ثاميرس أو مستقبل الشعر١

في بعض الأساطير القديمة عن التيوتون٢ أن الملك روفائيل يهبط في يوم الأرواح من كل عام إلى حارس الجحيم التي تحبس فيها آلهة الوثنية المخلوعة فيأمره بإطلاق عرائس الشعر التسع ليصدحن بالقصيد على مسمع من «يهواه»،٣ ورفيق السماء الأعلى، فيتقدم السيدات المسكينات إلى تلك الحضرة المرهوبة الجافية، ويأخذن في إصلاح أعوادهن كارهات متكلفات، ويبدأن بنشيد إغريقي قديم لعله كان بعض أناشيدهن في مهرجان الأوليمب،٤ أو لعله كان بعض أناشيدهن في يوم زفاف قدموس٥ على هارمون، فيلوح على أنغامهن في بادئ الأمر شيء من النشوز تنكره الآذان السماوية الشريفة التي لم تألف في مقرها العلوي غير أصوات التسبيح والعبادة، ولكن ما هي إلا هنيهة حتى يشعر الملائكة على غير علم منهم أنهم أطربوا للنغم، واهتزوا لتلك الألحان التي تبعث الشجن وتحرك رواقد النفوس، وتنوء بكل ما في قلوب بني الإنسان من صرخات وأهواء، ولا يزلن في حنين وأنين حتى تتهاوى الدموع على تلك الوجوه النورانية ويعلو النشيج في باحات السماء.

ففي يوم ليس بالبعيد من هذه الأيام السنوية رغب بعض أدباء الملائكة إلى العرائس المباركات — بعد أن فرغن من أداء البرنامج — أن ينشدنهم طرفًا من الشعر الذي ظهر بعد العهد اليوناني وهن لا يعرفنه أو لا يعرفن إلا اليسير منه! فلما بدا العجز على العرائس ولم يقدرن على شفاء ذلك الشوق في نفوس الملائكة الأدباء تقدم الشيطان — وكان في زيارة من زياراته التي رأينا في كتاب أيوب أنه يتسلل فيها حينًا بعد حين إلى بلاط يهواه — فألهاهم بضع ساعات بأناشيد شتى مما التقطه هنا وهناك في رحلاته التي لا تنقضي على جوانب الأرض، فطرب سامعوه لأول أصواته واستطابوا روايته وأنشدوه؛ إذ كان الخبيث ماهر الأذن والذاكرة، وكان يعي أحسن الوعي أناشيد الشعراء الذين كانوا يرتلون القصيد على مسامع الأمراء، أو بين سواد الدهماء في العصور الوسطى، ولكنها فترة عارضة ثم يسري إلى غنائه شيء من الاختلاف ويجم القديسون والملائكة ويدب إليهم الضجر والملالة ويحسون أن عنصر التلحين — بل عنصر الترتيل بعد التلحين — يخفى رويدًا رويدًا حتى يجدوا آخر الأمر أنهم يصغون إلى كلام يقال كما يقال كل كلام عار عن اللحن والتوقيع، وأي كلام؟ لقد كان القديسون والملائكة يألفون السجع في صلواتهم ويحبون سماعه. ولكنهم ما لبثوا أن فقدوا حتى السجع في الشعر الذي كان يلقيه الشيطان عليهم، ثم فقدوا الوزن، ثم فقدوا كل معالم ذلك الكلام المقفى الموزون، وما هو إلا أن ألقى الشيطان عليهم درته الأخيرة من درر الشعر الأمريكي المرسل حتى حيوه كما حيي قبل دهور ودهور في جهنم بصفير مطبق من السخرية والاستهجان! وفر العرائس لائذات بأبواب الجحيم، وابتسم الشيطان، وانحنى ثم تراجع منصرفًا؛ لأنه تعود طول عمره أن يجفل من علامات الاستهجان والنفور.

ونقر جبرائيل رئيس العازفين نقرة بعصاه على المنضدة، فإذا الرفيق الأعلى يطهر آذانه المخدوشة بعد فترة قليلة بنشيد غريغوري جليل.٦

بهذه الأسطورة التي بعضها قديم وبعضها حديث، استهل تريفلان رسالته «ثاميرس» عن مستقبل الشعر في عالم الآداب، وتريفلان شاعر من شعراء العصر في بلاد الإنجليز، وثاميرس شاعر قديم في بلاد اليونان قيل إنه تسامى إلى تعجيز عرائس الشعر فضربنه بالعمى حسدًا وانتقامًا، وتركنه يبكي مصابه بقصيد يفوق كل قصيد، والرسالة إحدى رسائل «اليوم وغدًا» التي أشرنا إليها في مقالنا السابق.

ولو شاء تريفلان لأتم الأسطورة على صورة غير هذه الصورة، فكان لا يعود الصواب ولا يظلم الخيال، ولو شاء لدعى بالعرائس إلى حضرة «ديموس»٧ الإله الجديد، ولم يدعها إلى حضرة يهواه الإله العتيق: ولأرانا كليو «ربة» التاريخ تقبل بقلمها وقرطاسها وإكليل الغار في يدها لتسمعنا سير الأبطال مرتلة في نوابغ الأقوال، وأحاسن الأمثال، ويوتيرب ربة اللحن تقبل بنايها الجميل، وزهرها البليل؛ لتشدو لنا بغرر الأوزان موقعة في بدائع الألحان، وثاليا ربة شعر الرعاة تقبل بالعصا المعقوفة، والنقاب المسدول، والزهرات الآبدات؛ لتهتف لنا بذلك النغم الساذج الشجي الذي تسلي به رعاتها في ليالي القمر ومروج الخلاء، وملبومين ربة المأساة تقبل بتاجها المذهب، وخنجرها المشهور، وصولجانها المرفوع؛ لتقص علينا فواجع الأسى ومشاهد المحنة والجوى، وتلقي علينا عبر الأيام وصروف الغِيَرِ وأحكام القضاء، وتريبسكو ربة الرقص تقبل بتلك القدم الرشيقة الطائرة؛ لتخف بنفوسنا إلى سماء المرح، وأجواء الطلاقة، وأريحية الخيلاء الموزونة، والطرب المنظوم، وأرانو ربة الغزل تقبل بقيثارها الحزين؛ لتعيد على القلوب بكاء العاشقين، وأنين المهجورين، وحسرات الوله، وصرخات الحيرة والقنوط، وبولهمينا ربة البيان تقبل بصولجانها الحاكم على كل صولجان لترسل في أسماعنا سحرًا من البلاغة، ونشوة من الحمية، ووحيًا من الإيمان، وكاليوب ربة الحماسة تقبل بإكليلها المجيد لتنهض فينا عزيمة البطولة، وتقحمنا مخاطر الموت، وتفتح لنا مآزق الفداء وساحات الخلود، وأورانيا ربة الفلك تقبل بمراصدها لتكشف لنا وجه السماء، وتناجينا بسرار الكواكب في رحيب الفضاء، نعم لو شاء الشاعر لعرض علينا هؤلاء العرائس الفاتنات في تلك الزينة الخالدة، وذلك السمت الإلهي ليسمعنا — ماذا أقول؟ أستغفر الإله ديموس — بل ليسمعن «ديموس» صفوة ما نظمن، وخلاصة ما أوحين وغنين، ويرفعن إلى عرشه تلك الأصداء التي تنوء بكل ما في قلوب بني الإنسان من صرخات وأهواء! ثم لو شاء الشاعر لقال لنا ماذا يكون نصيب الأخوات الإلهيات من هذا الإله المحدث الجالس فوق عرشه الترابي، وفي إحدى يديه قدح من الخمر الرديئة وفي الأخرى قبضة من «البنكنوت»، لقد أشفق الشاعر أن يسوق المسكينات من قرارة الجحيم إلى هذا البلاط اللئيم، ولكنه لو فعل لما سمع من الإله ديموس إلا صيحة واحدة في لكنة السكر وعجرفة النعمة الحديثة: «أيتها الشقيات؛ أتبكينني وتغرينني بالموت وأنا أنعم عليكن بالفلوس؟ ما لكن ولهذا العواء؟ ألا تعرفن الطقاطيق؟ ألا ترقصن البلاك بتوم والشارلستون؟!»

•••

ذلك أو ما يشبهه يكون لا محالة جزاء عرائس الأمس لو ظهرن اليوم للإنشاد في حضرة ديموس الكبير؛ وصاحب الرسالة يعلم ما نعلم، ويقوله بلغة الكلام، وإن لم يقله بلغة الأساطير، ويرى أن الشعر مدبر في هذا العصر، وقد يظل مدبرًا في العصور المقبلة لسببين: أحدهما أن الشعر كان يغني في الزمن القديم، ثم بطل الغناء فرتلوه أو ترنموا به، ثم بطل الترتيل والترنيم فألقوه، ثم بطل الإلقاء فقرءوه في المحافل أو الكتب، وذهبت عنه طلاوة الموسيقى وفقد سحره القديم في الأسماع والقلوب، وانتهى بأن صار كلامًا يعبر بالنظر وقل أن يطرق الأسماع، والسبب الآخر أن الطبائع في العصور الحديثة تنكر الحماسة الشعرية، وتسخر منها لاستغراقها في الواقع «الريالزم» وثورتها القريبة على أخيلة القدم وعقائد الأولين، وهو لم يذكر سبب هذا «الريالزم»، ولكن استغراق الناس في الواقع هذه الأيام حق لا شبهة فيه، وقد لا يدوم على ما نعهد إلا كما تدوم القهقهة بعد مشهد يسبل عليه الستار.

ولقد أصاب صاحب الرسالة في السببين، وأتى فيهما على مقطع الصدق في هذا الباب، ولسنا نحن أعظم منه تفاؤلًا، ولا أقرب إلى الرجاء في مستقبل الشعر، فرأينا يقرب من رأيه ونظرتنا إلى المستقبل تشبه نظرته، ولكننا نود أن نعرف هل الناس في هذا الزمان أنبى عن الشعر طباعًا، وأزهد فيه نفوسًا مما كانوا في الزمان القديم؟ فأما أن زماننا هذا لم ينجب من كبار الشعراء العبقريين من يقاسون إلى شعراء العصور الغابرة فذلك واضح، لا تعوزنا معرفته ولا هو يحتاج إلى سؤال وتحقيق، فليس هذا الذي نسأل عنه ونلتمس الوصول إلى حقيقته، ولكننا إنما نسأل عن طبائع الناس جملة هل تغيرت بواعثها التي تحركها إلى الإعجاب بالشعر ودواعي التخيل والإحساس، أو لا تزال تلك الطبائع كما كانت في كل زمان نعرفه ونعلم اليقين عن أنباء أهله وحظوظ شعرائه وأدبائه؟ وهنا يبدو لنا وجه الغلو في قول القائلين أن الشعر يبطل اليوم وبعد اليوم لبطلان بواعثه ودواعيه، إذ كيف يسعنا أن نقول جادين في القول إن الناس لا يحسون اليوم كما كانوا يحسون بالأمس، ولا يحبون ويبغضون، ولا يرجون وييأسون، ولا يرضون وينقمون ما كان ذلك دأبهم في كل حين وبين كل قبيل؟ ليس هذا مما يمكن أن يقال في جد وروية وإدراك لحقائق الأشياء، فالإحساس لا ينقطع، والنفوس الإنسانية بجملتها لا تختلف، والهموم التي أنشد فيها الشعراء القدم ذلك القصيد الخالد هي هموم هذه الساعة يحسها ألوف الألوف في كل زاوية من زوايا الأرض، وفي كل لحظة من لحظات الحياة، فهل لنا أن نعرف إذن ما الذي تغير في العصور الحديثة، فتغير نصيب الشعر وفترت من ناحيته قرائح القائلين وسلائق السامعين؟

يخيل إلي أن بواعث الإحساس التي كانت مصروفة إلى الشعر فيما مضى قد صرفت في هذا الزمان إلى شيء آخر يشبهه، ويغني غناءه لأول نظرة في تزويد الخواطر، واستجاشة الإحساس، وإرضاء الأشواق والأفراح والأحزان التي يبلوها الناس في غمار الحياة، وأن هذا الشيء الذي انصرفت إليه بواعث الشعر في زماننا قريب لا يطول بنا أمد النظر إليه، فإنما هو بالإيجاز مناظر الصور المتحركة، والتمثيل الماجن، وأخبار الروايات، وقصص الجناية والغرام التي تبسطها الصحف لقرائها كل صباح ومساء، فهذا الذي أغنى غناء الشعر بيننا، وسيغني غناءه غدًا، وكان يغني غناءه في عصور هومر وشكسبير وملتون وهيني ودانتي والمتنبي وابن الرومي وأمثالهم في الأمم كافة، لو منيت تلك العصور بمهازل الصور المتحركة وآفات التمثيل والصحافة، وسنعرف من هذا أن الطبائع لم تتغير وأن بواعث الشعر مستقرة في مكانها من القرائح والأرواح، وأن أناسي عصرنا قابلون للطرب الشعري كأجدادهم الأولين قبل ألوف السنين، ولكنها معرفة لا تدنو بنا إلى التفاؤل، ولا تبعد بنا من اليأس حتى نجد من يقول لنا عن علم وثيق: متى تنجلي هذه الغاشية يا ترى؟ ومن لنا بأن يثوب الناس يومًا إلى عهدهم الدابر، وأن يفيق «ديموس» من سكرته ليجد نفسه في عالم الفنون وراء الصفوف يسمع ما يملى عليه، ولا يملي هو على أحد ما ينبغي أن يقول!

ويجوز أن نزعم فوق ما زعمنا إننا مبالغون على ما يظهر في تصور العناية التي كانت تحيط بشعراء القدم، والحظوة التي كانت لهم بين سامعيهم والمنعمين عليهم. وأحسب أن عدد الذين يعنون بالمتنبي اليوم في العالم العربي أكبر من عدد الذين كانوا يعنون به في حياته، وأن المال الذي يدره ديوانه اليوم على طابعيه وبائعيه أكثر من المال الذي كان يدره على صاحبه وذويه، وأحسب أن قراء ملتون اليوم بين الإنجليز أعظم وأعرف بالأدب من قرائه على عهده، وأن قدره في أعينهم أرفع وأنبل من قدره بين من كان يسمعهم بلسانه نغمات فردوسه وصرخات فؤاده، وسنعرف من هذا مرة أخرى أن الطبائع لم تتغير، وأن بواعث الشعر مستقرة في مكانها من القرائح والأرواح، ولكنها كذلك معرفة لا تدنو بنا إلى التفاؤل، ولا تبعد بنا عن اليأس؛ لأن الميدان اليوم متسع فياض يغرق فيه ويذوب في أعماقه أضعاف تلك العناية التي كانت حسب المتنبي في عصر بني حمدان، وحسب ملتون في عصر البيوريتان.

وصفوة القول: إن الطبائع باقية، وإن اليوم كالأمس، والغد كاليوم في التخيل والإحساس، ولكن ما مستقبل الشعر بعد كل هذا؟!

مستقبله كما قلنا في ذمة التمثيل، والصحافة، والمطابع، والروايات، وما مستقبل هذه التي يدخل في ذمتها مستقبل الشعر والشعراء!

قل علمه عند ربي.

١  ٢٥ فبراير سنة ١٩٢٧.
٢  اسم يطلق الآن على جميع الشعوب الجرمانية وكان فيما قبل المسيح اسم شعب واحد منها.
٣  اسم الله عند اليهود.
٤  مجلس الأرباب عند قدماء اليونان.
٥  «قدموس» ملك فينيقي يقال إنه نقل علم الحروف المصرية إلى اليونان و«هارمون» اسم زوجته وقد حضر الآلهة عرسها.
٦  «الأناشيد الغريغورية» في الكنيسة هي الأناشيد التي أقرها البابا «غريغوري الأول» يغلو فيها في رعاية الأوزان والأنغام.
٧  اسم الشعب باليونانية ومنه كلمة ديمقراطية: أي حكم الشعب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤