الموسيقى١

ما الموسيقى؟ هذا سؤال نود أن نسمع له جوابًا بعدما قرأناه عن ذلك الموسيقي العظيم الذي تجاوب العالم بذكره في خلال هذين الأسبوعين، وقبل أن نجيب عنه نحصر ما نعنيه فنقول: إننا لا نقصد في المقال فن الموسيقى ولا ملكة الموسيقى، فإن الموسيقى قد وجدت قبل فنها وقد توجد مع غيره، وليست الملكة إلا وسيلة لتجويد الأداء تزيد وتنقص في بعض الناس، ولا تخلق هي ذلك الشيء الذي يحتاج إلى الملكة في إبرازه، فلا الموسيقى إذن من الوجهة الفنية ولا الموسيقى من حيث هي ملكة في بعض الطباع غرضنا من هذا المقال، وإنما نسأل عن الموسيقى من حيث هي باعث في النفوس تحرك بها إلى استنباط الفن وأدواته، وتجردت له الملكات التي تعينه على الظهور والإتقان، فما الموسيقى التي هذه صفتها أو ما هذا الشيء الذي قل أن يخلو منه فرد أو قبيل؟

يقولون: إن الموسيقى هي اللغة العامة: وهذا قول حق ولكنه أجدر أن يكون وصفًا لخاصة من خواص الموسيقى هي تلك الخاصة التي جعلتها لغة الناس أجمعين، يفهمونها على اختلاف اللغات بسليقة فيهم ليست بالقومية ولا بالإقليمية ولكنها سليقة «الإنسان» في كل موطن وزمان، وأحق من هذا أن نقول: إن الموسيقى «تعبير» يترجم عن حالات نفسية لا يقصد بها أن تكون لغة عامة أو خاصة، ولكنها هي لغة عامة بغير قصد من الهاتفين بها والسامعين، ومن رأي هربرت سبنسر أن الموسيقى هي الموازنة بين حركات الرقص والأصوات التي تشفع تلك الحركات، وأن الإنسان إذا ثارت بنفسه خالجة قوية دفعته إلى الحركة والصياح فيجيء الصياح موازنًا للحركة، وتصبح كل صيحة مقرونة بحركتها، فيهتز الجسم لوقع الصيحة إذا وردت على السمع فإذا هو يتحرك حركتها الملازمة لها من حيث لا يشعر، أو يطرب الإنسان وينشط فتتحرك أعضاؤه فإذا هو يهتف بتلك الصيحة التي توازنها! وغير عجيب أن يكون هذا رأي سبنسر أو أي عالم غيره من علماء النشوئيين؛ لأنهم ألفوا في تعريف الأشياء أن يرجعوا بها إلى عهود الهمجيات الأولى وأن يردوها إلى بساطتها المجردة؛ لتكون أقرب إلى الفهم وأبعد من التراكب والتعقيد، فإذا بحثوا عن معنى الموسيقى رجعوا إلى أصلها بين قبائل الهمج ونظروا إلى صورتها التي ظهرت بها في أقدم العصور، فخلطوا بين الشيء في صورته الأولى وبين الشيء في جوره ولبابه، فإذا كان الهمج يرقصون ويصيحون ويضربون بأرجلهم ضربًا يوازن الرقص والصياح، فالموسيقى إذن هي ضربة الرجل على الأرض، ثم هي دقات الطبل التي تحاكي ضربات الأقدام، ثم هي نفخ المزمار ودق الأوتار على مثل الإيقاع!

وهكذا تسألهم عن الموسيقى فيجيبونك عن درجاتها التي ترقت عليها، أو عن الآلات التي تعين على تمثيلها، وينسون أن كل مركب قد كان بسيطًا في يوم من الأيام، وأن العلم بهذا وإيراد الأمثلة التي تؤيده واستعراض المراحل التي درجت عليها البساطة إلى التركيب لا يحل الإشكال، ولا يخرج بنا عن تحصيل الحاصل وعن توسيع الحقيقة المجملة التي تقول: إن المركب يرجع إلى البسيط؛ فهب أن الهمج لم يضربوا بأقدامهم على الأرض حين كانوا يرقصون ويهزجون أيكون هذا إذن قضاء على الموسيقى كالقضاء على الجنين الذي لم يدفعه الرحم إلى وجود؟ أنسكت الطير عن الإنشاد وتبطل دلالة الأصداء في النفوس؟ أنستغنى نحن عن التعبير الموسيقى؛ لأن آباءنا استغنوا عن الضربة بالأقدام والصيحة بالأفواه؟ ولعمري إن الاندفاع إلى الرقص نفسه لهو اندفاع موسيقي يحرك الفكر والجسم واللسان في آن، ويسبق الهيئة التي يظهر بها طرب الأعضاء وصياح الألسن والتصفيق بالأيدي والضرب على الأقدام، فالطبيعة الموسيقية هي التي تخلق الرقص، وتخلق ما يصاحبه من الحركات والأصوات، والرغبة في «الموازنة» هي التي تجمع بين هذه المظاهر في حالة الهمجية، وهي التي جمعت بين ما يشابهها من أطوار الطير والحيوان قبل أن تنشأ في همجية الإنسان، وإنما الأصل في كل ذلك أن تقوم بالنفس فتعبر عنها كل جارحة بما تستطيع من الموسيقية التي تتوازن في الجميع، ولو لم يكن الإنسان موسيقيًّا لما نقصت الموسيقية التي في هذه الدنيا، ولا بطل ما فيها من التوافق والانسجام، فما الموسيقية في الإنسان إلا صدى ذلك التوافق والانسجام الذي في الوجود، وإلا دليلًا على أنها بعض مظاهرهما وليست كل المظاهر في جميع الحالات، ولقد غنَّى الإنسان؛ لأنه يريد أن يغنِّي لا لأنه يريد أن يرقص، فقد يوجد الغناء في الحيوان غير مقرون بالرقص، وقد يوجد الرقص في الحيوان غير مقرون بالغناء، فلو لم يكن الرقص لكانت الموسيقى في نشأة غير تلك النشأة وأسلوب غير ذلك الأسلوب، ولو لم تكن الآلات مبدوءة بتصفيق الأكف ودقة الأقدام، لبدأت الموسيقى بآلات أخرى، وظهرت في هيئة غير تلك الهيئة؛ لأنها موجودة بغير وجود تلك الهيئات والآلات.

والسمع ولا ريب هو سبيل الألحان إلى النفس، وعدة الموسيقى في الشعور بالأصوات؛ ولكنه — ولا ريب كذلك — ليس بالسبيل الفذ الذي تنقطع الموسيقى عن النفس إذا انقطعت موارده، ويمتنع الطرب إذا امتنعت رسائله، فللعالم أصداء كثيرة في النفس الإنسانية، ليس السمع برسولها الفرد ولا هو خير الرسل التي تحملها إلى السريرة؛ وفي عبقرية بيتهوفن شاهد بهذا يدل على مبلغ الحاجة إلى السمع في توليد الألحان. فهي حاجة ماسة ولا بد منها في بعض أدوار الدراسة، ولكن الصمم مع هذا لم يمنع بيتهوفن أن يخرج خير ألحانه وأكمل أدواره وهو محجوب الأذن منقطع عن عالم الأصوات، ويلوح لنا أن الإحساس الموسيقي ليس بالإحساس الذي تزوده الموارد الخارجية بالشيء الكثير، ولا هو بالمتوقف على الخبرة والمراس، كما هو شأن الإحساس في نفس الشاعر والفيلسوف والحكيم، فهو كالحقائق الرياضية التي تدركها البداهة ويضؤل فيها أثر الخبرة والمشاهدة، ولهذا ينبغ الموسيقيون كما ينبغ الرياضيون في سن الشباب بل في سن الطفولة، ونسمع عن الأطفال الذي يحلون المسائل والأقيسة، وعن الأطفال الذين يحكمون الإيقاع على الآلات في العاشرة أو ما دون العاشرة، ولا نسمع عن هذه الأعاجيب في غير الموسيقى والرياضة من الفنون والعلوم، ولهذا يتشابه الموسيقيون والرياضيون في الملامح والصفات، ويكثر الملحنون بين علماء الفلك والرياضة كما لاحظنا ذلك في مقال لنا عن الخيام.

فالتعبير الموسيقي يصدر عن النفس بمعونة قليلة من الخبرة الدنيوية والمعارف العقلية، وهو فيها صدى التوافق الذي يشمل قوانين الوجود، ويضبط نسبته الملحنون والرياضيون، ولسنا نعجب أن يتصدى الموسيقيون للتعبير الفلسفي، والإفصاح عن المعاني البديهية بأداتهم من الألحان والآلات، فإن هذه الأداة لقادرة على أن تلهمنا «الإدراك اللدني» الذي يعيا الفيلسوف بالتعبير عنه وإفراغه في قالب الألفاظ والأفكار، وليس الجانب الذي تحده الألفاظ حدًّا يتساوى فيه جميع الفاهمين إلا جانبًا قريب الغور في نفس الإنسان، أما ما وراء ذلك من الضمائر المغلقة والمعاني الرفيعة والبدائه الملهمة فليست حصة الموسيقي فيها بأقل من حصة الفيلسوف ولا نصيب اللفظ منها بأجزل من نصيب الأصوات. بل لعل الموسيقي أقدر على إلهامك بعض معانيه من الفيلسوف على نقل إلهامه إليك بالكلام الواضح والتعبير الفصيح.

غير أن الذي نعجب له وننكره على الموسيقيين أن يدعوا ترجمة الكلام بالألحان أو ترجمة الألحان بالكلام، وأن يزعم أحدهم أن يسمعك القصة منغومة كما يسمعها إياك منظومة أو منثورة، بتفصيل كتفصيل الصور والكلمات، فهذه الدعوى تنزل بالموسيقى ولا ترفعها وتعلقها بالتعبير الكلامي، ولا تجعلها مستقلة بتعبيرها الذي فيه الكفاية والغنى عن غيره من أساليب التعبير، وحسب الموسيقي أنه صاحب رسالة يبلغها بوسيلته، وصاحب ملكة لا تفتقر إلى ملكات غيره.

إن المعنى الواحد ليكتبه العربي ويكتبه الفرنسي فيبلغان ما يرومان من الإفصاح والإقناع، ولكن إذا ادعى الفرنسي أنه يكتب الفرنسية بأسلوب يردها مفهومة بالعربية، أو ادعى العربي أنه يكتب العربية بأسلوب يردها مفهومة بالفرنسية، فهذا هو الغلو الذي تتنزه عنه البلاغة القويمة والرأي السديد، وكذلك المعنى النفسي قد يعبر عنه الفيلسوف، ويعبر عنه الموسيقي فينقله كلاهما إلى النفس، ويودعها مقصده من الفكر والشعور، ولكن إذا ادعى الفيلسوف أنه يكتب قولًا يفهمه القارئ ألحانًا، أو ادعى الموسيقي أنه ينظم صوتًا يفهمه السامع كلامًا، فذلك هو الشطط الذي لا يزيد الموسيقى فضلًا، ولا يدل على اعتزاز صحيح بمزايا ذلك الفن الجليل.

•••

والعلم بأن الموسيقى تعبير وأن الأصوات لا تطرب بذاتها، ولكنها تطرب بالشعور الذي توحيه، والخاطر الذي تمثله في الطبائع والأذهان، يفسح للنفس دائرة الطرب ويقيم لها هذا الكون كله وكأنه فرقة غناء تفتأ تصدح لمن يسمعها، وهي ناطقة وصامتة وتدأب على الإيقاع وهي معبرة وغير محتاجة إلى التعبير، وليس في هذه الدنيا أسعد ممن تسري أنغامها في نفسه على إيقاع يوافق أنغامها في كل شيء، ويناسق معانيها في كل حركة، ولا أطرب في هذه الحياة ممن ينصت في ضميره إلى لحن يجري مع لحن الحياة في غير ما تباين ولا نشوز، فمن لم يسعده القدر هذه السعادة ولم يطربه ذلك الطرب فله معين في الفن يصلح بينه وبين الطبيعة التي غضبت عليه، أو غضب هو عليها ولو بعض الإصلاح.

وإذا علمنا أن الموسيقى تعبير عن تناسق خفي في ضمائر النفوس والأشياء طربنا لأصوات ليس يطرب لها أكثر الناس، وهششنا لأصداء يلوي لها بعض السامعين كشح المهابة والإعراض، ولست أريد أن أقف لديك موقف الاعتراف إذ أقول لك أيها القارئ، إنني أطرب لنقيق الضفادع على حوافي الجداول حين يبهجها نسيم الليل، ولمعة القمر، طربًا قل أن ألقاه في المهرجان الصاخب والعرس المنير، فقد يكون فرح المهرجانات والأعراس صناعة مستكرمة لا سعادة فيها ولا صدق في أصواتها، ولكن الضفدع التي يرتفع نقيقها في قمراء الليل، أو غاشية الظلام، لن تكون إلا شعورًا صادقًا تمت الألفة بينه وبين أرضه وسمائه، فلا ريب ولا مراء فيما وراء دعائه الساذج من السعادة والرضوان.

يقول صاحب كتاب «الموسيقى الآبدة» وقد أغضبه هجاء لبعض الشعراء وصف فيه البوم أسوأ صفة، وقال فيه: إنه بليد بغيض حقير: «أتحسب أن البوم يبدو لقرينه بليدًا بغيضًا حقيرًا، لا يصلح لغير مصاحبة الخلائق النكدة، ومزاملة الأمساخ والغيلان؟ إنك لو رأيته مرة يحنو عليه، ويمسح رأسه برأسه، ويتخلل ريشه بمنقاره، ويناجيه نجاء الحب والولاء، لغيرت فيه رأيك على الأثر إن كان ذلك ما كنت تراه.» وصاحب هذا الكتاب يلقب البوم بأستاذ فرقة الظلام، ويعذر فرائسه إذا أبغضت نداءه، ولكنه لا يعذر الإنسان الذي يتطير من ذلك النداء، ويجفل من مسمع ذلك الطائر الوديع، والحق أن المسكين لا يصنع في وحدته المرهوبة إلا أن يغني لها وأن يأنس بها وأن يقول لمن يسمعه: إنه مسرور وإنه يناجي أليفه نجاء الحب والنعيم، فإن كان بغيضًا إلى الناس أن ينعم خلق من خلائق الله في تلك العزلة الداجية، فما ذنب الطائر المظلوم في هذا الجفاء الأثيم؟ الذنب للخرفة وللشقاء الذي قرن مرآه في أخلاد الناس بمرأى الخراب والوحشة والظلام، والذنب للشعر والخيال، وليس البوم بالأول ولا الأخير في عالم الشعر والخيال!

فمن شاء أن يستمع فليصغ إلى هذه الموسيقى التي يؤديها الصوت والسكون، والتي سلمت من النبوة قصفها الصادع، وهمسها الضعيف، والتي تطرب البومة المشنوءة فيها كما يطرب البلبل المأنوس، وليعلم أنما يستمع إلى صوت الله، وأن فن العازفين إن هو إلا خلاصة مقربة من ذلك الوحي الفياض.

١  ١ إبريل سنة ١٩٢٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤