الإيمان العلمي١

… قلتم في مقالكم عن عقول الأزهار إن شاعرًا بلجيكيًّا اسمه مترلنك يصف الحيل التي تحتالها الأزهار لحفظ نوعها وزيادة انتشارها، ويستدل بعجائب الطبيعة على حكمة عظيمة في هذا الوجود، ولما كانت هذه الأمور تحيرني كثيرًا فقد أردت أن أسألكم: هل وصل ذلك الشاعر بالعلم إلى الإيمان؟ وهل هو مؤمن؟ وإذا لم يكن مؤمنًا فماذا ينتظر من العلم حتى يصل به إلى الدين.

ي. ط.

كل ما يقال في عقيدة الشاعر البلجيكي مترلنك: إنه لا يؤمن بالأديان المعروفة إيمان أتباعها بأصولها وفروعها، ولكنه يرغب في الإيمان بالله، ويكثر من الاطلاع على الأديان القديمة والحديثة، كما يظهر من كتابه «السر الأعظم». وخلاصة ما انتهى إليه في ذلك الكتاب وفي كتبه الأخرى أن للكون سرًّا لم نصل إليه، وقد لا يكون في مقدرونا على حالتنا الحاضرة أن نصل إليه، ولكنه سر لا يسعنا أن نغفل عنه، ولا أن نفصل بيننا وبينه، فهو محيط بنا مسيطر علينا ندرك أثره في أنفسنا، وفيما حولنا، ولا ندرك كنهه، ونقترب منه في ساعات الإلهام على حسب ما عندنا من الاستعداد لمقاربته، والنفاذ إلى ما وراء الستر الذي بيننا وبينه، غير أننا لا نستوضحه وليس يلزمنا أن نستوضحه كل الاستيضاح لنصدق بوجوده، ولك أن تقول: إن الشاعر البلجيكي يميل إلى الإيمان بوحدة الوجود، أو إلى التوحيد بين الله والكون، واعتبار هذه المظاهر المحسوسة كلها مظاهر إلهية تتساوى في العظمة والقداسة، وإن كنا نحن لا ندركها على السواء، ولا نزال نرى فروقًا بينها في تمثيل إحساسنا القاصر وفكرنا المحدود.

ولو أننا نظرنا بعين «البصيرة» لتقاربت تلك الفروق، وانطوت كلها في روح واحد لا أول له ولا آخر، وليست المادية فيه بأقل من روح الإنسان، ويسهل عليك أن تعرف عقيدته هذه من كلامه الذي نقلناه عنه في عقول الأزهار، إذ يقول: «ليس ههنا أفراد من الخلق لها ذكاء، أو ليس لها ذكاء، ولكنما هو إدراك عام موزع في هذه الدنيا، كأنه فيض ينفذ في الكائنات بمقدار ما عندها من استعداد «لتوصيل» الإدراك، وعلى هذا يكون الإنسان على هذه الأرض هو مثال الحياة التي تميزت بأقل ما يعرف من المقاومة لذلك الفيض الذي يسميه الدينيون بالإلهي، وتكون أعصابنا هي الخيوط التي تهيأت لسريان تلك الكهرباء الأدق من الكهرباء، وتكون أدمغتنا هي الأداة التي ركبت على منوالها لمضاعفة التيار، ولكنه بعد تيار لن يخالف بطبيعته ولا هو صادر من ينبوع التيار الذي ينفذ في الحجر، وفي النجم وفي الزهرة وفي الحيوان، وإنها لأسرار ربما كان من الفضول أن نستطلعها ما دمنا لم نرزق بعد تلك الحاسة التي تستجمع أسباب العلم بها، فحسبنا إذن أن نلمح بعض مظاهر ذلك الإدراك في غير أنفسنا.»

هذه خلاصة جامعة لكل ما كتبه مترلنك في العقيدة وأسرار الأديان، فهل نسميه مؤمنًا؟ وهل نسمي ذلك إيمانًا؟ الأمر الذي لا ريب فيه أنه ليس بكافر ولا منكر للإلهية، والأمر الذي لا ريب فيه كذلك أنه راغب في إيمان يطمئن إليه ويستقر عليه، والأمر الذي لا ريب فيه بعدما تقدم هو أنه لم يصل إلى الاطمئنان والاستقرار، ولا يزال في حاجة إلى اليقين المفصل الذي نعرفه في المؤمنين بالأديان، ولكن هذا الإيمان الذي يؤمنه هو لباب أصيل لا غنى عنه في دين ولا عقيدة، وهو جانب حرام لا يقع فيه الخلاف بين المتدينين، فإذا خرجوا إلى التفاصيل التي تمتحن بها قوة التصديق، وقد تكون هذه القوة مستمدة من العلم بالأشياء كما قد تكون مستمدة من الجهل بها، فالذي يصدقه العالم غير الذي يصدقه الجاهل، والذي يصدقه الكتابي غير الذي يصدقه الوثني، وليس أسهل الناس تصديقًا أحسنهم إيمانًا، وإلا كان العجائز اللاتي يصدقن بكرامات الأولياء، ويعتقدن أن بركة التعاويذ تغلب جراثيم الأمراض بغير حاجة إلى علاج، من خيرة المؤمنين والمؤمنات، ونحن لا نعدهن كذلك ولا نطلب من العالم تصديقًا كهذا أيًّا كان اعتقاده الذي به يدين، فالأشياء التي تزيد بها الأديان على عقيدة مترلنك هي الأشياء التي تنشأ عن الإيمان، وليست هي الإيمان نفسه؛ لأن يقينك بالبعث مثلًا ليس هو الإيمان، ولكنه هو نتيجة لكونك مؤمنًا بكتاب من الكتب، أو نبي من الأنبياء، وهنا يقف مترلنك فلا يثبت ولا ينفي؛ لأن وسائله العلمية لم تساعده على تصديق ما يصدقه المؤمنون.

وأنت تسأل: إذا لم يكن «مترلنك» مؤمنًا فماذا ينتظر من العلم حتى يصل به إلى الدين؟ كأنك تقول: إذا كان الرجل يؤمن بالحكمة التي دل عليها العلم في حياة الأزهار، فلماذا لا يتدين وماذا يحتاج إليه المتدين غير الإيمان بقدرة حكيمة عظيمة في الوجود؟ أليس هذا كفاية؟

والذي أراه أن الأديان جميعها تقوم على شيء أكثر من الإيمان بقدرة حكيمة عظيمة في الوجود، تقوم على الإيمان بصلة العطف بين الإنسان وتلك القدرة فوق الإيمان بحكمتها وعظمتها وسائر صفاتها، وربما أتى على الإنسان زمان كان يؤمن فيه بآلهة لا حكمة لها ولا عظمة، بل بآلهة خرقاء ظالمة تجور على الناس بغير قانون ولا نظام، ولكنه لم يؤمن قط بإله خلا من صلة العطف الإنساني كيفما كان إدراكه لنوع العطف الذي يرجوه عند ذلك الإله، فالشرط الأول في الدين هو التصديق بالعاطفة التي بين الله والإنسان، وبأن الصلة النفسية غير منقطعة ولا يمكن أن تنقطع بين إحساس الفرد، وإحساس الوجود.

هب أن دينًا قام يدعونا إلى الإيمان بإله حكيم عظيم تقتضي حكمته خلق الناس وتعذيبهم وإفناءهم أممًا وأفرادًا ثم ينقرضون جميعًا؛ لكي تتم تلك الحكمة التي يرمي إليها الإله، وهب أن الحكمة التي رمى إليها هي التدريج إلى خليقة أرقى من الخليقة الإنسانية، تعمر هذه الدنيا زمانًا ثم تنقرض كما انقرض الناس، لتخلفها خليقة أرقى وأرقى، وهكذا وهكذا إلى غير نهاية أو إلى نهاية بعيدة لا صلة بينها وبين رجاء الإنسان. هب أن دينًا قام يدعونا إلى ذلك أتحسبه صالحًا للتدين والإيمان، وموجبًا على الناس العبادة والصلاة والراحة التي يجدونها الآن في الأديان؟ لا أعرف ما رأيك في هذا، أما رأيي فهو أن أديان الهمجية خير وأصلح من هذا الدين، وأن الإله الذي يبطش بي فأقبل بطشه أو أثور عليه أقرب إلي من الإله الذي يخلقني، ثم لا يخلق بيني وبينه صلة نفسية إلا كهذه الصلة التي بيننا الآن وبين المادة الصماء.

إن الكون عظيم لا تحده العقول، ولكن عظمته تلك لم تغننا عن الإيمان بالله؛ لأننا حين «نؤمن» إنما نطلب شيئًا غير العظمة فيمن نؤمن به، وذلك الشيء هو العاطفة والصلة النفسية واليقين بأن الحكمة الإلهية مرتبطة بحياة كل فرد منا، وليست حكمة نضيع نحن في أغراضها ومراميها، وإذا تأملت في الكلمة التي نقلناها عن مترلنك ظهرت لك هذه الحقيقة، وعلمت أنه لا يكتفي بدلائل الحكمة ولا يستغني بها عن دلائل الرجاء، فالروح الشامل للحجر، والنجم، والزهرة، والحيوان، موجود يتراءى له في حيث رآه، ولكنه لا يكتفي بوجوده ويستطرد إلى الرجاء فيقول: «إذا كان هذا الروح مثلنا أو كنا نحن مثله، وكان كل ما يحتوي محتوى كذلك فينا، وكانت وسائله وسائلنا، وعاداتنا وشواغله ودواعيه، شواغلنا ودواعينا، وآماله فيما هو أرفع وأجمل هي آمالنا فيما هو أرفع وأجمل منا، أيكون إذن مناقضًا للمعقول أن نرجو رجاءنا هذا الذي نرجوه بالفطرة وعلى غير اختيارنا ما دام من المحقق أن ذلك الروح يرجوه مثلنا؟ بل أيكون من المعقول حين نرى هذا الإدراك الموزع في الوجود أن الحياة لا تعمل ما يقتضيه الإدراك ولا ترمي إلى قصد من السعادة والكمال والانتصار على ما نسميه شرًّا وموتًا وظلامًا وعدمًا، وليس هو فيما يحتمل إلا ظل ذلك الوجه، أو السبات الذي يعتريه.»

فحكمة الروح المصرف للوجود لا تغني نفوس المؤمنين عن الرجاء في «السعادة والكمال والانتصار على الشر والموت والعدم» وليست الحكمة هي المقصودة دون ذلك الرجاء الذي يحبب إلينا الإيمان والتدين، وتقوم عليه التضحية بحياة النوع وكل ما تملكه النفوس، فلا إيمان مع القنوط ولا غنى لنا بالحكمة التي تقطع ما بيننا وبين نظام الوجود، ومترلنك يترقى من القول بالحكمة إلى القول بأن رجاءنا جزء من رجائها، ثم يترقى من ذلك إلى القول بأن رجاءنا إذن غير عقيم، وأن انتهاء الحياة الإنسانية بالموت أمر غير معقول؛ لأنه يخالف الحكمة ويخالف الرجاء، ولكن كيف تكون السعادة والكمال وكيف يكون الانتصار على الشر والموت والظلام؟ هنا تتكلم الأديان ويسكت مترلنك وأمثاله؛ لأنهم يودون أن يتكلموا فلا يجدون الكلام.

وعندي أن الإيمان فطرة في الإنسان؛ لأن الإيمان في صميمه هو التلاؤم بين النفس وبين الوجود الذي هي مخلوقة فيه، ولن يعقل أن يكون تنافر بين موجود وبين الوجود، وإنما يعترينا القلق حين نريد «التصديق» ونحتم على أنفسنا أن تصدق بأمور معينة لا محيد عنها، فعند هذا يكف المرء عن التصديق بتلك الأمور، إذا لم تواته الأدلة والبينات، ولكنه لن يكف عن الإيمان وفيه أمل، ولن يكف عن الأمل وفيه حياة.

١  ٢٠ إبريل سنة ١٩٢٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤