الشعر في مصر (٥)١

نريد أن نعرض هنا لفكرتين يتردد الكلام فيهما حول الشعر والشعراء، ويأتي الخطأ من قبلهما في فهم وظيفة الشاعر وتقدير الأشعار، ونعني بهما فكرة «الفائدة» التي ترجوها الأمم من الشعر في حياتها الفردية والاجتماعية، وفكرة القائلين بتمثيل الشاعر للأمة أو للبيئة التي يعيش فيها، فإن هاتين الفكرتين تجنيان كثيرًا من الخطأ على الشعراء والقراء، وتلبسان الحقيقة على الجامدين وغير الجامدين في وضع المقياس الذي يقيسون به محاسن الشعر ومعانيه، ورسم الأغراض التي يطلبها الشعراء أو تطلبها الأمم من الشعراء.

متى يكون الشعر مفيدًا ومتى يكون غير مفيد؟ وما هي الفائدة التي يجوز أن نطلبها من الشعر أو من الفن الجميل على التعميم؟ إذا عرفنا هذا عرفنا مقياسًا للجودة والرداءة يعصمنا من الزلل في الحكم، ويجنبنا ذلك الخلط الذي يخلطه الكثيرون عند التفريق بين المعنى الحسن أو المعنى «المفسد» كما يقولون وغير المفيد.

سمعنا في إبان النهضة الوطنية أناسًا يسألون: أين شعراؤنا في هذه النهضة؟ وأين أثر الشعر المصري في إيقاظ الهمم وإذكاء الشعور؟ ولما أن بحثوا دواوين الشعراء فلم يعثروا فيها على نشيد وطني ولا على قصيدة حماسية تثير النخوة، وتحث على المطالبة بحقوق الأمة، ولا على خطبة سياسية منظومة في أخبار الحوادث اليومية، أو في دروس الوطنية والاجتماع عادوا ينكرون فائدة الشعر، أو يظنون شعراءنا بدعًا بين شعراء الأمم الذين نفعوا أوطانهم وخدموا نهضاتهم وكان لهم أثر محمود في حوادث عصرهم، ويسألون: إذن ما فائدة الشعر للأمم إن لم يفدها في هذه المواقف، ولم ينفخ لها صور الحياة في الشدائد والنهضات؟

ونريد قبل كل شيء أن ننبه إلى الضرر الذي يصيب العلوم والفنون من اشتراط الفائدة القريبة في كل مبحث وكل تفكير، فهذا الشرط وخيم العاقبة مضيع للجهود العلمية والأدبية؛ لأن الفائدة «أولًا» شيء لا يسهل الاتفاق عليه، والتفاهم على تقديره قبل حصوله، فهي عند أناس الخبز والماء، وعند الآخرين المال والثراء، وعند غيرهم الجاه والقوة، وعند غيرهم السرور واللذة، وهكذا إلى غير نهاية من التفاوت بين الأفراد وبين الفرد الواحد في مختلف الأحوال، وهبنا اتفقنا على الفائدة، وحصرناها ومنعنا الاختلاف فيها فنحن لا نعرف كيف تأتي ولا من أين تنجم بين المباحث المتعددة والجهود المتعاقبة، فالملاحظات العلمية كلها على حدتها لا تفيد في المعيشة، ولكنك إذا جمعت هذه الملاحظة إلى تلك، وانتقلت من الجمع إلى العمل، جاءت الفائدة عفوًا في أغلب الأوقات وتساندت العلوم كلها على النفع والإنتاج، فإذا اشترطنا في كل ملاحظة علمية أن تكون مفيدة ليومها ومكانها، ذهب العلم كله وبطلت مباحث العلماء، وركد التفكير والاختراع، وإذا حكمنا الفائدة في الترحيب بالأفكار والآراء، خشينا أن نتجهم لكل فكر وكل رأي وأن نخسر الفوائد المقصودة، والفوائد التي تجيء عن مصادفة واتفاق، وتاريخ العلوم حافل بالفوائد التي أريدت ولم تجئ، ثم جاءت في سبيلها فوائد كانت لا تراد ولا تقع في الحساب، فمن أين تولدت الكهرباء والبخار والصناعات التي نشأت من الكهرباء والبخار؟ لم يقل أحد إنني أريد أن أخلق صناعة كهربائية، فخلقها وعرف قوانين الكهرباء من أجلها، ولم يقصد أحد أن ينشئ كل ما نشأ في الدنيا من «البخاريات» التي شملت اليوم مرافق الحياة، وإنما انتهت كلها إلى هذه النهاية من بدايات متفرقة لا خطر لها في ظاهر الأمر، ولا يرجى لها نفع في رأي الأكثرين.

هذا شأن العلم ومساسه بالصناعة والمعيشة معروف محسوس، فما ظنك بالشعر وهو خطرات ضمائر، وخوالج شعور وشجون، ترجع إلى الإحساس المحض، أو إلى الكلام والأنغام؟ كيف تضبط فوائده وقتًا لوقت، وساعة بعد ساعة، وكيف تقيسه بمقياس المعيشة أو بمقياس السياسة والاقتصاد؟ فقد يكون الشعر مفيدًا جد الإفادة، ولكنه لا يفيد بما يقول على الألسنة بل بما يسري في النفوس، وما يحرك من بواعث الشعور، وقد يكون خلوًا من أسماء النهضة وحوادثها، ولكنه هو عامل من عوامل النهضة، وسبب من أسباب الحوادث، ولسنا نعني بهذا الكلام أن الشعراء المصريين كان لهم — أو لم يكن لهم — أثر في النهضة المصرية، وأن نوع الشعر الذي ينظمونه يفيد أو لا يفيد في إيقاظ الهمم، وإذكاء الشعور، ولكننا إنما نريد أن نبين خطأ الناقدين الذين ينكرون أثر الشعر في نهضة من النهضات؛ لأنه لم يكن يحض الناس على المكارم الخلقية والفرائض الوطنية باللفظ الظاهر، والدعاء الصريح، وأن نقول لهؤلاء الناقدين: إن الشعر الصحيح هو عنوان النفوس الصحيحة، ونحن لا نطلب الصحة في النفس، ولا الصحة في الجسم، لما تحدثانه من الأثر في النهضات الوطنية أو الإنسانية، بل نطلبها؛ لأنها قوام الحياة وملاك الفطرة التي فطرنا عليها في جميع الأوطان والعصبيات، فإذا صحت النفس وصح الجسم كانت النهضة وحصل الارتقاء، ولم يقل أحد حينئذ إن الصحة في النفس والجسم مفيدة؛ لأنها توجد النهضات وتدعو إلى الارتقاء! ومن قال ذلك كان كمن يقول: إن العافية مفيدة لأنها تساعد على هضم الطعام وتنقية الدم، والانتفاع بالأعضاء مع أن هذه الخلال كلها تبع للعافية، وأثر من آثارها، وليست هي فائدتها والغرض الذي نريدها لأجله، فاطلب من الشعر أن يكون عنوانًا للنفس الصحيحة، ثم لا يعنيك بعدها موضوعه ولا منفعته ولو تتهمه بالتهاون إذا لم يحدثك عن الاجتماعيات والحماسيات والحوادث التي تلهج بها الألسنة، والصيحات التي تهتف بها الجماهير.

وهات لنا الشاعر الذي ينظم قصيدة واحدة يحبب بها الزهرة إلى المصريين، وأنا الزعيم لك بأكبر المنافع الوطنية، وأصدق النهضات، وأهنأ مسرات المعيشة ومباهج الحياة، فإن أمة تحب الزهرة تحب الحدائق، وتحب التنظيم والتنسيق، وتحب النظافة والجمال، وتحب العمارة والإصلاح، ولا تطيق أن تعيش في الفاقة والجهل والصغار، وهات لنا الشاعر الذي يعلمنا الغزل الجميل، وأنا الزعيم لك بأمة من الرجال الكرماء والنساء الكرائم، والأبناء النجباء يدرجون في حجر العطف والذوق والصحة؛ لأن الشاعر الذي يعرف كيف ينظم الغزل يعرف كيف يقوم المرأة بقيمتها في الأمة، وكيف يهذب البيوت ويشترع القوانين والدساتير. بل هات لنا الشاعر الذي يعلمنا اللهو والطرب، وأنا الزعيم لك بأمة تعيش عيش الآدميين، ولا تسخر تسخير الأنعام، وتعمل ليلها نهارها للقوت الحيواني وضرورة الأجسام، فالشعر شيء يتصل بالإنسان من حيث هو كائن حي، لا من حيث هو ابن وطن أو ابن جامعة أخرى من لغة أو عقيدة، فإذا كان الإنسان إنسانًا ومصريًّا أو عربيًّا ومسلمًا أو نصرانيًّا فتلك إضافة تتقلب بها الطوارئ، وليست هي الأصل ولا هي المقصد المنشود، ومن ثم يكون الشعر شعرًا لا غبار عليه وهو خلو من الأسماء والألفاظ التي تلاك في نهضات الأديان والأوطان، ويكون الشعر مجاريًا للنهضات أو سابقًا لها، وليس فيه تلك الأناشيد ولا تلك «الحماسيات» التي يعنيها من ذكرنا من الناقدين، وحسن ولا ريب أن ينظم الشاعر في «الوطنيات» والاجتماعيات، وأن يحض على الحمية والمروءة ومكارم الخصال، ولكنه إذا لم ينظم في هذه الأغراض فليس ذلك بالدليل على خلو النهضة من آثاره، أو على أنه عالة على الوطن وأصحاب الدعوات.

•••

ذلك رأي مجمل عما يقال في فائدة الشعر، ننتقل منه إلى رأي مجمل عما يقال في الشعر وضرورة تمثيله للأمة والبيئة، فيلوح على الذين يشترطون في الشاعر تمثيل بيئته ولا يشترطون في شعره الفائدة القريبة أنهم أدنى إلى فهم وظيفة الشاعر وروح الشعر من أصحاب «الفائدة» الأولين، وهم كذلك في الحقيقة، بيد أن الرأي الذي يرتئونه مضلل في النقد كتضليل ذلك الرأي، وخليق أن يحملهم على مطالبة الشاعر بما ليس مطلوبًا منه، وأن يقيسوا شعره بما ليس يصح أن يقاس به، فأما إن كان غرضهم من تمثيل البيئة أن الشاعر يولد في زمن لا يستطيع أن يتعداه فذلك تحصيل حاصل، لا معنى لاشتراطه؛ لأنه موجود محقق بالفعل لا سبيل للإفلات من حكمه، ولو حاول الشعراء أن يفلتوا منه، فلا وجه للتمييز بين شاعر وشاعر؛ لأن الجميع في هذا الحكم سواء من أحسن منهم كمن أساء، ومن أبدع منهم كمن قلد سواه. وهل كان شعراء القرن العاشر وما بعده إلا أبناء بيئاتهم يقولون ما يقال في تلك المواطن وتلك العهود؟ وهل كانوا يقلدون ويولعون باللفظ الفارغ والمحسنات الجوفاء، إلا لأنهم نشئوا في زمان التقليد والخواء؟ فهل بلغوا المثل الأعلى، وأتوا بالنموذج المحمود؛ لأنهم سيئون جامدون يعبرون عن بيئة مثلهم في السوء والجمود؟ ما نحسب أحدًا يريد أن يقول هذا، وإن كان تمثيل البيئة الذي يشترطونه ينتهي بأصحابه إلى هذا المقال.

وأما إن كانوا يقصدون بتمثيل البيئة ألا يقلد الشاعر من تقدموه، فهذا إنكار للتقليد لا للخروج عن البيئة؛ لأن الشاعر لا يعاب عليه أن يسبق عصره، وأن يحس بما لا يحس به أبناء جيله، وهذا يحدث كثيرًا بلا مراء ويحسب من مفاخر بعض الشعراء المبرزين، الذين يعلون على معاصريهم في الإدراك والشعور، ولا ننسَ أن الشاعر الذي يمثل جيله أحسن تمثيل قد يدل على صدق في الملكة، وأمانة في التعبير، وبلاغة في الأداء، ولكنه قد لا يدل على تفوق في الشاعرية، ولا تكون له الحجة على زميله، الذي يعبر عن أمور يجهلها معاصروه، ثم يعرفها له الناس بعد زمانه، وليس من الضروري للشاعر المجيد أن يفيد المؤرخ في استقصاء أحوال العصور، واستخراج الوقائع والأسانيد، إذ ربما أجاد الشعراء في عصر واحد، وهم مختلفون في الإجادة، واختلافهم في الملكة والمذهب والمزاج، فتمثيل البيئة ليس من شرائط الشاعرية؛ لأن البيئة الجاهلة المقلدة يمثلها الشعراء الجاهلون المقلدون؛ ولأن الشاعر المتفوق قد يخالف بيئته وينقطع ما بينه وبينها فلا تشبهه ولا يشبهها، إلا في معارض لا يصح بها الاستدلال، وقد يوجد من الشعراء من يشبه تلك البيئة في هذه المعارض وبينها وبينه مئات الفراسخ ومئات السنين، بل قد يكون هذا الشاعر أشبه بها من ذلك الشاعر المتفوق الذي يعيش فيها، وينقطع ما بينه وبينها، وهل يستحيل علينا أن نجد في المتنبي مثلًا شواهد يمكن أن نعده بها من شعراء هذا الزمان؟ وهل يستحيل علينا أن نجمع بين أبي العتاهية والشريف الرضي والأعشى وابن حمديس بشبه واضح أو خفي، كالشبه الذي يلاحظ بين أبناء البلد الواحد والفترة الواحدة، فهذه المشابهات عرضية في الدلالة على الشاعرية، وعلو الملكة، وصدق التعبير، وقد ننكر «الفائدة» على الشاعر، وننكر عليه مطابقته الزمان الذي يعيش فيه، ولا نستطيع بعد كل هذا أن ننكر عليه الشاعرية الراجحة، ونجهل مكانه بين مفاخر الأوطان.

١  ٣ يونيو سنة ١٩٢٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤