كتاب سادهانا للحكيم الهندي تاجور١

سادهانا أو «تحقيق كنه الحياة» هو اسم اختاره الحكيم الهندي تاجور لمحاضراته التي ألقاها بالبنغالية على تلاميذه في مدرسة «بولير» من بلاد البنغال، وترجمها مع بعض أصحابه إلى اللغة الإنجليزية، ثم ألقى موجزًا منها في جامعة هارفارد الأمريكية، وبعض المجامع الأوربية، وهذه المحاضرات على إيجازها هي خلاصة حكمة الهند، كما أدركها النساك الأقدمون، وشرحها قلم الشاعر الصوفي بأسلوبه الرائق، وخياله الورع المتخشع، وقريحته الصادقة المطمئنة، وهو يتكلم فيها عن إيمان موروث، ونظرة عصرية إلى شئون الحياة لا تتفق لنساك الهند العاكفين على العبادة، المنقطعين عن الحياة الدنيا، فهي خير ما يقرؤه المتشوف إلى فهم روح الديانة الهندية في غير تلك الأسفار المثقلة بالرموز المغلقة، والمعاني الغامضة، والأمثلة الفائرة من بقايا حكمة يوشك أن ينضب معينها، وتنزل الأوضاع والمراسم منها منزلة الحقيقة والابتكار.

قرأت هذا الكتاب أول مرة منذ خمس سنوات عند هياكل الأقصر، وأطلال معابدها الدارسة، فجمعت فيه بين حكمة البراهمة وحكمة الكهنة على بُعد ما بينهما من المسافة في الباطن والتمثيل الظاهر، فتلك حكمة تقوم حقيقتها على إنكار المادة، وتجاوز الأجساد إلى ما وراءها من البواطن الروحية، والصلة الجامعة بمصدر الحياة، وهذه حكمة تقدس المادة في مظاهرها المتعددة من جماد ونبات وحيوان، وتلبس كل لمحة روحية ثوبًا من الجثمان البارز الكثيف، تلك حكمة تحسب الحياة الدنيا عبثًا عارضًا، وسبيلًا إلى حياة خالدة لا طعام فيها ولا متاع ولا رجاء غير الاتصال بأصل الوجود وسر الأسرار، وهذه حكمة تحسب الموت نفسه مجازًا إلى حياة أخرى ينعم فيها المرء بطعامه ومتاعه، ويرجو فيها من متعة العيش ما كان يرجوه عالم الأجساد، ولعل هذه المسافة بين الحكمتين هي التي مثلت لي كل حكمة منهما في غايتها القصوى، وطرفها البعيد عن نقيضه المقابل له، فأظهرت لي ما فيهما معًا، وخلصت بي من كليهما إلى العنصر واللباب.

ولقد سمعنا بعدها فلسفة الهند أو فلسفة تاجور من فمه، ولا تزال في الآذان نغمة من ذلك الصوت المشجي العذب، وجرس من ذلك اللفظ الواضح الرخيم، فسمعنا خلاصة اﻟ «سادهانا» ينطق بها صاحبها بصوت كأنما هو صوت الأرواح تتكلم، أو نجى الوحي الهندي تتلقاه الأسماع من وراء المحاريب، ورجعت إلى اﻟ «سادهانا» فقرأتها في هذه المرة كأنما أسمعها نشيدًا أو أحس صداها يتجاوب بين عمدان الفراعنة وحجرات الكهان، ورأيت من ذلك كله صورة قدسية يظللها القدم وتحفها مصر والهند بخير ما فيهما من ودائع الدهور وذخائر العقول، فقضيت عندها ساعة خشوع وسلام وددت أن أشرك فيها قراء هذه الساعات.

لست أريد أن ألخص «السادهانا»؛ لأن الكتاب صلاة والصلوات لا يجوز فيها التلخيص والاقتضاب، ولست أريد أن أنقد آراءها؛ لأن هذه الآراء إن هي إلا زهرة روحية، والزهرات لا تطيب على النقد والتحليل: ولكني أدير سمع القارئ إلى نغمات من تلك الصلاة، وألقي ببصره على منظر من تلك الزهرات، وأومئ له إلى مدخل المحراب، أو ناحية الروضة وهو بعد ذلك وما يشاء من اكتفاء بما رأى أو اتجاه إلى طلب المزيد.

•••

يفرق تاجور بين المدينتين اليونانية والهندية، أو بين الفلسفتين الغربية والبرهمية، بأن الأولى فلسفة نشأت وراء الجدران، والثانية فلسفة نشأت في الغابات والآجام، فلهذا قامت الحواجز بين الإنسان والطبيعة في عقيدة الغربيين، واتصلت الحدود بين الفرد والحياة الكونية الشاملة في عقيدة الهنود، ويقول تاجور: إنك تستطيع أن تنظر إلى الطريق نظرتين مختلفتين، فأما النظرة الأولى فتريك الطريق كأنها فاصل بينك وبين المقصد فأنت تحسب كل خطوة فيه ظفرًا بلغته منها عنوة في وجه المقاومة والعداء، وأما النظرة الثانية فتريك الطريق كأنها وسيلتك إلى غايتك فأنت تحسبها بهذا الاعتبار جزءًا من تلك الغاية، ومبدأ لتلك النهاية، وهذه هي نظرة الهند إلى الكون والطبيعة، وتلك هي نظرة الغرب إلى كل ما وراء الأنانية المحدودة.

فالعلم الغربي غايته أن يملك كل ما يمتد إليه، والعلم الهندي غايته أن يتصل بكل شيء، العلم الغربي مطلبه القوة والعلم الهندي مطلبه الفرح، وكما أن الطفل لا يفرح بحفظ حروف الأبجدية ولا يجد نشوة المعرفة إلا حين تتقارب تلك الحروف وتتصل فيها الجمل والمعاني، كذلك الإنسان لا يغتبط بتفريق صور الحياة والفصل بين كل جزء منها وسائر الأجزاء، وإنما هو يغتبط حين تتلاقى أمام عينيه أجزاء الحياة، وتتناهى من كل جانب إلى الوحدة والشمول. على أن العلم الغربي — مع ما فيه من ظواهر المادية والأثرة — ليس في أساسه إلا بابًا من أبواب الاتصال بحقيقة الكون وباطن الحياة، إذ ما يبتغي العلم حين يأخذ في تعديد الوقائع والمشاهدات؟ إنك قد تذهب تقول: إن التفاحة تسقط من الشجرة، وإن المطر يهبط إلى الأرض، وإن وإن وإن من أمثال هذه المشاهدات التي لا نهاية لها ولا فائدة من تعديدها، حتى إذا انتهيت منها إلى قانون «الجاذبية» انتهيت إلى وحدة تجمع تلك الوقائع، وتؤلف هذه الأشتات، وانتهيت بعد ذلك إلى قانون يجمع القوانين هنا وهناك، ثم لا تفتأ تترقى في التأليف والتوحيد حتى تنفذ إلى الوحدة الكاملة إن استطعت النفاذ إليها، فكأن العلم هو تقريب ما بين الظواهر، وتأليف ما بين البواطن، ومحو الفوارق وجمع الأواصر بينك وبين جوانب الحياة.

ولو فهم الغربيون علمهم هذا الفهم لعلموا أنهم أقرب إلى الفلسفة الهندية مما يظنون، وأن الفرح بالوجود هو غاية كل علم بأسرار هذا الوجود، ثم هل يحسب الإنسان نفسه مالكًا لشيء يحتجنه إليه إن كان هذا الشيء عبئًا على كاهله لا يسره ولا يغنيه؟ كلا! إنما هذا فقر وقيد وليس هو بالغنى ولا الحرية، وإنما يحسب من ملك الإنسان ما هو له سبب سرور ومادة غبطة ورضوان، فإذا ملك الإنسان بالعلم كل ما في الأرض ولم يغتبط بما يملك، ولم يشعر بقلبه فرحان جذلًا ينبض على نبض ذلك القلب الأعظم الذي يبث الحياة في كل شيء فهو إذن فقير مستعبد بين هذه الأعلاق الغربية عنه، وهذا الغنى الكاذب الموهوم، وهو لا يملك إلا ليفرح، ولا يفرح إلا إذا كان ما يملكه سببًا لحريته وانطلاقه من قيود الأنانية الضيقة والمنافع المحصورة، «وليست سعادة النفس العظمى في أخذ شيء من الأشياء، بل هي السعادة لها كل السعادة أن تهب نفسها لشيء أكبر منها، ومطالب أوسع من مطالبها، كمطلب الوطن، أو مطلب الإنسانية، أو مطلب الله»، «والطير حين يحلق في السماء يحس كلما خفق جناحاه سعة السماء التي لا نهاية لها، وأن جناحيه لن يحملاه أبدًا إلى ما وراءها، وهذا هو فرح التحليق عنده، أما في القفص فالسماء محدودة، وقد تكون على ذلك كافية كل الكفاية لما يحتاج إليه الطير من معيشته لولا ذلك العيب الذي فيها، وهو أنها ليست أكبر من الحاجة أو أكبر من الضرورة، ولن يسر وهو محبوس في حدود الضرورة؛ لأنه لا يستغني عن الإحساس بأن ما عنده أعظم مما عساه أن يحتاج إليه، بل أعظم مما عساه أن يدركه ويحيط به، وبهذا وليس بغير هذا يداخل نفسه الفرح والرضوان.»

قد يفهم مما تقدم أن تاجور يدعو إلى محو الأنانية والفناء في وحدة الوجود، كما يفعل بعض المتصوفة الذاهلون في سكرة الإنكار، ولكن تاجور لا يدعو إلى ذلك، ولا يفهم معنى للحب بغير «الذاتية» ولا معنى للذاتية بغير الحب، فمن قوله في محاضرته عن الشر: قص على بعض تلامذتي يومًا قصة جرت له مع عاصفة، وشكا لي أنه كان يحس طوال الوقت أن هذه الحركة العظيمة في قلب الطبيعة، ما كانت تحسب له حسابًا أكبر مما قد تحسبه لقبضة من التراب، وإن كونه نفسًا مستقلة بمشيئتها لم يظهر له من أثر قط فيما كان يحدث حوله، فقلت له: لو أن اعتبارنا لذاتنا المنفصلة قادر على أن يحيد بالطبيعة عن مجراها لكانت تلك الذات هي أشد الخاسرين بذلك الاقتدار.

فلاح عليه الإصرار على الشك وقال لي: إن الحقيقة التي لا ريب فيها هي ذلك الشعور ﺑ «أنا» وإن «أنا» هذه تطلب لها علاقة خاصة بها.

فقلت له إن هذه العلاقة الخاصة ﺑ «أنا» لا يمكن أن توجد إلا مع شيء ليس ﺑ «أنا»؛ ومن ثم وجب أن يكون هناك وسط مشاع بيننا، وأن يكون هذا الوسط على السواء للا «أنا» ولغير اﻟ «أنا»، وأني أكرر هذا القول في هذا الموضع، وأزيد عليه أن الفردية بطبيعتها مدفوعة إلى البحث عن العمومية، فإن جسدنا يموت إذا شاء أن يأكل من مادته وحدها، وأن عيننا تفقد معنى وظيفتها إن كانت «لا ترى إلا نفسها». فليست الأنانية التي ينكرها تاجور إلا تلك الأنانية التي تعزل صاحبها عن الدنيا، وتوصد عليه مسالك الاتصال بالحياة الكبرى والخير الذي يغمره من جميع الجهات.

•••

وقد يفهم كذلك أن تاجور ممن يزدرون الدنيا، ويحرِّمون العمل، ويزهدون في الحياة. ولكن تاجور لا يزدري الدنيا، بل يراها كلها جمالًا في جمال، ولا يحرِّم العمل، بل يرى أنه هو الوسيلة الأولى لرياضة النفس على طلب الكمال، ولا يزهد في الحياة، بل هو يحبها قاطبة، ولا يغمض فيها عن جليل ولا ضئيل، وهو يقول: إن الدنيا كلها خير، وإنما الشر عارض فيها أو جزء مبتور من الخير، فمن حكم على الدنيا بالشر كان كمن يحكم بانتحار رجل هو ماثل بين يديه في قيد الحياة، ويقول: إنك حين تنسق الحديقة التي تعجبك بشاشتها إنما تلمح جمال نفسك قبل أن تلمح جمال تلك الحديقة. فمن أراد أن يكشف عما في نفسه من الجمال، فليعلم أن العمل وسيلة الرفعة والكمال، ويقول: إن الزهد في عوارض الحياة قد يحْرم الإنسان حقيقة الحياة؛ لأن الضرورة هي سبيل الحرية، فمن أراد أن يلعب الشطرنج بغير قيد، ومضى ينقل حجارته بغير مانع فقد اللعب، وحرم نفسه لذة الاضطرار.

وقد يسأل سائل وما هي الغاية من كل هذا؟ والجواب أن الغاية ملحوظة من البداية، الغاية أن تعمل في هذه الدنيا لا لكي تحتجن إليك الأشياء، بل لكي تحبها وتفهمها وتتصل بها، وأن تنظر إلى الإنسان لا كأنه آلة تسخرها في لباناتك الصغيرة، بل كأنه جزء متمم لك تعطف عليه ويعطف عليك، وأن تقدر جمال ما تراه لا لتنزعه إليك من الكون، بل لتدخل أنت وهو في رحاب الكون فتعظم أنت وما تراه على السواء، قال: «بين آكلي البشر ينظر الإنسان للإنسان كأنه طعام يشبع به جوعته، فلن تحيا الحضارة في قوم كهؤلاء؛ لأن المرء بينهم يفقد قيمته العالية، ويصبح متاعًا لمن يشاؤه، ولكن في الدنيا أنواعًا شتى من افتراس الإنسان للإنسان ليست بهذه الغلاظة، ولكنها لا تقلُّ عنها في القبح والشناعة، ولا تحتاج إلى الرحلة البعيدة للوقوع، ففي أقوام أرفع من أولئك الأقوام ترى الإنسان منظورًا إليه أحيانًا كأنه جسد يباع ويشترى بثمن لحمه أو بما يستخرج من منفعته، كالآلة التي يسخرها صاحب المال لتجلب له الزيادة من المال، وكذلك ينزل الترف بنا والطمع وحب الراحة، إلى هذا الوكس الذي لا وكس بعده لقيمة الإنسان.»

فالوجهة التي تيممها الحكمة الهندية هي أن تهب نفسك للكون؛ لأنك جزء منه وليس في طاقتك أن تأخذ السكون كله إليك، وأن تدع الوسائل إلى الحقائق، ولا تخلط بين العوارض والجواهر، أما الوسائل والعوارض فهي كل ما طلبته لمنفعة فيه قريبة، وليس لذاته المنزهة وحقيقته الخالدة، وأما الحقائق والجواهر فهي الحياة للحياة. حياتك أنت الصغيرة، ثم حياة الكون تكبر فيها، ثم تكبر إلى غير نهاية تعرفها أنت أو يعرفها سواك.

١  ١٠ ديسمبر سنة ١٩٢٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤