الشعر في مصر (٢)١

أشرنا في المقال السابق إلى الفرق بين شعر الحس وشعر الروح، وقلنا: إن الأغاني الشعبية عندنا يعظم نصيبها من المعاني الحسية، ويقل نصيبها جدًّا من المعاني الروحية، وتساءلنا: هل نسمع من العبقرية المصرية نغمة جديدة في الشعر إذا اتصلت حياة الشعب بالحياة المهذبة، واتسع الأفق أمام هذه العبقرية فلم يبقَ محبوسًا في مجال تلك الخواطر التي تطرق نفوس العامة وتردد في الأسواق! ولم نقطع برأي في الجواب؛ لأن الماضي لا يخبرنا في هذا النحو بخبر اليقين، والحاضر رهين بما بعده، وهو لما يزل مجهول المصير.

والواقع أن الشعوب كلها حسية في أغانيها على درجات تتقارب جد التقارب بين شعوب الشرق وشعوب الغرب، والشعوب الجاهلة والشعوب التي انتشر فيها التعليم، فكلها تنظم أغانيها في المعاني التي يلم بها الحس القريب من غزل أو منادمة، أو فخر أو صفة للأزهار والبساتين، ويندر في أغاني شعب أن نجد تلك السبحات العالية، والمعاني الرفيعة، التي تسمو إليها عبقريات الملهمين من كبار الشعراء. غير أننا قد نرى شعوبًا تصف المرأة في غزلها جسدًا يوزن ويقاس، وشعوبًا أخرى تصفها جمالًا جسديًّا تحن إليه النفس ويلطف فيه الحنين؛ فليست كل الشعوب تعنى في الأغاني بتفصيل محاسن الأعضاء من الفرع إلى القدم، ومن العيون إلى الآناف إلى الأفواه إلى الأجياد إلى الصدور إلى البطون إلى الأرداف إلى السيقان، وليست كل الشعوب تصف كل عضو من هذه الأعضاء وصفًا يكاد يكون مقررًا على لسان كل ناظم وفي خاطر كل مشتاق، وليست كل الشعوب تلتفت إلى هذه الصفات وتشدو بها في الغناء، وإن كانت قد تحبها في المرأة، ويعجب بها «الفرد على انفراد».

لأن أشياء كثيرة تخطر في نفس الفرد ولا يتغنى بها، ولا يهتف بها في الملأ، فإذا بلغ الخاطر إلى حد الغناء، فتلك إذن روح الشعب التي تتكلم وتتغنى، وليست بأهواء كل «فرد على انفراد»، ما من رجل إلا ينظر في بعض نظراته بعين الحيوان أو بعين الغريزة الحيوانية، ولكنه إذا تغنى فهناك نفس غير نفس الحيوان تتكلم، وتبوح وهي نفس الإنسان في بيئة لها ما لها من الأوضاع والمشارب والعادات والآداب، ومن هنا يأتي الخلاف بين المعاني الحسية في أغاني الشعوب.

«فالحسية» التي تلاحظ على الأغاني الشعبية بمصر، ليست في جملتها وقفًا عليها، ولا هي ببدع في الشعوب كافة، والغلو في وصف الأعضاء لم يكن دأب المصريين القدماء، وليس هو بالملحوظ في الأغاني الحديقة على كثرة، كالتي عرفناها في بقايا الأجيال الأخيرة، وتلك علامة حسنة تدل على أن الروح المصري الأصيل بريء من إغراق الحيوانية، قابل للتهذيب والتثقيف في هذه الأهواء، وهذا باب أمل لمن يرجون شعرًا مصريًّا تغلب فيه نزعات الروح على نزعات الحس المحدود.

ولا ننسَ هنا أن الطبيعة المصرية تحب الحياة الحسية، وتنقلها إلى ما وراء القبر وتحمل معها الزاد والشهوات إلى العالم الأخير، ولا ننسَ أن «هوميروس» مثلًا كان «شعبيًّا» من دهماء الشعب، فارتقى إلى ذلك الأوج السامق من الشاعرية التي تتناول شتى أهواء الحياة، ولا ننسَ أن اليونان جميعًا كانوا «حسيين» ولكنهم مع هذا طلقاء الذوق، محبون للجمال المهذب في الطبيعة والإنسان، وإذا نحن ذكرنا هذا ولم ننسه فكيف نبرئ الطبيعة المصرية من وسم الحس الضيق، ونعلو بها على أثر الجسد المحدود؟ وكيف نعلل انقضاء التاريخ القديم بغير هوميروس مصري يظهر في طبقة الشعب، كما ظهر هوميروس الشعبي المسترفد في بلاد الإغريق؟ وكيف نعذر السواد «الفرعوني» إذا قابلنا بينهم وبين السواد اليوناني في تلك «الحسية» التي أنتجت لهم تماثيلهم ورواياتهم، وأبرزت لهم الطبيعة في شفوف الجمال والحرية والبهجة والإيناس؟

ربما كان لذلك علة واحدة هي فخر مصر، وهي مرجع اللوم في هذا الموضوع، وتلك العلة هي «الدولة المصرية» وهي أعرف دولة باذخة في الشرق والغرب عرفها التاريخ.

فإن ثبوت الدولة المصرية من أقدم القدم المذكور قد ثبت معها دولة الكهانة، وجبروت القداسة، فانبسط سلطانها الموروث على عالم الدين، وعالم المعرفة، وعالم الفن، وعالم السياسة، وأصبح الكلام في الآلهة والملوك والتواريخ حقًّا موقوفًا على الكهان و«العلماء الرسميين» فلا يتسرب شيء من هذه القصص إلى السواد، ولا يجرؤ شاعر على المساس بتلك الأحاجي والأسرار، وحيل بين القالة «الشعبيين» وهذا المجال الذي تسبح فيه قرائح العبقريين، ويرتفع فيه القول إلى أفق لا تطرقه أغاني الأسواق، ومطالب العيش وهواجس الدهماء، وما إلياذة هوميروس بغير الآلهة والأبطال والتراث التاريخي المفرغ في قالب الأساطير؟ وما الفن اليوناني في رواياته أو في تماثيله بغير الدين والوحي والتاريخ؟ لقد كان لليونان كهانة، ولكنها لم تكن «دولة» عريقة الجذور، ممدودة الفروع، موروثة الرهبة، مدسوسة في كل مسلك من مسالك الحياة، وكانت لهم «معابد» ولكنها معابد «استشارية» لا جبروت لها، ولا ملك ولا صولجان، ولا سبيل كان لها إلى السلطان في بلاد لم يكن للحكومة فيها ذلك العرش الموطد الركين، ولو كانت اليونان أمة كبيرة في أرض كبيرة يقوم فيها ملك واحد موروث العظمة، وتثبت إلى جانبه كهانة واحدة موروثة القداسة، لكان شأنها في الفن غير شأنها الذي علمناه، ولضربت عليها الرهبة حجابها فلم يخفق فيها الشعر حر الجناح حر الأجواء.

وكأن هذا الجمود دأب كل كهانة قوية، فلا حياة للفنون الحرة والشعر الطليق في ظل الكهانات الباذخات؛ فالبابوية خزنت الفنون واعتقلتها عندها حتى أطلقتها النهضة فيما أطلقت من كل شيء، فما ظهر الشعر الحر حين ظهر إلا متمردًا عليها معزولًا عنها، آخذًا في الطريق المحرم أو المكروه في عرف الأتقياء والمحافظين، وما كان للشعر في مستهل القرون الحديثة سبحات أوسع من سبحاته في بلاد الإنجليز، أبعد البلاد عن نفوذ البابوية، وأقلها خنوعًا ﻟ «دولة الدين».

فالدولة المصرية عذر صالح لسليقة المصريين عند من يصمونها بضيق الإحساس، وضعف العبقرية، ولسنا نقول: إنها تثبت لهم تلك العبقرية، وتسلكهم في عداد الأمم «الشاعرة» التي دلت على عبقريتها بمن نبغ فيها من أعاظم الشعراء والمنشدين، ولكنا نقول: إنها تقلل الغرابة عند من يستغرب خلو التاريخ المصري القديم من شاعر شعبي كهوميروس، ومن إليه من قالة اليونان، ثم نحن ننتظر الشواهد ونعلم أن النهضة الحديثة واضعة سليقة المصريين موضع الاختبار العسير، فإما أن نجيء بشاهد جديد، وأما أن ننقض ذلك العذر القديم.

لهذا نحب أن نرى للعبقرية المصرية دليلًا غير هذه الأدلة التي تتردد على أقوال أناس ينسبون إلى الشعر في هذه الديار، ولهذا نكره أن تكون تلك الأقوال عنوانًا دائمًا لحظ هذه الأمة من الحياة والإحساس؛ لأن أصحابها لا يحسون، ونحن نريد للأمة المصرية أن تحس، ولأن أصحابها لا يعيشون ونحن نريد للأمة المصرية أن تعيش في هذا «الكون الإنساني» لا في كون سردابي حدوده تضيق بالحيوان المقيد إذا طال حبله بعض الطول!

لينظر القارئ هل في الدنيا ما هو أبعث للشاعرية، وأذكى للشعور، وأطلق للقرائح، وأشجى للنفوس من منظر الربيع؟ وهل في الدنيا شيء يحس به الشاعر، ويغني له إذا هو لم يحس بالربيع حق الإحساس، ولم يغن له أطرب الغناء؟ فإذا علم القارئ أن ليس في الدنيا شيء أبعث للشاعرية من بهجة الربيع، وأن ليس فيها شيء أجود الغناء للشاعر من وحي الربيع فليقرأ — بعد — هذه الأبيات في وصف الربيع:

مرحبًا بالربيع في ريعانه
وبأنواره وطيب زمانه
زفت الأرض في مواكب آذا
رَ وشب الزمان في مهرجانه
نزل السهل ضاحك البشر يمشي
فيه مشي الأمير في بستانه
عاد حليًا براحتيه ووشيًا
طول أنهاره وعرض جنانه
لف في طيلسانه طرز الأر
ض فطاب الأديم من طيلسانه
ساحر فتنة العيون مبين
فصل الماء في الربى بجمانه
عبقري الخيال زاد على الطيـ
ـف وأربى عليه في ألوانه
صبغة الله أين منها رفائيـ
ـل ومنقاشه وسحر بنانه

هذه أبيات نظمها شوقي لاستقبال المحتفلين به، فهي حمادى ما احتفى به من شعره وتأنق فيه من معجزاته، وهي عصاه التي يرسلها على السحرة المنكرين والكفرة الجاحدين! وهي آيته في الربيع ومثاله الذي يسوقه للناس ليقول لهم إنه يحسن الوصف، ولا يقصر وحيه على المديح والتقليد! فإن لم يكن شك في هذا فلندع من الأبيات ما يرادف نداء الباعة في الأسواق «بالورد الجميل، والفل العجب، والتمر حنا، روائح الجنة» ولننظر ما بقي فيها من دلائل الإحساس بالربيع، والامتزاج بالطبيعة، والشغف بالجمال والحياة في موسم الجمال والحياة!

كل ما يبقى بعد ذلك أن الربيع يمشي في السهل مشي الأمير في البستان، وأن صبغة الله أجمل من صبغة رفائيل!

فأما أن الربيع يمشي في السهل مشي الأمير في البستان، فيصح أن تكون كلمة موظف في شارة الوظيفة لا كلمة «إنسان» في نشوة السرور بجمال الحياة، وسكرة الفرح بالأشواق والآمال والذكريات والأشجان، وهي لا شيء من حقيقة ولا من تمويه، ولا شيء من زينة صحيحة ولا من زينة مزيفة، ولا شيء من عيان بالنظر أو تصور بالخيال، فمشية الأمير في بستانه كمشية كل إنسان في كل بستان، والأمير لا يكون على أجمل حالاته هناك؛ لأنه قد يمشي في مباذله التي لا تميزه عن سائر الناس، ولو شبه شوقي الأمير بالربيع في مواكبه لقلنا روح عامية لا تمثل الروح الإنسانية، ولكن لعله أراد الحلل وألوانها، والمواكب وروعتها، والمزامير وألحانها، ففي هذه وتلك موضع للتشبيه ومساغ لذكر الإمارة! إلا أن شوقيًّا لم يقل هذا، وإنما قال لنا: إن الربيع في السهل كالأمير في البستان، والربيع بعد هو البستان، فهلا قال شوقي: إن الربيع يمشي في الربيع مشية الأمير في الأمير؟ والأمير أيضًا قد يكون شيخًا فانيًا لا حسن فيه ولا عاطفة، وقد يكون فتى دميمًا لا بهجة له ولا وسامة، وقد يكون أميرًا كأمير الشعراء لا حس فيه ولا عبقرية، ولا أشعار له ولا ألحان، فماذا من إحساس الإنسان — فضلًا عن الإنسان الشاعر — في ذلك التشبيه الذي جعل لنا «الربيع» ملحقًا بالميزانية والتشريفات والدواوين؟!

وأما أن صبغة الله خير من صبغة رفائيل فكلمة لا دليل فيها على إحساس بالطبيعة، ولا إحساس بالفنون، كلمة فيها من الغباء ما يكشف عن عامية مطبقة، وجهل بعيد القرار، فالعامة المسفون هم الذين يفهمون أن طلاوات الصور أجمل من صبغة الطبيعة، ويحتاجون إلى من يقول لهم: إن تلوين الله أجمل من تلوين رفائيل. أما النفس التي تذوق جمال الطبيعة وتذوق جمال الفن، فليست تحتاج إلى من يقول لها كيف أن الأصباغ في الرياض أجمل من الأصباغ في الطروس، وليست تفهم أن الفن بهرجة ألوان تغالب ألوان الأزهار والأنوار، وإنما نفهم أنه محاكاة مقصودة لتلك الألوان تعترف بالتقصير، وتستغني عن التعجيز، وما معنى أن يريك المصور صورة إنسان فتقول له متعالمًا متباصرًا: «ولكن أين الصورة من الإنسان!» ثم أي معنى عميق أو قريب لأن نقول للناس: إن صبغة الله أجمل من صبغة رفائيل، إلا أن تكون ممن يفهمون فهم العامة للطبيعة والفنون؟ ثم هل كان رفائيل — بعد كل هذا — مصورًا مفتنًا في تصوير الرياض والأزهار؟ لا. بل كان الرجل مصور وجوه وشخوص مقدسة، برع فيها براعته ولم يضرب به المثل قط في تصوير الرياض والأزهار، فلا حس هنا بالطبيعة، ولا ذوق للفن، ولا علم بالتاريخ! فإن كانت ثمة «أمارة كذابة» في الدنيا فهي إمارة هذا الذي لا يكفيه أن يعد شاعرًا حتى يعد أمير شعراء، وحتى يقال: إنه عنوان لأسمى ما تسمو إليه النفس المصرية من الشعور بالحياة.

ألا ليت ناظمنا قد سلمت له شاعرية الحس في هذه الأبيات، فيكون له بها بعض الغنى عن شاعرية النفس والروح! ولكنه هو وأمثاله كالعامة في الإسفاف عن مقام تلك الشاعرية الكريمة، وشر من العامة في الزغل الكاذب الذي يدخلونه على الشعور الجسدي والحس القريب.

١  ١٣ مايو سنة ١٩٢٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤