النكتة١

على ذكر كتاب «في المرآة»

كان التصوير الهزلي معروفًا عند الأقدمين، ولكنه لم ينتشر ولم يتأصل، ولم يستكمل حظه من الجودة والألفة إلا في القرنين الأخيرين، وقد يعزى انتشاره إلى أسباب كثيرة أهمها الطباعة والصحافة والنظم الدستورية، بما تستتبعه من الحملة على الخصوم والرغبة في تعريضهم للبغض تارة وللسخرية تارة أخرى، وإلى معرفة بالنفس الإنسانية لم تكن مأنوسة في الأمم القديمة، فأصبح من السهل السائغ على الإنسان أن يرى في الملأ مضحكًا، أو أن تبدو جوانب النقص فيه للخاصة والكافة؛ لأننا نعلم الآن أن الكمال في الصفات غرض لا تتعلق به المطامع وأنه ما من أحد إلا وفيه جانبه المضحك وجانبه الضعيف، فلا ضير علينا أن تظهر هذه الجوانب للناس، وأن يتندر بها من يعرفنا ومن لا يعرفنا، ومعظم الفضل في هذا — إن حسبت هذا فضلًا — للسياسة ونظام الشعبية الحديث، فقد قيل قديمًا: «من ألَّف فقد استُهْدِفَ.» ولكننا أحرى أن نقول في هذا العصر: «من خاض غمار السياسة فقد استُهْدِفَ.» فما في هذا الغمار رحمة ولا هوادة، ومن وطن نفسه على النزول فيه فلا يستغرب أن يكون غرضًا للمطاعن تارة وعرضة للسخرية تارة أخرى، ولا يصدقن أنه ناج من التشهير والتقول، أو أن خصلة من خصال نفسه تبقى مجهولة مصونة غير مبالغ فيها قدحًا ومدحًا وتعظيمًا وتهجينًا، ما دام له خصوم وأنصار، وما دام التحزب هو صناعة الحكم في هذا النظام الشعبي الحديث، ويعزى انتشار الرسوم الهزلية والرضا بها إلى سبب آخر لعله أقوى من هذا السبب وأدعى إلى شيوعها وقبولها، وهو تحول العقائد القديمة وزوال المثل العليا، ورجوع الأمر إلى التجربة والمشاهدة بعد أن كان مرجعه للخيال والتصديق بالمغيبات، فالضعف الإنساني اليوم حقيقة مقررة أو هو حقيقة محبوبة في بعض الأحيان، والتطلع إلى منزلة الكمال الذي لا تشوبه شائبة فكاهة يضحك منها الجاهل والعالم، وينكرها الأريب والغرير؛ لأنه ما من أحد إلا يرى بين عينيه مصارع العقول ومهاوي الشهوات ويسمع عيوب العظماء ورياء المتزمتين والزهاد، ويختبر صنوفًا من الأنفس البشرية في حالتي العلو والإسفاف وخلتي الوقار والترسل، فلا فائدة من ادعاء الكمال؛ لأنه تصديقه اليوم أبعد المحال. ولا ضرر من كشف النفس عن خبيئة مضحكة أو نقيصة شائعة فهذا قضاء الضعف الإنساني الذي لا محيد عنه، وتلك سنة الحياة في هذه الدنيا الجديدة التي أبت أن تعرف القداسة في واقع أو في خيال.

وكان الأقدمون ولا ريب يعرفون هذا الضرب من قلة المبالاة ويسمونه الكلبية Cynicism ويطلقونه على من يحتقرون المظاهر والدعاوى و«ينهشون وينبحون» أصحابها بالقول البذيء والسخر المضطغن. ولكن التسمية نفسها تدل على الإنكار وضيق الأمد، ولا تشبه أن تكون قد ظهرت بين أناس يماثلون أبناء العصور المتأخرة في فلسفة الترخص وعادة التحلل المطبوع من قيود العقائد وفرائض الأديان، فإن بلغ الأقدمون إلى ذلك الحد فيغلب أن يكون ذلك في فترات متقطعة وأدوار غير مستفيضة، أو أن يكون بين خاصة الأصدقاء حيث لا كلفة ولا احتجاز من إرسال النفس على السجية، والاطلاع على دخائل الأسرار وغرائب العادات.

ولهذا الخلق الحديث خيره وشره، وذكاؤه وغباؤه، فمعرفة النفس الإنسانية حسنة، ولكن استحسان الضعف والقناعة به والتمادي فيه سمت غير جميل، وفضيحة الفضيلة المدعاة خير، ولكن عبادة الرذيلة شر لا نزاع فيه، وقبول السخرية سماحة، ولكن الإعجاب بما يوجب السخرية عجز وإسفاف.

وإن أجمل ما نحن كاسبوه من تسليط الضحك على الطبائع هو أن تنبهها إلى مواضع النقص تنبيه عطف ودعاية، وأن ننتظر منها الجهد في معالجتها بما يقع في الطاقة، ويرجى منه التحسن في ناحية أخرى من النفس، إن لم يكن ذلك ميسورًا في الناحية المضحوك منها، فقلما طلب الكمال إنسان ورجع منه بغير نتيجة مرضية في الباب الذي طلبه أو في باب سواه.

•••

ظهر التصوير الهزلي في مصر بالكلام قبل ظهوره فيها بالرسوم والخطوط، وساعدته النظم الشعبية الحديثة، كما ساعدته تجارب الحياة وسماحة الآراء، وكنا نعرف «القفش» قبل أن عرفنا «الكاريكاتور» ولا نزال نعتمد عليه في الصور التي نرسمها للأنصار والخصوم، فإنما هي صور مدارها على النكتة السانحة والنظرة العاجلة، وقل أن تدور على الدرس والمقابلة والنظرة المدمنة والعطف العميق.

ومن الصور الهزلية التي ظهرت في الأعوام الأخيرة كتاب «في المرآة» لمحرر هذا الباب في زميلتنا السياسة الأسبوعية، وهو أديب فاضل يجيد «القفش» وينظر إلى النفوس على طريقته التي عرف بها نظرة دراسة يطيلها حينًا ويقصرها حينًا، فيتناول منها نقائضها البارزة ويزيدها بروزًا بما يضيف إليها من المبالغة والتهويل، ويدخله عليها من التحريف والتبديل؟

ويرى أديب المرآة في «النكتة» أن مردها كما قال في مقدمة الكتاب «إلى خلل في القياس المنطقي بإهدار إحدى مقدماته أو تزييفها أو بوصلها بحكم التورية ونحوها بما لا تتصل به في حكم المنطق المستقيم، فتخرج النتيجة على غير ما يؤدي إليه العقل لو استقامت مقدمات القياس، وهذا الذي يبعث العجب ويثير الضحك والطرب. فالنكتة بهذا ضرب من أحلى ضروب البديع، ولا يعزب عنك كذلك أن «النكتة» إذا لم تكن محكمة التلفيق متقنة التزييف، بحيث يحتاج في إدراكها إلى فطنة ودقة فهم خرجت باردة مليخة لا طعم لها في مساغ الكلام.»

ورأي الأديب صواب في جزء واحد من أجزاء هذا التعريف، وهو الذي يقول فيه: إن الخلل في القياس المنطقي مضحك، وإن التلفيق والتزييف داعية من دواعي السخرية. أما الجزء الذي نراه على غير الصواب فيه فهو قوله: إن النكتة هي التي تشتمل على الخلل أو على التلفيق والتزييف؛ لأن اشتمال النكتة على خلل في القياس يسقطها، ويلحقها بالهذر والمجانة، والذي نظنه نحن أن النكتة تضحكنا؛ لأنها تفضح الخلل وتهتك الدعوى الملفقة، وتطلعنا على سخافة العقول التي لا يستقيم تفكيرها، ولا تطرد حجتها؛ ومن ثم تكون النكتة هي المنطق الصحيح وهي الحجة المفحمة، وهي البرهان الذي يرجح بالبراهين في معرض الجدل.

مثال ذلك: جاء جماعة من الأزهريين إلى عظيم معروف بالنكتة اللاذعة والحجة الصادعة، فطلبوا إليه أن يتوسط في إرسال بعثة منهم إلى أوربا أسوة بطلاب المدارس العليا، فضحك العظيم وأجابهم مداعبًا: وإلى أين نرسلكم؟ إلى الفاتيكان؟

هذه نكتة من خيرة النكات المسكتة، وهي تضحكنا ولكن لا لأنها خلل في القياس المنطقي، بل لأنها تقيم الحجة على خلل ذلك القياس، وكأن ذلك العظيم يقول في سلسلة من القضايا المنطقية المسلمة:
إن طلاب البعثات يرسلون إلى أوربا لإتمام الدراسة في معاهدها.
وأنتم طلاب علوم دينية.
فأنتم تريدون إتمام دروسكم العالية في معاهد أوربا.
وليس في أوربا من معهد للعلوم الدينية غير الفاتيكان أو ما يشبه الفاتيكان.
فأنتم إذن تطلبون الذهاب إلى الفاتيكان للتخصص في علوم الإسلام.

وهذه هي النتيجة التي تطرد مع تلك المقدمات، وهي نتيجة عجيبة، ولكن العجب في تفكير من يطلبونها لا في النكتة التي أظهرتنا عليها.

ومثال آخر: دخل أبو العيناء على المهدي ينشده شعرًا، وكان في المجلس خال المهدي — وفيه غفلة — فسأل أبا العيناء: ما صناعتك يا رجل؟ قال: أثقب اللؤلؤ!

هذه نكتة أخرى من طراز ما تقدمها، وهي أيضًا حجة قائمة على الخطأ في القياس والغفلة في التفكير، فكأن أبا العيناء يقول:
أنا رجل أنشد شعرًا في مدح الخليفة.
فأنا أترجى منه الجائزة التي يأخذها الشعراء.
والذين يكسبون المال بالشعر لا يعملون عملًا، ولا يحترفون صناعة غير هذه الصناعة.
وأنا فضلًا عن هذا ضرير.
فأنا أولى ألا تكون لي صناعة.
فإذا طالبتني بصناعة أو صدقت أنني صاحب صناعة، فلماذا لا تصدق على هذا القياس أنني أثقب اللؤلؤ؟
فأنت إذن في غفلة مضحكة، أو أنت إذن في حاجة إلى التقريع.

هذا هو شرح تلك الحجة الموجزة الوحية، وقد تدخل النكات المبالغة للتوضيح والتكبير، فالمبالغة هنا هي بمثابة المضاعفة في الرسم؛ ليراه من لا يقنع بالرسم الصغير، ومن ثم كانت كلمة «الكاريكاتور» في اللغات الأوربية مشتقة من الإطباق والتحميل، كأن المصور الهزلي لا يزال يضيف على الصفة التي يرسمها حتى يثقلها بالإضافة والزيادة، فالكلمة في ذاتها تصويرية؛ لأنها تصور لنا رجلًا مكابرًا بالقوة لا يزال يلقى عليه حمل بعد حمل، وتطبق عليه علاوة بعد علاوة حتى يرزح بما عليه ويقر بما لا مناص منه.

وقد يسأل سائل: ولماذا إذن تضحكنا النكتة السريعة، ولا يضحكنا القياس المفصل والقضية المبسوطة؟ فجواب هذا قد يوجد في تعليل «هربرت سبنسر» للضحك وهو خير تعليل وقفنا عليه في كتابات المعاصرين، ولا نقصد هنا إلا تعليل حركة الضحك الجسدية، لا تعليل أسباب الضحك، فإن السبب الذي يذكره برجسون مثلًا رجيح صالح لتفسير كثير من علل المضحكات، ونعني رأيه الذي يذهب فيه إلى أننا نضحك من كل تصرف في الإنسان يشبه التصرف الآلي الخالي من التفكير، ونحن مع هذا نقول: إن التماس علة واحدة لجميع الضحك خطأ لا يؤدي إلى راتب صائب؛ لأن الضحك وإن كان اسمه واحدًا، إلا أنه ليس بظاهرة واحدة حتى يكون له سبب واحد.

ونعود إلى رأي سبنسر بعد هذا الاستطراد فنقول: إن الضحك عنده ينشأ من تحول الإحساس فجأة من الأعصاب إلى العضلات، فإن من المقرر في «النفسيات» أن الإحساس إذا اشتد وألحف على الأعصاب تجاوزها إلى العضلات، فظهر عليها في حركة عنيفة أو رفيقة على حسب قوته واشتداده، فإذا حبس الإحساس في طريقه فجأة تحول بغير إرادتنا من الأعصاب إلى أسهل العضلات حركة وأسرعها تأثرًا وهي عضلات الوجه والشفتين، ثم عضلات العنق والرئتين، فتتحرك بالابتسام أو بالضحك أو بالقهقهة أو بالوقوف والاختلاج عند من يغلبه الضحك وتهتز له عضلات الجسم كله، والدليل على ذلك أننا نضحك إذا غلبنا الإحساس وتحول من العصب إلى العضل أيًّا كان الموحي به والباعث عليه، فنضحك من الغيظ والألم ونضحك الضحكة الهستيرية التي يفرج بها المكروب عن أعصابه المكظومة، كأنما يخفف عنها بنقل شيء من ضغط الإحساس عليها إلى العضلات؛ فالضحك هو الانتقال فجأة من الإحساس إلى الحركة العضلية، والنكتة السريعة تضحكنا؛ لأنها تفاجئ التفكير بحالة غير مرتقبة، وتعجله عن انتظار النتيجة في طريقها الممهد المألوف.

ومن الأمثلة التي أوردها سبنسر للمضحكات منظر جدي يظهر على المسرح فجأة بين حبيبين يتناجيان، فإحساس النظارة هنا يمشي في طريق الغزل، وينتظر أن يمشي فيه إلى نهايته المناسبة له، ويوجه الذهن إلى هذه الناحية، ولكنه لا يلبث أن يلمح الجدي على المسرح حتى يحتبس في موضعه ويتحول على غير انتظار إلى ناحية أخرى. فيندفع الإحساس من الأعصاب إلى العضلات وتحدث الحركة التي نسميها الضحك حين يختلج بها الفم والرئتان، وفي كل «نكتة» شيء من هذا التحول الذي مثل له سبنسر ينجم عن المفاجأة بما ليس في الحسبان، ويتلخص في إظهار نتيجة غير النتيجة التي تبدر إلى الذهن لأول نظرة من الشيء المضحوك منه.

فالنكتة الصادقة هي الحجة التي تظهر لنا فساد الأقيسة المختلة، واضطراب النتيجة التي تأتي في غير موضعها وتلتوي على مقدماتها، وهذه هي النكات التي تفيد النفس؛ لأنها تروح عنها وتفيد الذهن؛ لأنها ضرب من المرانة على التفكير السريع، وشحذ الفهم، وتقويم له على المنطق السديد، ولنكتة واحدة يفهمها الطالب حق الفهم خير من مائة درس في المنطق يقرؤها ويعيدها وهو لا يحسن القياس ولا يفقه الدليل.

وكتاب الأوصاف المضحكة يعتمدون في نكاتهم على ملكات كثيرة قد يناقض بعضها بعضًا، وقد لا يجتمع منها ملكتان لكاتب واحد، فمنهم من يعتمد على ملكة السخر، وهو يحتاج إلى الذكاء وإدراك الفروق، وقد يصحبه شيء من الجد والمرارة، ومنهم من يعتمد على الدعابة وهي تحتاج إلى مرح في الطبيعة، مرجعه في الغالب إلى المزاج لا إلى الدرس والتعليم، ومنهم من يعتمد على الهزل وهو خلق ينشأ عن جهل بتقدير عظائم الأشياء وقد يستحل الضحك في جلائل الخطوب، ومنهم من يعتمد على العطف وهو يرضي الإنسان عن نقائص الناس، ويضحكه كما يرضي الوالد الشفيق عن جهل وليده الصغير، وخير هذه الملكات وأعلاها ملكة السخر يمازجها العطف، وهي عبقرية لا تقل في اقتدارها على تجميل الحياة وتثقيف النفوس والأذواق عن عبقرية الفلسفة وعبقرية الشعر والتلحين.

١  ٨ يوليو سنة ١٩٢٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤