نقد غريب١

جاءتني رسالة من بغداد بتوقيع «أكرم أحمد» يقول فيها: إن أناسًا في المدينة يمشون بالدسيسة بيني وبين الأستاذ الزهاوي من جديد؛ لأنهم كتبوا إلي يزعمون أن ما نشرته «لغة العرب» في نقد ديواني إنما كتبه الأستاذ الزهاوي انتقامًا لنفسه مما كتبته عنه في البلاغ الأسبوعي قبل أشهر، ويقول صاحب الرسالة: إنهم كاذبون فيما زعموا وإن الأب أنستاس الكرملي صاحب «لغة العرب» ليس بالرجل الذي يدعي لنفسه كلام الآخرين، وإن أناسًا اقترحوا على الأستاذ الزهاوي أن ينقد ديواني؛ فأبى مخافة أن يجيء نقده على غير ما يريد من النزاهة والإنصاف، فحبذا لو أعرضت عن هذه الوشايات، وقابلتها بفصل أو فصول أكتبها عن «اللباب» ديوان الزهاوي الجديد، ويتبعها الزهاوي بفصول يكتبها عن ديواني، فينقطع بذلك القال والقيل، ولأكن البادئ بالكتابة عن اللباب؛ لأنني أنا البادئ بالتحامل على صاحب اللباب، كما يقول كاتب الرسالة الأديب.

هذه خلاصة الرسالة التي جاءتني من بغداد ولم أكن قد اطلعت على «لغة العرب» ولا رأيت عددًا من أعدادها إلى ذلك الحين، فبعثت في طلبها ممن عسى أن ترد إليه، فإذا هي مجلة تطبع بالحرف الدقيق، وإذا فيها فصل يقع في زهاء ثماني صفحات نقدًا لديواني مستهلًا بهذه العبارة: «الأستاذ العقاد كاتب كبير، وكنا نعتقد أنه كذلك شاعر كبير حتى جاءنا ديوانه الجديد حافلًا بما نظمه قديمًا وحديثًا، فإذا هو دون ما أكبره تصورنا، وإذا هو مشحون بالأغلاط والضرورات القبيحة، وإذا هو قبر للألفاظ الميتة دارس، فيه كثير من العظام البالية، وإذا هو تافه المعاني في الأكثر، وإذا هو في كثير من قصيده يخرج عن الموضوع، فلا تبقى فيه الوحدة المتوخاة منه، وإذا هو يبالغ أو يغرق في كثير من أبياته، وإذا هو يقلد القدماء فليس فيه ما يمت إلى الشعور بواشجة إلا أبياتًا قليلة متفرقة هنا وهناك، وكنا نراه قبل نشره ديوانه يطعن في مواهب كبار الشعراء، بل كان ينال من كل شاعر عربي تقريبًا مصريًّا كان أو شاميًّا أو عراقيًّا؛ فما كنا نفهم علة ذلك بعد سكوته الطويل عن الشعر والشعراء، حتى ظهر ديوانه العجيب فأدركنا السر إلخ … إلخ.»

هذه غريبة في النقد النزيه! وليس من شأني أنا أن أعزو هذا الكلام إلى أحد غير صاحب المجلة المكتوب اسمه على غلافها، فإن النقد هو الذي يعنيني وليس الكاتب، ولا من أوعز إليه، وقد صدر النقد في مجلة لم تنسبه إلى أحد، فهو لها إذن وهي راضية عنه موافقة عليه. غير أني أعجب والله لصدور نقد كهذا من مجلة يقال عن صاحبها: إنه كثير الاشتغال بالعربية واسع الاطلاع على قواعدها النحوية والصرفية، فإن في نقده لغطًا فاحشًا لا يقع فيه من له إلمام بهذه القواعد، واطلاع عليها ولو كاطلاع التلاميذ المبتدئين، ولست أعرف معرفة اليقين ما الأب «أنستاس ماري الكرملي» صاحب المجلة المكتوب اسمه على غلافها، ولكني كنت سمعت من صاحب لي أديب أنه راهب أدمن الاشتغال باللغة العربية حتى تريب رؤساؤه به لهذا، فنفوه إلى دير ينقطع فيه عن خدمة هذه اللغة زمنًا لا أدري ما قدره، فإن صح ما رواه صاحبي الأديب فهم قد أطلقوه الآن؛ لأنهم رجعوا إلى الصواب في أمره، وعرفوا أن البلية على اللغة العربية في اشتغاله بها لا في انصرافه عنها وتركها وشأنها.

وقد يلذ القراء أن يروا مبلغ علم «اللغويين» الذين يتفيهقون باللغة حين يتصدون لنقد أحد من كتاب الجديد أو شعرائه! يتهجمون في التخطئة بغير روية، فيجردون أنفسهم من كل شيء حتى النحو والصرف وسائر القواعد التي يظن الناس بهم علمها إذا استكثروا عليهم علم ما وراءها مما يحتاج إلى نفاذ البصيرة وذكاء الفطنة، ولا ضير علينا أن نسقط دعواهم هذه ونكشف عن جهلهم بما يدعون؛ لأننا قلنا كثيرًا: إن هؤلاء الذين يهتفون باسم العربية هم أضعف الناس وجهًا في ادعاء الغيرة عليها، وأجهلهم بآدابها وأسرار قواعدها، وسنبدأ بالنقد اللغوي؛ لأنه النقد الذي إذا قرأه بعض الناس في مجلة ﮐ «لغة العرب» خيل إليهم أنه صادر من معدنه أو ممن يملك الكلام في موضوعه، أما النقد المعنوي فقد نهمله، وقد نعود إليه للتفكه وضرب الأمثال بهذه العجائب والمضحكات!

نقدت المجلة أول بيت في الديوان وهو:

قطب السفين وقبلة الربان
يا ليت نورك نافع وجداني

فقالت: «إن كان يريد فرضة خاصة، فهذه ليست قطب جميع السفن، وقبلة كل ربان، كما يفهم من الإطلاق.»

وأنا بعد أن أعجب عجبي من هذه اللوذعية التي لا تريد أن تترك بيتًا واحدًا في مطلع الديوان بغير نقد وتخطئة، أسأل صاحب لغة العرب: من الذي قال: إن الفرضة من الفرض يجب أن تدخلها كل سفينة في الأرض ليصح أن يقال فيها إنها قطب السفين؟! أوَما كشفت يا مولانا عن تفسيرها في معجم بين يديك؟ فقد تجد تفسيرها في كل معجم أنها هي مكان ترسو فيه «السفن» بالألف واللام، ولم تخطئ المعاجم في هذا ولا يفهم منه بالبداهة أن كل فرضة يجب أن تدخلها كل سفينة حتى تسمى فرضة، ونحن نقول: إن الكعبة مكان يحج إليه المسلمون وإن بيت المقدس مكان يحج إليه النصارى، وليس كل المسلمين يحجون إلى الكعبة، ولا كل النصارى يحجون إلى بيت المقدس! فأين الخطأ في البيت؟ وأين الفهم لمعنى أل في أوائل الأسماء؟

وتنقد «لغة العرب» قولي:

يزجى منارك بالضياء كأنه
أرق يقلب مقلتي ولهان

لأن «يزجى» يتعدى بنفسه لا بالباء!

وأنا لا أجهل أن «يزجى» يتعدى بنفسه، وكان يجب على الناقد أن يعلم ذلك؛ لأنه نقل لي بيتًا آخر أقول فيه:

وإن شئت أزجيت الجبان فأقدما
ووسوست في قلب الجريء فأحجما

ولكن صاحب لغة العرب هو الذي جهل ونسي؛ لأنه لم يراجع باب التضمين من كتب النحو على ما يظهر، فغاب عنه أن «يزجى» هنا مضمنة معنى «يدفع» وأنه كما يصح أن يقال دفعه ودفع به يصح كذلك على هذا المعنى أن يقال أزجاه وأزجى به، فإن أنكر الأب التضمين فليقل لنا ذلك لنملي عليه من أوجز الكتب في لغة العرب درسًا تحتاج إليه «لغة العرب» في هذا الزمن العجيب!

وتقول المجلة: «ثم قال:

أمسيت أحداق السفائن شرع
صور إليك من البحار روان

ولو نصب شرع على الحالية لخلا البيت من تتابع الأخبار.»

لا يا مولانا هداك الله وعلمك العربية، وعلمك قدر نفسك. إن مجيء الحال من المبتدأ لا يجوز إلا في أضعف الأقوال، فتكرار الأخبار لو كان محظورًا لكان أهون من المجيء بالحال على وضع ينكره جلة النحاة، فكيف وتتابع الأخبار لا حظر عليه ولا منافاة للفصاحة؟ أليس القرآن يقول: هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ۖ هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ؟ أليس القرآن يقول: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ؟ فإن لم تؤمن بتنزيل القرآن من السماء فلتؤمن بأنه كتاب عربي مبين، يستشهد به حين لا يستشهد بكلامك السقيم.

وتقول المجلة: قال:

يشكو من الدنيا الأُلى لولاهم
ما كانت الدنيا تُحَبُّ وتُرغب

ورغب فعل لازم لا يبنى منه المجهول إلا بحرف الجر، ورغب لا يحذف منه حرف الجر؛ لأنه يتعدى بحرفين مختلفين «فيه وعنه» ويختلف معناه بموجبهما.

لا يا مولانا. إن حرف الجر يحذف من رغب ومشتقاتها، كما جاء في القرآن وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وكما جاء في الشعر الذي استشهد به ابن هشام:

ويرغب أن يبني المعالي خالد
ويرغب أن يرضى صنيع الألائم

وكما جاء في قول يونس حين سئل عن الشعراء: «امرؤ القيس إذا غضب، والنابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب، والأعشى إذا طرب» وكما جاء في قول الشريف:

طواك إلى غيرك المعتفي
وجاوز أبوابك الراغب

وكما جاء في قول البحتري:

تولته أسرار الصدور وأقبلت
إليه قلوب من محب وراغب

وكما يعلم الأب لو أنه يقرأ كتب النحو فضلًا عن الدواوين، وأقوال الأدباء.

وانتقد الأب قولي: «عسوفًا إذا ما الخوف قد كان أحزما»؛ لأن الشرط والتحقيق لا يجتمعان! فنحن نقول له أصبت يا مولانا لولا أن «إذا» تستعمل للشرط في حالة التحقيق، بخلاف «إن» التي تستعمل للشرط في حالة التشكيك.

وتزعم المجلة أن قولنا: «ألا ولتفرق والدًا عن وليده» غير فصيح؛ لأن اللام لأمر الغائب فلا يدخلها الفصحاء على المخاطب، وحسبنا نحن أن نقول له: إن النحاة لم يجدوا لهم سندًا أفصح من قول الشاعر:

إذا جَنَّ جنح الليل فلتأتِ ولتكن
خطاك خفافًا إن حرَّاسنا أُسْدًا

ليستدلوا به على جواز نصب خبر «إن»، وحسبنا أن نورد له أن القرآن الكريم يقول في قراءة أبي: «فبذلك فلتفرحوا هو خير مما تجمعون.»

وأخذت علي المجلة قولي:

دهر يدور صباحه ومساؤه
متعاقبان على مدى الأيام

قالت: والأولى جعل «صباحه» فاعلًا ليدور، ونصب «متعاقبان» على الحالية، ونحن نقول ليس هذا هو الأولى، بل الأولى ما ذكرناه إذ جعلنا صباحه مبتدأ، فما دليلك — أصلح الله حالك — يا هذا المغرم المعنى بالأحوال؟!

وخطأتنا «لغة العرب» لأننا نقول:

يرفلن في الحسن القشيب كأنما
ألبسنه يبقى على الأعوام

لأن الصواب في رأيها أن نقول «كأن ما» ليعود ضمير يبقى إلى «ما» فهل رأى القراء «عالمًا» باللغة العربية يجهل أن «ما» بعد «كأن» تكون كافة عن العمل، ولا تكون موصولة حيثما ترد؟

وخطأتنا لغة العرب أيضًا في قولنا:

وتسلبني نورًا أراك بوحيه
فأظهر ما أخفى سواد الدياجر

لأن الصواب في رأيها أن نقول «كنت أراك بوحيه»، فهل يدري أحد لماذا أجاز لنا صاحب لغة العرب أن نقول «تسلبني» عن الماضي ولم يجز لنا أن نقول: أراك بدلًا من «كنت أراك»؟

وخطأتنا «لغة العرب» لأننا نقول:

يهم ويُعْيِيه النهوض فيجثم
ويعزم إلا ريشه ليس يعزم
لأن الصحيح في زعمها أن نقول:

إلا ريشه فهو ليس يعزم، أو إلا أن ريشه ليس يعزم، فإن ريشه مستثنى منصوب فلا يصح أن يخبر عنه بقوله ليس يعزم.

أهكذا يا عالم العربية؟ ألا يجوز أن تكون «إلا» بمعنى لكن، وأن يكون ما بعدها جملة مركبة من مبتدأ وخبر؟ اعلم يا هذا أن هناك شيئًا يسمى الاستثناء المنقطع، وراجع باب الاستثناء إلى آخره يفتح الله عليك الأبواب!

وأنكر علينا مولانا أن نقول:

لقد رنق الصرصور وهو على الثرى
مكبٌّ وقد صاح القطا وهو أبكم

لأن رنق بمعنى خفق بجناحيه، ورفرف ولم يطر، لا كما شرحناه بقولنا طار طيرانًا خفيفًا، فليقرأ إذن مولانا ما جاء في لسان العرب في مادة رنق، حيث يقول اللسان: الترنيق كسر الطائر جناحيه من داء، أو رمي حتى يسقط، وهو مرنق الجناح، وأنشد «فيهوي صحيحًا أو يرنق طائره» وترنيق الطائر على وجهين: أحدهما صف جناحيه في الهواء لا يحركهما، والآخر أن يخفق بجناحيه، ومنه قول ذي الرمة:

إذا ضربتنا الريح رنق فوقنا
على حد قوسينا كما خفق النسر

ورنق الطائر: رفرف فلم يسقط ولم يبرح، هكذا يفهم العرب الترنيق، فما قول «لغة العرب» لآخر الزمان في لغة العرب من أول الزمان؟

وتقول المجلة في قولنا:

أكان للمرء أيما أرب
في الصبر لولا كوارث الزمن؟

ليس من الصواب جعل أيما وهي للاستفهام اسمًا لكان المصدر كذلك بهمزة الاستفهام، ثم إن «أي لها صدر الكلام، فلا يجوز من هذا الوجه أيضًا جعله اسمًا لكان.»

هذا قول «لغة العرب …» ونحن نسألها: ما رأي «لغة العرب» في قولنا لها: «لم نرَ أي خطأ فيما انتقدت ولم يزعم أي أحد ما تزعمين.» أهذا كلام صحيح أو غير صحيح؟ فإن كان صحيحًا؛ فلماذا لا يصح كذلك أن تكون «أي» اسمًا لكان و«ما» زائدة، كما قد ترد زائدة بعد «أي» في غير موضع الاستفهام؟

وتنكر علينا المجلة قولنا «لست على الصبر مزريًا»؛ لأن «أزرى» يتعدى على الفصيح بالباء، ولم نعرف أحدًا غيرها يجترئ هذا الاجتراء، وينكر تعدية أزرى ﺑ «على»، وهي في كل كتب اللغة تتعدى بها كما تتعدى بالباء.

إن الرجل لعدو نفسه، ولو لم يكن عدوًّا لها لما تورط بها في نقد يكشف للناس حقيقة منه، لعلها كانت خافية عليهم، وستظل خافية إلى زمن بعيد، فقد أعلمهم من حيث لا يعلم أنه جاهل بالنحو هذا الجهل المعيب، بعد اشتغاله به سنين عدة، وإنها لفضيحة منكرة، ما كان أغناه عنها لولا التهجم والادعاء.

١  ١٥ يوليو سنة ١٩٢٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤