ظواهر التمدن وحقيقته

لخَّصنا في الجزء الأول من هذا الكتاب نشأة الدولة الإسلامية وتاريخ مصالحها الإدارية والسياسية والمالية تمهيدًا للنظر في تمدنها، ولكل تمدن ظواهر يبدو بها للناظرين وحقيقة تتجلى منه للباحثين، أما الظواهر فهي ما نراه من ثمار ذلك التمدن كالثروة والأبهة والعلم والأدب والصناعة والتجارة ونظام الهيئة الاجتماعية وآدابها، وأما حقيقة التمدن فهي ما ينتج عنه من الخير أو الشر، من السعادة أو الشقاء للمستظلين بظله أو سواهم من بني الإنسان، ومن ظواهر التمدن الإسلامي الثروة والعلم والأدب والصناعة والتجارة، ونظام الهيئة الاجتماعية وآدابها، وسنحصر بحثنا في هذا الجزء في ثروة المملكة الإسلامية دون سواها.

والبحث في ثروة المملكة يقتضي النظر في مصادر تلك الثروة وأسبابها وأوجهها باعتبار الدول والعصور والنظر في ثروة كل عصر مع دراسة ما إذا كانت الثروة مفرقة بين الأهالي أو محصورة في فئة منهم أو في الحكومة أو في رجالها، ودراسة ما يتصل بذلك من وصف ثروة المدن والأبنية وغيرها.

ومعلوم أن المملكة الإسلامية بلغت أوجها من الغنى والثروة في العصر العباسي، فلو كان غرضنا مجرد وصف تلك الثروة لاكتفينا بالإشارة إلى مقدار ما كان يُحمَل إلى بيت المال من الجبايات، وما كان عليه الخلفاء وأتباعهم من الغنى والبذخ وعددنا موارد الثروة ومصادرها، ولكننا عوَّلنا منذ أخذنا في تأليف هذا الكتاب أن نسند كل حادث إلى أسبابه بالبحث عن العلل الحقيقية وتتبع الأسباب إلى أصولها وعلاقة ذلك كله بالمجموع العام، مع اعتبار الأحوال واختلافها باختلاف العصور.

والمملكة الإسلامية عند التخصيص هي غير الدولة الإسلامية؛ لأن هذه العبارة عن الحكومة ورجالها، وأما المملكة فهي البلاد وأهلها، فيحسن والحالة هذه أن نقسم الكلام في الثروة المذكورة إلى: ثروة الدولة الإسلامية، وثروة المملكة الإسلامية، ونتكلم في كل منهما باعتبار العصور المتقدم ذكرها.

وبناء على ذلك سنجعل الكلام في ثروة الدولة الإسلامية باعتبار العصور، فنبدأ بعصر النبي ، فالخلفاء الراشدين، فبني أمية، فالعباسيين، ونقسم كل عصر إلى أبواب، بعضها للبحث في ثروة الحكومة أو بيت المال، والبعض الآخر للبحث في ثروة رجال الحكومة، وما يستلزمه ذلك من النظر في أسباب تلك الثروة وعلة كثرتها أو قلتها، وتاريخ الخراج والجزية وغيرهما وأبواب النفقة وغير ذلك.

وبناء على ذلك نقول إن ثروة الدولة الإسلامية مرت في خمسة أدوار أو عصور وهي:
  • (١)

    عصر النبي .

  • (٢)

    عصر الخلفاء الراشدين.

  • (٣)

    عصر بني أمية.

  • (٤)

    عصر العباسيين الأول أو عصر الازدهار العباسي.

  • (٥)

    عصر العباسيين الثاني أو عصر الاضمحلال.

أما الدول الإسلامية الأخرى في مصر والأندلس وغيرهما فالكلام في ثروتها يأتي عرضًا بطريق الاستشهاد أو التمثيل؛ لأن المراد بالتمدن الإسلامي إنما هو التمدن العباسي الشهير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤