فلسفة الملابس (١)١

مزيج من الفلسفة والشعر والعلم والدين والكفر والسخافة والضجيج والسخرية والجد ومن كل شيء ومن لا شيء، هذا هو أصدق وصف موجز لكتاب كارليل الذي أسماه «سارتور رزارتوس» أو الخائط يرفو أو فلسفة الملابس، وهو الاسم الذي اختاره له في العربية مترجمه الأديب الفاضل طه السباعي.

والذين يعرفون كارليل وأسلوبه في الكتابة يعرفون أنه الكاتب الذي لا يحاسب بعنوانه، ولا يحصر في موضوعه، فكل باب من أبواب الكلام في النفس الإنسانية هو موضوع كارليل، وكل كلمة صالحة لأن تكون عنوانًا لهذا الكتاب أو لذلك بغير عناء كبير في الاختيار أو التقسيم، وكتاب فلسفة الملابس هو المثل الأعلى — أو إن شئت فقل هو المثل الأدنى — لأسلوب كارليل وطريقته في التأليف والتصنيف، أو في التفريق والتمزيق، فأنت مستطيع أن تسميه فلسفة المباني، أو فلسفة المطاعم، أو فلسفة الحياة، أو فلسفة الموت، فلا يكون عنوانك أبعد من العنوان الذي اختاره المؤلف وترجمه الأديب المترجم، وهكذا تقول في كل كتاب لهذا المفكر العظيم من تفاوت في قوة المزج، ومقادير الممزوجات، فكأن كل مجموعة من مجموعاته بوتقة ينصهر فيه الذهب إلى جانب الحديد، إلى جانب القصدير، إلى جانب الخشب، والحصى والجواهر النفيسة والخسيسة، وكل مادة في التراب والماء والهواء، وإنما هي النار التي يرسلها ذلك الذهن العجيب على تلك الأوشاب والأخلاط، هي التي تريك عناصرها كلها جرمًا واحدًا من اللهب والدخان، يخيل إليك أنه متألف العناصر متماسك الأجزاء، وما هو إلا أن تفتر النار قليلًا — في الكاتب أو القارئ — حتى يعود كل مزيج إلى معدنه وشكله تعلوه سفعة، وترهقه قترة، وهذه هي الصياغة التي عرف بها ذلك الرجل الذي يحيرك في وصفه كما يحيرك في موضوعاته؛ فلك أن تقول فيه: إنه شاعر أو إنه كاهن، أو إنه ناقد، أو إنه فيلسوف، ولكنك لا تستقر له على صفة حتى تراه على غيرها قبل أن تختم الفصل، أو تقلب الصفحة، فهو لجنة من أصحاب الفكر والأدب في زي رجل واحد، وهو نسيج وحده في التفكير يؤخذ كما هو ولا يعنيك إلى أي طائفة من الطوائف تنميه.

ولا يخفى على كارليل شأنه في التوسع والاستطراد، والغموض أحيانًا، والتعقيد أحيانًا أخرى، فهو يصف هذا الكتاب الذي يزعم أنه عثر عليه في الألمانية فيقول:

طالعت الكتاب المرة بعد المرة فشرعت معانيه الغامضة تتوضح وتنبلج في غير موضع، وجعلت شخصية المؤلف تزداد في نظري غرابة وشذوذًا والتباسًا وتعقيدًا، حتى إذا كاد القلق الذي يخامرني يستحيل سخطًا مستقرًّا ويأسًا مستمرًا لم يرعني إلا ورود خطاب من الهر هفرات هشرك أعز أصدقاء الأستاذ أفاض فيه عما أحدثته فلسفة الملابس من الضجة في عالم الأدب الألماني، إلخ إلخ.

وليس هناك أديب ألماني ولا مؤلف ألماني، ولكنه هو كارليل المؤلف، والمترجم، والناقل، والصديق، والمخترع لقصة الأستاذ وكتابه من خياله الحافل الخصيب، ووصفه هذا للأستاذ إنما هو وصف لنفسه، يدلك على أنه يعلم ما في ذهنه من الغرابة والتعقيد، ولكنه يملك ملاحظته ولا يملك تغييره؛ لأنه طبيعة لا حيلة فيها للتطبع، واضطرار لا يجدي فيه الاختيار، وإنك لتقرأ في أثناء الكتاب سخرية ﺑ «الأستاذ» وتبرمًا بأسلوبه في التعمق والإسهاب فإذا كارليل أمامك عائب ومعيب، وساخط ومسخوط منه! ولعله في كل ذلك ساخر من القارئ الذي يتشكى الصعوبة في الفهم، ولا يكلف نفسه مشقة النظر والتأمل، أو ساخر من الكتابة الحديثة التي تجري على الهوى، وتكتب لأوقات الفراغ، ولا تجري على شوق إلى المعرفة، أو تكتب ليعنى بدراستها العاملون والفارغون.

ولما ظهر الكتاب بالإنجليزية ذهب بعض الناقدين يسألون: أين توجد مدينة «فير فسننشت» التي يعيش فيها الأستاذ الألماني المزعوم، والتي طبع فيها كتابه الموهوم؟ مع أن الكلمة بالألمانية معناها «لا أرى أين» وفي ذلك إشارة إلى أن المدينة من مدن الخيال لا من مدن الحقيقة، وأن الأستاذ الألماني شيء لا وجود له في غير رأس كارليل وصفحات كتابه، وقال هذا الناقد متهكمًا: إنه لا يظن أن أبًا مسيحيًّا يسول له قلبه أن يصب على ابنه هذا الاسم الكريه «تيوفلسدروخ» وهو الاسم الذي اختاره كارليل لأستاذه العجيب! وتناول ناقد آخر جملة من بعض الفصول، فقال: إنها تقرأ عكسًا كما تقرأ طردًا، وإن القارئ الذي يبدأ من الذنب إلى الرأس أقرب توفيقًا لفهمها من القارئ الذي يبدأ من الرأس إلى الذنب، وأصاب كارليل من سخرية الناس مثل ما أصاب من سخرية نفسه، ولكنه لقي الآذان التي تصغي إليه، وأنزل كتابه في المكان الذي هو أهله، وتجاوز قراؤه عن فوضاه ليسعدوا بما يتخللها من الروح الحي والعبقرية الثاقبة والهمسات التي تسمعها من هنا وثم، فتنبئك عن حقيقة بعيدة الصدى محجوبة القرار.

•••

إن كارليل أحد أولئك الكتاب القلائل الذين نتحاشى الكتابة عنهم؛ لأننا نعلم أن حقهم عندنا لا تفي به مقالة واحدة ولا عشر مقالات، وأن شرح آرائهم يرجع بنا إلى استئناف حياتنا الأدبية وتجاربنا الفكرية والنفسية من بدايتها إلى هذه الساعة، فقد قرأنا له معظم رسائله وكتبه وأوصينا الكثيرين بقراءتها، وعرفنا له في تثقيف الناشئة التي تقرأ الإنجليزية أثرًا لا نعرفه لكاتب سواه؛ فالتعقيب على كاتب كهذا هو بمثابة عصر عشرين سنة من الحياة؛ لاستخراج رحيقها واستجماع خلاصتها، والموازنة بين عناصرها، وليس هذا بالمطلب الذي يسهل الإقدام عليه ويستخف بالتورط فيه، فليست كتابتنا عنه هنا إلا كتابة موقوتة في انتظار الفرصة الوافية والدراسة الجامعة، وكنا نود لو اختار المترجم الأديب رسالة أخرى لكارليل غير «فلسفة الملابس»؛ لأنها ليست بأحسن الأمثلة التي ترغب فيه وتنوه بقدره، فأما وقد وقع اختياره عليها فإننا نثني على عنايته بأسلوب ترجمتها ونحمد له قلة المآخذ الجوهرية في نقل ألفاظها ومعانيها، ثم نوصي القارئ بأن يحذف العنوان ويتجاوز عنه، ويقرأ الرسالة على أنها مجموعة متفرقة بغير عنوان لا على أنها رسالة في فلسفة الملابس أو في أي فلسفة أخرى، فإذا هو صنع ذلك لم يفته أن يعثر في كل فصل على نبذة حكيمة، أو خطرة لامعة، أو لمحة شعرية، أو نكتة جدية، فيأتي عليه وهو غير نادم على تعبه فيه ولا مستزهد لمحصور منه، وها نحن نقدم له المثال ونقلب الصحائف بغير ترتيب ولا تعمد فننقل له ما يصادفنا من هذه الطرف التي يرسلها كارليل على صفحاته بغير حساب، فهذه صفحة يقول فيها: «من بواعث الحزن أن أحب الناس إلى قلوبنا وأعظمهم شأنًا في عيوننا إذا عاد إلى الحياة بعد مدة وجيزة من وفاته، ألفى محله مشغولًا ولم يجد لنفسه في الدنيا مكانًا، فهذا نابليون وبيرون على ما كان لهما في النفوس من المكانة السامية قد أصبحا في بضع سنين من الطراز القديم، وصارا عن أهل أوربا غريبين أجنبيين» وهذه صفحة أخرى يقول فيها: «إن العقيدة مهما صحت وقويت هي شيء عديم القيمة إن لم تصبح جزءًا من السلوك والخلق، بل هي في الواقع لا وجود لها قبل ذلك؛ لأن الآراء والنظريات لا تزال بطبيعتها شيئًا عديم النهاية عديم الصورة، كالدوامة بين الدوامات، حتى يتهيأ لها من اليقين المؤسس على الخبرة الحسية محور تدور عليه. عندئذ تصير إلى نظام معين، ولقد صدق من قال: «لا يزول الشك مهما كان إلا بالعمل» لذلك أنصح لمن يقاسي التخبط في الظلام البهيم أو يعاني التعيث في الضياء الكليل، ولا يزال يتضرع إلى ربه ويرجو من صميم قلبه أن يسفر الفجر الملتبس عن صبح مبين أن يضع في سويداء فؤاده هذه الحكمة الغالية: ابدأ قبل كل شيء بالواجب الذي بين يديك، بالعمل الذي تعرف أنه واجب، فإنك إن فعلت اتضح لك الواجب التالي» وهذه صفحة ثالثة يقول فيها: «خلاصة القول: إنك إذا أردت الآباد والآزال فابحث عنها في ملكات الإنسان العميقة المطلقة — في القلب والوهم، وإذا أردت الأيام والأعوام فابحث عنها في ملكاته السطحية المحدودة — في العقل والفهم. لهذا كان من حق الملهمين من الشعراء والفنانين أن ندعوهم سلاطين هذا العالم وأمراءه؛ لأنهم يصورون للناس رموزًا جديدة ويقتبسون لهم من السماء نورًا يهتدون بهديه» وهكذا وهكذا لا تفتح الكتاب على صفحة إلا وقعت على شذرة، ولا تنتهي من فصل إلا وقد تنبه فيك شعور أو عرض لك باب التفكير.

وفلسفة الملابس أين هي في شذرات كهذه تلتقطها من هنا وهناك، وتلخصها كلها في قوله طورًا: «إن المجتمع بني على الملابس …» وقوله تارة أخرى: «إن المجتمع ليسبح في فضاء اللانهاية على الملابس، كأنه سابح على بساط سليمان، ولولا هذا البساط لسقط في أعماق الهاوية وعالم الفناء» أو في قوله: «تأمل أي معان جليلة تنطوي عليها ألوان الملابس، فمن الأسود القاتم إلى الأحمر الوهاج، أي خصائص روحانية وصفات نفسانية يكشفها لك اختيار الألوان، فإذا كان التفصيل ينبئك عن طبيعة الذهن والقريحة، فإن اللون ليخبرك عن طبيعة القلب والمزاج …» وإنه ليجد حينًا ويمزح حينًا ولكنه لا ينتظم في حين من الأحيان، ولا يمشى بك خطوتين على طريق إلا عدل بك إلى طريق غيره على عجل، كأنه سائح واسع الخبرة والسياحة، ولكنه سريع الملل غريب الأطوار.

وللملابس ولا شك فلسفة لم يبسطها كارليل في هذا الكتاب، فهل نعود إليها في مقال تال لتفصيلها وضم حواشيها؛ يجوز! ولكننا لا نرى بأسًا من الإلمام بها في هذا المقال الذي يتقاضانا عنوانه شيئًا من تلك الفلسفة وإلماعًا إلى هذا الموضوع! وبحسبنا منه الآن ما يبرر العنوان ويحتقب بعض الوشائع والألفاق فنقول، كما يقول الأكثرون: إن غرض الملابس الأول هو الزينة لا المنفعة وإن الملابس خلقت لإظهار جمال الجسم لا لستره، ولإخفاء القبيح منه لا لإخفاء الجميل، ثم نقول إن الملابس فيما يخال الأكثرون تعين على العصمة والعفاف، ولكن كتابًا قليلين يعدونها مجلبة لبعض الفساد ومعوانًا على بعض الغواية، فهي التي عودتنا أن نعتز بالجمال المموه، ونعرض عن الجمال الصحيح، وهي التي جعلت للجسم نجاسة تحجب وتشتهى وغطت على ما فيه من معاني الفن ومحاسن الهندام، ولو تعرى الناس لبحثت في كل ألف امرأة ينظر إليها الناظرون الآن لصبغة وجهها وتنسيق حليتها، فلا تجد امرأة واحدة يتم لها هندام الجسد وتناسق الأعضاء، وتستحق منك نظرة الفنان البريء إلى التمثال الجميل، ثم لو تعروا لبقيت نماذج الأجسام المليحة، وزالت تلك النماذج الشوهاء التي تتوارى من الفناء في ثنايا الثياب، وتحتمي منه بجاه الأصباغ والأزياء، فالعري خير من لباس يستر ليغري، ويداري قبح القبيح ولا يظهر جمال الجميل، والثوب على ما نراه الآن خدعة شائنة لا هو بالوقاية الصالحة ولا هو بالزينة التي تعف عن الإغواء، وقد كان الناس ينظرون الأجسام فلا يلتفتون منها إلى جوانب الشهوة، ولا يغرمون منها إلا بالوسيم القسيم، فلما تدثروا باللباس اشتهوا ما يشتهى وأضراهم الحجاب بما كانوا عنه معرضين.

كذلك يقول القليل من الناس، وإن في مقالهم لنصيبًا من الحق غير قليل.

١  ١٥ يوليو سنة ١٩٢٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤