بين العقاد وطه حسين: مناقشة١

سآخذ على عهدتي في هذا المقال أن أسند إلى الدكتور طه حسين رأيًا لم أقرأه له، ولم أستأذنه في إسناده إليه، وإنما أقول: إنه هو رأيه لأنني لا أعرف كيف يكون له رأي آخر في الترجمة وعلاقتها بالتغالب بين الشعوب.

سأزعم أن الدكتور طه حسين يقول: إنه حيثما تغالبت أمتان أخذت كلتاهما من الأخرى ما يمكن أخذه من حضارة وعلم وثقافة، وإن رغبة المعرفة المركبة في الفطرة تحتاج إلى تحريض من التنافس، فتنشط بعد كسل، أو تتوجه إلى وجهتها بعد حيرة وشتات.

نعم إن الدكتور لم يقل شيئًا من ذلك، ونعم إنه ينكره فضلًا عن أنه يقوله، ونعم إنه يناقشني فيه حين قررته في مقالي الأول، ثم في مقالي الثاني، ولكني مع هذا أسنده إليه وأكرر إسناده لأنني لم أجد له منصرفًا عنه، ولا حجة لإنكاره، وليس الإنكار وحده كافيًا إذا كان كل ما يقوله الأستاذ الفاضل منتهيًا إلى تقرير ما كتبته وناقشني فيه، فالدكتور يأبى أن يقول إن تبادل المعرفة يأتي من التغالب والتنافس، ونحن نزعم أنه يقوله وأنه لم ينفه، وأنه إذا اعترض عليه حينًا فليس في اعتراضه ما ينفيه! وسنرى أن الدكتور كيف يقول ما أسندناه إليه، أو لا يرى بدًّا من قوله، وإن أحاطه بشيء من التشكك والسؤال.

سنرى ذلك لأن الأمثلة التي يوردها الدكتور تأتي إلينا في النهاية ولا تبقى عنده ولا ترجع إليه، فمن ذلك أنه يقول عن العلاقة بين الرومان واليونان: وشر آخر من المسألة أعرض عنه الأستاذ العقاد الإعراض كله، وكان من حقه أن يقف عنده بعض الشيء، وهو نقل الرومان عن اليونان، فقد نقل الرومان عن اليونان كل شيء ولم ينقل اليونان عن الرومان شيئًا، وكان الرومان غالبين وكان اليونان عبيدًا لهم، فما زالت المسألة محتاجة إلى التعليل والتفسير، والرأي عندي أنها لا تعلل إلا بحاجة الإنسان الاجتماعية والعقلية، فهو يترجم لأنه حيوان اجتماعي كما قال أرسططاليس في السياسة، ويترجم لأنه حيوان ناطق كما قال أرسططاليس في المنطق، ويعظم حظه من الترجمة أو يضعف، باعتبار الظروف المختلفة التي تحيط بحاجته الاجتماعية والعقلية فتقويها أو تضعفها.

فالحاجة الاجتماعية والعقلية لم تغن في رأي الدكتور عن الرجوع إلى الظروف التي منها — بل من أقواها — ظروف التنافس والتغالب بين الشعوب.

أما لماذا أخذ الرومان عن اليونان، ولم يأخذ اليونان عن الرومان، فنحسب أن تعليله يسير، وهو أن التبادل بينهما في بداية الأمر على الأقل كان غير مستطاع.

فالرومان وجدوا فلسفة وأدبًا مستفيضًا عند اليونان، فأخذوا ما وجدوه ولم يأخذوه إلا بعد أن نشبت بينهما نواشب التغالب والاحتكاك.

واليونان لم يجدوا عند الرومان إلا فنونهم التي امتازوا بها، وهي فنون الحرب والنظام والقوانين، وليست هذه الفنون من شأن الأمم المغلوبة؛ لأن مسألة الحكومة والجيش تظل في أيدي الغالبين لا ينزلون عنها لتلك الأمم مختارين. على أن اليونان أخذوا من الرومان ترفهم وحضارتهم، ثم أخذوا منهم بعد ذلك نظامهم وقوانينهم، حين أصبح لهم نوع من الاستقلال في الدولة البيزنطية، أو حين أصبحت بيزنطة دولة اسمها للرومان وحقيقتها لليونان.

وعلى ذكر بيزنطة نقول إننا — كما قال الدكتور — لن نخالفه «في أن البيزنطيين كانوا على حظ عظيم جدًّا من الابتكار في الناحية الفنية، حتى أصبح لهم فن خاص يمتاز أشد الامتياز من الفن اليوناني القديم.»

نقول: إننا لن نخالف الدكتور طه في هذا، ولكننا نذكر أن الناحية الفنية التي امتاز بها البيزنطيون ذلك الامتياز كانت هي الناحية التي تتصل بالترف وتنميق المعيشة، وما إليها من مظاهر الحضارة الحسية، ولم تكن الناحية التي تتصل بالبواعث النفسية والمطامح الفكرية التي هي قوام كل فن رفيع وكل معرفة صحيحة. وقد أخذ منهم العرب ما وجدوه، ولما وجد للعرب شيء يؤخذ عمد إليه البيزنطيون فنقلوه ومزجوه بما كان لهم من فن قديم، وبين يدي الساعة محاضرات الأستاذ «جوزيف سترز جفسكي» المتخصص الثقة في فلسفة البناء، يقرر فيها كيف نقل البيزنطيون قديمًا من فنون المزدية والشعوب الشرقية، ثم كيف نقلوا بعد ذلك من طرائق العرب في الزخرفة والتنميق، ثم أصبحت الكنائس المسيحية وفيها أثر من كل ذلك مفرق في تضاعيف البناء، لا يستدل على أصوله إلا الخبير.

والذي يعنينا هنا هو أن تبادل المعرفة بين العرب والبيزنطيين — أيًّا كانت ظروفه — لم يكن على أوسعه وأقواه إلا بعد التغالب بين الدولتين، وإن العرب لو هزموا البيزنطيين هزيمة تامة لأخذ منهم هؤلاء دينهم، كما أخذه الفرس المهزومون.

ولم يكن للعرب ثقافة جديدة في مبدأ الأمر غير ثقافة الدين، ولا يخفى أن حكم الدين في النقل غير حكم المعارف التي لا يقع فيها التعصب والعداء، فإن هذه المعارف تنقل دون صعوبة ولا ممانعة، وليس ينقل الدين في دولة كاملة بغير السيطرة من جانب الظافر والتسليم من جانب المهزوم.

•••

وقد أردت في مقالي السابق أن أبين قرب الصلة بين الشعوب فذكرت تلك القصة اليابانية التي تشبه ما كنا نسمعه في أيام الطفولة من قصص الجدات والعمات في الصعيد، وقلت إنني أرجح أن القصة منقولة من أواسط آسيا حيث كان يعيش الترك على مقربة من الصين واليابان، فأشار الدكتور إلى ذلك فقال: «قد يكون هذا بعيدًا، ولكني أكره للأستاذ أن يورط نفسه في تعليل ما يعرض له من هذا النوع من التشابه بين أساطير الشعوب، فإن هذا قد يضطره إلى ألوان من العناء والتكلف أضن عليها بوقت الأستاذ ومنطقه. ﻓ «الفلكلور» يعطينا من هذه الأشياء عجائب لا تحصى، وليس إلى تعليلها الدقيق من سبيل إلا أن نردها إلى هذه العلة المعقولة وهي وحدة الطبيعة الإنسانية.»

ونحن نرى أن القول «بوحدة الطبيعة الإنسانية» لا يخالف ما ذهبنا إليه، بل هو أدل على تقارب الشعوب من صلة النقل الذي قصدنا به إلى إظهار هذا التقارب، وإنما رجحنا النقل على «توارد الخواطر» بين اليابانيين والمصريين؛ لأننا لم نقرأ في آداب الشعوب الأخرى قصة تشبه القصص المصرية مثل هذا الشبه؛ ففضلنا أن نرد هذا الشبه إلى النقل على أن نرده إلى وحدة الطبيعة الإنسانية، وساعدنا على هذا التفضيل أن دخول القصص التركية والآسيوية في ألف ليلة وما شاكلها ثابت ثبوتًا لا ريب فيه، ولا حرج في الرجوع إلى الفلكلور لإظهار الصلة بين الشعوب؛ لأن الدكتور لا ينسى أن «الفلكلور المقارن» هو أقوى عماد لباحثي الآداب واللغات في درس أصول الشعوب، وتمحيص ما بينها من وشائج القرابات والجوار.

بقيت كلمة عن البحث العلمي والبحث الفلسفي اللذين عزا إليهما الدكتور ما بيننا من خلاف فقال: «ربما كان مصدر هذا الاختلاف أن الأستاذ العقاد ينظر إلى الأشياء الخاصة والظواهر العامة نظر الفيلسوف، وأنظر إليها أنا نظر المؤرخ، أو بعبارة أدق نظر المحقق الذي يتقيد بمناهج البحث العلمي، ولا يحلق في هذه السماء الجميلة المزدانة، سماء الفلسفة.»

والذي أعتقده أنا أن العلم لا يستطيع أن يستقل بالبحث في موضوعنا هذا؛ لأنه من مجال الرأي لا من مجال الوقائع العلمية التي يدرسها العلماء على أصول كأصول الدراسة الكيميائية والطبيعية وما إليها، فإذا تقدمنا في هذا الموضوع خطوة فلا بد لنا أن نتقدم فيه بمعونة الفلسفة والخيال معًا؛ لأنه موضوع نفسيات في نطاق اجتماعي واسع شديد التباين كثير الملابسات، وعمل الخيال فيه هو عمله اللازم في تصور كل ما اختلف من الحالات، وتسهيل الخروج بالباحث من وضع واحد إلى جملة أوضاع.

•••

وقد ختم الدكتور مقاله ببيان فضل الترجمة في تعرف الحياة والأحياء، وضرورتها لنا نحن المصريين على الخصوص؛ لأنها بالقياس إلينا «أداة للحياة لا للرقي» ثم تساءل: «لست أفهم كيف تعنى الحكومة بنشر التعليم على اختلاف درجاته، ولا تعنى بالشرط الأول ليصح هذا التعليم ويصلح، وهو الترجمة الصحيحة المنظمة التي لا تترك للمصادفة، وإنما تخضع لمنهج يلائم حاجات الناس في هذا العصر.»

وأقول: ليس الدكتور وحده هو الذي لا يفهم هذه الأعجوبة التي لا يعجبون لها في مصر إلا لأنها كلها بلاد أعاجيب، فهي شيء غير قابل للفهم إلا على سبيل التعليل لا التسويغ، وتعليلها «أن العقول الرسمية» لا تزال هي صاحبة الشأن في سياسة التعليم، ولن يرجى من هذه العقول خير، وإننا نتعلم لأن النظام والعرف يفرضان علينا ضريبة العلم، لا لأننا نشتهي العلم ونظمأ إليه.

١  ٢١ أكتوبر سنة ١٩٢٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤