ثروة الدولة الإسلامية

(١) عصر النبي (من سنة ١–١١ﻫ)

إذا كان المراد بثروة الدولة ما يزيد من دخلها على خرجها أو ما تختزنه بعد نفقاتها من الأموال ونحوها، فالدولة الإسلامية في عصر النبي لم يكن عندها ثروة حقيقية؛ لأنهم لم يكونوا يختزنون مالًا ولا كان عندهم بيت مال، بل كانوا إذا أصابوا غنيمة فرقوها فيما بينهم، وكذلك الصدقات فإنها كانت تفرق في أهلها، وإذا ظل منها شيء استبقوه لحين الحاجة إليه، وكان النبي يتولى ذلك بنفسه، وأكثر الصدقات من الماشية والإبل والخيل، فكان يسمها بميسم خاص بها تمتاز به عن سواها.

فكانت ثروة الدولة في عصر النبي عبارة عن بقايا الزكاة من إبل أو خيل أو ماشية، وتمتاز عن أموال سائر الناس بمراعٍ خاصة كانت تُحبَس فيها بالبقيع قرب المدينة يعبرون عنها بالحِمى١ وبميسم كان النبي نفسه يسمها به٢ وبلغت الأموال في أيام النبي نحو ٤٠٠٠٠ بين إبل وخيل وغيرها٣ ومن هذه الأموال وما يلحق بها من مال الصدقة النقد كانوا ينفقون على غزواتهم وعلى تحصيل الزكاة وإعالة الفقراء ونحوهم.

(٢) عصر الخلفاء الراشدين

هذا هو عصر الإسلام الذهبي، عصر العدل والتقوى، كانت الحكومة جارية فيه على سنن العدل والاستقامة والغيرة الحقيقية على الدين ونبذ الدنيا، وهو العصر الذي اتخذه المسلمون منوالًا ينسجون عليه، وكلما حادت دولة من دولهم عن جادة الحق طلبوا إليها الرجوع إليه والسير على خطوات الخلفاء الراشدين؛ لأن الحكومة انتقلت بعدهم إلى طور جديد وانقلبت من الخلافة الدينية إلى الملك السياسي، ونشأت في الخلفاء والعمال المطامع وأخذوا في حشد الأموال بأية وسيلة كانت.

(٢-١) بيت المال

توفي النبي والمسلمون هم رجال الحكومة والجند، ولم يكن عندهم بيت مال للأسباب التي قدمناها، ولم يكونوا يتطلبون المال إلا لقضاء الحاجات، وكان أكثر ما يرد عليهم منه ماشية وحنطة وخيلًا ونحو ذلك من أموال الصدقة والغنيمة وكانت النقود قليلة بين أيديهم، فلما فتحوا الشام وفارس ومصر، وردت عليهم الأموال ذهبًا وفضة فأدهشتهم كثرتها وتنبهوا لها، يقال إن أبا هريرة قدم على عمر بن الخطاب من البحرين بمال وفير فقال له عمر: «بم جئت؟» قال: «بخمسمائة ألف درهم» فاستكثره عمر وقال: «أتدري ما تقول؟» قال: «نعم، مئة ألف خمس مرات.» فصعد عمر المنبر وقال: «أيها الناس قد جاءنا مال كثير، فإن شئتم كِلنا لكم كيلًا وإن شئتم عددنا لكم عدًّا.»٤ وكان ذلك من جملة ما دعاه إلى وضع الديوان وفرض العطاء لكل واحد من المسلمين باعتبار السابقة والقرابة من النبي، ولكنه نهى عن اختزان المال فقال له قائل: «يا أمير المؤمنين، لو تركت في بيوت الأموال شيئًا يكون عدة لحادث إذا حدث.» فزجره عمر وقال له: «تلك كلمة ألقاها الشيطان علي فيك وقاني الله شرها، وهي فتنة لمن بعدي، إني لا أعد للحادث الذي يحدث سوى طاعة الله ورسوله، وهي عدتنا التي بلغنا بها ما بلغنا.»٥
فلما كثرت الأموال في أيام عمر ووضع الديوان فرض الرواتب للعمال والقضاة ومنع ادخار المال وحرم على المسلمين اقتناء الضياع والزراعة أو المزرعة؛٦ لأن أرزاقهم وأرزاق عيالهم تدفع لهم من بيت المال حتى إلى عبيدهم ومواليهم، أراد بذلك أن يبقوا جندًا على أهبة الرحيل لا يمنعهم انتظار الزرع ولا يقعدهم الترف والقصف، فإذا أسلم أحد من أهل الذمة سكان البلاد الأصليين صار ما كان في يده من الأرض وداره إلى أصحابه من أهل قريته، تفرق فيهم وهم يؤدون عنها ما كان يؤدي من خراجها ويسلمون إليه ماله ورقيقه وحيوانه ويفرضون له راتبًا في الديوان مثل سائر المسلمين.٧
والغرض الذي كان يرمي إليه عمر من هذه القاعدة أن يُبقي أهل الذمة وأرضهم مصدرًا للمال الذي يحتاج إليه المسلمون في إتمام الجهاد ووقفًا لمصالحهم مدى الدهور، أما إذا اشترى المسلمون الضياع فإنهم يستقلون بنفعها دون سواهم، ولا تمضي بضعة أجيال حتى تصير أملاكًا خاصة بهم٨ وعمر يريد أن يبقيها محبوسة على آخر هذه الأمة من المسلمين المجاهدين قوة على جهاد من لم يظهروا عليه بعد من المشركين، لا تباع ولا تورث لما ألزموه أنفسهم من إقامة فريضة الجهاد٩ وأيد هذه القاعدة عمر بن عبد العزيز الأموي وكان يقلد ابن الخطاب في كل خطواته فقال:
أيما ذمي أسلم فإن إسلامه يحرز له نفسه وماله، وما كان من أرض فإنها من فيء الله على المسلمين، وأيما قوم صالحوا على جزية يعطونها، فمن أسلم منهم كانت داره وأرضه لبقيتهم.١٠

فترتب على ذلك ونحوه ترفع المسلمين عن سائر الأعمال من تجارة أو صناعة أو نحوهما.

(٢-٢) ثروة الخلفاء وعمالهم

علمت مما تقدم أن الراشدين لم يكونوا يلتمسون ثروة، فلما توفي أبو بكر لم يجدوا عنده من مال الدولة إلا دينارًا واحدًا سقط من غرارة؛١١ لأنه كان يفرق كل ما يجتمع عنده على السواء لا ينظر إلى مصلحة نفسه، بل هو أنفق كل ما كان عنده من المال قبل إسلامه، وذلك أربعون ألف درهم غير ما اكتسبه من التجارة؛ لأنه كان يتجر ليستعين على النفقة، ثم فرضوا له مالًا معينًا من مال المسلمين لينفقه على نفسه وعياله؛ لئلا يشتغل بالتجارة عن النظر في مصالحهم، فلما دنا أجله أوصى أن تباع أرض كانت له ويدفع ثمنها بدلًا مما أخذه من مال المسلمين١٢ وكان عنده ثوبان أوصى أن يكفن بهما.
وأخبار عمر بن الخطاب في الزهد والنزاهة أشهر من أن تذكر، ويقال بالإجمال إنه مؤسس دولة المسلمين، وقد أسسها على أمتن دعائم الملك، أسسها على العدل والتقوى والزهد والاستهلاك في نصرة الحق مما يندر اجتماعه في رجل واحد وقد يوهم لغرابته أنه من قبيل المبالغة، ويسهل علينا التصديق به إذا تذكرنا النتائج التي ترتبت على تلك المناقب مما لم يسمع بمثله في التاريخ، يكفي منها تلك الفتوح التي جعلت الأموال تنصب نحو بيت المال في المدينة كما ينصب الماء من الميازيب، وعمر مع ذلك لا يلتفت إليه ولا يأخذ منه إلا ما فرضه لنفسه كسائر الصحابة الأولين، وكان إذا احتاج إلى مال فوق راتبه جاء إلى بيت المال فاستقرضه حتى يفيه إياه من عطائه فيما بعد١٣ ولما طعن وأحس بدنو الأجل قال لابنه: «إني استلفت من بيت مال المسلمين ثمانين ألفًا فلترد من مال ولدي فإن لم يفِ مالهم فمال آل الخطاب.»١٤ وزهده في الطعام واللباس مشهور.
ويقال نحو ذلك في الإمام علي، فقد كان مغاليًا في الزهد والعدل، ومن أقواله: «تزوجت بفاطمة وما لي فراش إلا جلد كبش، ننام عليه بالليل ونعلق عليه ناضحنا بالنهار، وما لي خادم غيرها.» وجاءه في أيام خلافته مال من أصبهان فقسمه على سبعة أسهم، فوجد فيه رغيفًا فقسمه على سبعة أسهم ودعا أمراء الأسباع فأقرع بينهم لينظر أيهم يُعطَى أولًا، ولم يبنِ آجرة على آجرة ولا لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة، وكان يأتي بحبوبه من المدينة في جراب، وقيل إنه أخرج سيفًا له إلى السوق فباعه وقال: «لو كان عندي أربعة دراهم ثمن أزرار لم أبعه.» ومناقبه لا تحصى.١٥

•••

وقد ساعد الخلفاء الراشدين على تأييد العدل والحق أن عمالهم كان أكثرهم من أهل التقوى وحسن الاعتقاد في الإسلام، فكان عمر إذا اكتسب أحد عماله مالًا من تجارة أو سبيل آخر غير عطائه المفروض له قاسمه عليه وهو لا يرى في ذلك غبنًا، كذلك فعل بسعد بن أبي وقاص عامله على الكوفة، وعمرو بن العاص عامله على مصر، وأبي هريرة عامله على البحرين١٦ وغيرهم.
ولا غرابة في ذلك؛ لأن العامل إذا رأى خليفته زاهدًا تقيًّا يمنع نفسه من كل شيء، ويستهلك في مصلحة الأمة فإنه يقتدي به ولو كان ذلك مخالفًا لرأيه، على أن الخليفة نفسه لا يولي أعماله إلا من يكون على رأيه وخلقه، وخصوصًا عمر، فقد كان شديدًا على العمال يتفقدهم كل سنة، ويعزلهم لأقل تهمة، ذكر أنه استعمل على حمص رجلًا اسمه عمير بن سعد، فلما انقضت السنة كتب إليه: «أقدم إلينا» فلم يشعر عمر إلا وقد قدم إليه الرجل ماشيًا حافيًا عكازه في يده، وأدواته ومزوده وقصعته على ظهره، فلما رآه عمر قال: «يا عمير أأجبتنا أم البلاد بلاد سوء؟» فقال: «يا أمير المؤمنين أما نهاك الله أن تجهر بالسوء وعن سوء الظن؟ وقد جئت إليك بالدنيا أجرها بقرابها.» فقال: «وما معك من الدنيا؟» قال: «عكازة أتوكأ عليها وأدفع بها عدوًّا إن لقيته، ومزود أحمل به طعامي.» فقال: «ما صنعت بعملك يا عمير؟» قال: «أخذت الإبل من أهل الإبل، والجزية من أهل الذمة، ثم قسمتها بين الفقراء والمساكين وأبناء السبيل، فوالله يا أمير المؤمنين لو بقي عندي منها شيء لأتيتك به.» فقال له: «عد إلى عملك.»١٧

•••

ولا بد لنا مع ذلك من أن نقف هنيهة للنظر في أمر يفتقر إلى تفسير، قلنا إن عمر لم يكن يختزن مالًا ونهى عن اختزانه، فلو كانت الأموال التي ترد إلى بيت المال تفرق على السواء كما كانت تفرق الغنائم في أيام النبي وأبي بكر لهان عليه أن لا يختزن، ولكنه فرض أعطية معينة يتناولونها كل عام.

ونعلم أيضًا أن الأموال زادت كثيرًا في أيامه بما انضم إليهم من الأعمال بالفتح، وكلها تؤدي الخراج والجزية فضلًا عما يلحق بيت المال من الغنائم، فما الذي كان يفعله عمر بما يفيض من تلك الأموال بعد دفع الأعطية المذكورة؟ يظهر أنه كان يفرقه في أهل الحاجة أو لعله كان يستبقي بعضه على أن يفرقه، ولا يعد ذلك اختزانًا؛ لأنه إنما منع الاختزان للحرب.

(٢-٣) اقتناء المسلمين للأموال

على أن رأي عمر بعدم اختزان المال ينافي المبدأ الأساسي الذي تقام عليه الدول وتتأيد به السلطات؛ لأن اختزان الأموال من ضروريات الملك، ولكن المسلمين الأولين لم يكونوا يعدون الخلافة ملكًا سياسيًّا، ولذلك لم تطل مدتهم إلا ريثما انقضى عصر النبوة وزالت دهشتها، فعاد الناس إلى فطرتهم وتسابقوا إلى حشد الأموال والاستئثار بالسلطة.

وقد باشروا ذلك في أيام عثمان بن عفان (سنة ٣٣–٣٥ﻫ)؛ لأنه لم يكن شديدًا مثل عمر وكان مع ذلك أمويًّا، فاعتز الأمويون به وأرادوا أن يعيدوا لأنفسهم السلطة التي كانت لهم في الجاهلية، وكان بنو هاشم قد سلبوهم إياها بعد الإسلام لأن النبي منهم، فأخذ عثمان يولي الأعمال رجالًا من أقربائه وفيهم من لم يعتنق الإسلام إلا يأسًا من فوزه على المسلمين، وكثرت في أيامه الفتوح وفاضت الغنائم فكان يستخص أهله منها بأكثر من سائر الصحابة، كما فعل بغنائم إفريقية سنة ٢٧ﻫ فإن المسلمين حاربوها وعليهم عبد الله بن سعد (أخو عثمان من الرضاع) فبلغت غنائمهم منها ٢٥٠٠٠٠٠ دينار أعطى خُمسها إلى مروان بن الحكم وزوجه ابنته١٨ وكان هذا الخمس من حقوق بيت المال، وأبطل عثمان محاسبة العمال؛ لأنهم من أهله، فازدادوا طمعًا في حشد الأموال لأنفسهم، وخصوصًا معاوية بن أبي سفيان عامله على الشام وهو أكثرهم دهاءً وأبعدهم مطمعًا، فكان في مقدمة الذين أبطلوا قاعدة عمر في منع المسلمين من الزرع واتخاذ الضياع ونحوها.
وكيفية ذلك أن المسلمين لما فتحوا الشام وأقروا الأرض في أيدي أصحابها، كان جانب كبير منها ملكًا للبطارقة قواد جند الروم، فلما غلبت الروم وفر البطارقة أو قتلوا ظلت ضياعهم سائبة لا مالك لها فأوقفها المسلمون على بيت المال، فكان العمال يقبلونها كما يقبل الرجل ضيعته (أي يضمنها) ويضيفون دخلها إلى بيت المال، فلما استقر معاوية على ولاية الشام واقتدى بالروم في البذخ واتخاذ الحاشية لم يعد راتبه يكفيه، ورأى من عثمان ضعفًا وميلًا فكتب إليه أن الذي أجراه عليه من الرزق في عمله لا يقوم بمؤن من يقدم عليه من وفود الأجناد ورسل أمرائهم ومن رسل الروم ووفودهم، ووصف في كتابه هذه المزارع وأن لا مالك لها وليست هي من قرى أهل الذمة ولا الخراج وسأله أن يقطعه إياها،١٩ وكان عمر قد جعل لمعاوية على عمله في الشام راتبًا مقداره ألف دينار في السنة٢٠ وهو كثير بالنظر إلى رواتب العمال في تلك الأيام، فلما طلب من عثمان أن يقطعه تلك الضياع أجابه إلى طلبه فوضع يده عليها وجعلها حبسًا على فقراء أهل بيته، فجرأه ذلك على التمادي في اقتناء الأرض وبيعها في أيام خلافته والإذن للمسلمين في ذلك.
واقتدى بمعاوية غيره من العمال وسائر الصحابة، فاقتنوا الضياع والعقار وفيهم جماعة من كبار الصحابة المعروفين مثل طلحة والزبير وسعد وغيرهم، وزادت أموالهم وظهر الغنى فيهم حتى عثمان نفسه فإنه اقتنى الضياع الكثيرة واختزن الأموال، فوجدوا عند خازنه بعد موته ١٥٠٠٠٠ دينار و١٠٠٠٠٠٠ درهم وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما ١٠٠٠٠٠ دينار، وخلَّف خيلًا وإبلًا٢١ والظاهر أن عثمان اندفع إلى تسهيل الثروة على المسلمين بما زاد عنده من الأموال، وأغراه أهله وخصوصًا معاوية، ثم صار امتلاك العقار مألوفًا شائعًا.
ومن أسباب شيوع الأملاك بين المسلمين أن عثمان أقطع هو وخلفاؤه بعض الأرض مما لم يتعين مالكوه على أن يدفعوا شيئًا لبيت المال في مقابل الإيجار أو الضمان كما تقدم، فلما حصلت فتنة الأشعث سنة ٨٢ﻫ حرق الديوان وضاعت السجلات فأخذ كل قوم ما يليهم.٢٢
على أن المسلمين لم يكونوا راضين عن أعمال معاوية في هذا الشأن؛ لأنه لم يساوِ بينهم فيه فنقموا عليه وخصوصًا الفقهاء ورجال التقوى، وفي حكاية أبي ذر الغفاري ما يغني عن البيان؛ فقد كان هذا الرجل مغاليًا في التمسك بقاعدة عمر، وكان يرى «أن المسلم لا ينبغي له أن يكون في ملكه أكثر من قوت يومه وليلته أو شيء ينفقه في سبيل الله أو يعده لكريم»،٢٣ وكان يقوم في الشام ويقول: «يا معشر الأغنياء، واسوا الفقراء، بشر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاوٍ من نار تكوى بها جباهُهم وجنوبهم وظهورهم.» وما زال يقول ذلك ويكرره حتى ولع الفقراء بقوله وأوجبوه على الأغنياء، فشكا الأغنياء إلى معاوية ما يلقون منهم، وكان معاوية يشكو أَمَرَّ من شكايتهم؛ لأن أبا ذر وَبَّخَهُ غير مرة لاختزانه المال، ومما قاله له على أثر بنائه قصر الخضراء في دمشق، وقد سأله معاوية: «كيف ترى هذا؟» فقال أبو ذر: «إن كنت بنيته من مال الله فأنت من الخائنين، وإن كنت بنيته من مالك فإنك من المسرفين.»٢٤ فعظم ذلك على معاوية فأراد أن يوقعه في ما يوجب محاكمته فبعث إليه بألف دينار أراد أن يغريه بها ثم يتهمه باكتناز المال، فلما وصلت الدنانير إلى أبي ذر فرقها حالًا مع أنها وصلته ليلًا، وجاءه رسول معاوية في الصباح يزعم أنه دفع المال إليه خطأ وأن معاوية يطلبه فأخبره أنه أنفقه في ساعته، فلم يَرَ معاوية سبيلًا إلى اتهامه بالفتنة فكتب إلى عثمان: «إنك أفسدت الشام على نفسك بأبي ذر.» فكتب إليه: «احمله على قتب بغير وطاء.»٢٥ فلما جاء المدينة حاكمه عثمان فلم يرهب سلطانه وجاهر بما يراه من جشع بني أمية وخروجهم عن الحق، فأخرجه عثمان من المدينة إلى الربذة بالعنف وظل هناك حتى مات، فنقم المسلمون بموته على عثمان في جملة ما نقموه عليه إلى مقتله.
فلما قتل عثمان سنة ٣٥ﻫ وقامت الفتنة في الخلافة وأرادها معاوية لنفسه، رأى بين دعاتها من هم أحق بها منه نسبًا وسابقة، فاحتال إليها بالمال فازدادت رغبته في الاستكثار منه لبذله في إنشاء الأحزاب، ولا غرو فإن المال قوة تتحول إلى ما شئته من القوى، وهو منذ القدم مرجع المشروعات العظمى، ولا يزال حتى اليوم المحور الذي تدور عليه سياسة العالم المتمدن، فما من حرب أو سلم أو محالفة أو معاهدة وما من فتح أو حصار إلا والمحرك عليه أو الداعي إليه «المال»، وكذلك فعل معاوية فاستخدم بالمال جماعة من دهاة العرب نصروه بالدهاء والسيف، حتى أفضت الخلافة إليه بعد واقعة صفين ولكنها لم تصفُ له إلا بعد مقتل علي (٤٠ﻫ) وتنازل الحسن له عنها، والناس مع ذلك يعلمون أن معاوية إنما فاز ببذل المال حتى قال زين العابدين ابن حفيد الإمام علي: «إن عليًّا كان يقاتله معاوية بذهبه.»٢٦ وسار بنو أمية على خطوات معاوية في ذلك، فجعلوا المال أكبر نصير لهم على دعاة الخلافة من بني هاشم وعلى الخوارج وغيرهم، فجرهم ذلك إلى الاستكثار منه بأي وسيلة كانت كما سيأتي.
فالثروة في عصر الراشدين كانت محرمة على المسلمين، ولكن تحريمها لم يبقَ طويلًا؛ لأن بقاءه يقتضي بقاء عمر بن الخطاب، أو من يكون في مثل مناقبه وتقواه مع بقاء العرب على الفطرة البدوية مما يخالف نواميس العمران، فلذلك لم يكد يختلط العرب بالروم والفرس حتى تاقت نفوسهم إلى الترف وحشد الأموال وزادهم ميلًا إلى ذلك رغبة بني أمية في الاستكثار منها، فانقضى عصر الراشدين ولم يرَ المسلمون مثله بعده، وظل أبو بكر وعمر مضرب أمثال القوم قرونًا متطاولة، إذا اعوج حاكم أو خليفة طلبوا إليه أن يقتدي بهما، وخصوصًا عمر، فقد كانوا يحاولون التشبه بعدله وحزمه وشدته في الحق، حتى إن أشهر عمال بني أمية ظلمًا ودهاءً أرادوا الاقتداء به في ذلك، فتهوروا وانقلب فيهم إلى الظلم والعسف، يقال إن زياد ابن أبيه أراد أن يتشبه بعمر بن الخطاب في ضبط الأمور والحزم والصرامة وإقامة السياسات إلا أنه أسرف وتجاوز الحد، ثم أراد الحجاج بن يوسف أن يتشبه بزياد فأهلك ودمر.٢٧

(٣) عصر بني أمية (من سنة ٤١–١٣٢ﻫ)

تمتاز دولة بني أمية عن دولة الراشدين بأن السلطة تحولت فيها من الخلافة الدينية إلى الملك السياسي، وتمتاز عن الدولة العباسية بأنها عربية بحتة شديدة التعصب للعرب كثيرة الاحتقار لسواهم، ولذلك فإن أهل الذمة وغيرهم من سكان البلاد الأصليين قاسوا من خلفاء بني أمية ومن عمالهم الأمور الصعاب، حتى الذين أسلموا منهم فإن العرب كانوا يعاملونهم معاملة العبيد وكانوا يسمونهم «الموالي»، ويعدون أنفسهم ذوي إحسان عليهم لأنهم أنقذوهم من الكفر، وإذا صلوا خلفهم في المسجد حسبوا ذلك تواضعًا لله، وكان بعض العرب إذا مرت به جنازة مسلمة قال: «من هذا؟» فإذا قالوا: «قرشي» قال: «وا قوماه!» وإذا قالوا: «عربي» قال: «وا بلدتاه!» وإذا قالوا: «مولى» قال: «هو مال الله يأخذ ما شاء ويدع ما شاء.» وكانوا يحرمون الموالي من الكُنَى ولا يدعونهم إلا بالأسماء والألقاب، ولا يمشون في الصف معهم٢٨ وكانوا يسمونهم العلوج، وفي كتاب الموالي للجاحظ أن الحجاج لما قبض على الموالي الذين حاربوا مع ابن الأشعث أراد أن يفرقهم حتى لا يجتمعوا، فنقش على يد كل واحد منهم اسم البلدة التي وجهه إليها، وقد تولى ذلك النقش رجل من بني عجل فقال الشاعر:
وأنت من نقش العجلي راحته
وفر شيخك حتى عاد بالحكم٢٩

وسنعود إلى تفصيل ذلك في الكلام عن نظام الهيئة الاجتماعية في المملكة الإسلامية في جزء آخر من هذا الكتاب، وإنما أشرنا إلى ذلك هنا لبيان مقدار تعصب العرب في دولة بني أمية على غير العرب ولو كانوا مسلمين.

وكان من جملة نتائج تعصب بني أمية للعرب واحتقارهم سائر الأمم أنهم اعتبروا أهل البلاد التي فتحوها وما يملكون رزقًا حلالًا لهم، يدل على ذلك قول سعيد بن العاص عامل العراق: «ما السواد إلا بستان قريش، ما شئنا أخذنا منه وما شئنا تركناه.»٣٠ وقول عمرو بن العاص لصاحب «إخنا» لما سأله عن مقدار ما عليهم من الجزية فقال عمرو: «إنما أنتم خزانة لنا، إن كثر علينا كثرنا عليكم وإن خف عنا خففنا عنكم.»٣١ فاتخذوا ذلك ونحوه ذريعة للاستيلاء على ما شاءوا من أموال الناس، وقد جرأهم على ذلك معاوية إذ جعل بعض الأعمال طعمة لبعض عماله والبعض الآخر ضمنه بمال زهيد، فعل ذلك في بادئ الرأي ترغيبًا لهم في نصرته، ثم توالت عليه وعلى من خلفه من بني أمية الحروب مع أحزاب بني هاشم والخوارج وغيرهم، فاضطروا إلى الاستكثار من الأموال ولا سبيل إلى جمعها إلا بالخراج والجزية من أهل البلاد، فاستخدموا من العمال من يثقون باقتدارهم على جمع الأموال فضلًا عن الحرب، وأشد أولئك العمال وطأة الحجاج بن يوسف عامل عبد الملك على العراق، واحتاج عبد الملك إلى مقاومة جماعة من مناظريه على الخلافة، وفيهم عبد الله بن الزبير في مكة، والمختار بن أبي عبيد في العراق، وغيرهما، فوكل ذلك إلى الحجاج وأمثاله فاستخدموا العنف في تحصيل الأموال بحق وبغير حق.٣٢

(٣-١) أجور العمال

وكان عمال بني أمية يجورون على أصحاب الأرض من أهل الذمة في التحصيل ونحوه، لا يهمهم بقي لهم من المحصول شيء أم لا، وكان الخراج يومئذ على المساحة، فيؤخذ على الأرض مال معين زرعت أم لم تزرع، وكان من شروط الخراج أن يستبقى لأصحاب الأرض ما يجبرون به النوائب والحوائج، ومما يحكى أن الحجاج كتب إلى عبد الملك بن مروان يستأذنه في أخذ تلك البقية منهم فأجابه: «لا تكن على درهمك المأخوذ أحرص منك على درهمك المتروك، وأبقِ لهم لحومًا يعقدون بها شحومًا.»٣٣
والظاهر أن الضغط على أهل القرى وأصحاب الأرض حمل بعضهم على الإسلام احتماء به فأصبحوا من الموالي، فلم يمنع ذلك تحصيل الخراج والجزية منهم فألزمهم الحجاج٣٤ الخراج مع أنهم تنازلوا عن مغارسهم لأهلهم وغادروا القرى وسكنوا الأمصار فرارًا من تلك الضرائب، فأمر الحجاج بردهم وطالبهم بالخراج لأن المسلمين كانوا إلى ذلك الحين لا يقيمون إلا في المدن التي بنوها هم، وأهل البلاد الأصليون يقيمون في القرى للزرع والحرث، فمن اعتنق منهم الإسلام رفع الخراج عن رأسه، وصار ما كان في يده من الأرض وداره إلى أصحابه، يؤدون عنها ما كان يؤدي من الخراج كما تقدم، وينزل هو إلى الأمصار كالكوفة والبصرة والفسطاط.
ففعل ذلك في أيام الحجاج جماعة كبيرة، ربما التمسوا به النجاة من الضغط فإذا هو ملاقيهم، وكتب الحجاج إلى الأمصار: «أن من كان له أصل في قرية فليرجع إليها لتؤخذ منه الجزية والخراج»، فعل ذلك في أيام ابن الأشعث فخرج الناس وهم يبكون وينادون: «يا محمداه! يا محمداه!» ولا يدرون إلى أين يذهبون، فاضطروا إلى الانضمام للأشعث على الحجاج.٣٥
ولم تكن تلك المعاملة خاصة بالحجاج من عمالهم، فقد فعله مثله أيضًا يزيد بن أبي مسلم عامل يزيد بن عبد الملك على إفريقية٣٦ وكذلك فعل الجراح في خراسان٣٧ وغيره فيما وراء النهر٣٨ وكان أهل سمرقند قد أسلموا على أن ترفع الجزية عنهم، فظلوا يأخذونها منهم فعادوا إلى دينهم.
أما النصارى وغيرهم من أهل الذمة الذين ظلوا على دينهم فيكفي في تمثيل حالهم اعتبار ما تقدم من معاملة الذين أسلموا منهم، فكانوا يسومونهم العذاب في تحصيل الجزية، ورأى هؤلاء أن اعتناق الإسلام لا ينجيهم من ذلك، فعمد بعضهم إلى التلبس بثوب الرهبنة؛ لأن الرهبان لا جزية عليهم، فأدرك العمال غرضهم من ذلك فوضعوا الجزية على الرهبان، وأول من فعل ذلك منهم عبد العزيز بن مروان عامل مصر فأمر بإحصاء الرهبان، وفرض على كل راهب دينارًا٣٩ وهي أول جزية أخذت من الرهبان، وأمثال هذه الحوادث كثيرة في تاريخ بني أمية.

•••

ولم يكن ذلك كل ما اقترفوه في سبيل جمع المال، فإنهم زادوا الخراج عما كان عليه في أيام الراشدين، بدأوا بذلك من أيام معاوية فأراد أن يزيد قيراطًا، فكتب إلى وردان مولى عمرو بن العاص أمير مصر أن: «زد على كل امرئ من القبط قيراطًا»، فكتب إليه: «كيف أزيد عليهم وفي عهدهم أن لا أزيد عليهم؟»٤٠ ولعل عمرًا لم يطعه في ذلك لأن مصر طعمة له، فلما انتقلت إلى خلفاء بني أمية بعد عمرو زادوا في الخراج ما شاءوا، وأشهر من فعل ذلك عبيد الله بن الحبحاب متولي الخراج من قبل هشام بن عبد الملك (سنة ١٠٥–١٢٥ﻫ) فإنه زاد على القبط قيراطًا في كل دينار فلم يصبر القبط على ذلك، وكانوا لا يزالون هم السواد الأعظم، فثاروا فحاربهم المسلمون وقتلوا منهم جمعًا كبيرًا، وحدث نحو ذلك على يد أسامة بن زيد التنوخي متولي الخراج فإنه أوقع في النصارى وأخذ أموالهم، وكثر الالتجاء إلى الرهبنة في أيامه فأراد أن يمنع ذلك لأنه يضر في الخراج والجزية، فأحصى الديور والرهبان كافة ووسم أيدي الرهبان بحلقة من حديد فيها اسم الراهب واسم الدير وتاريخه، فكل من وجده بغير وسم قطع يده، وألزم كل نصراني بمنشور يحمله يدل على أنه أدى ما عليه، وكتب إلى العمال بأن من وجد من النصارى وليس معه منشور أن يؤخذ منه عشرة دنانير، ثم كبس الديارات وقبض على عدة من الرهبان بغير وسم، فضرب أعناق بعضهم وضرب باقيهم حتى ماتوا تحت الضرب.٤١
على أن ذلك لم يكن برضى الخليفة، فلما بلغ هشام بن عبد الملك ذلك كتب إلى عامله بمصر أن يجري النصارى على عوائدهم وما في أيديهم من العهود، ولم يطل العمل بهذا الأمر فعاد العمال إلى ظلمهم، وفي جملتهم حنظلة بن صفوان فإنه زاد في الخراج وأحصى الناس والبهائم، وجعل على كل نصراني وسمًا صورة أسد وتتبعهم فمن وجده بغير وسم قطع يده.٤٢

وقس على ذلك أمثلة كثيرة من شدة عمال بني أمية على أهل الذمة والموالي وغيرهم من العرب.

•••

ومن أمثلة ما اقترفه بنو أمية من زيادة الخراج والجزية أن أهل الجزيرة بالعراق كانت جزيتهم دينارًا، ومُدَّين قمحًا، وقسطين زيتًا، وقسطين خلًّا في العام، فلما تولى عبد الملك بن مروان استقل ذلك، فبعث إلى عامله فأحصى الجماجم وجعل الناس كلهم عمالًا بأيديهم، وحسب ما يكسب العامل سنته كلها ثم طرح من ذلك نفقته في طعامه وأدمه وكسوته، وطرح أيام الأعياد في السنة كلها فوجد الذي يحصل بعد ذلك في السنة لكل واحد أربعة دنانير، فألزمهم ذلك جميعًا وجعلها طبقة واحدة.٤٣
ولم تكن ضرائبهم قاصرة على أهل الذمة والموالي، ولكنها شملت العرب المسلمين أنفسهم، وذلك أن محمدًا أخا الحجاج بن يوسف لما تولى اليمن أساء السيرة وظلم الرعية، وأخذ أراضي الناس بغير حقها وضرب على أهل اليمن خراجًا سماه «الوظيفة»، فلما ولي عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله هناك بإلغاء تلك الوظيفة والاقتصار على العشر.٤٤
وكان عمال بني أمية في فارس يخرصون الثمار على أهلها؛ أي يحزرون مقدارها، ثم يقومونها بسعر دون سعر الناس الذي يتبايعون به، فيأخذونها قرفًا على قيمتهم التي قدروها.٤٥
وكان من أساليبهم في الاستكثار من الأموال ضرب الضرائب على الأرض الخراب، وكانوا يفرضون على الأهالي هدية في عيد النيروز بلغت في أيام معاوية ١٠٠٠٠٠٠٠ درهم٤٦ وفرضوا مالًا على من يتزوج وعلى من يكتب عرضًا٤٧ وكانوا يكيلون للعامل بكيل وللأكار بكيل آخر، ويكلفون أهل الخراج أرزاق العمال، وأجور المدى وحمولة الطعام، وثمن صحف وقراطيس، وأجور الكيالين ومؤونتهم، وإذا أتى أحدهم بالدراهم ليؤديها في خراجه يقتطع الجابي منها طائفة ويقول: «هذا رواجها وصرفها.»٤٨

•••

ولم يكن عمال بني أمية يأتون هذه الأعمال من عند أنفسهم دائمًا، بل كثيرًا ما كانوا يفعلونها بأمر خلفائهم كما قد رأيت مما كتبه معاوية إلى وردان، وكان ذلك شأنه في تحريض عماله على جمع الأموال وهم يخترعون له الطرق للاستكثار منها٤٩ وكذلك فعل من جاء بعده وخصوصًا عبد الملك؛ لأنه كان شديد الحاجة إلى المال ومناه الله بالحجاج فلم يترك وسيلة في استخراج المال إلا اتخذها، أما لو أراد الخلفاء إبطال هذه المظالم لهان عليهم إبطالها؛ لأن العمال في أيام عمر بن الخطاب كانوا يرتكبون مثل ذلك فلا يسكت عمر عنهم.

ولما جار عمال الأهواز في أيامه شكاهم أبو المختار يزيد بن قيس بقصيدة، بين فيها أرباحهم من أهل الرساتيق والقرى وسماهم في قصيدته، وحرض عمر على مقاسمتهم ما ربحوه، إلى أن قال:

فقاسمهم أهلي فداؤك إنهم
سيرضون إن قاسمتهم منك بالشطر
ولا تدعوني للشهادة إنني
أغيب ولكني أرى عجب الدهر
فبعث عمر إليهم فقاسمهم شطر أموالهم حتى أخذ نعلًا وترك نعلًا، ولم يكتفِ بمقاسمة العمال ولكنه قاسم بعض إخوتهم، فاعترض هؤلاء، فقال أحدهم لعمر: «إني لم أَلِ لك شيئًا.» فقال له: «أخوك على بيت المال وعشور الأبلة وهو يعطيك المال تتَّجِر به.» فأخذ منه عشرة آلاف.٥٠

•••

وكانت مشاطرة عمر عماله حجة اتخذها معاوية بعد ذلك في مشاطرة العمال، فلم يكن يموت له عامل إلا شاطر ورثته وهو يقول: «إنها سُنَّة سنها عمر.» ثم تدرج إلى استصفاء أموال الرعية، وهو أول من فعل ذلك.٥١
فالعمدة في حفظ النظام على الرأس، فإذا صلح صلحت الأعضاء، فقد رأيت أن خلفاء بني أمية طلبوا المال لقيام دولتهم بأي وسيلة كانت، فأمدوا العمال بالسلطة وأطعموهم فعمد هؤلاء إلى إحراز الأموال إلى أنفسهم أيضًا، واقتدى بهم العمال الصغار كالكاتب والجابي ونحوهما، فزادت شكوى أصحاب الأرض فاضطر العمال إلى إخراج أعمال الجباية من العرب وتسليمها إلى الموالي، ومنهم الدهاقين أصحاب الضياع في العراق، فعل ذلك ابن زياد عامل الخراج سنه ٦٤ﻫ فعاتبه بعضهم فأجابه: «كنت إذا استعملت العربي كسر الخراج، فإذا أغرمت عشيرته أو طالبته أوغرت صدورهم، وإن تركته تركت مال الله وأنا أعرف مكانه، فوجدت الدهاقين أبصر بالجباية وأوفى بالأمانة وأوهن بالمطالبة منكم، مع أني جعلتكم أمناء عليهم لئلا يظلموا أحدًا.»٥٢

•••

وفي كلام القاضي أبي يوسف في عرض وصيته للرشيد بشأن عمال الخراج ما يبين الطرق التي كان أولئك الصغار يجمعون الأموال بها، قال: «بلغني أنه قد يكون في حاشية العامل أو الوالي جماعة، منهم من له حرمة ومنهم من له إليه وسيلة ليسوا بأبرارٍ ولا صالحين، يستعين بهم ويوجههم في أعماله يقتضي بذلك الذمامات فليس يحفظون ما يوكلون بحفظه ولا ينصفون من يعاملونه، إنما مذهبهم أخذ شيء من الخراج كان أو من أموال الرعية، ثم إنهم يأخذون ذلك كله — فيما بلغني — بالعسف والظلم والتعدي، ويقيمون أهل الخراج في الشمس ويضربونهم الضرب الشديد، ويعلقون عليهم الجرار ويقيدونهم بما يمنعهم من الصلاة، وهذا عظيم عند الله شنيع في الإسلام.»٥٣
وكان شأن بني أمية وعمالهم وجباتهم على نحو ما تقدم حين تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز سنة ٩٩ﻫ وكان تقيًّا منصفًا، فأراد أن يرد الأمور إلى ما كانت عليه في أيام سميِّه وجده لأمه عمر بن الخطاب، فأصدر أوامره إلى العمال بإبطال تلك المظالم وعينها بأسمائها مفصلة٥٤ وأبطل لعن علي على المنابر وكان أهله قد اقتنوا الضياع وأخذوا كثيرًا منها من أهل الذمة بغير حق، ففتح بابه للناس وأعلن: «أن من كانت له ظلامة فليأتِ.» فأتاه المظلومون وفيهم النصارى واليهود والموالي وغيرهم، ومنهم من يشتكي اختلاس ماله، وآخر اغتصاب ضيعته، وكان ينصفهم بالحق والعدل ولو كان الحكم على ابنه أو أخوته أو أبناء عمه، قال ابن الأثير: «وقال عمر بن عبد العزيز لمولاه مزاحم: إن أهلي أقطعوني ما لم يكن لي أن آخذه ولا هم أن يعطونيه، وإني قد هممت برده على أربابه، قال: فكيف تصنع بولدك؟ فجرت دموعه وقال: أكلهم إلى الله٥٥ وأخذ أموال أعمامه وأولادهم وسماها «مظالم»،٥٦ فلما رأى أهله ذلك خافوا على سلطانهم، وهو إنما قام بالمال فإذا خرجت الضياع والأموال من أيديهم ذهب ضياعًا، فمشوا إلى عمته فاطمة بنت مروان وشكوه إليها فأتته فقال لها: «إن الله بعث محمدًا رحمة ولم يبعثه عذابًا إلى الناس كافة.»٥٧
ولما رأى الموالي عدله وتقواه اغتنموا الفرصة وشكوا إليه ما يقاسونه من الذل والضغط، وكان الجراح بن عبد الله الحكمي عامل خراسان قد أرسل إلى عمر بن عبد العزيز في الشام وفدًا: رجلين من العرب ورجلًا من الموالي، فتكلم العربيان والمولى ساكت فقال له عمر: «ما أنت من الوفد؟» قال: «بلى» قال: «فما يمنعك من الكلام؟» فقال: «يا أمير المؤمنين، عشرون ألفًا من الموالي يغزون بلا عطاء ولا رزق، ومثلهم قد أسلموا من أهل الذمة يؤخذون بالخراج، وأميرنا عصبي جاف يقوم على منبرنا فيقول: أتيتكم حفيًّا، وأنا اليوم عصبي، والله لرجل من قومي أحب إليَّ من مائة من غيرهم، وهو بعد سيف من سيوف الحجاج قد عمل بالظلم والعدوان.»٥٨ فقال عمر: «أَحْرِ بمثلك أن يوفد» وكتب إلى الجراح: «انظر من صلى قِبَلَكَ فضع عنه الجزية.» فرغب الناس في الإسلام وتسارعوا إليه فقيل للجراح: «إن الناس قد سارعوا إلى الإسلام نفورًا من الجزية فامتحنهم بالختان.» فكتب الجراح إلى عمر بذلك فأجابه: «إن الله بعث محمدًا داعيًا ولم يبعثه خاتنًا.»٥٩
وفعل عمر نحو ذلك مع عامله على مصر حيان بن شريح، وكان حيان قد كتب إليه: «أما بعد فإن الإسلام قد أضر بالجزية حتى سلفت من الحارث بن ثابتة عشرين ألف دينار أتممت بها عطاء أهل الديوان، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بقضائها فعل.» فكتب إليه: «أما بعد فقد بلغني كتابك، وقد وليتك جند مصر وأنا عارف ضعفك، وقد أمرت رسولي بضربك على رأسك عشرين سوطًا، فَضَعِ الجزيةَ عمن أسلم، قبَّح الله رأيك، فإن الله بعث محمدًا هاديًا ولم يبعثه جابيًا، ولعمري لعمر أشقى من أن يدخل الناس كلهم في الإسلام على يديه.»٦٠

•••

وقس على ذلك عماله الآخرين، فإنه عزل من لم يوافقه منهم فأصبحت الدولة ورجالها كلها ضده؛ لأنه حاول إصلاح الأمور بالعنف دفعة واحدة والطفرة محال، وما في بني أمية وعمالهم إلا من كره ذلك منه، فلم يصبروا على خلافته، وانتهت خلافته في ظروف غامضة سنة ١٠١ﻫ/٧٢٠م ويعده المؤرخون من الخلفاء الراشدين، وإذا قالوا «العمرين» أرادوه وعمر بن الخطاب.٦١

فترى مما تقدم أن القواعد الأساسية التي قام عليها الإسلام تدعو إلى الإنصاف والرفق، ولكن تطبيق هذه القواعد اختلف باختلاف الذين يتولون شؤونها، ولو أتيح لعمر بن عبد العزيز أن يعيدها إلى ما كانت عليه في عهد ابن الخطاب لامَّحت مظالم بني أمية، ولكنه جاء في غير أوانه فذهب سعيه هدرًا، ولما مات عادت الأمور إلى مجاريها ورافقها رد الفعل فصارت إلى أشد مما كانت عليه قبله، وبالغ العمال في الاستبداد والعسف وشددوا في استخراج الخراج وزادوه، حتى اضطر بعض أصحاب الأرض إلى الإلجاء؛ أي أن يلجئوا أراضيهم إلى بعض أقارب الخليفة أو العامل تعززًا به من جباة الخراج كما سيأتي.

أما الخلفاء فإنهم زادوا انغماسًا في الترف، وأولهم يزيد بن عبد الملك فإنه انقطع إلى اللهو والخمر، واشتغل عن مصالح الدولة بجاريتيه: سلامة، وحبابة وحديثهما مشهور،٦٢ وخلفه أخوه هشام وكان بخيلًا، وفي أيامه زيدت الضرائب في مصر على يد الحبحاب كما تقدم، وجاء بعده الوليد بن يزيد بن عبد الملك وكان مثل أبيه في اللهو والخمر فقتله أهله وولوا يزيد بن الوليد بن عبد الملك سنة ١٢٦ﻫ، وكان عازمًا على إصلاح الأمور اقتداءً بعمر بن عبد العزيز، كما يؤخذ من خطاب ألقاه عند مبايعته،٦٣ فأصابه من الفشل نحو ما أصاب عمر؛ لأن الأحوال كانت غير ملائمة، وفي أيام خلفه مروان بن محمد تغلب بنو العباس وصارت الخلافة إليهم.
وكان بنو أمية قد انغمسوا في الترف واللهو والخمر، وأصبحوا لا ينظرون إلى ما يؤيد سلطانهم ولا يبالون في انتقاء عمالهم، وربما ولوا العامل عملًا بإشارة جارية أو مكافأة على هدية كما فعل هشام بن عبد الملك بالجنيد بن عبد الرحمن، وكان الجنيد قد أهدى امرأة هشام قلادة من جوهر فأعجبت هشامًا فأهدى هشامًا قلادة أخرى فولاه هشام على خراسان سنة ١١١ﻫ٦٤ وبلغ ثمن الجارية في أيام بني أمية ١٠٠٠٠٠٠ درهم وهي الذلفاء٦٥ وأصبح العمال لا هَمَّ لهم إلا حشد الأموال والاستكثار من الصنائع والموالي، ولم يعد أهل العدل يرضون بولاية الأعمال مخافة أن يقصروا بالمال الذي يطلبه الخلفاء، كما حدث ليزيد بن المهلب لما ولاه سليمان بن عبد الملك العراق، فقال يزيد في نفسه: «إن العراق قد أخربها الحجاج وأنا اليوم رجاء أهل العراق، ومتى قدمتها وأخذت الناس بالخراج وعذبتهم عليه صرت كالحجاج، أدخل على الناس الحرب وأعيد عليهم تلك السجون التي قد عافاهم الله منها، ومتى لم آتِ سليمان بمثل ما جاء به الحجاج لم يقبل مني.»٦٦ وقس على ذلك رأي غيره ممن يؤثرون الرفق، فلم يرغب في الولايات إلا أهل المطامع، وجعل الخلفاء من الجهة الأخرى يطمعونهم بالرواتب الفادحة، فبلغ رزق يزيد بن عمر بن هبيرة أمير العراق في أواخر أيام بني أمية ٦٠٠٠٠٠ درهم٦٧ وكان العمال يبذلون جهدهم في اختزان الأموال لأنفسهم لعلمهم أن الولاية غير ثابتة لهم، فكثرت أموالهم واتسعت ثروتهم فبلغت غلة خالد القسري أمير العراق في أيام هشام ١٣٠٠٠٠٠٠ درهم٦٨ أي نحو مليون دينار، فأصبح الخلفاء لا يعزلون عاملًا من عمله إلا حاسبوه على ما عنده من المال، وكانوا في أيام معاوية يشاطرون العمال اقتداء بعمر بن الخطاب، ثم صاروا يحاكمونهم ويستخرجون كل ما تصل إليه معرفتهم من أموالهم، كما فعلوا بخالد القسري إذ وشى به كاتبه حيان النبطي أنه فرق ٣٦٠٠٠٠٠٠ درهم، فبعث هشام إليه من أخرج معظم هذا المال منه ومن عماله٦٩ ويسمون هذا العمل «استخراجًا» وكانوا يستخدمون الشدة فيه فوقع بين العمال والخلفاء تنافر زاد الخطر على دولة بني أمية.

أما ارتفاع الدولة الإسلامية في أيام بني أمية، أي مقدار ما كان يجتمع لهم من الخراج والجزية وغيرهما، فقد ضاع تفصيله في جملة ما ضاع من أخبارهم في الفتن، على أن المملكة الإسلامية بلغت في أيامهم اتساعًا عظيمًا يعدل اتساعها في أيام العباسيين، ولكن عمدتهم كانت على العراق والجزيرة والشام ومصر، وأما الأطراف فقد كان خراجها يذهب بين العمال والكتاب والجباة، على أن كثيرًا منها لم يكن يدفع شيئًا يستحق الذكر؛ لأن قدم الأمويين لم تكن راسخة فيها.

•••

واختلفت جباية العراق والشام ومصر باختلاف السنين والعمال، وقد فصلنا ذلك في الجزء الأول من هذا الكتاب، وخلاصته أن متوسط جباية العراق في أيامهم نحو ١٣٠٠٠٠٠٠٠ درهم وجباية مصر ٤٠٠٠٠٠٠ دينار (أو ٤٨٠٠٠٠٠٠ درهم) وجباية الشام ١٧٢٠٠٠٠ دينار (أو ٢٠٠٠٠٠٠٠ درهم) فيكون ارتفاع هذه البلاد نحو ١٩٨٠٠٠٠٠٠ درهم يضاف إليه أموال البلاد الأخرى مما لا نعرف مقداره.

وخلاصة ما تقدم أن الأموال كانت تستخرج في أيام بني أمية بكثرة، ولكنها لا تسمى ثروة؛ لأنها كانت تصرف في الحروب لتأييد شوكتهم، فقد حاربوا عليًّا، والحسين بن علي، والمختار بن أبي عبيد، وعبد الله بن الزبير، وحاربوا الخوارج وغيرهم، ناهيك بما كان يقوم من الفتن بين القبائل العربية اليمنية والمضرية وبين العرب والموالي، فضلًا عما كان ينفقه الخلفاء والأمراء في البذخ واللهو والقصف.

(٤) الدولة العباسية

للدولة العباسية عصران، يختلف أحدهما عن الآخر اختلافًا عظيمًا: العصر الأول وهو ما يعبرون عنه بالعصر الزاهر، يمتد من أول نشأة هذه الدولة سنة ١٣٢ﻫ إلى آخر أيام المأمون سنة ٢١٨ﻫ، وفيه بلغت الدولة العباسية قمة مجدها وأنشأت التمدن الذي نحن في صدده، وفيه أدركت ثروة الدولة الإسلامية أعظم ما بلغت إليه في عصر من العصور، وعليها مدار الكلام في هذا الكتاب.

والعصر الثاني — ويعبرون عنه بعصر التقهقر أو الاضمحلال — يبتدئ بخلافة المعتصم سنة ٢١٨ﻫ وينقضي بانقضاء الدولة العباسية من بغداد، وفيه تقهقر التمدن الإسلامي وقلت الثروة وضعفت الدولة حتى انحلت عراها وانقضت أيامها.

(٤-١) العصر العباسي الأول (من سنة ١٣٢ إلى ٢١٨ﻫ)

سبب قيام هذه الدولة

رأيت فيما تقدم أن العصر الأموي يمتاز عن عصر الراشدين بانقلاب الحكومة فيه من الخلافة الدينية إلى السياسية الدنيوية، وأن خلفاءها وعمالها إنما كان همهم جمع المال، وأنه يمتاز عن العصر العباسي بتعصب أهله للعرب واحتقارهم سائر الأمم، وخصوصًا الشعوب التي كانت تحت سلطانهم في البلاد التي دانت لهم؛ في مصر، والشام، والعراق، وفارس، وخراسان، وغيرها، وفيهم: القبط، والنبط، والروم، والسريان، والكلدان، والفرس، والترك، والسودان، وغيرهم — حتى الذين أسلموا منهم — فأصبحت تلك الأمم تئن من معاملتهم، وزادها نفورًا ما كانوا يتخذونه من العنف في تحصيل الخراج، وأصبحوا يودون الخروج من حوزتهم وينصرون كل من دعا إلى خلعهم٧٠ وخصوصًا الموالي، فإنهم باعتناقهم الإسلام خسروا أراضيهم ومنازلهم، وأصبحوا مطالبين بالذهاب إلى الحرب لحماية الدولة، فكان بنو أمية يخرجونهم إلى القتال مشاة بلا رزق ولا فيء، وكان خصوم هذه الدولة يغتنمون الفرص ويستنصرون الموالي عليها ويجعلون لهم الأرزاق وأول من فعل ذلك المختار بن أبي عبيد سنة ٦٦ﻫ؛ إذ جاء للانتقام من قتلة الحسين بالكوفة، فعظم ذلك على العرب وقالوا: «إن المختار قد آذى بموالينا فحملهم على الدواب وأعطاهم فيئنا.» فقال لهم المختار يومئذ: «إذا أنا تركت مواليكم وجعلت فيئكم لكم تقاتلون معي بني أمية وابن الزبير، وتعطونني على الوفاء عهد الله وميثاقه وما أطمئن إليه من الإيمان؟» فتفاوضوا فيما بينهم فقال أحدهم: «إن أطعتموني لم تخرجوا» فقالوا له: «لِمَ؟» فقال: «لأني أخاف أن تتفرقوا وتختلفوا، ومع الرجل شجعانكم وفرسانكم مثل فلان وفلان ثم معه عبيدكم ومواليكم وكلمة هؤلاء واحدة، ومواليكم أشد حنقًا عليكم من عدوكم، فهم مقاتلوكم بشجاعة العرب وعداوة العجم.»٧١
وكان ذلك شأن الموالي مع كل من قام يدعو إلى خلع بني أمية، ولذلك كثر الخوارج في أيامهم وقام في نفوس العرب أن الخلافة لا يشترط فيها القرشية٧٢ على أن هذا الاعتقاد لم يتمكن من نفوس المسلمين إلا بعد أجيال، أما يومئذ فكان الدعاة أكثرهم من أهل بيت النبي، وفيهم العلويون من نسل الإمام علي ابن عم النبي، والعباسيون من نسل العباس عمه، وكان الخراسانيون من أكثر الناس نقمةً على بني أمية للأسباب التي قدمناها، فأخذوا بيد العباسيين وقائدهم أبو مسلم الخراساني، ولما نهضوا نهض معهم أعداء بني أمية من العرب وغير العرب في كل أنحاء المملكة الإسلامية، فضلًا عن أهل البلاد غير المسلمين، فدارت الدائرة على بني أمية وانتصر العباسيون، فجعلوا عاصمتهم في العراق بالقرب من أنصارهم.

وعرف العباسيون علة سقوط بني أمية، فتجنبوا الوقوع في مثلها، فاتخذوا الجند والأعوان من الفرس، واستبقوا الجند العربي أيضًا من ربيعةَ ومُضَر رغبة في المحافظة على العصبية العربية لأنها عماد الإسلام.

ولم يكونوا يستطيعون التوفيق بين العنصرين؛ لأنهم انساقوا بطبيعة الأمور إلى الاختلاط بالفرس والتزيي بألبستهم من القلانس ونحوها، جعلوا ذلك فرضًا واجبًا عليهم، وأول من أخذ الناس بلبسها المنصور سنة ١٥٣٧٣ فأمرهم بلبس القلانس الطوال المفرطة الطول، فقال أبو دلامة:
وكنا نُرجِّي من إمام زيادة
فزاد الإمام المصطفى في القلانس
نراها على هام الرجال كأنها
دنان يهود جللت بالبرانس

على أن غضب العرب لم يغير شيئًا من مجاري الأمور، فاتخذ الخلفاء أمهات أولاد من الفرس، أولدوهن أولادًا تولوا الخلافة، وفيهم ميل فطري إلى العنصر الفارسي، وازداد هذا العنصر تغلبًا في بلاد الخلفاء بما اتخذوه من الوزراء ورجال الشورى منهم: كالبرامكة وغيرهم، وكان الفرس يبذلون جهدهم في خدمة الدولة العباسية بنصح وصدق نية؛ لأن في قيامها صلاح بلادهم.

العرب والبيعة

على أن الخلفاء لم يكن لهم غنى عن جزيرة العرب، وفيها الحرمان: الكعبة، وقبر النبي وفي احترامهما احترام الدين الإسلامي، وعليه تقوم دعائم الخلافة، وزد على ذلك أنهم كانوا يخافون أهل الحرمين من التشيع لآل علي، وهم في حاجة إلى بيعة فقهاء المدينة لما لهذه البيعة من الأهمية في تأييد الخلافة وتوكيد البيعة، وكان أهل الورع من الخلفاء لا يقطعون أمرًا دونهم٧٤ فشق ذلك على الفرس وخافوا أن يرجع النفوذ إلى العرب، فينتقموا منهم وتذهب مساعيهم أدراج الرياح، فسعوا في إغفال بلاد العرب، ولا سبيل إلى إغفالها والكعبة فيها، وهي حج المسلمين والحج من أركان الإسلام، فحبب بعضهم إلى المنصور أن يستبدل الكعبة بما يقوم مقامها في العراق وتكون حجًّا للناس، فبنى بناء سماه القبة الخضراء تصغيرًا للكعبة٧٥ وقطع الميرة في البحر عن المدينة٧٦ فاتخذ العرب ذلك حجة على العباسيين، وأظهروا البيعة لمحمد بن عبد الله من آل علي، وخلعوا بيعة المنصور، وقد أفتى لهم بذلك مالك بن أنس الإمام الشهير،٧٧ وكان بنو أمية في الأندلس قد قطعوا دعوة بني العباس بعد أن دعوا لهم مدة قصيرة٧٨ عند دخول عبد الرحمن بن معاوية كما ذكرنا في الجزء الأول من هذا الكتاب واستقل عبد الرحمن بالأندلس لبعدها عن دار الخلافة، ثم استولى محمد بن عبد الله على المدينة فخافه المنصور، وبذل قصارى همه في قتله، ولم يستطع ذلك إلا بعد العناء الشديد.

•••

فكان ما قاساه المنصور من عواقب إهماله الحرمين عبرة لخلفائه، فلما تولى ابنه المهدي أكرم أهل الحرمين، وكسا الكعبة كسوة جديدة، وفرق هناك مالًا عظيمًا جاء به معه من العراق مقداره ٣٠٠٠٠٠٠٠ درهم، وجاءه وهو في المدينة ٣٠٠٠٠٠ دينار من مصر، و٢٠٠٠٠٠ دينار من اليمن ففرقها كلها وفرق ١٥٠٠٠٠ ثوب، ووسع المسجد واتخذ حرسًا من الأنصار عددهم ٥٠٠ رجل حملهم معه إلى بغداد وأقطعهم الأرض٧٩ وأمر بحفر نهر الصلة بواسط وأحيا ما عليه من الأرض، وجعل غلته لصلات أهل الحرمين والنفقات هناك٨٠ وأصبح إكرام الحرمين على هذه الصورة سنة في بني العباس في أثناء حجهم، أو عند طلب البيعة لأولادهم، فإن الرشيد حج سنة ١٨٦ﻫ ومعه ابناه الأمين والمأمون، فلما وصل المدينة أعطى فيها ثلاث أعطيات عنه وعن ولديه، وفعل نحو ذلك في أهل مكة وبلغ ما فرقه ١٠٥٠٠٠٠ دينار وكتب هناك كتابًا بولاية العهد للأمين وآخر للمأمون ووضع الكتابين في الكعبة٨١ وأصبحت النفقة على الحرمين من جملة نفقات الدولة الضرورية، وعاد شأن العرب إلى الظهور، والخلفاء يرون ذلك ضروريًّا؛ لتثبيت أقدامهم في الملك.

•••

على أنهم كانوا من الجهة الأخرى لا يستغنون عن الفرس، وهم وزراؤهم ومشيروهم، فزادت المنافسة بين العنصرين حتى كان ما كان بين الأمين والمأمون، واستنصر المأمون جند خراسان وهم أخواله؛٨٢ لأن أمه فارسية وقام العرب ينصرون أخاه الأمين، وأمه عربية هاشمية٨٣ وجنده ينصرون العرب فغلب جند المأمون فقبض على أزمة الملك فعاد النفوذ إلى الفرس، فشق ذلك على العرب ونقموا عليه وأرادوا البيعة لسواه وإخراج الأمر من يده٨٤ فازداد كرهًا لهم ورذلهم، فعوتب في ذلك مرة وهو في الشام فقال له رجل: «يا أمير المؤمنين، انظر لعرب الشام كما نظرت لعرب خراسان.» فقال له: «أكثرت عليَّ، والله ما أنزلت قيسًا من ظهور خيلها إلا وأنا أرى أنه لم يبقَ في بيت مالي درهم واحد، وأما اليمن فوالله ما أحببتها ولا أحبتني قط، وأما قضاعة فساداتها تنتظر السفياني حتى تكون من أشياعه، وأما ربيعة فساخطة على ربها مذ بعث نبيه من مضر.»٨٥
ولما تولى المعتصم سنة ٢١٨ﻫ واصطنع الأتراك والفراغنة ازداد العرب هوانًا في عيون أهل الدولة وتقاصرت أيديهم عن أعمالها حتى في مصر، فإن آخر عربي تولاها عنبسة بن إسحق الضبي سنة ٢٣٨ﻫ٨٦ وأراد المعتصم أن يستغني عن بلاد العرب جميعًا، وكان قد بنى سامرا بقرب بغداد وأقام فيها جنده فأنشأ فيها كعبة وجعل حولها طوافًا واتخذ منى وعرفات، غرر به أمراء كانوا معه لما طلبوا الحج خشية أن يفارقوه٨٧ فأصبح لفظ «عربي» مرادفًا لأحقر الأوصاف عندهم، ومن أقوالهم: «العربي بمنزلة الكلب، اطرح له كسرة واضرب رأسه.»٨٨ وقولهم: «لا يفلح أحد من العرب إلا أن يكون معه نبي ينصره الله به.»٨٩ وأصبح الأمراء والوزراء وسائر رجال الدولة من الفرس والترك والديلم وغيرهم، وصار الخلفاء يؤيدون مناصبهم بالأجناد وبذل المال، وقلت العناية بالعرب وأحزابهم.

•••

وكان العرب من الجهة الأخرى يجاهرون بكره الفرس وغيرهم من الأعاجم، ويطعنون فيمن يميل إليهم ولو كان من الخلفاء، ولذلك فلما مات المعتصم وتولى بعده الواثق كان دعبل الخزاعي الشاعر المشهور في الصميرة، فلما جاءه نعيُ المعتصم وقيام الواثق أنشد هذين البيتين:

الحمد لله لا صبر ولا جلد
ولا عزاء إذا أهل البلا رقدوا
خليفة مات لم يحزن له أحد
وآخر قام لم يفرح به أحد

وخلاصة ما تقدم أن الجامعة الإسلامية كانت في عصر الراشدين عربية وكان غرضهم الأول نشر الإسلام في الأرض، يدفعهم إلى ذلك اعتقادهم المتين بصدق الرسالة وأن الله يدعوهم إلى ذلك، فلما تولاها بنو أمية استعاضوا عن ذلك الاعتقاد بطلب المال، وتحول الغرض إلى السلطة الزمنية السياسية وظلت الجامعة العربية متينة، وفي عصر العباسيين استبدلوا العصبية العربية بالأعاجم، واحتاجوا في اصطناعهم أو استخدامهم إلى المال وانخرطوا هم في سلكهم بواسطة الأمهات، ثم أصبح الأعاجم من الفرس والترك والديلم والصفد والفراغنة وغيرهم يتسابقون إلى الاستئثار بالنفوذ بواسطة المال كما سترى.

هوامش

(١) الماوردي ١٧٦.
(٢) البخاري ١٩٠ ج١.
(٣) شرح الموطأ «خط».
(٤) المقريزي ٩٢ ج١.
(٥) ابن الأثير ٢٤٨ ج٢، والفخري ٧٥.
(٦) المقريزي ٢٥٩ ج٢.
(٧) ابن عساكر (نسخة كريمر).
(٨) كتاب الخراج لأبي يوسف ١٤.
(٩) ابن عساكر.
(١٠) المقريزي ٧٧ ج١.
(١١) ابن الأثير ٢٠٤ ج٢.
(١٢) ابن الأثير ٢٠٧ ج٢.
(١٣) ابن الأثير ٢٩ ج٣.
(١٤) اليعقوبي ١٨٣ ج٣.
(١٥) ابن الأثير ٢٠٢ ج٣.
(١٦) اليعقوبي ١٨١ ج٢.
(١٧) المستطرف ٩١ ج١.
(١٨) اليعقوبي ١٩١ ج٢.
(١٩) ابن عساكر (خط).
(٢٠) المقريزي ٩٥ ج١.
(٢١) المسعودي ٣٠١ ج١.
(٢٢) الماوردي ١٨٣.
(٢٣) ابن الأثير ٥٥ ج٣.
(٢٤) ابن الفقيه ١٥٦.
(٢٥) اليعقوبي ١٩٩ ج٢.
(٢٦) المقريزي ٤٣٩ ج٢.
(٢٧) ابن خلكان ١٢٤ ج١.
(٢٨) العقد الفريد ٧٣ ج٢.
(٢٩) العقد ٧٤ ج٢.
(٣٠) الأغاني ٣٠ ج١١.
(٣١) المقريزي ج١.
(٣٢) ابن الأثير ١٠ ج٥، وكتاب الخراج لأبي يوسف ٦٢.
(٣٣) الماوردي ١٤٣.
(٣٤) ابن خلكان ٢٧٧ ج٢.
(٣٥) ابن الأثير ٢٢٥ ج٤.
(٣٦) ابن الأثير ٤٨ ج٥ وابن خلكان ٢٧٧ ج٢.
(٣٧) ابن الأثير ٢٤ ج٥.
(٣٨) ابن الأثير ١١١ ج٥.
(٣٩) المقريزي ٤٩٢ ج٢.
(٤٠) البلاذري ٢٢٧.
(٤١) المقريزي ٤٩٢ ج٢.
(٤٢) المقريزي ٤٩٣ ج٢.
(٤٣) البلاذري ٧٣.
(٤٤) كتاب الخراج لأبي يوسف ٢٤.
(٤٥) طبقات ابن سعد (عن فان فلوتن).
(٤٦) اليعقوبي ٢٥٩ ج٢.
(٤٧) الطبري ١٣٦٧ ج٢.
(٤٨) كتاب الخراج لأبي يوسف ٦٢.
(٤٩) اليعقوبي ٢٥٨ ج٢.
(٥٠) البلاذري ٣٨٥.
(٥١) ابن الفقيه ١٠٩.
(٥٢) ابن الأثير ٦٩ ج٤.
(٥٣) كتاب الخراج ٦١ و٦٢.
(٥٤) الطبري ١٣٦٦ ج٣، وابن الأثير ٢٩ ج٥.
(٥٥) ابن الأثير ٢٩ ج٥.
(٥٦) ابن الأثير ٢٩ ج٥.
(٥٧) ابن الأثير ج٤ ص١٦٤ (طبعة المطبعة المنيرية، القاهرة ١٣٥٧).
(٥٨) الطبري ١٣٥٤ ج٢.
(٥٩) ابن الأثير ٢٤ ج٥.
(٦٠) المقريزي ٧٨ ج١.
(٦١) السيوطي، تاريخ الخلفاء ص١٥٥.
(٦٢) انظر الفخري: الآداب السلطانية (طبعة محمود توفيق الكتبي، القاهرة ص٩٥).
(٦٣) ابن الأثير ٣١٧ ج٥.
(٦٤) ابن الأثير ٧٢ ج٥.
(٦٥) إعلام الناس ٣٥.
(٦٦) الطبري ١٣٠٦ ج٢.
(٦٧) ابن خلكان ٢٨١ ج٢.
(٦٨) ابن خلدون ٩٦ ج٣.
(٦٩) اليعقوبي ٣٨٨ ج٢ وابن الأثير ١٠٤ ج٥.
(٧٠) ابن الأثير ١٨٩ ج٣.
(٧١) ابن الأثير (القاهرة ١٣٥٦) ٤ / ٣٦٥–٣٦٦.
(٧٢) الاستقصا ٦٠ ج١.
(٧٣) الطبري ٣٧١ ج٣.
(٧٤) أبو الفداء ٢٠٩ ج١.
(٧٥) الطبري ١٩٧ ج٣.
(٧٦) ابن الأثير ٢٦١ ج٥.
(٧٧) ابن الأثير ٢٥١ ج٥.
(٧٨) ابن الأثير ٢٣٥ ج٥ و٤٥ ج٦ وابن خلدون ٢٨٠ ج٣.
(٧٩) الطبري ٤٨٣ ج٣.
(٨٠) قدامة ٢٤٢.
(٨١) ابن الأثير ٦٩ ج٦.
(٨٢) ابن الأثير ٩٠ و٩٢ ج٦.
(٨٣) الطبري ٩٣٧ ج٣.
(٨٤) ابن الأثير ١٢٦ ج٦.
(٨٥) ابن الأثير ١٧٦ ج٦.
(٨٦) المقريزي ٤٥٥ ج٢.
(٨٧) المقدسي ١٢٢.
(٨٨) ابن الأثير ٢١١ ج٦.
(٨٩) الطبري ١٥٨٨ ج٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤