حب المرأة١

هو موسم تاجور في القراءة على ما أرى، فاليد تنقاد وحدها إلى كتبه، والمطلعون على شعره ونثره يتوافقون على ذكره، والبحث في شخصه وتأليفه، وقد قضينا ليلة من هذا الأسبوع نتذاكر حديثه مع صديق أديب زارني في المكتبة، فسبقت يده إلى مجموعة «جنتجالي وقطف الثمار» من مجموعات أشعاره وأناشيده، وأخذ يقلب صفحاتها فاستوقفته هذه القصيدة:

كانت حياتي في صباي كالزهرة ترسل من أوراقها الكثيرة ورقة أو اثنتين، ثم لا تحس لها فقدًا حين يطرق نسيم الربيع بابها، يسألها ويبتغي عطرها، فاليوم والشباب في إدباره، أرى حياتي كالثمرة التي ليس عندها ما ترسله، ولكنها تترقب مع هذا أن تهب نفسها كلها، وهي حافلة بذخر حلاوتها.

قلت: يشبه أن يكون هذا الكلام موضوعًا على لسان امرأة فهو بحب النساء أشبه منه بحب الرجال. قال: غير بعيد! فقد مرت بي هنا قطع كثيرة ينشدها الشاعر بلسان المرأة، ويكثر فيها ضمير المؤنث، فلعل هذه إحداها، وإن لم يرد فيها ذلك الضمير.

قلت: على أنني ألمس في نفس تاجور شيئًا كثيرًا من طبيعة الأنوثة، فحب الأطفال في شعره ورواياته أقرب إلى حب الأمومة منه إلى حب الأبوة، وتصوفه يبدو في صورة من يهب نفسه ويسلم قياده، ويغتبط بأن يكون هو المحبوب من الله أشد من اغتباطه بأن يحب هو الله، فهو صاحب نفس عندها الإعطاء ألذ من الاستيلاء، والتسليم أطيب من الاغتنام، وأكبر رضاها أن تنال الرضا وتشعر بيد المحب تسري على جبينها، فإذا كان في التصوف ذكورة وأنوثة، فهذا التصوف أنثوي أصيل، وما الشوق فيه إلى الله إلا الشوق إلى السيد المالك، وما الرغبة في السلام إلا الرغبة في الطمأنينة إلى المحب المحبوب، والسكينة إلى القوة الرفيقة والسلطان الرحيم.

ولا بدع أن يكون الأمر كذلك، وأن نجد حب تاجور أقرب إلى عطف الأنوثة ورحمة الأمومة، فإن فاصل «الجنس» ليس من المناعة والحسم بالمكان الذي يتوهمه أكثر الناس، وليس كل رجل رجلًا بحتًا، ولا كل امرأة امرأة صميمة، وإنما تمتزج الصفات، وتتفق المزايا، ويكون في الرجل بعض الأنوثة، كما يكون في المرأة بعض الرجولة، ولا أرى في تصور ذلك أظرف ولا أدنى إلى الصدق من الأسطورة التي يروونها عن اليونان، ويمثلون بها كيف كانت صنعة الإنسان، وكيف كان هذا الخلط بين خلق الرجال وخلق النساء، فقد زعموا أن الإله الموكل بهذه الصناعة دعي إلى وليمة الأرباب، فقضى ليلة يقصف ويلهو ويعاقر ويتماجن ثم عاد عند الصباح مخمورًا دهشًا، فألفى عمل النهار بين يديه لا مناص من إنجازه، ولا حيلة في تأجيله. فأقبل على الجوارح والعواطف يقذف ما اتفق له منها في الإهاب الذي يعرض له ويرمي تارة بقلب رجل في أديم امرأة، وتارة أخرى بوجه امرأة على كتفي رجل وهكذا حتى أتم عمله، فإذا رجال أشبه بالنساء ونساء أشبه بالرجال، وخلائق شتى على أنماط يختلف فيها العنوان عن الحقيقة، والصفات عن الأسماء، فقلَّ أن ترى رجلًا لا تندس فيه شية من شيات الأنوثة، وقل أن ترى امرأة لا يداخلها أثر من آثار الرجولة، وقد يتحاب الرجل والمرأة فتكون المرأة هي السيد، ويكون الرجل هو المسود؛ لأن لعنة السكرة القديمة أصابتهما معًا فخرجت بكل منهما عن سَوائه ومالت به إلى غير شكله.

وكأن «أوتو فيننجر» يقول ما تقوله هذه الخرافة، حين شرح مذهبه في الحب وقرر في كتابه «الجنس والأخلاق» ألا ذكورة ولا أنوثة على الإطلاق، وإنما هي نسب تتآلف وتتخالف على مقاديرها في كل إنسان، ولا عبرة فيها بظواهر الجوارح والأعضاء، فإذا فرضنا مثلًا أن صفات الذكورة مائة في المائة فأين هو ذلك الرجل الذي تتم به المائة جميعها بلا زيادة ولا نقصان، وتتآلف ذرات تكوينه واحدة واحدة بلا نشوز ولا انحراف؟ وكيف تجتمع له هذه الصفات المتفرقة بحيث لا تتخلف صفة، ولا تحل واحدة محل أخرى؟ وكذلك النساء أين منهن المرأة التي هي مثل أعلى لجنسها، جامع لكل ما هو نسائي في الجمال والعقل والعاطفة والأعضاء والهندام؟ إن هذا اتفاق لا يجيء به الواقع؛ لأن التمام من وراء ما يبلغه الإنسان أو أي كائن سواه في هذه الحياة، ولكنها أمور نسبية تدخل فيها صفات الرجولة والأنوثة، كما تدخل فيها صفات سائر الأشياء، فليس في الدنيا رجل هو الرجولة كلها، وليس في الدنيا امرأة هي الأنوثة كلها، وهيهات أن تقع على إنسان فيه كل صفات جنسه في جميع أخلاقه وأطواره، كما تقع كل يوم على قطرة ماء فيها كل صفات المائية التي لا بد منها لتكون كل قطرة، فإن العناصر هنا مقيدة محدودة، أما عناصر الطبائع والأخلاق والمواهب والأجسام فمما لا يقيده الحصر ولا يحده التقدير.

ويقول «أوتو فيننجر»: إن الرجل يحب المرأة، أو المرأة تحب الرجل على حسب ما بينهما من التوافق والتباين في تلك العناصر والصفات، فالرجل الذي فيه ثمانون في المائة من الرجولة وعشرون في المائة من الأنوثة تتممه امرأة فيها ثمانون في المائة من الأنوثة وعشرون في المائة من الرجولة، ويجوز على هذا أن توجد امرأة ليس لها من جنسها إلا ظواهره فتكون هي التي فيها الثمانون في المائة من الرجولة، وهي التي تنشد الرجل الذي فيه عشرون في المائة من صفات جنسه! ومن هنا تنشأ الميول الشاذة في الجنسين، وتنبو الطبائع عما خلقت له في سواء التكوين. وخليق بالقارئ أن يذكر أن التعبير بالأرقام في هذه المسألة لا يقصد بحرفه، ولكنه تعبير لجأ إليه «أوتو فيننجر» لتقريب الفهم والتمثيل.

هذا رأي تبدو عليه الغرابة، وتلك خرافة تلوح عليها طلاوة الشعر والفكاهة، ولكن الرأي الغريب والخرافة الطلية لا يكذبان مع هذا ولا يخالفان الشاهد المألوف؛ لأنهما إنما يقرران في النهاية حقيقة لا غرابة بها ولا غشاوة عليها، وهي أن بعض الرجال يشبهون النساء وبعض النساء يشبهن الرجال، وأن هذا الشبه قد يظهر في الصفات الجثمانية، كما يظهر في الصفات الروحية، ولا يبعد أن يظهر فيهما معًا في كثيرين وكثيرات.

وعلى هذا لا موضع للعجب أن نرى رجلًا يحب كما تحب المرأة، وامرأة تحب كما يحب الرجل، ولا إغراق في التأويل حين نقول: إن حنان تاجور ورقته التي اشتهر بها للأطفال وشوقه إلى تسليم روحه، والسكون بها في ظل روح الله، أو روح الوجود، إنما هو أقدس ما تسمو إليه الطبيعة الأنثوية التي قوامها الحنو والتسليم والشوق إلى قوة تغمرها، وتغمض عينيها بالثقة والنشوة والإذعان، وإنما سما تاجور بهذه الطبيعة إلى أعلى سماواتها؛ لأنه أخرجها من الجنسية إلى الصوفية، ومن عالم الأجسام إلى عالم الأرواح، ومن قيود المطالب المحسوسة إلى باحات علوية تفيض بالنور والجمال.

ولسنا نظلم المرأة ولا نحن نقصد إلى القدح في طبيعتها حين نقول: إنها تحب لتهب وتستسلم وتغمض عينيها في نشوة الثقة والاعتماد الطيع الأمين، فليس للمرأة في قرارة نفسها سعادة أكبر من سعادة الطاعة، ولا أمل أرفع من حب الرجل الذي تطيع، وتلقي بنفسها بكل ما فيها من «ذخر حلاوتها» بين يديه، وليقْسُ عليها الرجل أو يرحمها، ويعذبها أو ينعم بالها، فإنها لسعيدة بالطاعة إذا وجدت من يطاع ويقبل عذابها وراحتها، ويتلقى عزتها وذلها على السواء، وتلك هي الحقيقة التي لا ينبغي أن ننخدع عنها بما نسمع في هذا العصر من جلبة الحرية ولغط «الحركة النسائية» وصريخ المطالبة بالمساواة، وحقوق الانتخاب، فإنما الذي يفقده هؤلاء النسوة في جميع أنحاء العالم هو الطاعة لا الحرية، وهو الرجل السيد لا الرجل الند المساوي لهن في كل شيء، ولو وجد هذا «الرجل السيد» لما كان للحركة النسائية أثر، ولا سمع للنساء صوت غير صوت الغبطة والقناعة والحبور، ولو شاء الرجال كلهم — اليوم — ألا يسمع في العالم صدى للمطالبة بتلك «الحقوق» لأصبحنا غدًا ولا صوت لها ولا صدى ولا سامع ولا مجيب، فإنما الرجل هو الذي خلق هذه الحقوق، والرجل هو الذي ينزعها لو يشاء ومتى شاء.

نعم هذه هي الحقيقة التي أومن بها، ولا يغرني فيها أن المرأة اليوم أوفر علمًا، وألهج بكلمات الحرية والمساواة مما كانت قبل أن يخترع الرجال هاتين الكلمتين في عالم السياسة والاجتماع، فلولا الرجال الذين يروقهم أن يروا المرأة حرة طليقة تعبث بالحياء، وتحطم قيود العرف والدين والأخلاق لما وجدت أنثى تجسر على النداء بالحرية ويطيب لها هذا النداء، ولو كان الرجال كلهم أزواجًا يعنيهم من المرأة ما يعني الصاحب من صاحبته، وكان النساء كلهن زوجات يحببن ويلدن ويتذوقن لذة الطاعة والإعطاء، لكانت المساواة التي يهتف بها بعضهن حلمًا كريهًا يقض المضاجع، ويزعج هناءة النوم الجميل.

خلقت المرأة لتعطي، وخلق الرجل ليأخذ منها كل ما تعطيه، خلقت المرأة للطاعة وخلق الرجل للسيادة، خلقت المرأة للأمان، وخلق الرجل للجهاد، خلقت المرأة لتحب الرجل، وخلق الرجل ليحب نفسه في حبه إياها، هذه هي حقيقة الحقائق قد أسرف الشرق في الإيمان بها، وأسرف الغرب في إنكارها، وبين هذين النقيضين وسط هو خط السلامة وباب النجاة.

وقد تكابر المرأة نفسها، أو تكابر الرجل حبًّا للعنت الذي جبلت عليه، ولكنها إذا رجعت إلى طبعها شعرت بهذه الحقيقة راضية أو كارهة، وعز عليها إنكارها، أو كان لجاجها في الإنكار دليلًا على شدة الشعور بها، وصعوبة الخلاص منها، ولذة العنت التي قلنا: إنها مجبولة عليها كما جبل عليها سائر الضعفاء، ويتساوى في هذا الشعور ذكيات النساء وغبياتهن، والعالمات منهن والجاهلات، والقديمات في عصور التاريخ والحديثات في هذا العصر الذي خيل إليه أنه يقلب الطبائع، وينقل الفطر عما أشرجت عليه.

وهذه ماري كورلي الكاتبة الإنجليزية المعروفة، إلى جانبي اعترافاتها التي دونت فيها قصة غرامها، وأوصت بنشرها بعد موتها تقول فيها وهي تزري بالطالبات الداعيات: «أية امرأة تذكر الحرية وعلى شفتيها قبلة حبيبها!» وإلى جانبي كذلك ترجمة راحيل فارنهاجن، والكاتبة السويدية الكبيرة «ألن كي»، وكلتاهما من أذكى النساء وأعلمهن وأعطفهن تقول الأولى عن حبيبها: «لقد كنت أراني كأنني حيوان مملوك لذلك الرجل، وكان في قدرته أن يلتهمني لو يشاء» وتقول الثانية: «إن المرأة لا مقام لها ولا سعادة إلا أن تحب، وأنها تحب الحب وتحب الرجل، وتحب حب الرجل، في حين أن الرجال لا يحبون إلا أنفسهم، وقليل منهم من يحب المرأة لشخصها، ثم هي تتمنى أن يحب الرجل المرأة، كما تحب المرأة المهذبة الرجل، أي أنها فيما تراه «ألن كي» تحب الرجل حبًّا يشمل شخصيته كلها، ويتناول فيها جانب الرجل وجانب الإنسان.»

غير أن المجاز في كلام ألن كي يغطي على بعض الحقيقة، ويند بها قليلًا عن محجة الصدق والبيان الصريح، فإن الرجل ليحب «ذات» المرأة حين يحب نفسه، وليشعر بسروره الحق حين يشعر لتلك المرأة بشخصية حرة في الاختيار والاستسلام، وليس في جوهر هذا الشعور اختلاف بين الرجال والنساء، ولا الرجال بغافلين عن الفضائل الإنسانية التي يحسونها في المرأة مع الفضائل الأنثوية، ولكن الاختلاف يأتي حين تزن كل من الشخصيتين نفسها بجانب الشخصية الأخرى، فتعلم الضعيفة بغيتها عند القوية، وتعلم القوية حقها على الضعيفة، وتمتزج الاثنتان ذلك الامتزاج الذي تظفر منه إحداهما بسعادة الملك، والأخرى بسعادة التسليم، ولن تكون السعادتان أبدًا من نوع واحد كما تريد «ألن كي»؛ لأن اللذين يحسانها لم يكونا من نوع واحد في مزايا الجنس، ولا في مزايا الإنسان.

وبعد، فأين «صوفية» تاجور وطبيعة الأنوثة في الحب؟! بعيد في ظاهر الأمر من بعيد، ولكنك إذا جاوزت عتبة النفس الإنسانية إلى داخلها فلا نهاية ثمة للالتقاء والافتراق بين هاتيك المنافذ والسراديب.

١  ١٧ ديسمبر سنة ١٩٢٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤