تاريخ المسيح لإميل لدفج١

١

كان إميل لدفج الذي أشرنا إلى تراجمه للعظماء في المقال السابق موفقًا في ترجمته لنابليون وبسمارك، وأقل من ذلك توفيقًا فيما ظهر من ترجمته للشاعر جيتي باللغة الإنجليزية، ولكنه لم يصب توفيقًا يذكر في ترجمته لولهلم الثاني، ولا في ترجمته للسيد المسيح.

فأما ولهلم الثاني فقد رسمه من جانب واحد لم يلتفت إلى غيره، هو الجانب المعيب المبالغ فيه، أو هو الجانب الذي أظهرته الدعاية السياسية من لدن أعدائه في البلاد الخارجية، وخصومه في الأحزاب الألمانية، وزاده تحيزًا على تحيز أنه إسرائيلي يكتب عن عاهل كان معروفًا بالغلو في الوطنية الجرمانية والاحتراس من معاشرة الإسرائيليين، فالذي يقرأ سيرة ولهلهم الثاني بقلم إميل لدفج، يخيل إليه أنه يقرأ قصة إنجليزية من قصص الحرب العظمى أو حملة من حملات الحلفاء التي كانت تروجها مكاتب الدعاية في أشد أيام اللدد والتناحر بين الحلفاء والجرمان، ولكنه لا يرى في كل مائة صفحة صفحة واحدة تومئ إلى ولهلم الثاني الذي حكم الأمة الألمانية جيلًا كاملًا، أزهرت فيه حضارتها أيما إزهار وارتفع فيه مقامها في العلم والصناعة والثروة والقوة والنظام إلى الأوج الذي لم ترتفع إليه قبل حكمه، والذي لولا نكبة الحرب — وهي نكبة كان مسوقًا إليها أكثر مما كان سائقًا — لاطرد في سبيله اطرادًا يعيي المنافس، ويبهر النظير.

وأما في سيرة السيد المسيح فقد كانت الإسرائيلية آفة الكاتب كما كانت آفته في سيرة الإمبراطور؛ لأنها غلت يده عن تصوير بطله فلم يشارفه إلا على حذر وتقية، ولأنه جنح بطبعه إلى تمثيل المسيح يهوديًّا من اليهود وإسرائيليًّا من إسرائيل، فلم تكمل الصورة بين يديه ولم يكن يرسل عليها النور إلا من جانب الموافقة للبيئة دون جانب المخالفة، فالذي يرى السيد المسيح في هذه الصورة يرى ألوانًا باهتة، كأنما رسمت على أضواء النجوم لا على ضوء النهار الساطع، ويعجب لماذا يجشم المؤلف نفسه مشقة الكتابة في هذا الموضوع بعد رينان؟ وما هي المزية الجديدة التي جاء بها بعد ذلك المؤرخ الأديب الجسور الذي خرجت صورة المسيح من بين يديه وهي تنضج بالغضارة وتتنفس أنفاس الحياة، فإن كانت المزية عنده أنه مسح عنها ألوانها وكبح بعض الشيء من حماسة الناظرين إليها فقد تم له ما أراد وباعد في الملامح ما استطاع بين صورته وصورة رينان، وإلا فقد كان رينان أجرأ منه على مواجهة الحقائق، وأجسر على الإنكار الحاسم حين تظهر لها ضرورة الإنكار، فلم تكن صور أجمل ألوانًا وأوضح معارف وأحيا حياة؛ لأنه صدق من الأسانيد والمعجزات ما لم يصدقه «لدفج»، أو لأنه كان يجامل حيث يجترئ لدفج. كلا! فربما كان ذلك القس المسيحي أشد إنكارًا من هذا الشاك الإسرائيلي، وكل ما في الأمر أن رينان كان أقدر على فنه وأحب لموضوعه، وأشبه بالسيد المسيح الذي تخيله، ونسج وشيجة العطف بينه وبينه.

ومن أوجه العذر ﻟ «لدفج» أنه — كما قال — كتب تاريخ يسوع الرجل، ولم يكتب تاريخ المسيح صاحب الرسالة، فهذا عذر يقوله المؤلف ويدل على قصده من كتابة تاريخه، ولكن هل في وسعنا نحن الآن أن نفرق بين التاريخين جد التفريق وأن نتكلم عن يسوع بمعزل عن السيد المسيح؟ إن الذي يحق له أن يفرق بينهما هو الذي يستطيع أن يستحدث لنا أسانيد غير هذه الأسانيد التي بين أيدينا، والتي كتبت كلها عن «المسيح صاحب الرسالة»، ولم تكتب عن الإنسان البحت من يوم مولده إلى يوم انتهى العهد به، وهو الذي يستطيع أن يملأ الفجوات الخالية من ذلك التاريخ ويقرب الأطراف البعيدة، ويفسر ما يفتقر إلى التفسير، ولم يفعل «لدفج» ذلك أو هو عالجه فكان كل علاجه له أنه نفى ما هو منفي بذاته، وترك البقية للاحتمال المقبول عنده وليس هو بأقرب احتمال.

ونرى أن «لدفج» ليس بالرجل الذي يكتب تاريخ المسيح؛ لأسباب ثلاثة؛ أولها: أنه إسرائيلي يكتب للمسيحيين في أمة لم تخلص فيها المودة بين العنصرين. والثاني: أنه قليل التقديس بفطرته، فهو إلى فهم رجال الحرب والعمل أقرب منه إلى فهم رجال القداسة والإيمان، والسبب الثالث: أنه اختار أسلوب القصص لترجمة أبطاله، وهو أسلوب لا يوافق ترجمة المسيح لقلة المعلومات المفصلة التي نعرفها عن حياته، وصعوبة الترجيح فيها بين احتمال واحد وسائر الاحتمالات الكثيرة، وخير للكاتب أن يجعل تاريخ المسيح بحثًا يعرض فيه لكل رأي ولكل فرض من أن يجعله قصة يتقيد فيها ﺑ «شخصية» محدودة تطرد جميع حوادثها على مثال مرسوم، فرينان وهو أقدر على القصص وعلى الامتزاج بحياة المسيح، لم يستغن عن البحث على هذا المنوال، ولم تكن القصة في كتابه إلا بمثابة السمط تتعلق عليه جميع المعلومات.

ولو عاش رينان إلى اليوم واطلع على المباحث الجديدة في الحفريات والآثار ومقابلة الأديان وما كتبه بعض المؤرخين — ولا سيما الألمان — في حقيقة المسيح التاريخية، لكان أكبر الظن أن يفرغ جزءًا كبيرًا من ترجمته لإثبات وجوده، قبل أن يشرع في تأليف قصته على حسب الوقائع التي كانت معروفة في زمانه، ولو أن «لدفج» اختار أسلوبًا غير أسلوب القصص لكان أحرى به أن يتوفر على هذا البحث الطريف؛ لأنه بحث ألماني في معظم أسبابه وأسانيده، ولكنه تركه لأنه لا بد له من تركه ولا يسعه أن يقص ترجمة إنسان يشك في وجوده، فيحسن بنا ألا نتخطاه بعد أن أصبح كل كلام في تاريخ ذلك الرسول الكريم مشتملًا على مناقشة مسهبة، أو موجزة في هذا الشك الغريب.

كم من الناس على ظهر الأرض يؤمنون بوجود المسيح ورسالته، بل يعدون الإيمان بوجوده ورسالته أساسًا للحقيقة العظمى؛ حقيقة الأرض والسماء والحياة وما بعد الحياة؟ لا أقل من ألف مليون إنسان! ومع هذا يتسع الشك في عصرنا للتردد في وجود المسيح، بل تذهب طائفة من المؤرخين إلى حد الجزم بإنكاره، والقول القاطع بأنه لم يكن إلا أسطورة من أساطير المتقدمين، فإن لم يكن في هذا الشك إلا أنه أعجوبة الشكوك في حقائق دنيانا لكفى بذلك حجة للنظر فيها على هذا الاعتبار.

ولماذا تشك هذه الطائفة في وجود المسيح أو تجزم بإنكاره؟ ما هي شبهتها على حقيقته أو دليلها على أنه لم يظهر قط في هذا العالم؟ إنهم يقولون في ذلك كثيرًا، ويأخذون تارة مأخذ الإثبات والتقرير، وتارة أخرى مأخذ النفي والإدحاض؛ ولكن الذي يرددونه أكثر من سواه أن كل شعيرة في المسيحية قد كانت معروفة في ديانات كثيرة سبقتها حتى تاريخ الميلاد وتاريخ الآلام قبل الصليب، فاليوم الخامس والعشرون من شهر ديسمبر الذي يحتفل فيه بمولد المسيح كان هو يوم الاحتفال بمولد الشمس في العبادة «المثرية»، إذ كان الأقدمون يخطئون في الحساب الفلكي إلى عهد جوليان، فيعتبرون هذا اليوم مبدأ الانقلاب الشمسي بدلًا من اليوم الحادي والعشرين في الحساب الحديث. وقد اعترضت الكنيسة الشرقية على اختيار اليوم الخامس والعشرين لهذا السبب، وفضلت أن تختار لعيد الميلاد اليوم السادس من شهر يناير الذي «تعمد» فيه السيد المسيح. على أن هذا اليوم أيضًا كان عيد الإله «ديونيسيس» عند اليونان وبعض سكان آسيا الصغرى، وكان قبل ذلك عيد «أوزيريس» عند المصريين، ولا يزال متخلفًا في العادات المصرية إلى اليوم. ففي اليوم الحادي عشر من شهر طوبة — وكان يوافق السادس من شهر يناير في التاريخ القديم — كان المصريون يحتفلون بعيد إلههم القديم ولا يزالون يحتفلون به في عصرنا هذا باسم «عيد الغطاس.» وقد اتخذت المسيحية اليوم الخامس والعشرين من شهر مارس تذكارًا لآلام السيد المسيح قبل الصليب، وهذا هو الموعد نفسه الذي اتخذه الرومان قبل المسيح لتذكار آلام الإله «أتيس» إله الرعاة المولود من «نانا» العذراء بغير ملامسة بشرية، والذي جب نفسه في هذا الموعد، ونزف دمه في جذور شجرة الصنوبر المقدسة.

وقد كان اسم العذراء مريم بصيغه المختلفة اسمًا مختارًا لأمهات كثير من الآلهة والقديسين، مثل: أدونيس ابن ميره، وهرمز ابن مايا، وقيروش ابن مريانات، وموسى ابن مريم، وبوذا ابن مايا، وكرشنا ابن مارتالا، وهكذا بحيث يظن أن هذا الاسم شائع لا يدل على ذات معينة، ومما يجري في هذا المجرى أن تماثيل إيزيس وهي تحمل ابنها حورس كانت رمزًا في الكنائس الأولى للعذراء مريم وابنها المسيح، ولما كانت إيزيس إلهة البحر، وكان اسمها عند الرومان كوكب البحر أي ستيلا ماريس Stellah Maris فليس يبعد أن يكون لهذا الشبه علاقة بالتشابه في الأسماء، وقد رويت روايات كثيرة عن الآلهة والأبطال المولودين من الأمهات العذراوات قبل المسيح، فكان الفرس يعتقدون أن زرادشت ولد من أم عذراء، وكذلك كان الرومان يعتقدون في أتيس، والمصريون يعتقدون في رع، والصينيون يعتقدون في فوهي ولاو، وقال فلوطرخس في رسالته عن إيزيس وأوزيريس: إن الحَمْل يحصل في هذه الأحوال من الأُذن، وهو ما يفسر صورة العذراء في القرون الوسطى، إذ كانوا يرسمونها وشعاع من النور يتجه إلى إحدى أذنيها، وقال «ترتوليان» إن شعاعًا سماويًّا هبط على العذراء فحملت بالسيد المسيح، أما التكفير بالموت فكثير في قصص الديانات القديمة، وأقربه إلى موطن المسيحية عبادة تموز الذي كانوا يحتفلون بموته، وبعثه في أنطاكية، وسرت عادة البكاء عليه إلى النساء اليهوديات، فكن يندبنه على باب الهيكل، وأَنَّبَهُنَّ على ذلك النبي حزقيال، وجاء في التلمود أن رجلًا يسمى يسوع قتل وعلق على شجرة قبل الميلاد بمائة سنة.

والعشاء الرباني كان معروفًا في عبادة مثرا، على الطريقة التي عرف بها في المسيحية، بل كان الخبز الذي يتناوله عباد مثرا في ذلك العشاء يصنع على شكل الصليب، وقد أسف جوستن مارتر في سنة ١٤٠ لهذه المشابهة، وعدها مكيدة شيطانية لتضليل المؤمنين.

والمعجزة الأولى للمسيح وهي تحويل الماء خمرًا معروفة في عبادة ديونيسيس إله الخمر وإله الشمس، ومن حيواناته المقدسة الجمل، والحمار، وعلى الحمار كان ركوبه حتى قيل: إنه كان له حماران فجعلهما نجمين في السماء، وبهذا الرمز يرمز البابليون إلى مدار السرطان، فالخلط بين المسيح وديونيسيس في ركوب الأتان، وتحويل الماء موضع نظر، ومثله الخلط بينهما في المزود الذي وضعا فيه عند الولادة كما جاء في إنجيل لوقا حيث قال: «وفي تلك الأيام صدر أمر من أوغسطس قيصر بأن يكتتب كل المسكونة، وهذا الاكتتاب الأول جرى إذ كان كيرينيوس والي سورية فذهب الجميع ليكتتبوا كل واحد إلى مدينته، فصعد يوسف أيضًا من الجليل من مدينة الناصرة إلى اليهودية إلى مدينة داود التي تدعى بيت لحم؛ لكونه من بيت داود وعشيرته ليكتتب مع مريم امرأته المخطوبة وهي حبلى، وبينما هما هناك تمت أيامها لتلد فولدت ابنها البكر، وقمطته وأضجعته في المزود، إذ لم يكن لهما موضع في المنزل.» أما الإحصاء في هذا التاريخ فلم يرد له أي ذكر في تراجم أوغسطس، ولم تجر العادة قط في دولة الرومان أن يكلف الناس السفر من بلادهم إلى البلاد التي عاش فيها أجدادهم الأسبقون؛ ليكتبوا أسماءهم هناك، فالرواية مستهدفة للملاحظة من عدة جهات.

ولم يتفق على المكان الذي ولد فيه المسيح كما لم يتفق على الزمان الذي ولد فيه؛ فمن قائل إنه ولد في الناصرة، ومن قائل إنه ولد في بيت لحم. والذين يقولون إنه ولد في بيت لحم يذهبون إلى هذا القول لتأييد النبوءة التي تنبئ بظهور المسيح من نسل داود، وهو في بيت لحم لا الناصرة، وجاء في إنجيل متى أن يوسف النجار رأى في المنام أن هيرود الطاغية سيقتل كل طفل يولد في بيت لحم لذلك العام، مع أن هيرود مات في السنة الرابعة قبل الميلاد، ومع أن يوسفيوس المؤرخ لم يذكر خبر هذه المذبحة فيما أحصاه لهيرود من الآثام، وقد سبقت روايات مثل هذه عن النمروذ وفرعون مصر وغيرهما من الأمراء الذين أنذرتهم النبوءات بظهور أعدائهم قبل مولدهم؛ فهي روايات لا تدل على شيء يعتمد عليه التاريخ، ولم تكتب هي ولا كتب غيرها مما ورد في الأناجيل إلا بعد عهد المسيح بعشرات السنين، أما الذين عاصروه أو قاربوه غير التلاميذ فلم يذكروا عنه شيئًا ولم يدونوا له خبرًا حتى عجب فوتيوس بطريق القسطنطينية حين قرأ في القرن التاسع تاريخ جستس الطبري المكتوب بعد المسيح ببضع سنوات، فوجده غفلًا من ذكره وهو مولود حيث ولد المسيح في الجليل، ولم يشر بليني الأكبر بكلمة واحدة إلى الخوارق التي نسبت إليه، وهو كثير العناية بجمع الخوارق في تاريخه الطبيعي المؤلف بعد المسيح بثلاثين أو أربعين سنة، وثبت أن النسخ الصحيحة من تاريخ يوسفيوس المنتهي بالسنة الثالثة والتسعين بعد الميلاد خلو من الفقرتين المشار فيهما إلى المسيح على عجل واقتضاب، وأن هاتين الفقرتين مدسوستان على بعض النسخ في القرون الوسطى، ويقال مثل ذلك في كتب أخرى وردت فيها مثل هذه الإشارات المبهمة بصيغة لا تثبت على المضاهاة والتمحيص.

تلك أمثلة من الملاحظات التي جعلت طائفة من كتاب التاريخ يشكون ذلك الشك الغريب في وجود المسيح، بل جعلت بعضهم يجزم بإنكاره، ويقول: إنه خيال لا حقيقة له تعلقت به الشعائر والنبوءات القديمة وحيكت حوله الأقاويل ممن لم يعاصروه فآمن به الناس، وهي ملاحظات نردها في المقال التالي إلى مكانها من الصواب.

٢

لما شاعت فتنة الإنكار في القرن الماضي أصبح الإنكار شهوة وأصبح بعض الناس كأنما يبحثون عن شيء لينكروه إشباعًا لتلك الشهوة، فظهر المنكرون لوجود المسيح والمنكرون لوجود شكسبير، وجاءوا بأدلة لا تصلح للبت بالإنكار، وإن صلحت للبحث وإعادة النظر في حقائق التاريخ، وكنت أقول لمن أخذوا بتلك الفتنة عندنا إن هذه الأدلة وأمثالها يمكن أن تقام على إنكار وجودكم أنتم وأنتم تجيئون بيننا وتذهبون ونراكم بالعين ونسمعكم بالأذن، فلو عهد أحدكم إلى خمسة من أصحابه أن يكتبوا ترجمته وأن يصفه كل منهم على ما يعلمه ويظنه لجاز أن يقعوا في تناقض أو خطأ أو قلب للحقيقة يسيغ للمنكر أن ينكر وللمرتاب أن يرتاب، فكيف بالتواريخ الماضية وهي عرضة للوهم والمغالاة، والامتزاج عن قصد أو غير قصد بغيرها من التواريخ؟ وكيف بالترجمة لإنسان يختلف الاعتقاد في شأنه من أقصى القطب إلى أقصى القطب، ويجيء في عصر من تبلبل الأفكار واضطراب الأحوال بين الشرق والغرب والإسرائيلية واليونانية والماضي والحاضر لا يسهل أن تتفق فيه الآراء والروايات؟

أنا آخر من يحتفل بامتزاج الرموز والشعائر، ويجعله دليلًا قاطعًا على إنكار وجود المسيح أو إنكار أي شيء؛ لأنني نشأت في إقليم لا تزال شعائر الديانة المصرية القديمة وعادات المصريين القدماء تغلب فيه على شعائر هذا الجيل وعاداته، فكرامات الأولياء اليوم هي كرامات الأرباب قبل أربعة آلاف أو خمسة آلاف سنة، وعادات القوم في المواسم وأيام الفيضان والمآتم والأفراح هي العادات التي قرأنا عنها في عصور الفراعنة. بل يذهب إلى اليوم النساء المسلمات والمسيحيات إلى تماثيل آلهة النسل الفرعونية يداوين العقم ويتعوذن بالتعاويذ، وكثيرًا ما وقفت وأنا صبي على ضريح ولي من أولياء الجبانة المشهورة، فقيل لي اسمه وتاريخه وكراماته على وجه يختلط بالأرباب الأقدمين تارة، وبالأولياء الآخرين تارة أخرى؛ فلو أردت أن أشك في وجوده لشككت، وكانت حجتي في ذلك أقوى من حجج الشاكين في وجود المسيح؛ ولكني أبحث عن أصله فأعرف اسمه ومولده وسبب خروجه من وطنه وقدومه إلى هذه الجهة، فإذا هي «حقيقة» لا خرافة وسيرة صحيحة لا اختراع ملفق. وطالما تداويت من الحمى بماء النيل في ساعة معلومة من مطلع النجم، وبقراءة آيات من القرآن حلت في أيامنا محل الرقية في أيام الفراعنة، وطالما ذهبت بإخوتي الصغار إلى ضريح ولي على ساعة بالقطار لحلق أول خصلة من شعورهم؛ لأنه صاحب نذور الأطفال كما كان للأطفال أصحاب نذور في العهد القديم.

فإذا شككت في شكوك الناقدين والمؤرخين التي أوردوها على وجود المسيح؛ فذلك لأنني خبرت بنفسي قيمة هذه الشكوك في إنكار «الموجودين» الذين ثبت وجودهم على الرغم من الخطأ والتغيير في أسمائهم، وعلى الرغم من الخلط بينهم وبين الأرباب الغابرين والأولياء الآخرين، فعلمت أن أناسًا كثيرين قد يوجدون وجودًا لا لبس فيه، وحولهم من تلك المناقضات والأقاويل أضعاف ما يقوم الآن حول وجود المسيح.

ولو كان اختلاط الرموز والشعائر من موجبات الشك في ظهور الرسل، لوجب أن نشك في وجود النبي عليه السلام؛ لما في الإسلام من شعائر الحج التي أحياها عن سنن العرب قبله، ولوجب أن نشك في وجود علي بن أبي طالب؛ لما أحاط به من أساطير بعض المذاهب الغالية وفي مقدمتها انتظار «الإمام»، و«المهدي»، أو «المسيح» وهي عقيدة تتشابه فيها تلك المذاهب المسيحية والإسرائيلية ووثنية المجوس.

ولست أشك ولا يستطيع أحد أن يشك في أن اليوم الخامس والعشرين من شهر ديسمبر هو يوم الشمس لا يوم مولد المسيح، ولكن ينبغي أن نذكر أن الكنيسة كانت تعلم ذلك حين نقلته مما وضع له إلى وضعه الجديد؛ لأنها رأت الاحتفال بهذا اليوم شائعًا بين المسيحيين بحكم الوراثة والتقليد، فخشيت أن يتفاقم الأمر ويؤدي الاشتراك بين الوثنيين والمسيحيين في إحياء المواسم القديمة إلى النكسة والارتداد، فاجتهدت في صبغ تلك المواسم بالصبغة المسيحية لتفصل بينها وبين العقائد الوثنية، وهكذا كان في أعياد الميلاد وفي أعياد بعض القديسين والقديسات. قال العلامة فريزر في كتابه الغصن الذهبي: «إن البواعث على اختيار هذا اليوم مذكورة بصراحة عظيمة في كلام كاتب سرياني مسيحي يقول: إن السبب الذي دعا الآباء إلى اختيار اليوم الخامس والعشرين من شهر ديسمبر دون اليوم السادس من شهر يناير هو أن الوثنيين قد جرت عادتهم بإحياء عيد الشمس في اليوم الأول، وإشعال الأنوار احتفاء بذلك العيد، وكان المسيحيون يشتركون في العيد وشعائره ورموزه، فرأى أئمة الكنيسة أنهم — أي المسيحيين — يميلون إلى إحيائه فتشاوروا بينهم وقرروا أن يحتفلوا فيه بيوم الميلاد، وأن يجعلوا اليوم السادس من شهر يناير لعيد التجلي، وعلى هذه العادة مضوا في إشعال النار إلى اليوم السادس، وقد جاءت الإشارة إلى الأصل الوثني ضمنًا — وإن لم تجئ تصريحًا — في كلام أوغطسين لإخوانه المسيحيين إذ يوصيهم ألا يحتفلوا بذلك اليوم كما يحتفل به الوثنيون إحياء لعيد الشمس، بل إحياء له هو الذي خلق الشمس، وعلى هذا النحو أنكر ليون الكبير قول من قال، إن الميلاد يحتفل به إكرامًا لمولد الشمس الجديدة كما يسمونه، وليس إكرامًا لمولد المسيح.» انتهى كلام فريزر.

ويحسن بنا هنا أن نلاحظ الفرق بين رأينا نحن الآن في الوثنية، ورأي المؤمنين الأولين فيها قبل ألف سنة، بل قبل مئات قليلة من السنين؛ فالوثنية عندنا هي أوهام وأساطير، وآلهتها شخوص مجسمة لقوى الطبيعة، أو أسماء محرفة عن أسماء بعض الملوك الأبطال الذين عبدهم آباء الوثنيين فيما مضى. هذا هو رأينا في الوثنية، أما رأي المؤمنين الأولين فلم يكن كذلك، وإنما كانوا يرون أن الأرباب والأوثان شياطين موجودة تنتحل لنفسها صفات الله وأعماله، وتحاول أن تخدع عباده لتأخذ منهم قرابينه وصلواته؛ فكل معجزة أو صفة يدعيها الوثني لربه هي معجزة أو صفة إلهية يختلسها ذلك «الرب» بالمكر والخديعة، ويجب أن ترد إلى «الله» صاحبها وصاحب الحق في العبادة والقربان لأجلها؛ فآباء الكنيسة مخلصون جد الإخلاص في نسبة الخوارق الوثنية والشعائر القديمة إلى «الإله» الذي يعبدونه؛ لأنهم يعتقدون أنها خوارق وشعائر مغتصبة بغير الحق، ولا وجه لبقائها في حوزة الأوثان والشياطين، ويخطئ من يتهم أولئك الآباء بالتزوير والاحتيال في هذا الصدد؛ لأنهم ما كانوا ليستطيعوا أن يتركوا «للشيطان» خارقة أو كرامة هم يوقنون أنها خارقة الله وكرامته قبل أن يدعيها الشيطان لنفسه.

•••

كذلك لا نشك في خلو «يوسفيوس» من ذكر المسيح، وفي أن العبارة التي وردت فيه عن ظهور المسيح مدسوسة على النسخة الصحيحة؛ لأن هذه العبارة التي أنبأت بظهوره تقول: «حوالي هذا الوقت ظهر يسوع وهو رجل حكيم — إن صح أن يسمى رجلًا — لأنه كان يأتي بأعمال عجيبة، وكان يعلم الناس ويفرحون بتعليمه، وقد جذب إليه كثيرًا من اليهود والوثنيين وكان هو المسيح المنتظر، ولما حكم عليه بيلاطس بالصلب كما طلب منه رؤساؤنا لم يتخل عنه محبوه؛ لأنه برز لهم حيًّا في اليوم الثالث مصداقًا لنبوءة الأنبياء. هذه وعشرات الألوف من المعجزات الأخرى التي تتعلق به وبعشيرة المسيحيين الذين ينسبون إلى اسمه ولم تنقطع حتى اليوم» فكلام كهذا لا يعقل أن يكتبه يوسفيوس ولا يدخل في المسيحية، أو يظهر أثر إيمانه بالمسيح وأتباعه في سرد جميع وقائعه وأخباره، فهو كلام مدسوس بلا مراء، ويبقى أن يوسفيوس لم يكتب شيئًا عن المسيح في تاريخه، ولكن علام يدل ذلك؟ إنه لا يدل على أن المسيح لم يوجد، ولكنه يدل على أنه لم يكن مستفيض الذكر في عصره، وأن المسيحيين لم يعظم شأنهم في أرضهم إلا بعد القرن الأول من ظهوره، وهذه حقيقة مسلمة لا يجادل فيها مؤرخ يُعبأ بقوله.

ومن الأمور المقررة أن تواريخ حياة المسيح لم تُعلم على وجه التحقيق، وأن أقدم الكتابات المسيحية لم تكتب قبل السنة الثانية والخمسين للميلاد، والذين كتبوها لم يروا المسيح رأى العين، ولم يعرفوا عنه شيئًا إلا بالسماع، ولكننا لا نعلم على التحقيق تواريخ مئات من العظماء ولسنا نشك في وجودهم من أجل ذاك، وقد اشتملت الأناجيل على رسائل بطرس أحد الحواريين وهو شاهد عيان عاشر المسيح، وسمع منه، ووصفه كما رآه، وعرفه فجاء وصفه مطابقًا لما يتخيله المتخيل من «شخصيته» التي صورتها لنا أقواله ووصاياه المتفق عليها في الأناجيل، والتي جلتها في الذهن أحوال البيئة وخلاصة الأخبار المصفاة من الخوارق والمبالغات، ولعل النقائص التي عرضت لتلك «الشخصية» في أقوال الحواريين هي أدعى إلى التصديق والدلالة على حقيقة وجودها من الأشياء المتفقة المتناسقة؛ لأننا لا نستطيع أن نتخيل التناسق التام بين وصايا المسيح وجميع أدوار حياته، ولا بد أن نتوقع شيئًا من التطور في إيمانه بنفسه وتأدبه بأدبه، فمن أين اتفق للصيادين وتابعيهم العلم برسم «الشخصيات» حتى لا يفوتهم خلق التناقض في موضعه، وعلى حسب البواعث التي توحيه وتستدعيه؟ ومن أين لهم رسم شخصية متطورة في أدوار حياتها تتقدم في الإيمان بنفسها، والاهتداء إلى أسرار حكمتها وأدبها خطوة خطوة على حسب الشدائد والعوارض التي تفعل في النفس فعلها الخفي، وتنطق على اللسان بفيض ما يعتلج فيها من الثورات والشكوك وبوادر اليقين.

إن هذا بعيد عن الحواريين وكتاب الرسائل المسيحية الأولى؛ ولأنه بعيد عليهم يكون ما في أقوالهم من التناقض والغلو الذي لا يستغرب منهم مزكيًا لزبدة تلك الأقوال ودليلًا على أن «الشخصية» التي تحفظ خطوطها الصحيحة وراء نقائضهم ومبالغاتهم شخصية إنسان كان في عالم الحقيقة المحسوسة، وليست بشخصية خرافة أو كذب مقصود أو غير مقصود.

٣

يشتمل كتاب «ابن الإنسان» أو تاريخ المسيح لإميل لدفج على تمهيد وفاتحة وخمسة أبواب، وفي التمهيد يقول: ليس من غرضي أن أزعزع عقيدة المسلمين بقدسية المسيح، فقد أرمي على نقيض ذلك إلى إقناع الذين يحسبون شخصية المسيح شخصية مصطنعة بأنه كائن حق، وإنسان في الصميم، ولو أنه لم يعش قط كما قال روسو لكان كاتبو الأناجيل في مثل عظمته، وليست وجهتي أن أشرح التعليم الذي يعرفه جميع الناس، ولكنني أرسم حياة النبي الباطنة وتعنيني دنياه التي كان يشعر بها لا نفوذه الذي جاء بعد ذلك بسعي الآخرين.

أما الفاتحة فهي فصل يصف به بيت المقدس في عصر المسيح، ويلم إلمامًا وجيزًا بالأفكار الدينية والأدبية التي بدأت تشيع قبل المسيحية، وفيها مشابهة لوصايا المسيح كفلسفة سنيكا الأديب الروماني، وفيلو الفيلسوف الإسرائيلي الإسكندري، وهلل الحبر الإسرائيلي، وغير ذلك من الآراء التي نجمت عن اتصال المعاشرة بين اليهود واليونان والرومان، واضطرار بعض اليهود إلى مجاراة الحكومة الغالبة، والتسامح فيما يتشدد فيه الفريسيون المتنطسون، وهو يجيد في وصف الحياة العامة بأسلوب القصص الذي لا تعمل فيه، ولا سيما وصف الهيكل ونزول الليل عليه وطلوع النهار، والمقابلة بين حياة نساكه وحياة الرومان ومن تشبه بهم من أبناء إسرائيل.

وفي الباب الأول كلام مجمل على طفولة المسيح بدأ به والمسيح صبي يخلو إلى نفسه في الهضاب والمروج، وينصت إلى أصداء الطبيعة والحياة، ويتغذى بذلك الغذاء الروحي الذي لم يستغن عنه عظيم من عظماء الروح في عهد الطفولة، وقد تخلل هذا الوصف بوصف الناصرة ومعيشة أهلها الفقراء والأغنياء، وظهور الطوائف الدينية التي تنحو نحو البساطة في الاعتقاد والعبادة، ولا تتقيد بشعائر الكهنة ولا بالسنن العسيرة التي يتشبث بها الفريسيون، وإن كانت تتقشف في المعيشة، وتعرض عن الجاه واللذات، وفي هذا الباب الأول كلام على «يوحنا المعمدان» وتفريق بين شخصيته وشخصية المسيح، وبين سهولة هذا وعنف ذاك يطابق المأثور عن الرسولين، ولكنه يحتاج إلى التعليل الذي هو كما لا يخفى عمل المؤرخ الأول حين يتصدى لترجمة المسيح، واستخلاص الحقائق من خلال المأثورات والروايات، وهنا بداية الضعف في ترجمة «لدفج»؛ لأن عظمة المسيح كلها قائمة على «الطبيعة وسعة الروح» وخروجه في ذلك العصر بالسماحة وحب الخير خلافًا لسنة الأنبياء المتشددين، ولسنة العصر الذي كانت تغلب عليه العصبية من جانب المحكومين والغشم من جانب الحاكمين، فإذا كانت في تاريخ المسيح «عقدة» تنتظر الحل والتفسير فهي العقدة «الشخصية» في تكوين مزاجه، وأنت تقرأ تاريخ لدفج فترى في تمهيده وفاتحته تعليلًا حسنًا لحالة العصر، ولكن «الحالة الشخصية» الخاصة بالمسيح لم تتقدم على يديه كثيرًا، ولم يجئ فيها بشيء لا يغني عنه محض القراءة في الأناجيل بغير تفلسف ولا تنسيق.

وفي هذا الباب تبدأ مناجاة المسيح لنفسه بأحاديث النبوة والحكمة، وتأتيه هواتف المغيب والشهادة مؤيدة لما ألهمه ضميره وزكاه إعجاب الناس بعلمه وتعليمه، فيشرع في الدعوة المحدودة وهو بين حذر يوحيه إليه الاعتبار بمصير الداعة من قبله وانتظار الثقة المكينة بنفسه وطبيعة المسالمة التي تبغض إليه مصادمة غيره، وبين إقدام يستخفه إليه الفرح بكشف قواه والإحساس بالمجد الذي يرجو التمام على يديه، ثم تتعاقب «البشائر» وهي موضوع الباب الثاني من الكتاب، فنرى المسيح قد أخذ يؤمن صدقًا وجدًّا بأنه هو «المسيح المنتظر» الذي جاء ذكره في النبوءات، وأنه منتدب في هذه الدنيا لأمر لا حيلة له فيه، ويجيد لدفج أيضًا في تعليل هذه العقيدة بالحرب الظالمة التي لقيها المسيح من المنكرين والمتعنتين الذين لا شك عنده ولا عند الناس في ضلالهم وريائهم ونصبهم الحبائل للأنبياء والمصلحين، ففي أثر كل مقاومة كان يفوه بكلمة عن رسالته لم يكن يفوه بها قبل ذلك، ولعلها لم تكن تدور في خلده؛ لأنه يعلم أن الذين يتعنتون في إنكاره مبطلون يسيرون معه على سنتهم مع الأنبياء السابقين، فلم يبقَ إلا أنه هو على حق وأن هؤلاء المكابرين لا يقنعونه، وهيهات أن يقنعوه بأنهم على صواب وأنه هو على الضلال، وليس من وراء ذلك إلا الثقة بالنفس؛ لأنها تزكو وتنمو كلما وثق المضطهد من بهتان الخصوم، ولا يزال الإيمان بالرسالة يقوى ويكبر في نفس المسيح حتى تخطر له الهجرة إلى بيت المقدس والتبشير برسالته في الهيكل بين الكهان والأحبار، فيدخل الكاتب في الباب الثالث من تاريخه وعنوانه «الظلال تظلم» ثم يعقبه الصراع ثم الآلام، وفيها الخاتمة، وهي والبابان اللذان قبلهما لا تضيف شيئًا إلى تكوين المسيح من حيث الملكة والإيمان بالرسالة، ولكنها تعرض ذلك الإيمان لكثير من المحن والغموم.

يقول لدفج في ختام كتابه بعد أن شاع في بيت المقدس أن جسد المسيح لم يوجد في قبره: «كانت أورشليم قد علمت كلها بالخبر في اليوم التالي، فشاعت في المدينة مائة إشاعة يدفع بعضها بعضًا، فمن قائل أن بيلاطس ندم على تسليم جسد المسيح لأصحابه فأمر بإخفائه، ومن قائل إن الكهان سرقوه لكيلا تفتتن الجماهير بتقديسه، وخاطر ثالث يقول إن البستاني هو صاحب السر كله؛ لأنه خشي أن يكثر الوافدون على القبر فتتلف أزهاره، ورابع يقول بل هي فعلة لصوص المقابر الذين ينهبون من القبور كل ما يباع بمال، وخامس يقول إنه ما من أحد قط مات على الصليب بعد صلبه بساعات ثلاث، وإن تلاميذ الناصري لا بد قد أنعشوه من موته الظاهر وأبعدوه إلى مخبأ أمين، وذهب الكهان إلى بيلاطس يلومونه لتراخيه ويتنبئون بالمصاب الجلل بعدما أتيح لأتباع النبي أن يستولوا على جسده ليقولوا للشعب إنه رفع من الموت، ولكن النساء اللواتي أحببنه اعتقدن أنهن شاهدن المسيح في حلم اليقظة يرتفع بجسده.»

وظاهر من هذه الخاتمة ومما تقدمها أن لدفج يرجح القول بموت المسيح على الصليب، وكذلك يرجحه رينان، ويعزو البقية إلى خيال مريم المجدلية، ولكن فئة من المؤرخين ومنها أرثر ويجال المعروف عندنا في مصر، وصاحب الكتب المعدودة في تاريخ القديم يرون غير هذا الرأي، ويقولون إن حياة المسيح لم تنتهِ على الصليب، وفي كتاب ويجال الحديث «الوثنية في مسيحيتنا» وهو الكتاب الذي نعتمد عليه كثيرًا، يقول ذلك الأستاذ: «قبل هبوط الليل أخذته حالة شبيهة بالموت، كأنما هي معجزة ختمت على آلامه التي لم تطلق من فمه كلمة غاضبة، فأنزله أصحابه من على الصليب ووضعوه في جوف الصحراء، ليدفنوه عند الفجر بعد انقضاء العيد، ولكنه أفاق قبل تلك الساعة، وراح يخبر تلاميذه أنه حي وهم لا يصدقون ما يرون، ثم ذهب إلى الجليل، وتحدث إليهم فلم يكن في أعينهم إلا طيفًا من عالم الأموات، فتركهم آخر الأمر وهو يقول إنه سيعود، ولكنه لم يعد قط، وانتهت بذلك قصته التاريخية.»

فالأستاذ ويجال يريد أن يقول: إن الذين رأوه وذكروا أنهم رأوه قد عاينوه حقًّا، وقد عاينوه جسدًا وليس كما خيل إليهم أنه روح أو طيف صاعد من الأموات، فتلاميذه الذين رأوه وسمعوه كما جاء في الأناجيل، والخمسمائة الذين نظروا إليه كما جاء في الأعمال وفي رسالة بطرس الرسول، إنما شهدوه عيانًا في قيد الحياة، ولم يشهدوا روحًا ولا طيفًا بعين الوهم أو بعين البصيرة، ويعزز ويجال قوله بما جاء في إنجيل يوحنا من أنهم رأوه على بحيرة طبرية ذات صباح، وطلب منهم طعامًا، فالأرواح لا تطلب الطعام.

على أن بعض المؤرخين غير ويجال يروون كلامًا غريبًا لأناس زعموا أنهم رأوه في الهند بعد ذلك وعرفوه وحادثوه، ولا يسعنا هنا إلا الاعتراف بعجز المؤرخين عن ترجيح قول على قول، بما يروون من الأخبار أو يتمحلون من التفاسير.

•••

قلنا: إن «العقدة» في تاريخ المسيح هي تعليل مزاجه الشخصي الذي سما به على ضيق العصبية، وآداب أبناء قومه وأبناء زمانه، ولكننا لا ننصف «لدفج» إذا نحن لم نشر هنا إلى احتمال قريب لعله هو الاحتمال الذي اتجه إليه نظره، فقد لا تكون هذه العقدة «عقدة» على الإطلاق في نظر لدفج؛ لأنه رأى أن سماحة المسيح لم تشمل غير ذرية إسرائيل ولم تعبر الفجوة السحيقة بين أبناء قومه والوثنيين وأشباههم من بني الإنسان، فهو إسرائيلي من إسرائيل وإن سما على عصبية الكهان والنساك.

ففي خبر المسيح والمرأة الكنعانية يقول لدفج: «ولم يطل عليه المقام في السامرة حتى عرفته امرأة كنعانية كانت في ضائقة تريد منه العون فهي تتزلف إليه وتناديه بلقب من ألقاب اليهود: ارحمني أيها السيد ابن داود. إن ابنتي يعذبها شيطان، فمضى لسبيله ولم يعرها التفاتًا؛ لأنه تعود ألا يعين أحدًا غير اليهود، وتوسل إليه التلاميذ أن يجيبها ويصرفها لأنه تصيح خلفهم، فأبى أن ينحرف عن الشريعة، وعن عادته التي جرى عليها، وهز رأسه للمرة الثانية وهو يقول لهم: «إنما بعثت إلى الخراف الضالة من بيت إسرائيل.» أما المرأة فقد أصرت ولحقت به وألقت بنفسها أمامه وهي تناديه: أيها السيد، ساعدني! فأعرض مرة ثالثة عن نداء قلبه، وقال لها بجفوة: ليس حسنًا أن نأخذ خبز البنين ونطرحه للكلاب، ولكن لهفة الأم المعذبة ترهف ذكاءها فتجيبه هذا الجواب الملهم: حق أيها السيد، ولكن الكلاب تأكل الفتات الذي يسقط من مائدة السادة، فقطعت هذه الكلمة آخر خيط ظل يربطه بالأوامر التي حفظها في صباه، وأحس أن المرأة الكنعانية تستحق من عونه ما تستحقه أية امرأة من إسرائيل.»

وقبل هذه القصة بسنتين اثنتين نقل لدفج كلمة المسيح لمن استغربوا مصاحبته للخطاة والمنبوذين، فضرب لهم المثل بإشعيا حين أعان المرأة الوثنية، واليشع حين أعان نعمان الوثني، وخليق بهذا أن يجعل خبر المسيح مع الكنعانية غريبًا يحتاج إلى التعليل لولا أن «لدفج» لم يشأ أن يرى فيه إلا الوراثة القديمة التي لا يسهل التغلب عليها، وله في ذلك رأيه، وإن كان قرب المسافة في كتابه بين القصتين يقضي عليه بتمهل غير قليل للتوفيق والتفسير.

على أن لدفج لم يأت في تاريخ المسيح بشيء يصعب على أي إنسان أن يذكر مثله في مألوفاته، ويراه أحيانًا في مدينته إن كان من أهل المدن، أو في قريته إن كان من أهل القرى، ولسنا نعني بذلك تبسيطه للخوارق والمعجزات، وإهماله لبعضها كل الإهمال، وتفسيره البعض الآخر بالإيحاء وسلطان العقيدة. كلا! لسنا نعني ذلك لأن أناسًا مشغوفين بالمسيح أشد من شغفه قد فعلوا مثل فعله في تبسيط الخوارق والمعجزات، ولكنا نعني أنه أوشك أن يقطع كل صلة بين عظمة المسيح وعظمة الأثر الضخم الذي حدث في العالم باسمه، فكأن المسيح كان يستطيع أن يرتفع إلى عظمته بيننا لو كان أقل من ذلك تفوقًا وعبقرية وصدقًا، بل يخيل إلينا أن لدفج يتكئ جدًّا على النوبات العصبية، ويحب أن يفسر بها أمورًا كثيرة كوجوم المسيح في العرس يوم ظنت به أمه الجنون، وهجومه على الباعة والصيارفة في ساحة الهيكل، ثم صفحه عنهم وقد عادوا إلى ما كانوا عليه، وسكونه بين يدي الحبر الأعظم وبيلاطس، وطوارئ أخرى ذكرتها الأناجيل واتفقت عليها أو لم تتفق فردها لدفج إلى أسباب عصبية كثيرة التقلب والاضطراب، ولو أننا قبلنا هذه التعليلات لما شذذنا عن طبيعة الحياة، ولكننا نواجه بقبولها خارقة مدهشة في هذه الدنيا، وهي أن يكون المسيح مغلوبًا على أمره بالمزاج الذي تخيله لدفج، وأن تكون له مع ذلك تلك الآداب الرفيعة، والسجية المحبوبة، والأثر الكبير.

وخير لمثال الكمال الإنساني أن تعلل المناقضات في سيرة المسيح بعقيدته الموروثة، أو تناقض الأحوال في زمنه، واتساع الفاصل بين روحه وأرواح سامعيه، من أن نعللها بتلك «العصبيات» الدارجة الرخيصة التي لا تصلح للوزن في هذا الميزان.

٤

المسيح في الهند

في سنة ١٨٨٧ وصل الكاتب الروسي «نقولاس نتوفتش» إلى الهند؛ لتعرف الشعوب الهندية، والبحث في أخلاقها، وأديانها، وآثارها الفخمة العجيبة، وطبيعتها الضخمة المهيبة، وظل يطوف من مكان إلى مكان على غير ترتيب سابق، حتى انتهى به المطاف إلى التبت الصغرى فاعتزم العودة منها إلى بلاده الروسية من طريق قره كروم والتركستان الصينية، ولكنه بينما كان يزور البيعة البوذية هناك أعلمه كبير الكهنة خبرًا عجيبًا عن المسيح وسياحته في الهند، وقال له الكاهن: إن السجل الذي يرجع إليه في تفصيل ذلك موجود في محفوظات «الحسا» عاصمة التبت الكبرى، وكعبة الحجاج في تلك الديار.

قال الكاتب: ولما كنت أستبعد العودة إلى زيارة الهند مرة أخرى، أرجأت أوبتي إلى أوربا ريثما أطلع على تلك المحفوظات، وإن كلفني الأمر رهقًا، أو حملني مشقة الرحلة إلى «الحسا» فهي ليست من الخطر والمشقة بحيث يتوهم المتوهم، وَهَبْهَا كذلك فقد تعودت أخطار السفر، ورُضْتُ نفسي على الضرب في مجاهل البلاد.

وزرت وأنا في عاصمة التبت الصغرى ديرها العظيم، القائم في أرباض المدينة فأطلعني رئيس الكهان فيه على المحفوظات التي لها صلة بتاريخ المسيح عندهم، وتفضل بتلاوتها علي والترجمان ينقل لي ما يتلو، وأنا أدون ما أسمع في دفتري حتى استوفيت ما في تلك المحفوظات، وهذه خلاصته:

لما بلغ عيسى، وهذا اسمه عندهم، الثالثة عشرة — وهي السن التي يتزوج فيها اليهود في زمانه — كثر طلابه لبناتهم من أشراف البلدة وأغنيائها؛ لما اشتهر به من الذكاء، والفصاحة، والخطب الجميلة، والمواعظ الدينية، وإن لم يكن أهله من ذوي اليسار الذين يرغب في مصاهرتهم الأشراف والأغنياء، ونفرت نفس عيسى عن الزواج فغادر منزل والديه خفية، وخرج مع بعض التجار من بيت المقدس إلى السند؛ ليستكمل، ويتعلم، ويطلع بنفسه على ما سمع عن حكمة الحكماء، وعلوم النساك، وأصحاب الأسرار.

وفي السنة الرابعة عشرة من عمره، قدم إلى بلاد الآريين، وأقام في البلدة المجتباة فذاعت له شهرة في أرجاء الهند الشمالية، وتسامع به الكهان والأحبار، ثم اجتاز بلاد الأنهار الخمسة و«راجبوتان» إلى جقرنات حيث يرقد الرفات البشري «لفيسا كرشنا» فرحب به الكهان البيض، وعلموه أن يقرأ الكتب المقدسة، وأن يفسر أسرارها، وأن يشفي المرضى ويطرد الأرواح الشريرة بالأدعية والعزائم، وقضى ست سنوات في جقرنات، وبنارس، وفي المدن المقدسة الأخرى، فأحبه الناس، ولا سيما الطبقات المحرومة التي كانت تنبذها أديان الهند ويترفع الكهان عن مقاربتها، والاتصال بها، أو إسماعها الكتب المقدسة، إلا في أيام الأعياد الكبرى؛ لأن «بارابرهما» خلقها من أحشائه وأقدامه فهي منبوذة مهينة بين خلقه! ولكن عيسى أنكر هذه اللعنة الكاذبة، وطفق يخطب في إنكارها، ويعاشر المنبوذين، وينحي على طغيان الكهان وتعاليهم على إخوانهم في الآدمية ويقول: «أبونا الرب لم يفرق بين أبنائه فكلهم أثير لديه.» وكان يدعوهم إلى ترك الأوثان وتقريب القرابين لغير الله، وينكر ثالوث براهما الخالق، وفشسنو الواقي، وسيفا المفني، ويقول لهم: «إن الديان السرمدي هو الروح الباقي وهو روح الكون الأحد المفرد، الذي لا يتجزأ، يخلق كل شيء، ويشتمل على كل شيء، ويحيي كل شيء، وإن البارئ الأعظم لم يشرك معه في سلطانه أحدًا فكيف الأوثان الصماء!»

فلما اشتد أمره على الكهان وجماعة المقاتلة بعثوا في طلبه ليقتلوه، فحذره الدهماء وأخرجوه ليلًا من أطراف جقرنات، فبلغ الجبل، ونزل بلاد «جوتميد» مولد بوذا الأعظم بين شعب يعبد براهما الواحد ذا الجلال، فتعلم لغتهم وحذقها، وعكف على درس كتبها وطروسها المحفوظة، ثم غادر نيبال وجبال هملايا، وهبط إلى «راجبوتان» ويمم الغرب يبشر بعبادة الله ويدعو إلى الكمال، ويحض الناس على اطراح عبادة الأوثان، فذاعت بين الوثنيين شهرته ولباه خلق كثير، واستفاضت في البلاد القريبة أنباء مواعظه ووصاياه وسبقته إلى بلاد فارس، فقابله كهانها حين دخلها بالحذر، وحرموا على الناس حضور خطبه، فلم يزدهم التحذير إلا عكوفًا عليه واستجابة له. قال الكاتب الروسي: ثم قبض عليه الكهان، وأحضروه إلى رئيسهم وسألوه فأجابهم أحسن جواب، ولم يجدوا عليه سبيلًا، فأظهروا الرفق به ولم يمسوه بسوء، ولكنهم أخذوه في جنح الليل إلى طريق مقفر يكثر فيه السباع، وأرسلوه هناك ليلقى حتفه بعيدًا عنهم فوقاه الله، وما زال يتنقل في البلاد حتى آب إلى وطنه في التاسعة والعشرين من عمره، وبدأت سيرته المعروفة في الأناجيل.

يقول الكاتب الروسي: وهذه المحفوظات التي تلاها رئيس الكهان البوذيين في عاصمة التبت الصغرى هي مجموعة منسوخات كثيرة مكتوبة باللغة التبتية مترجمة عن بعض الصحف المودعة في مكتبة «الحسا» التي جلبت إليها من الهند، والنيبال، ومغادا، بعد المسيح بمائتي سنة فوضعت في البيعة الكبرى على جبل ماربور حيث يقيم حبر الأحبار وتودع المخطوطات المدخرة من قديم الأدهار.

أما تاريخ تدوين هذه القصص فيرجع إلى السنة الثالثة أو الرابعة بعد وفاة المسيح. كتبها الكهان حين جاءهم التجار بأنباء المسيح في وطنه، وأودعوها كعادتهم مكاتب البيع، ومما يميل بالكاتب إلى تصديقها أنها لم تدون في بلدة واحدة ولا على نسق واحد، وإنما جاءت مفرقة من هنا وهناك ودونت مع قصص أخرى من أحداث ذلك العصر، فلا يستخلصها القارئ على هذا النسق إلا بعد جهد جهيد.

ويرى الكاتب أن هذه المخطوطات خليقة بالثقة والاعتبار؛ لأن الكتابة كانت معروفة في الصين والهند قبل موسى بزمن مديد، وكانت الشرائع والقوانين والمذاهب مكتوبة في سجلات محفوظة بلغت في الهند نحو ٨٤٠٠٠ وثيقة قبل الميلاد بستمائة سنة، ولا يتأتى أن تنقل نصوصها وتحفظ وتسجل إلا في عصور وعصور، فبينما كانت الشعوب الأمية كشعب إسرائيل تتناقل الروايات شفاهًا فمًا عن فم وجيلًا بعد جيل، فيعتريها ما يعتريها من السهو والتحريف وتجسيم البعد وتكبير الخيال، كان الرواة الهنود يودعون الصحف روايات الحوادث التي يشهدونها ويسمعونها في زمنهم أو في عهد قريب منه، وثابت معروف أنه كانت للهند تجارة مع مصر والأقطار الأوروبية تمر ببيت المقدس فلا تنقطع أخبار الهند عن تلك البلاد، ولا تنقطع أخبار تلك البلاد عن الهند، فكانت القوافل الهندية في زمن سليمان تحمل المعادن النفيسة والمواد اللازمة لبناء هيكله وتزيينه، وكانت تجارة أوربا ترد إلى بيت المقدس بحرًا على ميناء قديم في موضع مدينة «يافا» الآن.

قال الكاتب الروسي: ولما عدت إلى أوربا لقيت الكثيرين من رجال الدين المعدودين؛ رجاء أن يراجعوا مذكراتي ويعنوا بتحقيقها، فلم أجد سميعًا ولم يوافقني أحد على نشرها، فعرضت مسألتي على الأستاذ جول سيمون فاستعظمها، ونصح لي باستشارة رينان في أمر تلك المذكرات وفي أمثل الوسائل لنشرها والتعقيب عليها، فاقترح رينان أن أسلمه المذكرات ليقدمها إلى المجمع العلمي، وأشفقت أنا من ذاك وأدركني الحرص على ثمرة جهدي وفضل هذا الكشف النادر، فرأيت أن أتولى نشره بنفسي وأكتب حواشيه وأعلق عليه وقد فعلت. فلعل الهيئات العلمية تعنى بإعداد بعثة للسفر إلى التبت ودرس الوثائق في سجلاتها، وتقرير قيمتها التاريخية.

هذه خلاصة تلك الرحلة العجيبة التي نشرها الكاتب الروسي منذ نيف وثلاثين سنة، فناقشها الكثيرون وقطع بافترائها بعض الثقات، ووصفوها بأنها تدجيل لا يستحق كبير عناء، ونحن أميل إلى الشك في أساسها، ولكنها إن صحت أو كان فيها جانب صحيح، وكانت هناك محفوظات كالتي ذكرها الكاتب الروسي ودونها فالأمر يحتمل وجهين. أحدهما أن النبأ في جملته صحيح وأن المسيح سافر إلى الهند، وعاش فيها قبل الرسالة، وتعلم من خير ما في البوذية والبرهمية، وعلمهم من خير ما في اليهودية والنبوءات الإسرائيلية، والوجه الآخر أن بعض الكهان الهنود في الزمن القديم أو الحديث خشي على دين قومه من شيوع المسيحية، فدون بعض تلك القصص ليعزز دينه ويجعله مصدر الأديان ومعلم الرسل، ووضعها ذلك الوضع المفرق الذي لا يكشف حقيقته إلا رجل عليم باللغات الهندية والتبتية، قدير على استقصاء أخبارها ومضاهاة محفوظاتها مزود بما كان يعوز الكاتب الروسي للتثبت والتمحيص الدقيق.

•••

غير أننا إذا فرضنا الفرض الأخير حق لنا أن نستغرب شهادة الكهان لعيسى بالصلاح والهداية، وتزكيتهم لفضائله وعظاته، ووصفهم إياه وصفًا يرغب في دينه ويرجحه على دين البوذية ودين البرهمية على الخصوص، ومن جهة أخرى نرى في الأناجيل ما يدل على تعمق المسيح في علم الشرائع اليهودية وأخبار الرسل ومأثورات الفريسيين، فمتى استوعب كل هذا العلم الغزير، وأنى له أن يستوعبه جميعًا قبل الثالثة عشرة أو في سنة واحدة أو بعض سنة بعد العودة من رحلته الهندية؟!

•••

على أن الأمر الذي نلاحظه في كتاب يؤلف عن تاريخ المسيح أن لدفج لم يشر إلى الهند والبلاد الشرقية وعلاقتها بالإسرائيلية في الفاتحة التي كتبها لإجمال الأحوال في عصر المسيح، فقد أشار إلى مصر، واليونان، والرومان، واقتبس بعض الآراء الفلسفية التي ظهرت في هذه الأقطار، وانتقلت منها إلى الجليل، وبيت المقدس، وأخذ بها عملًا أو تعليمًا بعض المتسهلين الميسورين من طوائف اليهود، ولكنه لم يشر إلى الهند، وفارس، وبين النهرين وهي خليقة أن تذكر في هذا السياق؛ لأن علاقة الهند الروحية بأرض إسرائيل لا تنكر ولا تخفى سواء صحت أخبار الكاتب الروسي أو بطلت بعد الاستقراء، فقديمًا كان الإسرائيليون فيما بين النهرين وكانوا على مقربة من المجوس، ثم عادوا إلى بابل في الأثر، واختلط أكثرهم بأهلها حتى ضاع في غمارها ولم يعد إلى فلسطين مع القبائل التي نزحت بعد فتح قورش وهزيمة البابليين، وقد جاء ذكر المجوس في البشارة بمولد المسيح، كأنما كان الاعتقاد فيهم أنهم عليمون بالأنباء مطلعون على الأسرار يفهمون من حقائق الفلك والوحي ما ليس يفهمه أبناء إسرائيل، فالإشارة إلى هذه العلاقات القديمة لازمة في التمهيد لعصر المسيح، ولا سيما إذا لاحظنا المشابهة الشديدة بين البشارات والأخبار عنه والبشارات والأخبار عن بوذا، ولاحظنا إلى جانب ذلك قصص المسيحية الأولى التي لا تخلو من دلالتها التاريخية والنفسية، وإن حكم الآباء الكنسيون ببطلانها من وجهة الاعتقاد.

٥

خاتمة

على فهم شخصية المسيح يتوقف كل شيء، وهذه الشخصية هي في الوقت نفسه مقصد الباحثين وغاية ما يرجون الوقوف عليه من جمع الأسانيد ومقابلة الحوادث وتحليل الآراء، وخلاصة ما يقال في هذا الباب أن وصف هذه الشخصية لم يزل بعد مسألة من مسائل الذوق الفني الذي يعتمد من بعض الجوانب على حقائق العلم المحصورة، فلا أمل الآن في تكميل تلك الصفة على أساس الوقائع المقررة والأخبار المقطوع فيها بالإجماع، وعلى هذا النحو تعجبنا الصورة الموصوفة أو لا تعجبنا، على حسب ما عندنا من التخيل، وما أوحته إلينا المعلومات المتفرقة، والميول النفسية من الملامح التي لا يقوم عليها برهان وثيق، وقد نصيب أو نخطئ في التصور والتمثيل، ولكننا على ثقة من أننا لا نستطيع أن نجزم بتفضيل صورة على صورة من الوجهة العلمية، إلا إذا كانت هناك مخالفة بارزة لخبر أجمع عليه الباحثون.

والصورة التي مثلها لنا إميل لدفج في كتابه «ابن الإنسان» هي كما رأينا صورة مغرقة في البساطة، عارية من الفخامة التي يتوسمها المتخيلون الفنيون فضلًا عن المؤمنين بدين المسيح.

وللبساطة فخامتها وعظمتها بلا مراء، ولكن الفرق بعيد بين البساطة البسيطة وبين التركيب المتشعب الذي يبدو للناس في مظهر البساطة؛ لأن صاحبه قد عرف كل شيء واطلع بالخبرة أو بالإلهام على خفايا الحياة، فتشابهت لديه الأحوال وتقاربت عنده أنحاء النفوس، وترجم ألغاز الدنيا كلها في حل واحد يلوح للناس بسيطًا متشابهًا وهو ينطوي على أعمق الأعماق وأعقد الأمور، فإذا أحببت أن أتخيل بساطة المسيح مما بقي لدينا من أقواله وأنبائه، فهي عندي أقرب إلى البساطة المركبة الملهمة التي لم تتبسط لعجز في التركيب؛ بل لأنها أعظم من التركيب وأشمل وأبعد مدى في قرار البداهة والإلهام، وليست هي البساطة البسيطة التي تلوح لنا من صورة إميل لدفج في كتابه «ابن الإنسان»، فإن المسيح على هذه الصورة ظاهرة غير خارقة لأحكام الكون، ولا ننكر فعل الظروف والطوارئ في سيرة كل عظيم، ولكننا لا نريد كذلك أن نتطوع بمنع العظمة منعًا لا أساس له إلا الرغبة في منعها بغير سلطان من التاريخ، فليست العظمة — إلى أسمى حدودها الروحية — خارقة من الخوارق فنجنح إلى تعليلها، كما نعلل الأكاذيب في أساطير الأولين، ونبدأ بإنكارها والتماس التفسيرات المألوفة لها قبل أن يكون لدينا برهان يدعو إلى الإنكار والتفسير، وإنما العظمة شيء جائز في كل جيل، فإذا اقترن ظهور الرجل العظيم بالحوادث العظيمة فليس التبسيط أمانة للتاريخ في هذه الحالة، وإنما الأمانة الصادقة أن نقول الحق الغريب؛ لأننا غير مكلفين أن نتجنب الغرابة في كل حال، وأن نحكم على الدنيا بأنها لن تجيء يومًا بغريب.

وقديمًا ذهب الميل إلى التبسيط بالمؤلفين إلى حد اختلاق العجائب التي هي أغرب من المعجزات التي أنكروها، والتمسوا من أجلها العلل والتأويلات. فجاء كارل فردريك بارد الألماني في أواخر القرن الثامن عشر يفسر المعجزات، ويقرب قصة المسيح إلى العقول التي لا تؤمن بالخوارق والأعاجيب، فإذا هو يزعم أن المسيح كان تلميذًا لجماعة سرية كانت تعمل في ذلك العصر كما تعمل جماعات الثائرين، وأنها تعهدت المسيح من مولده فعلمته وأقرأته التاريخ وأنباء الشهداء والمرسلين، وأنه أعجبته سيرة سقراط اليوناني، وأحب أن يقتدي به ويستشهد في سبيل الحق استشهاده، وأنه كان يتكلم بلغتين لغة رمزية لا يفهمها إلا إخوانه في الجماعات السرية ولغة سهلة يفهمها سواد السامعين، فحدث من ثم الاختلاف في مراميه والتضارب في روايات أقواله، وأنه حين كان يخلو بنفسه في البرية وعلى قمم الجبال إنما كان يذهب إلى الكهوف لملاقاة رؤساء الجماعة والرجوع إليهم فيما يعمل وفيما يقول، وإن معجزات إقامة الموتى وشفاء المرضى كانت من تعليم لوقا الطبيب والعضو المقدم في تلك الجماعة، فهو الذي علم المسيح أعراض الموت الكاذب وأسرار العلاج والمداواة بالعزيمة، وساعده على بلوغ ذلك المكان الذي أعدوه له بين الشعب لإنجاز ما دبروه، وأنه لما حان الوقت المعلوم اتفق لوقا وصاحباه نيقوديمس وحارام على تقديم المسيح للاستشهاد، فتكفل لوقا بالدواء الذي يقويه على الألم ومطاولة الموت، وتكفل نيقوديمس بأن يسعى عند ولاة الأمر في التعجيل بإنزاله من الصليب، إلى آخر هذه التلفيقات التي أهون على العقل أن يفسر المعجزات والأسرار ولا يفسر ما فيها من التخمين والتنجيم، وتعاقب بعد كارل فردريك بارد مؤلفون على هذا الطراز إلى أن بطل سحر المفاجآت والألغاز في القصص والآداب، فبطل كذلك في تأويل التاريخ، ولكنهم أصبحوا يحاولون أن يجعلوه خلوًا من كل غريبة، وينظموه كله من وقائع يشاهدها العابر في مدارج الطرقات، وهذا في ذاته عجيب غير مقبول في الخيال ولا مؤيد بالاستقراء.

واسم «ابن الإنسان» الذي اختاره إميل لدفج لكتابه اسم يدور حوله كثير من الأقاويل، فالذين حققوا أن المسيح كان يخاطب الناس باللغة الآرامية يقولون: إن كلمة «باراناش» أو ابن الإنسان بهذه اللغة لا تدل على أكثر من «الإنسان» أو ابن آدم، أو بعبارة أخرى أنها مرادفة لكلمة ابن الناس الني نطلقها في العربية على كل أحد، فليست كلمة «باراناش» مطابقة لكلمة ابن الإنسان التي وردت في النبوءات، وليس لها ذلك الطنين والغموض الذي يدخل في روع سامعها باللغة اليونانية، ويكاد يشك القائلون بهذا القول في دعوة المسيح لنفسه، واعتقاده في رسالته وهو شك لا موضع له؛ لأن كلمة «ابن الإنسان» ليست كل ما في كلام المسيح من الدلالات على الرسالة المكتوبة في أسفار التوراة، فمن آمن بوجود المسيح فليؤمن بدعوته لنفسه؛ لأن الشك في هذه الدعوة لا يستند إلى قول راجح.

إن قوة المسيح الروحية هي أساس كل عمل عظيم جاءت به هذه الشخصية العظيمة أو اقترن باسمها في سياق التاريخ، وقد يكون العطف عليه — عطف النساء والشبان الأبرياء والشيوخ الصالحين — سرًّا من أسرار الإيمان به والكره لظالميه والثبات على ذكراه، ولكن هذا العطف وحده ما كان كافيًا لإنشاء دعوة كبيرة لو لم يكن وراء تلك الدعوة روح عظيم وسلطان أدبي يكون الاعتداء عليه مثيرًا للنفس، مفعمًا لها بالسخط والإنكار، فعلى أساس العظمة الروحية فلنبن قيام العقيدة المسيحية، ثم يأتي بعد ذلك ما يأتي من فعل البيئة، وملاءمة الحوادث لانتشار الدعوة في جيل المسيح وفي الأجيال التي بعده.

وليس أثر البيئة وملاءمة الحوادث بالأثر القليل في هذه الدعوة ولا هو بالشيء الذي يكثر فيه الخلاف، فمن المحقق المجمع عليه أن عصر المسيح كان عصر استعداد للاعتقاد وتهيؤ لرفض القديم الرث، والإقبال على إيمان جديد. فاليهود كانوا يترقبون ظهور الملك المخلص لهم من أسر الظالمين، وكانوا يرجون في مبدأ الأمر أن يكون ذلك الملك المخلص ملكًا حقًّا مسيحًا أي ممسوحًا بالزيت المقدس، يسترد لهم عرش داود ويكون ولدًا من ذرية داود، ثم أخذوا ينقلون المسيح شيئًا فشيئًا من عالم الدنيا إلى عالم الروح قياسًا إلى قوة الأعداء، واليأس من قهرها بالجيش والسلاح، فكلما كبرت في قلوبهم هيبة الدولة الرومانية، كبرت فيها صفة المسيح الروحية ولاذوا بالأمل في الرسالة بعد الأمل في إخلاف داود بملك من أبنائه، يضارعه في الحكمة والجاه، وما بلغوا إلى عصر المسيح حتى كان أحبارهم قد تشبثوا بتقاليد الدين تشبثًا يزداد مع ازدياد الخوف من ضياع تلك التقاليد في غمار الحياة الرومانية، والعادات اليونانية التي تسربت إليهم من الفاتحين؛ فكان هذا التشبث مؤذنًا بالنفور من شعائرهم العتيقة، ونصوصهم الحرفية، وداعيًا إلى الشك في هذه الظواهر، والأخذ في الدين بالتسهل والسماحة، وتحضير الأذهان لتفسير النصوص بالمعاني الروحية، والمجاز المقول بدلًا من تلك التقاليد التي يشق اتباعها على الناس في غمار المعيشة اليومية، وتقدمت المسيح طوائف كانت تتهم الأحبار بالرياء، وتتسهل في تفسير النصوص وتأويل التقاليد، ولا تتقيد بالأوامر والنواهي التي يتقيد بها الأحبار في التطهير والصلاة، فكان تهافت هيبة الأحبار والشك في التقاليد تمهيدًا حسنًا للإيمان بدين الروح، والخروج على دين الشعائر والحروف.

هذا في عالم اليهود، أما في عالم اليونان والرومان فقد ظهر قبل عصر المسيح مذهب الرواقيين المتقشفين، واشتدت وطأة الدولة الرومانية فكثر الناقمون عليها وعلى الدنيا من أجل ظلمها، واتسعت الفجوة بينها وبين رعاياها فاحتاجوا في وقت واحد إلى العزاء وإلى الثورة الروحية، ووجدوا كل أولئك في البشارة بالمسيح، وما تحمله هذه البشارة من الأمل للضعفاء والرفق بالمنبوذين والخطاة، ووافق هذا العصر امتزاج الديانات المصرية والهندية والفلسفة اليونانية، فتقاربت الفوارق في عالم الروح، وانهارت النظم التي طال على قيامها الزمان وتاقت الأفكار إلى شيء جديد، ولعل قراءة الأناجيل وحدها كافية للدلالة على استعداد الناس في ذلك الزمان للإيمان ويأسهم مما هم فيه، وثقل الوطأة على أعصابهم وعقولهم من حضارة تلك الأيام ومن مغاشم دولة الرومان، فما أكثر الصرعى والمجانين والمشلولين والمنزوفين فيما حدثتنا به الأناجيل من أخبار قصاد المسيح وطلاب الشفاء على يديه! وإذا ثقلت المغاشم على أعصاب الناس إلى أن يعد فيهم الصرعى والمجانين والمشلولون والمنزوفون بالمئات في إقليم صغير، فذلك عنوان لحالة النفوس، ودليل على بيئة صالحة للثورة والإيمان والتهالك في العقيدة، كما هو الشأن في كل من ثقلت على نفوسهم وطأة الآلام والشعور المكبوح، وتاقوا إلى مصرف للرجاء في عقيدة يوحيها إليهم رسول محبوب مهيب.

وكانت آمال المسيح هي آمال إسرائيل ولا ريب، وأمثلته العليا هي أمثلتهم العليا في التوراة، ولكنه كان بريئًا من حجر التقاليد ناقمًا على رياء الأحبار متفتح القلب لأسمى معاني السماحة مطبوعًا عليها بفطرته ممتازًا بسعة الروح ورجاحة اللب وفصاحة اللسان، ولا نحب أن نعزو إليه ذهول المأخوذين كما توهم بعض كتاب سيرته، أو نتخذ من سكونه في محضر الأحبار بعد القبض عليه دليلًا على وجوم عقله، واضطراب فكره، فإنه ينبغي أن يكون عالمًا بالعاقبة التي تنتظره، وربما سكت لعلمه ببطلان كل حكم يبنى على اعتراف المسئول ولا تقوم عليه البينة، ويجري فيه الاتهام على حسب الشريعة الموسوية، فإن محاكمة المسيح كانت باطلة من وجهة الشريعة الموسوية، كما قرر ذلك القاضي الإنجليزي اللورد «شوارف دنفرملين» صاحب المباحث المعروفة في محاكمات التاريخ، فإن أشد الوجود ما كان ليمنع المسيح الكلام كما يتكلم غيره في مثل موقفه لو كان ما به هو خوف القصاص، وليس التسليم وقلة الاكتراث.

فالمسيح هو صاحب العقيدة المسيحية؛ والبيئة وملاءمة الحوادث لها قسطها المقدور في نشر دينه، وإقبال الناس على الإيمان ببشارته، ولكنه قسط لا تخلو من مثله عظمة حيث كانت، ولا يشترط في العظمة أن تخلو منه بحال.

١  ٢٣ يناير سنة ١٩٢٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤