن كانت في جيب فرد واحد، فأما إن كانت في جيب جمهرة القراء فهي تحتمل السطور والصفحات كهذه الكناشة، وموعدنا بها صباح الاثنين من كل أسبوع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤