التجميل في الأسلوب والمعاني١

يقول أمييل في جريدته راويًا عن أديب لم يسمعه: «إن هذا الأديب يبدي ملاحظة جد صادقة عن أسلوب رينان، وهو يلفت النظر فيه إلى التناقض بين ذوق الفنان الأدبي ذلك الذوق الدقيق المبتكر الصادق، وبين آراء الناقد تلك الآراء المستعارة القديمة المضطربة، وإنما الاضطراب هنا اضطراب المتردد بين الجميل والصادق، أو بين الشعر والنثر، أو بين الفن والبحث، وهو أمر بين في رينان، فإنه لشديد الشغف بالعلم، ولكن شغفه بالكتابة الحسنة أشد، وقد يدعوه ذلك عند الضرورة إلى التضحية بالعبارة المحكمة في سبيل العبارة الجميلة، فالعلم مادة له وليس بغاية ولكنما الغاية هي الأسلوب، ولكلمة واحدة أنيقة أغلى في عينيه عشرًا من العثور على حقيقة ثابتة أو تاريخ صحيح، وإني لأراه على صواب في هذا فإن الكتابة الجميلة إنما تكون كذلك بنوع من الصدق هو أصدق من سرد الوقائع المجردة، وكذلك كان رأي روسو.»

والذي يقال هنا عن رينان قد قيل كثيرًا عن غيره من الكتاب والأدباء، فليس بالقليل بين الشعراء ورجال الفنون من وصفوا بهذه الصفة، وقيل في نقدهم إنهم يؤثرون الجمال على الحقيقة. هذه كلمة شائعة خرج بها بعضهم عن معناها، وأعجبتهم رنتها فوضعوها في غير موضعها.

لقد خيل إلى بعض القراء أن الجمال شيء يناقض الحق ويضحي به أحيانًا في سبيل ظهوره، وهذا من تحريف الكلم الذي نود أن نوضح مكان الزيغ منه، ونحرر نصيب الصدق فيه.

إننا نشك كل الشك في وجود ذوق فني مطبوع على حب الجمال الصحيح يضحي بالحق في سبيل الجمال، فإن تعمد التضحية بالحق غش أثيم تنبو عنه طبيعة الذوق السليم، والرجل الذي يعلم أنه عثر على المعنى الصحيح، ثم ينبذه مختارًا ليخلفه بعبارة تبرق في النظر، أو تظن في السمع يزيف على نفسه تزييفًا لا ترضاه السليقة الجميلة، ولا الذوق المستقيم، فالقول بأن كاتبًا يضحي بالعبارة المحكمة عند الضرورة؛ من أجل العبارة الجميلة — وهو عالم بذلك — فيه تجوُّز يدل على سوء فهم للحق أو سوء فهم للجمال، وفيه مبالغة كمبالغة الصور الهزلية التي قد تغتفر أحيانًا للدلالة على نظرة خاصة يقصدها المصور، لا للدلالة على الصدق والإحكام.

قد يضحي الكاتب بالحق في سبيل البهرج الكاذب؛ لأنه لا يتذوق جمال الحق، ولا بساطة الجمال، أما التضحية العامدة بالحق في سبيل الجمال فأمر لا يتفق، ولا ندري كيف يسيغه طبع قويم.

والبهرج كما لا يخفى غير الجمال وإن ظن أنه منه، أو خيل أن البهرج هو إفراط في الجمال وتزيد منه إلى فوق المحمود. بل نحن نقول: إن البهرج يناقض الجمال، وإن الإعجاب به دليل على ضلال مشوه عن الذوق الجميل، فهو شيء سطحي إذا لفتك فقد بلغ الغاية، وأعطاك كل ما عنده ولم يبقَ لديه من سر غير ذلك السر الذي يقف عنده الحس، ويجمد عنده الخيال، وهو صورة تلقي بكل ذخيرتها لأول نظرة تجتذبها من عين الناظر، أو أول لفتة تسترعيها من أذن السامع، فهو عقبة تستوقف الناظرين والسامعين، وقيد يغل الحس والتفكير، أما الجمال فنقيض ذلك؛ لأن ما يبدو منه لأول وهلة هو أقل ما فيه، أو هو رائده الذي يسعى أمامه ليدل على وصوله، وهو لا يستوقف الحس ولا يعطل التفكير والخيال، ولكنه يطلق النفس في هوادة ورفق، ويسلس في الطبع شعور السماحة والاسترسال.

وإذا أردت أن تعرف منتهى ما يبلغ إليه البهرج، فلك أن تقول: إنه هو وهج في النظر، وقرقعة في الأذن، ولذع في الحس، وتهييج في الشعور، ومتى انتهى إلى ذلك فقد افتضحت طبيعته المادية، ووصل إلى حد المضايقة والإرهاق، أما الجمال فلا يزيد في «المادية» كلما زاد في الحسن والظهور، ولا يتمادى إلى إعنات الحواس بالغًا ما بلغ في السمو والكمال، ولكنه يتجه إلى النشوة الروحية، والنعيم الذي لا يشوبه حس منزعج، ولا جسد منهوك، فأنت تقول هذا بهرج ويثقل على النظر إذا زاد على حده، ولا تقول هذا جمال يثقل على حاسة من الحواس إذا أعجبك سموه وكماله؛ لأن الجمال لا يعلو في الدرجة كلما ضعفت أعصاب الوظائف الحسية عن احتماله، وإنما تقاس درجاته بما يوليه النفس من نشوة وطلاقة وارتياح.

فمعقول أن يترك الكاتب الحق ليلهي قارئه بالبهرج الزائف؛ لأن الحق لا يثير الحس بطبيعته فهو لا يغني عند القارئ الساذج غناء البهرج الذي يسترعيه من هذه الناحية، ويلذه كما يلذ الطفل البريق والطنين، ولكن غير معقول أن يترك الكاتب الحق ليلهيك بالجمال؛ لأن استمتاعك بالحق لا ينفي استمتاعك بالجمال، وكلاهما يسعيان في طريق واحدة ويلطفان النفس بلذة متشابهة، فإذا بلغ الجمال أقصى أثره في النفس لم يصرفها عن الحق، وإذا بلغ الحق أقصى أثره في النفس لم يصرفها عن الجمال، ولا موجب لترك أحدهما من أجل صاحبه، أو للتفريق بينهما في ذوق الفنان القدير والقارئ الخبير.

ولزيادة الإيضاح نسأل من يزعمون هذا الزعم: لماذا يترك الكاتب المعنى الصادق إيثارًا لجمال الأسلوب؟

إن ذلك لا يعدو أن يرجع إلى سبب من سببين: فإما أن يكون التعبير عن ذلك المعنى الصادق بأسلوب جميل مستحيلًا كل الاستحالة؛ أي أن يكون ذلك المعنى الصادق مقضيًا عليه ألا يبرز أبدًا إلا في قالب دميم من اللغة والأسلوب، وهذا ما لا يقوله أحد ولا يستطيع أن يفرضه عاقل، إذ لكل معنى حظه من الصياغة الجميلة يلهمه في الكتابة من هو قادر عليه، ولم يوجد بعد ذلك المعنى الذي تضيق به الأساليب، إلا ما كان معيبًا مشروطًا فيه النقص والتشويه.

وإما أن يكون السبب الذي يحمل الكاتب على ترك معناه الصادق إيثارًا للأسلوب الجميل هو إحساسه بالعجز عن إفراغ ذلك المعنى في قالب البلاغة والجمال، فليس يصح إذن أن نقول: إنه قد ترك الحق لأجل الجمال إذ كان الجمال ها هنا ميسورًا لو استطاعه، ولم يكن ثمة تناقض بينه وبين الحق على وجه من الوجوه، ولكنما نقول: إنه ترك معنى صادقًا إلى معنى آخر له نصيبه عنده من الجمال والصدق، أو البهرج والبهتان.

فلا يغترن أحد بتمويه أولئك الذين يعتذرون من الكذب بالجمال، فإنما الكاذب عاجز عن الصدق وعن الجمال في وقت واحد، ولا يتوهمن أحد أن الحق يناقض الجميل، وأن كاتبًا مطبوعًا على الصدق يطيق أن يزوره مرضاة لما يسمى بالذوق السليم، فإنما يصنع ذلك أصحاب البهرج والتزييف، وليسوا هم من سلامة الذوق على شيء كبير ولا صغير، والفرق بعيد كما رأينا بين البهرج والجمال؛ لأنه فرق بين العقبة والطلاقة، وبين ما يخاطب الوظائف الحسية وما يخاطب الملكات الروحية، وبين ما يفرط فيمل الخاطر ويثلم الحس، وما يفرط فيزيدك نشاطًا إلى نشاط، ومرحًا إلى مراح.

كنا نتذاكر هذا المعنى منذ أيام مع إخوان من الأدباء، فاقترحنا أن نتطارح أبياتًا يتفق لها جمال الأسلوب وجمال المعنى، وذكر بعضهم هذا البيت:

وإنَّك كالليل الذي هو مُدركي
وإن خِلْتُ أن المُنتأى عنك واسع

وذكر آخر بيتين يناسبانه:

كأن فجاجَ الأرض وهي فسيحة
على الهارب المطلوب كفَّة حابل
يؤتَّى إليه أن كل ثنيَّة
تيمَّمها ترمي إليه بقاتل

وذكر آخر بيتين آخرين:

أخاف على نفسي وأرجو مَفازها
وأستارُ غيب الله دون العواقب
ألا مَن يُريني غايتي قبل مذهبي
ومن أين! والغاياتُ بَعد المذاهب

وقابلنا بين هذه الأبيات السائغة، وخلوصها بالذهن إلى المعنى في ثوب من اللفظ شفاف لا تستوقف منه لفظة مزوقة، ولا تعطلك لديه نكتة فارغة، وبين أقوال البديعيين في مثل البيت المشهور:

وأمطرت لؤلؤًا من نرجس وسقَتْ
وردًا وعضت على العنَّاب بالبَرَدِ

أو مثل هذا البيت:

أزورهمُ وسواد الليل يشفع لي
وأنثني وبياض الصبح يغري بي

أو مثل:

إذا مَلِكٌ لم يكن ذا هبةْ
فدعه فدولته ذاهبةْ

فتساءلنا: أي فرق بين الأبيات السابقة والأبيات اللاحقة هو أظهر من سائر الفروق، وأدل على البعد بين طبيعة الصدق وطبيعة التمويه؟ فلم نجد بينهما فرقًا أجمع لذاك من أن الأسلوب في الأولى يجوز بك إلى معناه بغير ما توقف ولا انتباه، وأن الأسلوب في الثانية يقف بك عند اللفظ المقصود، فلا تجوزه إلى المعنى إلا إذا أردت ذلك وتعمدته، فالألفاظ في الأولى تخدم المعنى وتريك إياه ولا تريك نفسها، من أجل هذا كانت جميلة وكان قائلها بليغًا، والألفاظ في الثانية تستوقفك لديها وتحجب عنك المعنى، ومن أجل هذا كانت مزورة، وكان قائلها مبهرجًا لا حظ له من البلاغة والجمال.

ولسنا نرد بما تقدم على ملاحظة «أمييل»؛ لأننا نراه يوافقنا في مدلول نظره ويقول: «إن الكتابة الجميلة إنما تكون كذلك بنوع من الصدق، هو أصدق من سرد الوقائع المجردة» ولكننا نرد على الذين يلغطون بيننا بمثل تلك الملاحظة، ويعتذرون من تحريف المعاني بجمال الأساليب ولا يفهمون أن الصدق هو جوهر الجمال، وأس البلاغة، وقوام الذوق السليم، وقد أصاب «أمييل» حيث فرق بين الصدق في الكتابة، ومطابقة الواقع في التواريخ، فإن الصدق في الكتابة هو النفاذ إلى روح الموضوع، والإحاطة بأصوله ومقوماته، وأما مطابقة الواقع في التواريخ فهي جمع معلومات خارجية حول الموضوع لا تمس روحه، ولا تدخل منه في المقومات، فأنا مثلًا أعرف صديقي وأحبه وأعطف عليه، وأستمتع بعطفه وأفهم ما يرضيه وما يغضبه، وما قد عمله وما هو خليق بطبعه أن يعمله، وأستشف بواطن سريرته وأطواء نيته، كما لا يستشفها الذي لا يعرفه ولا يصادقه، ولكني قد أسأل عن تاريخ ميلاده أو البلد الذي ولد فيه أو عن أخبار أهله وأسرته أو موقع سكنه وألوان ملابسه ومطاعمه، فلا أعرف من ذلك ما يعرفه خادمه ووكيله، فإذا كتبت عنه فقد أعطيه عمرًا فوق عمره، وأنسبه إلى بلد غير بلده، وأخلط بين أخبار أهله وأخبار أناس غير أهله، وإذا كتب عنه خادمه أو وكيله فقد يصيب حيث أخطأت، ويضبط الوقائع حيث غيرت وبدلت، ولكني مع هذا أظل أصدق منه في الكتابة، ويظل هو أبعد من ذلك الصديق، وأكذب في الإبانة عنه والدلالة عليه، فللصدق في رواية من الروايات جوانب شتى لا تنحصر في الأرقام والوقائع، ولا تحد بالمشاهدة والسماع، وللفن صدق واحد يعنيه، وهو صدق اللباب والجوهر، الذي يقدم ويؤخر في التفريق بين إنسان وإنسان، وموضوع وموضوع.

لهذا نرى «أمييل» أقرب إلى الصواب من «تين» حين لاحظ هذا ما لاحظ على أسلوب رينان في رواية التاريخ، فقد وصف تين في مذكراته مجلسًا له مع رينان وبرتلو، فأجاد وصف الرجل في أشياء كثيرة ثم قال: «وقرأ لنا فصلًا طويلًا من حياة المسيح، فإذا هو يرق في الكتابة ولكن يتحكم! وإذا بأسانيده كثيرة الضعف وليس فيها الكفاية من الدقة، وقد حاولت أنا وبرتلو عبثًا أن نقعنه بأنه في كتابه هذا يضع قصة روائية في موضع أسطورة! وأنه يفسد الجانب الصحيح في تاريخه بمزيج من الفروض والتقديرات، وأن رجال الكنيسة سينتصرون عليه ويطعنونه في مواقع ضعفه إلى أشباه ذلك، ولكنه أبى أن يستمع أو يبصر شيئًا غير الفكرة التي قامت برأسه، وقال لنا: إنكم لستم «بفنيين» وإن مقالًا تجتزئ فيه بالتقريرات والمؤكدات لن تكون له حياة، فقد عاش المسيح فلا بد أن نراه في سيرته يعيش.»

كذلك قال رينان وكذلك كان هو أدنى إلى الحق من أصحاب الوقائع والأسانيد، بل هو كان أدنى إلى روح المسيحية من دعاة المراسم والحروف؛ فما المسيحية السمحة في روحها الحي الصميم؟ هي التقريب بين الله والإنسان، والتوفيق بين ما في الإنسان من روح الله وما في الله من أمل الإنسان، وهذا الذي اهتدى إليه رينان حين مثل لنا في تاريخ المسيح إنسانًا إلهيًّا يمشي معنا على الأرض ويعالج الأشواق والآلام. حتى لقد هم أن يجعل من أحزانه ليلية التسليم أنه كان يلمح وجوه الصبايا التي سيودعها في هذه الحياة.

ولقد كان رينان مجملًا مزخرفًا في «حياة المسيح» ولكنه كان يتحرى ذلك الجمال الذي يطابق الحق في الفن والمثل الأعلى، وإن خالف الحق المحدود في الحروف والأرقام.

١  ٢١ يناير سنة ١٩٢٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤