أسباب اضمحلال الثروة العباسية في العصر العباسي الثاني

قلنا في بحثنا عن الثروة العباسية في العصر العباسي الأول وعلة كثرتها إن أسباب تلك الثروة كثرة الجباية، وقلة النفقة، وفصلنا ذلك تفصيلًا.

فأسباب قلة الثروة يجب أن تكون قلة الجباية، وكثرة النفقة، ولكل من هذين البابين فروع ولكل منها أسباب، هاك تفصيلَها:

(١) أسباب قلة الجباية

(١-١) ضيق المملكة العباسية

بلغت المملكة العباسية أكبر سعتها في أيام الرشيد والمأمون، ثم أخذت بعض الولايات تنفصل عنها لأسباب يطول شرحها، وأول ما استقل من الولايات العباسية إفريقية، بدأت بالاستقلال في أيام الرشيد كما تقدم، ثم خراسان في أيام المأمون، ثم مصر في أيام المعتمد في أواسط القرن الثالث للهجرة، ثم فارس وما وراء النهر وغيرها، ولم يمضِ الربع الأول من القرن الرابع حتى انقسمت تلك المملكة الواسعة إلى بضعة عشر قسمًا، كل منها في حوزة دولة من دول المسلمين، على أن معظم هذه الدول كانت تعد الخليفة العباسي رئيسها الديني وتؤدي إليه أموالًا، بعضها باسم الضمان، والبعض الآخر باسم المصالحة، والآخر باسم الهدية أو غير ذلك، وكان أكثرهم لا يؤدي ما عليه إلا مرة كل بضعة أعوام، وطبيعي أنَّ تَشتُّتَ المملكة على هذه الصورة يقلل مقدار الجباية.

(١-٢) تخفيض الخراج المضروب

ذكرنا من أسباب زيادة الثروة العباسية في أيام زهوها ثقل الضرائب، وخصوصًا في العراق؛ إذ كانت مقاسمة على النصف إلى أيام المأمون، فأدرك هذا الخليفة العاقل ثقل هذا الخراج، ورأى الثروة فائضة في بيت ماله، والأموال متوفرة، فعمد إلى التخفيف عن الناس فجعل خراج العراق خمسين١ أي أنه أنقصه عشرين في المائة وهو إسقاط عظيم، وقد ظهر فرق ذلك في ارتفاع جباية العراق حالًا؛ إذ كان في قائمة قدامة ١١٤٤٥٧٦٥٠ درهمًا فصار في قائمة ابن خرداذبة ٧٨٣١٩٣٤٠ درهمًا؛ لأن الأول قدره على ما يظهر باعتبار النصف، والثاني باعتبار الخمسين.
واقتدى بالمأمون في تخفيض الضرائب من جاء بعده من الخلفاء، فأبطل الواثق سنة ٢٣٢ﻫ أعشار السفن٢ وقد رأيت أنها ضريبة ذات بال كان يرد منها إلى بيت المال شيء كثير، واقتدى بالواثق خلفه المتوكل، فأرفق بأهل الخراج بتأخير ميقات اقتضائه شهرين، وسبب ذلك أن الفرس قبل الإسلام كانوا يبدأون بجباية الخراج في النوروز، وهو يقع عندهم في الخامس من حزيران (يونيو)، وكانوا يكبسون في كل مائة وعشرين سنة شهرًا بحيث يرجع النوروز إلى الخامس من حزيران، فإذا مضت ١٢٠ سنة أسقطوا شهرًا فيجعلون الخامس من حزيران الخامس من أيار (مايو) ولا يعيدون النوروز أو يطالبون بالخراج إلا بعد شهر أي حتى يأتي الخامس من حزيران، فلما فتح المسلمون العراق وفارس ظل الحساب في جباية الخراج على ما كان عليه قبل الإسلام حتى تمت المائة والعشرون، وكان ذلك في ولاية خالد بن عبد الله القسري على العراق، فأراد الفرس أن يسقطوا شهرًا على جاري عادتهم فنهاهم خالد وقال: «هذا من النسيء الذي نهى الله عنه.» واستشار الخليفة هشام بن عبد الملك في ذلك فوافقه على إبطال الكبس، فظل الحساب الجاري متقدمًا شهرًا عن الحساب الحقيقي الذي تنضج فيه الغلات، وظل الفرس يحاولون العود إلى الكبس فلم يتم لهم، ولما كانت خلافة الرشيد طلبوا إلى يحيى بن خالد أن يتوسط لدى الخليفة بشأن ذلك، فأراد يحيى أن يجيب طلبتهم، فتقوَّل أعداؤه في ميله إلى الزرادشتية فعدل عن عزمه، وما زال ذلك الفرق يتعاظم بتوالي الأعوام حتى صار في أيام المتوكل يقع في نيسان (أبريل) والزرع أخضر، واتفق أن المتوكل مر ببستان فرأى الزرع أخضرَ، فقال لرفيق له: «ما لي أرى الدواوين تطلب الخراج والزرع لم ينضج؟» فقص عليه السبب، فأمر أن يضاف إلى تلك السنة ما كان تأخر، فإذا هو شهران وبضعة أيام حتى يصير النوروز في الوقت اللازم، فأصدر أمره بذلك سنة ٢٤٣ﻫ ففرح الناس؛٣ لأنه رفع عنهم من خراج تلك السنة نحو الخمس فقال البحتري في ذلك:
إن يوم النوروز عاد إلى العهـ
ـد الذي كان سنه أردشير
ولكن أمر المتوكل لم ينفذ تمامًا لأنه قتل بعد قليل، واضطربت أحوال الخلافة، حتى إذا كانت أيام المعتضد بالله روجع في ذلك فأصدر أمره آخر سنة ٢٨١ﻫ بتأخير النوروز ستين يومًا، وكان قد وافق أوائل المحرم سنة ٢٨٢، فأمر أن يكون في ١٣ ربيع أول منها، وجعلوه موافقًا ١١ حزيران (يونيو) وأن يُكبسَ بعد ذلك في كل أربع سنين من سني الفرس يوم واحد٤ — فعل ذلك ترفيهًا للناس ورفقًا بهم.٥
وكان المهتدي (٢٥٥ﻫ) قد أمر بإسقاط الكسور عما بقي من الزرع على المساحة، وذلك أن المنصور لما جعل خراج العراق مقاسمة كما تقدم أبقى بعضه على اسم الخراج القديم بالمساحة، وكان ينكسر على أصحابه شيء كل عام والحكومة تطالب به، فلما تولى المهتدي أمر بإسقاط الكسور وغض النظر عن أمثالها، ومقدار ذلك نحو ١٢٠٠٠٠٠٠ درهم في السنة.٦

فنرى من مجمل ذلك أن مواردَ الخراجِ ضعفت عما كانت عليه في عصر الرشيد والمأمون، وكان ذلك مساعدًا على تقليل الجباية.

الجزية والزكاة

ومن هذا القبيل ما أصاب الجزية من النقص، بدخول الناس في الإسلام بتوالي الأعوام، حتى انحطَّ مقدار ما يجبى منها بمدينة السلام في أواسط القرن الثالث للهجرة ١٣٠٠٠٠ درهم٧ وقد رأيت في قائمة علي بن عيسى أنهم جبوها ١٦٠٠٠ دينار؛ أي نحو ضعفي ما ذكره ابن خرداذبة، ومع ذلك فإذا اعتبرنا تقديرها على أوسط قيمتها وهي ٢٤ درهمًا على الشخص، كان عدد الرجال نحو ٩٠٠٠ وبإضافة ما يلحقهم من النساء والأولاد لا يزيد عددهم على ٤٠٠٠٠ نفس من أهل الذمة في مدينة بغداد من النصارى واليهود، وهي في إبان مجدها وسكانها يزيدون على المليون، فقس على ذلك سائر المدن.
ويقال نحو ذلك أيضًا في الزكاة، فقد تناقصت بتوالي الأعوام، حتى كادت تتلاشى، وأصبحت المطالبة بها تدعو إلى التذمر،٨ وكانت قد أبطلت في مصر حتى أعادها السلطان صلاح الدين الأيوبي، وتذمر المسلمون منها، وشنعوا على الذي يطالب بها، حتى إذا تولى المنصور قلاوُن سنة ٦٧٨ﻫ أبطل الزكاة من مصر.٩

(١-٣) استئثار العمال بالجباية

قد رأيت استبداد العمال في عصر بني أمية، واستئثارهم بالخراج، وكيف تحسنت أحوالهم في عصر العباسيين، غير أن ذلك التحسنَ لم يدم طويلًا، فلما ضعف شأن الخلفاء عاد العمال إلى ما تطمح إليه أنظارهم من طلب الاستقلال بالحكم أو الاستئثار بالجباية، واضطر الخلفاء إلى التراضي معهم على مال مضمون وأن يكون أقل مما يجبَى، وهو الضمان أو المقاطعة، كما قاطع المأمون بشير بن داود على السند سنة ٢٠٥ﻫ على أن يدفع له ١٠٠٠٠٠٠ درهم في العام١٠ مع أن ارتفاع جبايتها الحقيقي ١١٥٠٠٠٠٠ درهم١١ وضمن البريدي الأهواز على أيام الراضي كل سنة ٣٦٠٠٠٠ دينار، على أن يدفعها أقساطًا١٢ وخراجها الحقيقي يزيد على أربعة أضعاف هذا المبلغ، ومع ذلك فالضامنون لم يكونوا يدفعون إلا قليلًا مما تعهدوا به، فإذا ألحَّ الخليفة عليهم في المطالبة اتخذوا الحاجة ذريعة إلى الاستقلال التام، فيستنجد الخليفة جنده ونصرتهم تحتاج إلى المال، ومن تمكن من المال ملك واستبد.

(١-٤) اشتغال الناس بالفتن والظلم عن العمل

لما نشأت الفتن، وانتشبت الحروب بين طوائف الجند، أو بينهم وبين العمال، انشغل الناس عن تجارتهم وزراعتهم، وتوقف العمال، وغلت الأسعار، وتعطلت الزراعة لضياع الأمن، فقلَّتِ الجبايةُ، واحتاج العمال والقواد إلى الأموال، فظلموا الناس في تحصيلها منهم فزاد الخراب، وما من هادم للعمران كالظلم، فإنه يغل الأيدي ويقعد الناس عن السعي، فينشغل به الزارع عن زراعته، والتاجر عن تجارته، والصانع عن صناعته، ووبال ذلك عائد على الدولة إذ لا قوام لها إلا بالرعية، والمشهور أن الظلم أخذ المال من يد مالكه بلا عوض ولا سبب، ولكنه أعم من ذلك كثيرًا، فإن كل من أخذ ملك أحد، أو غصبه في عمله، أو طالبه بغير حق، أو فرض عليه حقًّا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه، فجباة الأموال بغير حقها ظلمة، والمعتدون عليها ظلمة، والمنتهبون لها ظلمة، والمانعون لحقوق الناس ظلمة، وغصاب الأملاك على العموم ظلمة … فإذا ساد الظلم أقبل الخراب لا محالة.

ومما زاد البلاء جسامة، أن أكثر ما احتفره الخلفاء المصلحون في أوائل الدولة العباسية من الترع والأنهار لري الأرض وتسهيل الاستغلال انسد بالحروب؛ لأن المحاربين كثيرًا ما كانوا يضطرون إلى سد الأنهار ليمنعوا سفن الأعداء من المرور فيها١٣ فضلًا عما يدعو إليه إهمال العمال من فساد الري وضياع الزرع.

(١-٥) تحويل أكثر البلاد إلى ضِياع

يراد بالضِّياع عندهم المَزارع، أو ما يعبر عنه المصريون بالأبعادية أو العزبة، ويغلب في الضياع أن تكون لأهل الدولة من الخلفاء أو أقاربهم أو عمالهم أو وزرائهم أو كتابهم، أو مَنْ يلوذُ بهم من أهل النفوذ، وقد رأيت في هذا الجزء أن عمر بن الخطاب نهى المسلمين عن اتخاذ الزرع واقتناء الضياع؛ لحكمة أرادها من بقائهم على أهبة الرحيل عند الاقتضاء، لا يقعدهم الترف أو القصف، كما نهى عن اختزان المال في بيت المال، غير أن هاتين القاعدتين لم يطل العمل بهما إلا ريثما انتقلت الدولة الإسلامية من الخلافة الدينية إلى الملك العضوض في أيام بني أمية، فاختزن الصحابة الأموال واتخذوا المصانع (أي الدور المبنية) والضياع كما بيَّنَّاه هناك.

واقتدى بهم من جاء بعدهم من التابعين وتابعي التابعين، وكان أقدمهم على ذلك الخلفاء من بني أمية؛ فقد أكثروا من المصانع والضياع حتى كان بعض أهلهم يقبضها اغتصابًا من أصحابها وليس من ينصفهم؛ لتعصب بني أمية للعرب واحتقارهم سائر الأمم واعتبارهم ما فتحوه من الأرض ملكًا حلالًا لهم، فما أرادوا أخذه أخذوه، وما أرادوا تركه تركوه١٤ حتى أفضت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز فعمل على الاقتداء بعمر بن الخطاب بالرفق والإحسان مع العدل، باسترجاع الضياع المغتصبة إلى أهلها من النصارى أو اليهود أو المجوس، فساء ذلك أهله فعجلوا به وعادت الأحوال بعده إلى أشدَّ مما كانت عليه كما تقدم.
فلما أفضت الخلافة إلى بني العباس سنة ١٣٢ﻫ أعملوا السيف في بني أمية، ففروا وتركوا أموالهم وضياعهم فاستولى عليها العباسيون، ولم يعدوا امتلاكها مخالفًا لشروط الخلافة لاعتبارهم ذلك لازمًا لحياطة الدولة أو حقًّا من حقوق الملك؛ إذ ليس من أوامر الدين أو نواهيه ما يمنعهم من ذلك صريحًا، والإنسان ميال بفطرته إلى الاستكثار من حطام الدنيا واختزان القوة إذا وجد إلى ذلك سبيلًا، فالخلفاء العباسيون في أوائل دولتهم بذلوا الجهد في إنصاف الناس وتأمينهم؛ ليبينوا لهم الفرق بين حالهم في أيام بني أمية وفي أيامهم، فلم يكونوا يغتصبون ضيعة ولا مالًا، ولكن بعض الذين دخلوا في خدمتهم أو انتموا إليهم من الأمراء أو الكبراء كانوا يمدون أيديهم إلى ضياع الناس، وكان الخلفاء ينصفون أصحاب الضياع إذا تظلموا ويردون ضياعهم إليهم١٥ على أن ذلك قلما كان يقلل من مطامع أهل الدولة في أموال الناس، فاستكثر العمال والوزراء وغيرهم من اقتناء الضياع والأبنية بحق أو بلا حق، والخلفاء يمنعونهم جهد الطاقة فإذا لم يتمكنوا من منعهم بالحسنى صادروهم أو قبضوا أموالهم بعد موتهم، كما فعل الرشيد بأموال محمد بن سليمان عامله على البصرة، وكان مبلغها ٥٠٠٠٠٠٠٠ درهم سوى الضياع والدور والمستغلات، وكانت غلته ١٠٠٠٠٠ درهم في اليوم١٦ وأمثال هذا القبض كثيرة ناهيك بالمصادرات التي سيأتي تفصيلها، فالضياع التي تقبض على هذه الصورة تصير إلى الخليفة أو الدولة، فآل ذلك إلى استكثار الخلفاء أنفسهم من الضياع.
على أن أكثر ما يكون اقتناء الضياع لحاشية الخليفة وأهله، وهذا طبيعي في الحكومات الاستبدادية، وخصوصًا إذا كان الحاكم كريم الخلق أو ضعيفًا تؤثر عليه وساطة أهله ورجال حاشيته، ولذلك كثرت الضياع عند رجال الدولة حتى صاروا يتهادونها أو يُنعِمون بها على الناس كجائزة على قصيدة أو خطاب أو نكتة أو غير ذلك، وفي أخبار البرامكة كثير من أمثال هذه العطايا، ومن هذا القبيل ما فعله الحسن بن سهل لما زُفَّتْ ابنتُه بوران إلى المأمون، فإنه كتب ضياعه في رقاع جعل اسم كل ضيعة في رقعة ونثرها على القواد فمن وقع له رقعة أخذ الضيعة المسماة فيها.١٧
وكان من أبواب اقتناء الضياع عندهم — حتى في صدر الدولة العباسية — كثرة ما كان من الأرض المهملة من عهد بني أمية، فكان الخليفة يعهد إلى بعض أهله أو خاصته في تعميرها وغرسها ثم تصير له كما فعل المنصور بابنه صالح؛ إذ أمره بعمارة بعض المزارع العاطلة في الأهواز١٨ ومن أحيا أرضًا مواتًا فهي له.

الإلجاء

ومن أسباب كثرة الضياع عند أهل الخلفاء ورجال الدولة إلجاء الأهالي ضياعهم ومغارسهم إلى بعض أقارب الخلفاء أو العمال تعززًا بهم من جباة الخراج، فكان صاحب الأرض يلتجئ إلى بعض أولئك الكبراء فيستأذنه أن يكتب ضيعته أو ضياعه باسمه، فلا يجرؤ الجباة على العنف أو الظلم في اقتضاء خراجها بل هم قد يكتفون منهم بنصف الخراج أو ربعه مراعاة لذلك الكبير، ويجعل صاحب الضيعة نفسه مزارعًا له ويدون ذلك في دفاتر الحكومة، فتصبح تلك الضيعة بتوالي الأعوام ملكًا للمُلْجَأ إليه١٩ ويصبح صاحبها الأصلي شريكًا في غلتها، ومثل هذا الإلجاء يحدث في كل العصور في البلاد التي يخاف أهلها سطوة الحكام واستبدادهم.
وقد بدأ الإلجاء في الإسلام في أيام بني أمية لما كان من ظلم عمالهم، فألجأ أهل السواد في ولاية مسلمة بن عبد الملك وخلافة أخيه الوليد ضياعهم إلى مسلمة المذكور تعززًا به من جباة الخراج، ثم صارت تلك الضياع له وبقيت في أعقابه حتى قامت الدولة العباسية، فاستولى الخلفاء العباسيون عليها في جملة ما استولوا عليه من أموال بني أمية وضياعهم، وأُقطِعت هذه الضياع لداود بن علي بن عبد الله بن عباس، ثم صارت من الضياع السلطانية٢٠ وكذلك فعل بعض أهل المراغة في أذربيجان مع مروان بن محمد لما تولى أرمينية فإنهم ألجأوا تلك الضيعة إليه فقبضت في جملة ما قبض من ضياعهم.٢١
وامتد الإلجاء إلى أيام بني العباس بالاستمرار فألجأ أهل زنجان ضياعهم إلى القاسم بن الرشيد تقربًا إليه ودفعًا لمكروه الصعاليك عنهم، فكتبوا له الأشرية (أي كتبوا له صكوكًا ببيعها له) وصاروا مزارعين له ثم صارت تلك الأرض من الضياع السلطانية،٢٢ وحدث نحو ذلك أيضًا في فارس، فقد كانت فيها ضياع ألجأها أربابها إلى الكبراء من حاشية السلطان بالعراق وظلت تجري بأسمائهم فخفف عنهم الربع وبقيت أجيالًا وهي في أيدي أهلها بأسماء هؤلاء يتبايعونها ويتوارثونها٢٣ وأصبح أهلها مزارعين لهم.
ولم ينقضِ عصرُ الازدهارِ العباسي حتى أصبح في حوزة الخلفاء وأقاربهم ورجال دولتهم ما لا يحصى عدده من الضياع، واضطرت الحكومة إلى إنشاء ديوان خاص بخراجها وعشورها سموه «ديوان الضياع»، وهو غير ديوان الخراج، وقد رأيت مقدار خراج الضياع فيما دوَّنه علي بن عيسى في جريدة سنة ٣٠٦ﻫ وكلها في بلاد المشرق في الري ودماوند وقزوين وزنجان وقم وأصبهان وهمذان وماسندان وغيرها، وترى خراج الضياع في بعض المماليك يزيد على خراج الأرض الأخرى، فخراج الضياع في ماه البصرة والإيغارين مثلًا ٢٦٧٥٢٠ دينارًا، وخراج سائر الأرض هناك ١٨٥٦٣٦ دينارًا، ولو عوملت الضياع في مقدار الخراج وطرق تحصيله مثل معاملة الأرض الأخرى لزاد خراجها أضعاف ذلك؛ لأن خراج تلك الضياع كان خفيفًا جدًّا بالنظر إلى غيره، وكثيرًا ما كان يترك ولا يطالب به أعوامًا على مقتضى أحوال السياسة وعلاقة ذلك بالعمال والخلفاء، وربما تراكم الخراج عدة أعوام حتى تتغير السياسة ويأتي من يطالب به.٢٤

الضياع السلطانية

وكانت الضياع بالإجمال قسمين: الضياع العامة وهي ضياع رجال الدولة وأرباب الثروة من الأهلين وغيرهم، والضياع السلطانية وهذه أقسام سميت بأسماء تدل على أنواعها؛ وهي:
  • (١)
    الضياع الخاصة: وهي ما يملكه الخليفة نفسه لا يشاركه فيه أحد، وقد رأيت خراج هذه الضياع في جريدة علي بن عيسى — غير ما كان منها في نواحي واسط لأنه أضيف إلى أموال العامة — ٥١٦٤٤٧ دينارًا.
  • (٢)
    الضياع العباسية: وهي في الغالب لبني العباس أهل الخليفة، وقد بلغ عددهم في أيام المأمون ٣٣٠٠٠ نفس٢٥ وبلغ خراج تلك الضياع سنة ٣٠٦ﻫ ١٤٤٧٦٠ دينارًا سوى ما هو منها في واسط.
  • (٣)
    الضياع المستحدثة: قد رأيت خراجها في تلك السنة ٢٨٩٠٣٦ دينارًا.
  • (٤)
    الضياع الفراتية: وسميت بذلك لأنها واقعة على ضفاف الفرات، وخراجها لذلك العام ٦١٧١٢٦ دينارًا.
وكانت هذه الضياع من سواد بغداد والكوفة والبصرة وواسط والأهواز وأصبهان٢٦ يضمنونها أحيانًا بأموال معينة في العام٢٧ ولها دواوين وكتاب وعمال.
فالضياع على إجمالها قليلة الخراج مع أنها أخصب الأرض؛ لأن الخلفاء وعمالهم كانوا يغضون عن كثير من الأموال المطلوبة منهم٢٨ وقد يتركونها لهم، ومع ذلك فقد رأيت خراج الضياع السلطانية يزيد على مليون ونصف غير ما هو منها في واسط وغيرها مما يدل على كثرة تلك الضياع وسعتها، والظاهر أن ذلك طبيعي في الدولة المطلقة في تلك العصور؛ فقد ذكرنا في هذا الكتاب أن جباية الدولة العثمانية بلغت في أيام السلطان سليمان ٨٠٠٠٠٠٠ دوكة منها ٥٠٠٠٠٠٠ من الضياع السلطانية وحدها.٢٩

الإيغار

وكان عندهم ضرب من استهلاك الخراج اسمه «إيغار»، ومعناه في الأصل «استيفاء» فيقولون: «أوغر العامل الخراج أي؛ استوفاه.» ثم استخدموها بمعنى الإعفاء من الخراج بمال معين يدفعه صاحب الأرض مرة واحدة ولذلك قالوا: «أوغر الملك الرجل الأرض.» جعلها له من غير خراج، أو هو أن يؤدي الخراج إلى السلطان الأكبر فرارًا من العمال ويسمى ضمان الخراج إيغارًا٣٠ فكان أصحاب الضياع يستوغرون ضياعهم إذا استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، ومن الإيغارات المشهورة في الدولة العباسية «إيغار يقطين»، وأصلها أن رجلًا اسمه يقطين أوغرت له ضياع من عدة الطساسيج ثم صار ذلك إلى السلطان فنسب إلى إيغار يقطين.٣١

(٢) أسباب كثرة النفقات

(٢-١) إسراف الخلفاء ونسائهم

من الأمور الطبيعية في العمران إذا كثرت الأموال في الدول أن يَسْخُوَ الملوك في بذلها، وخصوصًا في الدول المطلقة، وعلى الأخص في الدولة العباسية، والخليفة مطلق التصرف في بيت المال٣٢ ودعاة الخلافة كثيرون لا يقعد فتنتهم غير استرضاء الأحزاب بالمال أو كسر شوكتهم بالحرب، والأول أسلم عاقبة وأقرب منالًا إذا توفرت الأموال، وقد رأيناها متوفرة خصوصًا في عصر الرشيد والمأمون، فلا غرو إذا رأيناهما يبذلان الأموال في استكفاف الأذى عن الدولة، أو سد أفواه أهل الفتن، لكنهم تجاوزوا ذلك إلى صنوف البذخ وضروب التبذير والترف، فاقتنوا الجواري واتخذوا الفرش من الخز والديباج والحرير والمسامير الفضة٣٣ وابتنوا المتنزهات والقصور والمدن واقتنوا الندماء وأنشأوا مجالس الغناء، وارتكبوا سائر ضروب الترف والتأنق في الطعام واللباس والرياش، وقد سهل عليهم ذلك لقرب عهد العراق وفارس من بذخ الفرس قبيل الفتح الإسلامي٣٤ وأطلقوا أيدي نسائهم وأمهاتهم وخاصتهم في الأموال.

ثروة نساء الخلفاء

لم يتزوج السفاح إلا امرأة واحدة،٣٥ وقبل أن يُتَوَفَّى المنصور أوصى ابنه المهدي ألا يشرك النساء في أمره٣٦ ومع ذلك فإن الخيزران أم الرشيد كانت هي صاحبة الأمر والنهي في أيام الهادي وأيامه، وكان وزيره يحيى بن خالد بن برمك تحت أمرها٣٧ فأفضى نفوذها إلى حشد الأموال لنفسها حتى بلغت غلتها في العام ١٦٠٠٠٠٠٠٠ درهم؛٣٨ وذلك نحو نصف خراج المملكة العباسية لذلك العهد، وغلة أعظم متمولي العالم اليوم لا تزيد على ثلثي هذا المال، فقد ذكروا أن إيراد روكفلر الغني الأمريكي الشهير نحو ١٠٥٠٠٠٠٠ دينار، وقد بينا في غير هذا المكان أن قيمة النقود كانت تساوي ثلاثة أضعافها اليوم، والدينار نصف جنيه، فتكون غلة روكفلر نحو ثلثي غلة الخيزران.
وكانت الخيزران مع ذلك شديدة الوطأة رغَّابة في الاستئثار، فلما آنست في ابنها الهادي معارضة لإرادتها دست إليه من قتله!٣٩ ولما ماتت توسع الرشيد بأموالها وأقطع الناس ضياعها.٤٠
على أن الخيزران كانت من أهل العلم والرأي، فلا غرابة في اقتنائها الأموال في إبان الثروة العباسية، إنما الغرابة في اقتناءِ أمهاتِ الخلفاءِ الأموالَ الكثيرةَ في عصر الاضمحلال وبيت المال فارغ، فإن «قبيحة» أم المعتز وجدوا لها من مخبآت في الدهاليز ونحوها نحو ٢٠٠٠٠٠٠ دينار نقدًا ومالًا تقدر قيمته من التحف والجواهر مما نأتي بذكره على سبيل المثال: من ذلك مقدار مكوك من الزمرد الثمين ونصف مكوك لؤلؤ كبير ونحو كيلجة ياقوت أحمر مما قدروا قيمته ٢٠٠٠٠٠٠ دينار، وكانت مع ذلك قد عرضت ابنها للقتل من أجل ٥٠٠٠٠ دينار.٤١

•••

وأغرب من ذلك شأن أم محمد بن الواثق فقد كانت غلتها ١٠٠٠٠٠٠٠ دينار٤٢ في العام تنفقها في جواريها وهي نحو غلة الخيزران، وأخرجوا من تربة والده المقتدر ٦٠٠٠٠٠ دينار كانت مخبأة هناك، ولم يعلم بها أحد مع ضيق الخليفة وفراغ بيت ماله٤٣ وقس على ذلك أمهات الخلفاء الآخرين في العراق وغيره من بلاد الإسلام؛ فقد كُنَّ يتمتعنَ بالنفوذ ويستولين على الأموال بالتواطؤ مع القواد ورجال الجند، بما يتاح لهن من إطلاق الأيدي في أمور الدولة كما فعل المستعين العباسي (٢٤٩ﻫ) فإنه أطلق يد والدته ويد أتامش وشاهك الخادم في بيوت الأموال وأباحهم فعل ما أرادوا، فكانت الأموال التي ترد من الآفاق يصير معظمها إلى هؤلاء الثلاثة.٤٤
فلا عجب والحالة هذه إذا تحول الغنى إلى النساء والخدم والقواد، وهل تستغرب بعد ذلك إذا علمت أنه كان بين رياش أم المستعين بساط أنفقت على صنعه ١٣٠٠٠٠٠٠٠ دينار (ربما درهم)، فيه نقوش على أشكال الحيوانات والطيور وأجسامها من الذهب وعيونها من الجواهر،٤٥ أو إذا قيل لك إن فلانة حشت فم الشاعر الفلاني درًّا فباعه بعشرين ألف دينار،٤٦ أو إذا سمعت بهدايا قطر الندى وغيرها من نساء الخلفاء؟!٤٧
ناهيك بما كان في بلاط الخلفاء العباسيين وغيرهم من القهرمانات اللواتي كن يتولين شؤون دور الخلفاء والنفقة عليها بالاتفاق مع الوزير أو من ينوب عنه،٤٨ فكان لهؤلاء النساء نفوذ عظيم في قصور الخلفاء وفي أعمال الدولة، كما كانت تفعل أم موسى القهرمانة في أيام المقتدر في أوائل القرن الرابع للهجرة٤٩ ولم يكن لأولئك القهرمانات سبيل للإنفاق لولا ما في قصور الخلفاء من الجواري والخدم وغيرهم.

الجواري والغلمان

وقد رأيت فيما ذكرناه من مناقب المنصور أنه لما علم بوجود الطنبور في داره كسره على حامله، لكن لم يمضِ على موته أربعون سنة حتى أصبحت دور الخلفاء مسرحًا للغناء واللهو، قالوا إنه كان في قصر الرشيد ثلثمائة جارية ما بين جنكية إلى عودية إلى دفية إلى قانونية إلى زامرة إلى مغنية إلى راقصة إلى سنطيرية فضلًا عمن كان في قصره من الندماء والمضحكين كالشيخ أبي الحسن الخليع الدمشقي٥٠ وابن أبي مريم المدني٥١ وغيرهما، وما من جارية إلا وثمنها ألف دينار أو عشرة آلاف دينار٥٢ إلى مئة ألف دينار غير ما يقتضيه اقتناؤهن من النفقات الأخرى كالألبسة والحلي وهي شيء كثير؛ فقد اشترى الرشيد خاتمًا بمئة ألف دينار٥٣ وقس على ذلك.
ناهيك بما كانوا يقتنونه من المماليك والغلمان مما يعدون بالمئات والألوف؛ فقد بلغ عدد خدم المقتدر ١١٠٠٠ خصيٍّ من الروم والسودان٥٤ غير ما يقتضيه ذلك من الأبنية والقصور والرياش؛ فقد بنى المعز دارًا في بغداد أنفق عليها ١٣٠٠٠٠٠٠ درهم٥٥ وبنى الأمين قصورًا في الخيزرانية أنفق عليها ٢٠٠٠٠٠٠٠ درهم٥٦ واصطنع في دجلة خمس حراقات (سفن) إحداها على صورة الأسد والثانية بصورة الفيل والثالثة بصورة العقاب والرابعة بصورة الحية والخامسة بصورة الفرس أنفق عليها مالًا عظيمًا وفيها يقول أبو نواس:
سخر الله للأمين مطايا
لم تسخر لصاحب المحراب
فإذا ما ركابه سرن برًّا
سار في الماء راكبًا ليث غاب
عجب الناس إذ رأوك على صو
رة ليث تمرُّ مرَّ السحاب
سبحوا إذ رأوك سرت عليه
كيف لو أبصروك فوق العقاب
ذات زور ومنسر وجناحيـ
ـن تشق العباب بعد العباب
تسبق الطير في السماء إذا ما
استعجلوها بجيئة وذهاب
ومما يحسن إيراده مثالًا على بذخهم أن الأمين أمر يومًا أن يفرش له على دكان في الخلد، ففرش عليها بساط ذرعي ونمارق وفرش مثله وهيئ من آنية الذهب والفضة والجواهر أمر عظيم، وأمر قيِّمة جواريه أن تهيئ له مائة جارية صانعة فيصعدن إليه عشرًا عشرًا بأيديهن العيدان يغنين بصوت واحد٥٧ ففعلت، وسنأتي على تفصيل بذخ الخلفاء وطرق إسرافهم في الجزء المتعلق بالهيئة الاجتماعية من هذا الكتاب.

السخاء

على أن الإسراف كان أكثره فيما يبذلونه كرمًا وسخاءً، ومنه ما ينفق يوميًّا فرضًا واجبًا، فقد كان الرشيد يتصدق من صلب ماله كل يوم بألف درهم بعد زكاته٥٨ وكان المأمون ينفق على خاصته كل يوم ٦٠٠٠ درهم٥٩ فاعتبر مقدار ذلك في السنة فيزيد على ٢٠٠٠٠٠٠ درهم، وليس هذا بالشيء الذي يذكر بجانب ما كانوا يهبونه من الجوائز ونحوها؛ فقد فرَّق المنصور في يوم واحد ١٠٠٠٠٠٠٠ درهم على أهل بيته٦٠ وفرَّق المأمون في يوم واحد ١٥٠٠٠٠٠ درهم على ثلاثة أشخاص،٦١ وقد رأيت في هذا الكتاب أنه فرق ٢٤٠٠٠٠٠٠ درهم ورجله في الركاب، وأوصى الرشيد للمأمون بمبلغ ١٠٠٠٠٠٠٠٠ درهم، وتصدق المعتصم في أثناء خلافته بما مجموعه ١٠٠٠٠٠٠٠٠ درهم٦٢ وبلغ ما أنفقه المقتدر ضياعًا ما خلا الأرزاق ٧٠٠٠٠٠٠٠ دينار،٦٣ فضلًا عن جوائزهم للوافدين من الشعراء وغيرهم، وربما بلغت جائزة الشاعر مائة ألف درهم، وذكروا جوائزَ كثيرة بنحو هذه القيمة أو أكثر، وروى ابن خلكان عن سالم الشاعر المعروف بالخاسر أنه نظم قصيدة مدح فيها المهدي وحلف أنه لا يأخذ قيمتها إلا مائة ألف ألف درهم (١٠٠٠٠٠٠٠٠) فأعطاه إياها، وفي ذلك مبالغة ظاهرة لكنها تدل على مبلغ ذلك السخاء٦٤ وكثيرًا ما كانوا يهبون الشعراء الضياع فضلًا عن الأموال.٦٥

هل كانوا يفعلون ذلك حقيقة؟

فهذا وأمثاله يحسبه أهل هذا الزمان من قبيل الخرافات بالقياس على ما يعلمونه من القواعد الاقتصادية، على أننا لا نظنهم يقولون ذلك بعد ما تبين لهم من مقدار الثروة العباسية، ومقدار ما كان يبقى من الأموال تحت تصرف الخلفاء، أو من يقوم مقامهم كالوزراء والكتاب، إلا إذا شككنا في حقيقة تلك الثروة وهو شك في التاريخ على إجماله؛ لأن المؤرخين على اختلاف عصورهم ومواطنهم متفقون على ما بيناه من هذا القبيل كما رأيت.

ثم إننا إذا اعتبرنا نظام الهيئة الاجتماعية في تلك الأيام على ما سنفصله في الأجزاء التالية من تأثير الشعراء ونحوهم في مركز الخليفة نفسه هان علينا تصديق ما كانوا ينالونه من الهِبَاتِ الكبرى، على أننا نعرف بين أغنيائنا اليوم من يبذل ٥٠٠٠٠ جنيه و١٠٠٠٠٠ جنيه ثمن صورة أو قطعة من الآثار القديمة لا تنفع ولا تضر، وقرأنا بالأمس أن مورجان الأمريكي الشهير اشترى صورًا بمليون جنيه ليقدمها هدية لبعض المتاحف.

وزِدْ على ذلك أننا نستدل على صحة ما تقدم أيضًا من سياق بعض الوقائع المروية من هذا القبيل، مثل حديث المؤمل عن قدومه على المهدي وهو ولي عهد، قال: «قدمت على المهدي في الري وهو ولي عهد فأمر لي بعشرين ألف درهم لأبيات امتدحته بها، فكتب إليه المنصور (أبوه) يعذله ويلومه ويقول له: «إنما كان ينبغي لك أن تعطي الشاعر بعد أن يقيم ببابك سنة أربعة آلاف درهم.» — إلى أن قال — وبعث المنصور يستقدمني إليه حتى جئت ودخلت عليه فقال: «هيه! أتيت غلامًا غرًّا فخدعته …» فقلت: «نعم أصلح الله أمير المؤمنين، أتيت غلامًا غرًّا كريمًا خدعته فانخدع.» فقال المنصور: «أنشدني ما قلت فيه.» فأنشدته (ثم ذكر القصيدة) ومطلعها:

هو المهدي إلا أن فيه
مشابه صورة القمر المنير
فقال: «والله لقد أحسنت، ولكن هذا لا يساوي عشرين ألف درهم.» وقال: «أين المال؟» قلت: «ها هو ذا.» قال: «يا ربيع انزل معه فأعطه أربعة آلاف درهم وخذ منه الباقي.» فخرج الربيع فحط ثقلي ووزن لي أربعة آلاف درهم، وأخذ الباقي.»٦٦ فترى من هذه الحكاية أنهم كانوا يقدرون الشعراء بآلاف الدراهم.

هل كان الخلفاء يسرفون من أموالهم الخاصة؟

بقي علينا النظر فيما كان الخلفاء يهبونه من الجوائز ونحوها، هل كانوا يؤدونه من أموالهم الخاصة أم من بيت مال الحكومة المعبر عنه ببيت مال المسلمين؟ وهو موضوع مبهم لم نجد فيه قولًا صريحًا، على أن سكوت المؤرخين عنه يرجح أنهم كانوا يدفعون ذلك من بيت المال، ولا جناح فيه عليهم؛ لأن الإمام هو ولي بيت المال ينفقه فيما يرى فيه مصلحة المسلمين حسب اجتهاده، وقد يرى في إجازة الشاعر أو هبة العالم فائدة للدولة.

على أننا رأينا ذكرًا لبيت مال الخاصة في أيام الهادي، ويظهر من سياق بعض الحوادث التي وقعت للخلفاء أنهم كانوا إذا أمروا لشاعر أو غيره بمال إنما يريدون أن يدفع له من بيت مال المسلمين، وأن الوزراء كثيرًا ما كانوا يتذمرون من ذلك الإسراف ولا ينفذون أمر الخليفة في الصرف، كما وقع لعيسى بن دأب مع الهادي، وذلك أن عيسى المذكور كان من أكثر أهل الحجاز أدبًا وأعذبهم ألفاظًا، وكان قد حظي عند الهادي حظوة لم تكن لأحد قبله، فأمر له مرة بثلاثين ألف دينار في دفعة واحدة، فلما أصبح ابن دأب أرسل قهرمانه إلى الحاجب في قبضها فقال الحاجب: «هذا ليس إلي فانطلق إلى صاحب التوقيع وإلى الديوان.» فعاد إلى ابن دأب فأخبره فقال: «اتركها» فبينما الهادي في مستشرف له ببغداد رأى ابن دأب وليس معه إلا غلام واحد فاستدعاه، فلما وقف بين يديه قال له الهادي: «أرى ثوبك غسيلًا وهذا شتاء يحتاج فيه إلى الجديد.» فقال: «باعي قصير.» فقال: «وكيف وقد صرفنا إليك ما فيه صلاح شأنك؟» فقال: «ما وصل إليَّ.» فدعا الهادي صاحب بيت مال الخاصة فقال: «عجل الساعة بثلاثين ألف دينار.» فأحضرت وحملت بين يديه،٦٧ فيظهر من سياق هذه الحكاية أن الخليفة أراد أن يدفع إليه المال من بيت المال العام، فلما لم يدفعوا له أمر بدفعه من بيت ماله الخاص.
ومن هذا القبيل ما اتفق ليحيى بن خاقان، إذ أمره الرشيد أن يدفع ثمن جارية ١٠٠٠٠٠ دينار، فاستكثر يحيى المال واعتذر عن دفعه، فغضب الرشيد فأراد يحيى أن يبين له مقدار ما يتحمله بيت المال من هذا الإسراف فيما لا مصلحة للدولة فيه، فجعل ذلك المال دراهم فبلغت نحو ١٥٠٠٠٠٠ درهم فوضعها في الرواق الذي يمر به الرشيد إذا أراد الوضوء، فلما رأى الرشيد ذلك المال استكثره، ولما أخبروه أنه ثمن الجارية أدرك إسرافه ولكنه شعر بما في ذلك من الجرأة عليه ومحاولة غل يديه فحفظ ذلك في نفسه، ويقال إنه كان من جملة ما حمله على نكبة البرامكة.٦٨
واتفق نحو ذلك للواثق بالله مع وزيره ابن الزيات في ثمن جارية فلما مطل الوزير بالدفع أمره أن يدفع ضعفين ففعل.٦٩
وفي كتاب أبي سفيان الثوري إلى الرشيد جوابًا على كتاب استدعاه به إلى بغداد ما يشبه كلام أبي ذر الغفاري لمعاوية، ويدل على أن الرشيد كان يهب ويجيز من بيت مال المسلمين، وذلك أن الرشيد دعاه بكتاب بعثه إليه في الكوفة، وأخبره أن الناس قدموا إليه، وأنه فتح بيوت الأموال وأعطاهم من المواهب السنية … إلخ، فأجابه أبو سفيان بكتاب شديد اللهجة وفي جملة ذلك قوله: «أما بعد؛ فإني كتبت إليك أعلمك أني صرمت حبلك وقطعت ودك، وأنك قد جعلتني شاهدًا عليك بإقرارك على نفسك في كتابك أنك هجمت على بيت مال المسلمين، فأنفقته في غير حقه وأنفذته بغير حكمه، ولم ترضَ بما فعلته وأنت ناءٍ عني حتى كتبت إلي تشهدني على نفسك، فأما أنا فإني قد شهدت عليك أنا وإخواني الذين حضروا كتابك، وسنؤدي الشهادة غدًا بين يدي الله الحكم والعدل، يا هارون هجمت على بيت مال المسلمين بغير رضاهم، هل رضي بفعلك المؤلفة قلوبُهم والعاملون عليها في أرض الله، والمجاهدون في سبيل الله وابن السبيل؟ أم رضي بذلك حملة القرآن وأهل العلم (يعني العاملين)؟ أم رضي بفعلك الأيتام والأرامل؟ أم رضي بذلك خلق من رعيتك؟»٧٠

فهذا وأمثاله يدل على أن الخلفاء كانوا يهبون ويجيزون ويبذخون ويسرفون من بيت المال.

(٢-٢) تكاثر أبواب النفقة في الدولة

بيَّنَّا في الجزء الأول من هذا الكتاب كيف تدرجت الدولة الإسلامية في إدارتها منذ كان النبي هو الأمير والقاضي والقائد حتى أصبح موظفو الحكومة في أيام الراشدين ستة، وما كان من تزايدهم بتزايد الحضارة واتساع المملكة في أيام بني أمية فبني العباس، وكانت تلك الإدارات تتكاثر عندهم بتكاثر الثروة وميل الخلفاء ورجال دولتهم إلى الترف والرخاء، فأصبحت في أيام الرشيد أكثر منها في أيام المنصور، وفي أيام المأمون أكثر منها في أيام الرشيد، وقس على ذلك تكاثرها في أيام من جاء بعدهم من الخلفاء، فقد قرأت في جريدة المعتضد من أصناف المرتزقين في بلاط الخليفة من الغلمان والمماليك وأصحاب المطابخ والجلساء وأصحاب الركاب، ما لم يكن له ذكر في صدر الدولة العباسية، وقس عليهم أصناف الخدم الخاصة من الأطباء والمغنين والندماء، مما لا يقع تحت الحصر، وكله قد اقتضاه الترف في حضارة الدولة.

وزد على ذلك أن بعض النفقات كانت تصرف أول الأمر من غير بيت المال، فصارت تصرف منه لأسباب كثيرة لا سبيل إلى معرفتها، إذ لم يرد نص صريح بشأنها، وإن كنا نستدل عليها ضمنًا من نصوص كثيرة، مثل ما نراه من الفرق بين جريدة النفقات في أيام المعتضد سنة ٢٧٩ﻫ وبين جريدة علي بن عيسى لعام ٣٠٦ﻫ فإنك تجد في هذه نفقاتٍ لا ذكر لها في تلك، مثل نفقات الحرمين، ورواتب القضاة في المماليك، وولاة الحسبة، وأصحاب البريد في جميع البلاد ونفقات الثغور، فإن هذه الأبواب غير واردة في تلك؛ لأن العمال كانوا يقومون بها من خراج أعمالهم كما أشرنا إلى ذلك، فلما ضعف الخلفاء وتمرد العمال اضطرت الدولة إلى دفعها من بيت مالها.

وقد تقدم في الجزء الأول أن ارتفاع الثغور كان ينفق في مصالحها فلا يرد منه شيء إلى بيت المال، على أنهم كثيرًا ما كانوا يحصلون منها على الأموال الطائلة من الغنائم ونحوها في صدر الدولة العباسية٧١ أما في أيام الاضمحلال فقلت الغزوات، وبطلت الغنائم، وتحمل بيت المال نفقات تلك الثغور، وزادت عما كانت عليه في صدر الدولة حتى بلغت في أيام المقتدر نحو ٥٠٠٠٠٠ دينار، وكانت قبله ١٠٠٠٠٠ دينار، وهو مقدار ارتفاعها الذي ينفق في مصالحها،٧٢ ناهيك بما حدث من نفقات الجند وغيره.

(٢-٣) زيادة الضرائب

ولم تقتصر زيادة النفقات على نشوء إدارات لم تكن من قبل، ولكن الإدارات القديمة زادت نفقاتها عما كانت عليه في أوائل الدولة، وطبيعي أنه إذا كثرت ثروة الدولة وسعت على رجالها وزادت رواتبهم وما يجري لهم من الأرزاق فإذا كانت تلك الدولة مؤسسة على أساس ضعيف لا تلبث أن تنحط ثروتها وتبقى الرواتب كما هي، فيقصر بيت المال في تأديتها فيضطروا إلى فرض الضرائب الفادحة واستخدام العنف في تحصيلها، فتضعف همة الناس عن العمل وتزداد البلاد فقرًا.

كان المسلمون في أيام النبي وأبي بكر يرتزقون مما يقع في أيديهم من الغنائم، فتختلف حصة كل منهم باختلاف مقدار تلك الغنائم، حتى تولى عمر بن الخطاب ووضع الديوان وجعل لكل مسلم راتبًا معينًا في السنة وميزهم باعتبار أنسابهم وقرابتهم من النبي، أو سابقتهم في الإسلام وليس باعتبار ما يؤدونه من الأعمال؛ فقد يكون أحدهم كاتبًا أو عاملًا أو قاضيًا على السواء، فلما تفرعت إدارات الدولة وتميزت لم يَرَوا بدًّا من تعيين الرواتب باعتبار المناصب، فجعلوا لكل من الجندي والعامل والكاتب والحاجب والقاضي وغيرهم راتبًا معينًا، ولما حدثت الوزارة في الدولة العباسية جعلوا لها راتبًا كما جعلوا لسواها من المناصب المستحدثة.

واختلف مقدار راتب كل من هذه المناصب باختلاف الدول والعصور، فلننظر في تاريخ أشهر تلك المناصب باعتبار رواتبها بالنظر إلى ما نحن فيه.

رواتب العمال

كان راتب العامل في أيام عمر ٦٠٠ درهم في الشهر٧٣ ثم اختلف باختلاف العمال والأعمال، فقد جعل عمر لمعاوية على الشام ألف دينار في السنة٧٤ ولما أفضى الأمر إلى بني أمية أصبحت ولاية الأعمال فوضى على ما تقتضيه الأحوال من أطماع العمال بنصرتهم أو التوسيع لهم في النفقة لحرب الخوارج أو العلويين أو غير ذلك، فربما جعلوا الولاية كلها طعمة لا يدفع عنها العامل شيئًا، بل ينالها مكافأة على خدمة قام بها، على أنَّ ذلك كان خاصًّا بالعمال الكبار؛ كعامل العراقين، أو مصر، أو خراسان، وقد بلغ راتب يزيد بن عمر بن هبيرة أمير العراق في أيامهم ٦٠٠٠٠٠ درهم في السنة،٧٥ وبلغت غلة خالد القسري ١٣٠٠٠٠٠٠ درهم،٧٦ وليس هذا الأخير من قبيل الراتب فلا يقاس عليه.
وكان تحت هؤلاء العمال عمال يفرقونهم في أعمالهم، كما كان يفعل الحجاج في العراق، وعمرو بن العاص بمصر، فالعمال الصغار كانت رواتبهم محددة لا تزيد على ٣٠٠ درهم في الشهر،٧٧ وظلت على نحو ذلك في صدر الدولة العباسية إلى أيام المأمون، فزادها وزيره الفضل بن سهل في جملة ما زاده من الرواتب على أثر ما كان من تكاثر الثروة مع رغبة الخليفة في إرضاء نصرائه من أهل خراسان، أما مقدار ذلك الراتب فإنه كان يختلف باختلاف الأعمال؛ لأن العمل قد يقتصر على ولاية صغيرة أو يعقد له على عدة ولايات فتقدر العمالة بقدر اتساعه وأهميته، وباعتبار رضى الخليفة عن عامله ونحو ذلك، فقد عقد المأمون للفضل بن سهل على المشرق من جبل همذان إلى التبت طولًا ومن بحر فارس إلى بحر الديلم (قزوين) وجرجان عرضًا، ويدخل في ذلك كل ما وراء العراق شرقًا إلى الهند وجعل له عمالة قدرها ٣٠٠٠٠٠٠ درهم في السنة، وعقد له لواءً على سنان ذي شعبتين وأعطاه علمًا وسماه ذا الرياستين:٧٨ السيف والقلم، ونقش على سيفه بالفضة من الجانب الواحد «رياسة الحرب»، ومن الجانب الآخر «رياسة التدبير»،٧٩ فعل المأمون ذلك له لما كان من نصرته إياه في خلافه مع أخيه الأمين، فلا يقاس به العمال الذين كانوا يتولون الأعمال الصغرى، ومنهم بضعة عشر عاملًا تحت راية الفضل بن سهل في المشرق، وعمالة هؤلاء تختلف أيضًا باختلاف الولايات، ويظهر أنها كانت تتراوح بين ٣٠٠ و١٠٠٠ درهم قياسًا على ما ذكره ابن حوقل من رواتبهم في أيام منصور بن نوح.٨٠
وأما عمال الولايات الكبرى التي كانت علاقتها رأسًا مع الخليفة، فقد كانت رواتبهم كبيرة جدًّا كما رأيت من راتب الفضل بن سهل، وكانت عمالة الحسين بن علي الماذراني على مصر في أوائل القرن الرابع للهجرة ٣٠٠٠ دينار في الشهر٨١ أو ٦٠٠٠٠ درهم، ومقدار ذلك في السنة ٧٢٠٠٠٠ درهم، وقس على ذلك.
فإذا اعتبرنا هذه الرواتب بالنظر إلى هذه الأيام (سنة ١٩٠٣) رأيناها فاحشة جدًّا؛ لأن الولايات في الدولة العثمانية ثلاث درجات: الدرجة الأولى راتبها ٢٥٠ ليرة عثمانية في الشهر، والثانية ٢٠٠، والثالثة ١٥٠، وراتب عامل إنجلترا على الهند (نائب الملك في الهند) ٢٠٨٣٣ روبية في الشهر٨٢ أي نحو ٢١٨٧٥ جنيه في السنة وهو أعظم رواتب العمال في هذا العهد، ومع ذلك فإنه أقل من راتب الماذراني المتقدم ذكره، ناهيك بما كان يكتسبه عمال الدولة العباسية من الاتِّجار ونحوه.

رواتب الكُتَّاب

وكانت رواتب الكتاب إلى أيام المأمون مثل رواتب العمال الصغار، لا يزيد مقدارها في الشهر على ٣٠٠ درهم، فزادها الفضل بن سهل كما تقدم ولم نقف على مقدار تلك الزيادة، ولكن بالقياس إلى غيرها يجب أن تكون كثيرة، فضلًا عما كانوا يستولون عليه من الأخرجة اليومية.

وقد عدد المقريزي ما كان يستولي عليه كاتب من كتاب مصر على عهد الدولة الفاطمية في اليوم الواحد، من البقولات والتوابل والحلويات والأثمار والفاكهة والعطريات وسائر الأطعمة، ومن الألبسة والأفرشة وما كان يجري من ذلك كله على أولاده وأهله، فاستغرق تعداده نحو صفحتين أو ثلاث صفحات من قطع هذا الكتاب، فاكتفينا بالإشارة إليه تفاديًا من التطويل، ومن أراد التفصيل فليراجعه هناك.٨٣

رواتب الوزراء

الوزارة من محدثات الدولة العباسية، وأول من اشتهر من وزرائها البرامكة، ولم نقف على مقادير رواتبهم، والظاهر أنها كانت كبيرة، فضلًا عن إطلاق أيديهم في بيت المال يقطعون ويصلون كما يتراءى لهم، على أننا قد رأينا في قائمة النفقات في أيام المعتضد أن راتب الوزير دينار في اليوم أو ألف دينار في الشهر، فإذا اعتبرنا تقدير النقود بالنظر إلى قيمة الفضة والذهب في هذه الأيام زاد هذا الراتب على ١٥٠٠ جنيه، وما من وزير يبلغ راتبه إلى هذا المقدار اليوم، فإن راتب الوزير في الدولة العثمانية ٣٠٠ ليرة عثمانية في الشهر، إلا الصدر الأعظم فإن راتبه ألف ليرة، والوزير المصري راتبه ٢٥٠ جنيهًا في الشهر، وراتب أكبر وزراء إنجلترا ٢٠٠٠ جنيه في العام.٨٤
على أن رواتب الوزراء كانت تختلف باختلاف العصور والدول، كان راتب الوزير على أيام الناصر الأندلسي ٨٠٠٠٠ دينار في السنة غير الهدايا٨٥ وكان راتب يحيى بن هبيرة وزير المقتفي في أواسط القرن السادس للهجرة ١٠٠٠٠٠ دينار في السنة٨٦ وكان للوزراء — فضلًا عن رواتبهم المشار إليها — رواتب لأولادهم وإخوتهم وخدمهم وأتباعهم، وأرزاق، ووظائف كثيرة، وخاصة في مصر، فقد كان راتب الوزير في الدولة الفاطمية ٥٠٠٠ دينار في الشهر، ولمن يليه من ولد أو أخ من ٣٠٠ إلى ٢٠٠ دينار، ثم حواشيهم على مقتضى عدتهم من ٥٠٠ إلى ٣٠٠ دينار، ما عدا الإقطاعات٨٧ وغير ما يجري عليه وعلى أهله من المأكولات وسائر حاجيات الحياة، فقد كان للوزير ابن عمار أيام العزيز بالله الفاطمي بمصر من الجرايات لنفسه وأهل حرمه من اللحم والتوابل ما قيمته ٥٠٠ دينار في الشهر، ومن الفاكهة سلة بدينار، وعشرة أرطال شمع بدينار، ونصف حمل بلح٨٨ وكان راتب الوزير في الدولة السلجوقية عشر مغل البلاد.٨٩

رواتب القضاة

كان راتب القاضي في أيام الراشدين مائة درهم في الشهر، ومؤونته من الحنطة،٩٠ ثم ارتقى في أيام بني أمية مثل سائر الرواتب فصار راتب قاضي مصر سنة ٨٨ﻫ ألف دينار في السنة٩١ أي نحو عشرة أضعافه في أيام الراشدين، فلما أفضت الخلافة إلى بني العباس أنزلت الرواتب فصار راتب قاضي مصر في أيام المنصور ٣٠ دينارًا في الشهر، ثم تصاعد في عهد من خلفه حتى بلغ في أيام المأمون (سنة ٢١٣ﻫ) ٤٠٠ درهم في الشهر، أي ٢٧٠ دينارًا، ثم عاد في أيام ابن طولون إلى ألف دينار في السنة.٩٢

وأما في بغداد فلم نطلع على راتب القاضي في أوائل الدولة العباسية، ولكننا رأينا في جريدة المعتضد أن راتب القاضي ١٦ وثلثَا دينار في اليوم أو ٥٠٠ دينار في الشهر — بما فيه أجور عشرة من الفقهاء وخليفة القاضي — ومع ذلك فإنه راتب كبير بالنظر إلى رواتب قضاة هذه الأيام، فإن راتب شيخ الإسلام في الأستانة لا يزيد على ٥٠٠ ليرة عثمانية في الشهر، مع اعتبار الفرق في قيمة النقود بين تلك الأيام واليوم.

رواتب الخلفاء وأهلهم

قد رأيت أن الخلفاء كانوا يفرضون الرواتب لأهل الوزراء والكتاب، فبالأولى أن يفرضوها لأنفسهم وأولادهم، والخليفة هو القابض بيده على بيت المال، لكننا لم نجد قولًا صريحًا في هذا الشأن غير ما كان يأمر به الخلفاء لأهلهم من الضياع أو الأموال، وأكثر ما كانوا يفعلون ذلك في أول الدولة إذا خافوا أهلهم من مناظرتهم على الملك، فكانوا يشترون مبايعتهم بمال يرضون به أهلهم كما فعل المنصور مع عيسى بن موسى، إذ اشترى منه البيعة لابنه المهدي بمبلغ ١١٠٠٠٠٠٠ درهم له ولأولاده٩٣ أو للتوسعة عليهم واستنصارهم كما فعل مع أعمامه فإنه أمر لكل واحد منهم بمليون درهم تدفع إليهم من بيت المال وهو أول من فعل ذلك،٩٤ ويظهر أنها كانت تدفع إليهم في كل عام، ولما توفي ابنه المهدي فرض لأهل بيته كل واحد ٦٠٠٠ درهم في السنة٩٥ والظاهر أنهم بقوا على نحو ذلك فضلًا عما كانوا ينالونه من الهبات الطائلة، وخصوصًا أبناء الخلفاء وولاة عهدهم، فإن الهادي أمر سنة ٢٧٠ﻫ لابنه الرشيد بمليون دينار، وأن يحمل إليه نصف الخراج٩٦ على أثر ما كان من عزمه على خلعه من ولاية العهد.
والظاهر أن الرشيد زاد في رواتب أهله، وكذلك المأمون بالقياس على ما كان من زيادة الرواتب في خلافته، وكان أعضاء العائلة قد زاد عددهم حتى بلغوا في أيامه ٣٣٠٠٠ نفس، ولما توفي المستعين سنة ٢٤٨ﻫ ابتاع من المعتز والمؤيد جميع ما لهما وأشهد عليهما بذلك، وترك للمعتز ما يتحصل منه في السنة ٢٠٠٠٠ دينار، وللمؤيد ما يتحصل منه ٥٠٠٠ دينار وحبسهما.٩٧
فلما كانت أيام ابن رائق أمير الأمراء في أوائل القرن الرابع للهجرة، كفت أيدي الخلفاء عن بيت المال، وصار إلى رجال الدولة، وأول من كفت يده الراضي بالله الذي توفي سنة ٣٣٩ﻫ واستبد القواد ورجال الدولة في الأموال وصار الخلفاء في حاجة إلى الراتب بعد ما ذهبت سيطرتهم عن بيت المال فقرروا لهم راتبًا زهيدًا.٩٨
ويظهر أن الخلفاء لم تكن لهم قبل ذلك رواتب معينة، غير ما كان يصيبهم من الغنائم بحسب الشرع، إلا أبا بكر فقد فرضوا له ٦٠٠٠ درهم لما يصلحه ويصلح عياله بالمعروف٩٩ ثم لم نَرَ ذكرًا لرواتب الخلفاء إلى أيام ابن رائق، فلما استولى معز الدولة الديلمي على بغداد سنة ٣٣٤ﻫ فرض للخليفة المستكفي ٥٠٠٠ درهم كل يوم لنفقاته، ولكنه قلما كان يدفعها إليه،١٠٠ ثم كان ما كان من فقر الخلفاء مما يأتي ذكره في حينه.
وفرض الأعطية للملوك وأهلهم عادة جارية عند معظم الأمم الآن، والغالب في الدول المتمدنة أن تكون تلك الرواتب معينة في مميزاتها، وهاك رواتب العائلة المالكة في إنجلترا لعام ١٩٠٢:
رواتب العائلة المالكة في إنجلترا لعام ١٩٠٢
جنيه إنجليزي
٦٣٠٠٠٠
١١٠٠٠٠ راتب الملك
١٢٥٨٠٠ راتب خدم القصر
١٩٣٠٠٠ نفقات القصر
٤١٢٠٠ نفقات أخرى وتبرعات
٤٧٠٠٠٠ (جملة مخصصات الملك)
١٦٠٠٠٠ رواتب سائر أعضاء العائلة
وهذه رواتب العائلة الخديوية لعام ١٩٠٢:
جنيه مصري
٢٥٥٣٦١
١٠٠٠٠٠ مخصصات الخديو
٩٧٩٢٧ مرتبات العائلة الخديوية
٥٧٤٣٤ نفقات كابينة الخديو

ولسلطان تركيا راتب مقداره في الشهر ٧٥٠٠٠ ليرة عثمانية، أو ٩٠٠٠٠٠ ليرة في السنة ما عدا النفقات والمخصصات (عام ١٩٠٢).

رواتب حاشية الخليفة

ونريد بحاشية الخليفة الموظفين المتعلقة أعمالُهم بشخص الخليفة، وليس بأعمال الدولة كالأطباء والحجاب والحرس الخاص، ورواتبهم من بيت مال الخاصة، وقد يكون لهم رواتب من بيت مال العامة، وكانت كبيرة، نستدل على ذلك من مخصصات جبريل بن بختيشوع طبيب الرشيد، ومنها رواتب نقدية كان يؤخذ بعضها من بيت مال العامة، والبعض الآخر من بيت مال الخاصة، وإليك راتب جبريل المذكور في السنة كما وجدوه مدونًا بخط كاتبه:١٠١
مرتبات جبريل بن بختيشوع طبيب الرشيد في السنة
درهم
٤٩٠٠٠٠٠ (الجملة)
من بيت مال العامة
١٢٠٠٠٠ راتب نقدي
٦٠٠٠٠ النزل
١٨٠٠٠٠ (المجموع)
من بيت مال الخاصة
٥٠٠٠٠ راتب نقدي
٥٠٠٠٠ ثياب قيمتها
٥٠٠٠٠ هدية على عيد صوم النصارى
١٠٠٠٠ هدية على يوم الشعانين (ثيابًا قيمتها هذا المبلغ)
٥٠٠٠٠ هدية على عيد الفطر نقدًا
١٠٠٠٠ هدية على عيد الفطر (ثيابًا قيمتها ذلك المبلغ)
١٠٠٠٠٠ لفصد الرشيد دفعتين في السنة كل دفعة ٥٠٠٠٠
١٠٠٠٠٠ لشرب الدواء دفعتين في السنة كل دفعة ٥٠٠٠٠
٤٢٠٠٠٠ (المجموع)
من أصحاب الرشيد نقدًا وثيابًا وأطيابًا
٥٠٠٠٠ درهم من عيسى بن جعفر
٥٠٠٠٠ درهم من زبيدة أم جعفر
٥٠٠٠٠ درهم من العباسية
٣٠٠٠٠ درهم من إبراهيم بن عثمان
٥٠٠٠٠ درهم من الفضل بن الربيع
٧٠٠٠٠ درهم من فاطمة أم محمد
١٠٠٠٠٠ كسوة وطيب ودواب
٤٠٠٠٠٠ (المجموع)
من البرامكة
٦٠٠٠٠٠ من يحيى بن خالد
١٢٠٠٠٠٠ من جعفر بن يحيى الوزير
٦٠٠٠٠٠ من الفضل بن يحيى
٢٤٠٠٠٠٠ (المجموع)
٨٠٠٠٠٠ غلته من ضياعه
٧٠٠٠٠٠ من فضل مقاطعته
فجملة رواتبه فقط ٤٩٠٠٠٠٠ درهم في العام، فإذا جمع ذلك في مدة خدمته كلها وهي ٢٣ سنة كان مقدار ما قبضه من مال الدولة العباسية ١١٢٧٠٠٠٠٠ درهم يخرج منها ما قطع عنه من مرتبات البرامكة بعد نكبتهم في العشر السنين الأخيرة، وهو ٢٤٠٠٠٠٠٠ درهم؛ فالباقي ٨٨٧٠٠٠٠٠ درهم، وهو جملة ما اكتسبه من بيت المال غير الصلات الجسام، وأما ما أنفقه فهو:
درهم
١٢٨٦٠٠٠٠٠ والمجموع في الأصل ٩٠٠٠٠٠ دينار و٩٠٦٠٠٠٠٠ درهم
٢٧٦٠٠٠٠٠ جملة نفقاته على نفسه وبيته في ٢٣ سنة بمعدل ١٢٠٠٠٠٠ درهم في السنة
٧٠٠٠٠٠٠٠ ثمن دور وبساتين ومتنزهات ودواب ورقيق وغيرها
٨٠٠٠٠٠٠ ثمن آلات وأجر وصناعات ونحو ذلك
١٢٠٠٠٠٠ ما صار في ثمن ضياع ابتاعها لخاصته
٥٠٠٠٠٠ ثمن جواهر وما أعده للذخائر
٣٠٠٠٠٠٠ ما أنفقه في البر والصلات والمعروف
٣٠٠٠٠٠٠ ما كابره عليه أصحاب الودائع وجحدوه (أي أنكروه)
وَقِسْ رواتبَ سائرِ الحاشيةِ على هذه النسبة في تلك الأيام، فقد كانت غلة صاحب حرس الرشيد ٣٠٠٠٠٠ درهم في السنة، وغلة صاحب شرطته ٥٠٠٠٠٠ درهم، وغلة حاجبه ١٠٠٠٠٠٠ درهم في السنة.١٠٢

رواتب الجند

بيَّنا في باب الجند من الجزء الأول كيف كان المسلمون كلهم جندًا، وذكرنا ما فرضه لهم عمر من الرواتب باعتبار النَّسَب والسابقة، وكيف تضاعفت رواتبهم في أوائل بني أمية ثم نقصت في أواخرها، ثم زادت في أوائل بني العباس، ثم نقصت حتى صارت في أيام المأمون ٢٤٠ درهمًا في السنة للجنديِّ الرَّاجِلِ (النفر) فضلًا عن حصته من الغنائم إذا غزا، ويظهر أن تلك الحصة من الغنائم كانوا يحسبونها عن الجند في صدر الدولة العباسية، حتى طلبوا من محمد الأمين سنة ١٩٨ﻫ أن يردها عليهم إذا غزوا فردها فأصاب الرجل ستة دنانير.١٠٣
ولما قامت الفتنة بين الأمين والمأمون كان كل منهما يرغِّبُ جندَه فيه بالأعطيات، فلما فاز جند طاهر بن الحسين على جيش علي بن عيسى بن ماهان سنة ١٩٥ زاد المأمون أعطيات جند طاهر حتى جعل راتب الواحد ثمانين درهمًا في الشهر (٩٦٠ درهمًا في السنة)١٠٤ أي أنه أعادها إلى ما كانت عليه في أيام السفاح، فلما انتهت الفتنة عادت إلى ٢٤٠ درهمًا.

الأفشين وبابك

فلما أفضت الخلافة إلى المعتصم سنة ٢١٨ﻫ وكان ما كان من اقتنائه الأتراك والفراغنة والمغاربة وتجنيدهم، وضعف الخلفاء للأسباب التي قدمناها، أصبح مرجع القوة في كل شيء إلى الجند، وكانت فاتحة ذلك النفوذ استفحال أمر بابك الخرمي في أرمينيا وأذربيجان، وكان بابك قد ظهر في أيام المأمون يدعو الناس إلى دين جديد أساسه الحلول أي تقمص الأرواح١٠٥ فبعث إليه المأمون جنودًا هزمهم غير مرة، فلما تولى المعتصم جعل همه قمع بابك؛ لأنه أصبح خطرًا على ملكه فبعث إليه أتراكه بقيادة رجل منهم اسمه الأفشين حيدر بن كاووس سنة ٢٢٠ﻫ ثم أردفه بآخر اسمه بغا الكبير ومعه المال، وآخر اسمه جعفر الخياط ثم أنفذ إليه إيتاخ ومعه ٣٠٠٠٠٠٠٠ درهم لنفقات الجند، وبعد حروب سنتين فاز الأفشين وقبض على بابك بحيلة بذل فيها المال.
وجاء ببابك إلى سامرَّا فخرج الواثق بن المعتصم وسائر أهل المعتصم لاستقباله باحتفال، وهم لا يصدقون أنهم نجوا من بابك على يده؛ لأنه كان قد أمعن في البلاد نهبًا وقتلًا، فقتل في عشرين سنة ٢٥٥٥٠٠ نفس وغلب على معظم قواد المأمون والمعتصم، فلما قبض الأفشين عليه أمر المعتصم أن يركبوه على الفيل، فأركبوه واستشرفه الناس وكان بابك عظيم الجثة، ثم أدخلوه على المعتصم في دار فأمر سياف بابك نفسه أن يقطع يديه ورجليه فقطعها، فسقط بابك فأمره بذبحه ففعل وشق بطنه وأنفذ رأسه إلى خراسان وصلب بدنه في سامرا، وكان ذلك اليوم يومًا مشهودًا أمن فيه المعتصم على ملكه وعرف ذلك الفضل للأفشين ورجاله، وكان لا ينفك عن مواصلة الأفشين بالعطايا والخلع من يوم خروجه إلى يوم رجوعه، فكان يرسل إليه كل يوم خلعة وفرسًا ويدفع إليه في أثناء إقامته بإزاء بابك (سوى الأرزاق والأنزال والمعاون) عن كل يوم يركب فيه عشرة آلاف درهم وعن كل يوم لا يركب فيه خمسة آلاف درهم، ولما عاد الأفشين تقدم المعتصم بنفسه وألبسه وسامين مرصعين بالجوهر ووصله بعشرين مليون درهم: عشرة ملايين منها لنفسه وعشرة يفرقها في عسكره، وعقد له على السند وأدخل عليه الشعراء يمدحونه.١٠٦
فالأفشين لم يثبت في محاربة بابك إلا طمعًا في المال، مع ما كان يواصله به المعتصم من الخلع والأموال في أثناء الحرب، ثم ما دفعه إليه عند رجوعه، وكان الأفشين يرسلها كلها إلى بلاده حتى وهو في دار الحرب، فكان إذا اجتمع إليه مال من غنيمة أو هدية بعث به رأسًا إلى بلدة أشروسنة فيما وراء النهر بطريقة سرية، فيجتاز حملة المال بخراسان فيعلم بهم عاملها ابن طاهر فيكتب إلى المعتصم بشأنهم، المعتصم يأمره أن يطلعه على كل ما يراه من هذا القبيل، فأنفذ الأفشين مرة مالًا كثيرًا جعله في أواسط أصحابه في الهمايين فبعث ابن طاهر ففتشهم فوجد المال فقال: «من أين لكم هذا المال؟» قالوا: «للأفشين» فأخذه وأظهر أن الأفشين لا يفعل ذلك وإنما هم لصوص، فوقعت الوحشة من يومئذ بين ابن طاهر والأفشين حتى آل الأمر إلى حبسه، وقد تبين من محاكمته أنه لم يعتنق الإسلام إلا طمعًا في المال وأنه لا يزال على المجوسية.١٠٧

•••

وقس على ذلك سائر جند المعتصم، فإنهم إنما كانوا يحاربون لمجرد كسب الأموال وحملها إلى بلادهم في أقصى الشرق — فكيف تستقيم دولة هذا جندها؟ — على أن الخلفاء لم يكونوا يجدون بدًّا من استنصارهم، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالمال، فكانوا يبذلون لهم الرواتب الكبيرة غير ما يهبونهم إياه من الهدايا ونحوها اقتداءً بما كان يفعله المعتصم معهم؛ لأنه بنى لهم سامرا، وأقطعهم فيها الإقطاعات، واشترى لهم الجواري فأزوجهم منهن، ومنعهم أن يتزوجوا أو يصاهروا أحدًا من المولدين، إلى أن ينشأ لهم الولد فيتزوج بعضهم إلى بعض، وأجرى للجواري الأتراك أرزاقًا قائمة، وأثبت أسماءهن في الدواوين، فلما يكن يقدر أحد منهم على أن يطلق امرأته ولا أن يفارقها.١٠٨
فإذا اعتبرت هذه النفقات مع أرزاق الرجال، وما قد يحتاجون إليه من المؤونة والأخرجة كان المجموع عظيمًا جدًّا، قال الطبري في حوادث سنة ٢٥٢ﻫ: «وذكر أن أرزاق الأتراك والمغاربة والشاكرية قدرت في هذه السنة، فكان مبلغ ما يحتاجون إليه في السنة ٢٠٠٠٠٠٠٠٠ دينار، وذلك خراج المملكة كلها لسنتين.»١٠٩ ونظن أن المراد ٢٠٠٠٠٠٠٠٠ درهم (لا دينار)؛ إذ يستبعد أن يجتمع هذا القدر من الخراج دنانير في سنتين؛ لأننا لو حولناها إلى دراهم باعتبار الدينار عشرين درهمًا — وهي قيمته في ذلك الحين — لكان خراج المملكة في السنة ٢٠٠٠٠٠٠٠٠٠ درهم، وقد رأينا خراجها في إبان ثروتها لا يزيد على ٤٠٠٠٠٠٠٠٠ درهم، فإنفاق ٢٠٠ مليون درهم على الجند في سنة واحدة أمر عظيم جدًّا، وخصوصًا إذا اعتبرنا قيمة النقود في تلك الأيام، ولكنه لا يعد شيئًا بالنظر إلى نفقات الجند في هذه الأيام (سنة ١٩٠٣)؛ لأن التمدن الحديث اقتضى الاحتياط والتجنيد وإعداد المعدات، حتى كثرت نفقات الجند كثرة فاحشة وخصوصًا إذا أضفنا إليها نفقات الأساطيل، فإنجلترا مثلًا تنفق على جنديتها برًّا وبحرًا نحو ٤٠٠٠٠٠٠٠ جنيه في السنة، وفرنسا تنفق نحو هذا المبلغ، وكذلك روسيا، وهو مع اعتبار قيمة النقود بالنسبة إلى تلك الأيام لا يزال يعادل ضعفي ما كان ينفقه العباسيون تقريبًا، ولكننا أعظمنا ما أنفقوه بالنظر إلى ما كان من طرق إنفاق الجند عندهم.

ناهيك بما كان يرتكبه الجند العباسي من اغتصاب أموال الناس في منازلهم وحوانيتهم لأقل سبب يحدث، والخلفاء لا يعدون ذلك ذنبًا لهم، بل ربما عنَّفوا الناس لأنهم لم ينقلوا سلعهم وأمتعتهم إلى مكان لا يعرفه الجند.

على أن الخلفاء كانوا ينشطون مطامع الجند فيهم، بما كانوا يشرطونه على أنفسهم من المال إذا هم فعلوا لهم الأمر الفلاني حتى في ساحة الحرب، فكانوا إذا احتدم القتال وخاف الخليفة أو الأمير ضعفًا صاح في جنده: «من جاء بأسير فله عشرة دنانير، ومن جاء برأس فله خمسة دنانير.» كما فعل المقتدر سنة ٣٢٠ﻫ.١١٠

أما رواتب الجند العباسي، أي ما كانوا يتقاضونه قدرًا معينًا في العام، فقد تبين من قائمة نفقات الدولة في أيام المعتضد — على ما مر في هذا الكتاب — أن أرزاق الجند من الفرسان والمماليك ونحوهم لا تزيد على ١٥٠٠٠٠٠ دينار أو ٣٠٠٠٠٠٠٠ درهم، ثم استفحل أمر الجنود الأتراك بتوالي الأعوام وتعددت فرقهم، وتزايدت رواتبهم مما لا يمكن حصره؛ لأنه يختلف باختلاف الأزمان والأحوال فضلًا عن سكوت المؤرخين في هذا الشأن إلا ما قد يتناولونه عرضًا.

فقد بلغ عدد فرقة الرجالة المصافية (أي الحرس) الملازمين لدار الخليفة المقتدر سنة ٣١٧ﻫ ٢٠٠٠٠ رجل، بلغت رواتبهم ١٢٠٠٠ دينار في الشهر، أي ستة دنانير لكل واحد، وكان عدد الفرسان ١٢٠٠٠ فارس رواتبهم في كل شهر ٥٠٠٠٠٠ دينار، وذلك نحو ٤٢ دينارًا لكل واحد، أو نحو ١٢٠٠٠ درهم في السنة للفارس، و١٤٤٠ درهمًا للراجل، وكانوا مع ذلك كثيرًا ما يثورون ويطلبون الزيادات ويهددون الخليفة بالقتل إذا لم يجبهم١١١ وتداخلوا في منازل الخلفاء، ووضعوا أيديهم على الخلافة، وصاروا يولون من شاءوا، وإذا أتت الأموال اقتسموها فيما بينهم لا يتركون منها للخليفة أو الديوان إلا القليل، كما فعل أتامش وشاهك في أيام المستعين بالله سنة ٢٤٩ﻫ.١١٢
وكما كان القواد يطمعون في الخلفاء ويستبدون بهم كانوا أيضًا يستأثرون بالأموال دون أفراد الجند حتى لقد ثار هؤلاء مرارًا على قوادهم وطالبوهم بالأموال وهددوهم، وإذا لم يروا منهم إصغاءً وتلبيةً قتلوهم، كما فعلوا بالقائد وصيف سنة ٢٥٣ﻫ؛ فإن الأتراك والفراغنة والأشروسنية شغبوا وطلبوا أرزاقهم لأربعة أشهر فخرج إليهم بغا ووصيف وسيما فكلمهم وصيف بالجفاء وقال لهم: «خذوا التراب، ليس عندنا مال!» فوثب عليه بعضهم وقتلوه١١٣ وكثيرًا ما تظلموا للخلفاء، وشكوا مما صار إليه قوادهم من الإقطاعات التي قد أجحفت بالضياع والخراج، وما صار إلى كبرائهم من المَعَاون والزيادات في الرسوم القديمة بالإضافة إلى ما كان ينفق في أرزاق النساء والدخلاء الذين قد استغرقوا أكثر أموال الخراج١١٤ حتى طلبوا التخلص منهم وعرضوا أن يقود الجند أخو الخليفة.

رواتب الجند الآن

على أننا إذا اعتبرنا رواتب الجند الإسلامي على اختلاف عصوره من أيام الراشدين إلى أواخر الدولة العباسية، وقسناها برواتب جنود هذه الأيام (سنة ١٩٠٣) رأيناها تزيد عليها زيادة فادحة، فقد رأيت أن راتب الجندي في أيام الراشدين تراوح بين ٣٠٠ و٥٠٠ درهم في السنة، ثم صار أيام بني أمية ألف درهم، وتقلب في أيام العباسيين حتى صار في أيام المقتدر ١٤٤٠ درهمًا للراجل، و١٢٠٠٠ درهم للفارس في السنة، تلك رواتب أفراد الجند (الأنفار) عندهم مع أن راتب النفر في الدولة الإنجليزية للراجل شلن وللفارس شلن و٩ بنسات في اليوم، ومقدار ذلك في السنة نحو ٤٥٥ درهمًا (حوالي ١٩٩٠ قرشًا مصريًّا) للراجل و٣٥ جنيهًا مصريًّا للفارس، على أن رواتب الجند عندهم تختلف في كل من المشاة والفرسان باختلاف الفرق، ولكنها في كل الأحوال عظيمة بالنظر إلى رواتب الجند في الدول الأخرى، وأما بالنظر إلى الدولة العباسية فإنها صغيرة وخصوصًا إذا اعتبرنا قيمة النقود في الحالتين.

ومن أسباب كثرة نفقات الجند اليوم كثرة الضباط وكبر رواتبهم، وإن كنا لا نعلم مقدار رواتب ضباط تلك الأيام وهم القواد، وهاك رواتبَ الجند الإنجليز من أكبر الضباط إلى النفر (العسكري) في اليوم١١٥ ثم رواتب الجندين العثماني والمصري:
رواتب الجند الإنجليز في اليوم بالجنيه والشلن والبنس (سنة ١٩٠٣)
المشاة الفرسان
بنس شلن جنيه بنس شلن جنيه
٨ ٨ الجنرال (المشير)
١٠ ٥ ١٠ ٥ الفريق
٣ ٣ اللواء
١٨ ٦ ١ ١ أميرالاي
١٨ ٦ ١ ١ قائمقام
٧ ١٣ ١٥ بكباشي
٧ ١١ ١٣ يوزباشي
٦ ٦ ٦ ٧ ملازم أول
٣ ٥ ٨ ٦ ملازم ثانٍ
١ ٩ ١ النفر
رواتب الجند العثماني في الشهر (سنة ١٩٠٣) رواتب الجند المصري في الشهر (سنة ١٩٠٣)
قرش عثماني قرش مصري
٢٥٠٠٠ المشير المشير (لا يوجد)
١٠٠٠٠ الفريق ٧٥٠٠ الفريق
٦٠٠٠ اللواء ٦٥٠٠ اللواء
٢٠٠٠ أميرالاي ٤٧٠٠ أميرالاي
١٨٠٠ قائمقام ٣٠٠٠ قائمقام
١٢٠٠ بكباشي ٢٥٠٠ بكباشي
٧٠٠ قولاغاسي ١٥٠٠ صاغقو لاغاسي (هو الصاغ اليوم)
٥٠٠ يوزباشي ٩٠٠ يوزباشي
٢٥٠ ملازم أول ٦٠٠ ملازم أول
٢٠٠ ملازم ثانٍ ٥٠٠ ملازم ثانٍ
٢٠ نفر ٣٠ نفر

رواتب أخرى

كانت سياسة الملك في تلك العصور تقتضي استرضاء بعض الناس ممن يخاف الخلفاءُ أقلامَهم أو ألسنتَهم أو أحزابَهم؛ لأن المملكة لم تكن تخلو من دعاة يطلبون الخلافة لأنفسهم من العلويين أو الخوارج أو غيرهم، والملك لا يخلو من حُسَّاد يترقبون فرصةً للانتقام، وكان للخطابة والحماسة يومئذ تأثير على الرأي العام أكثر مما للصحافة في هذه الأيام، فالخلفاء العقلاء كانوا يؤثرون ملافاة شرور المقاومين بالإحسان إليهم أو الرفق بهم، فيقطعون ألسنتهم بالجوائز الوقتية أو بالرواتب الجارية، كما يفعل ملوك هذه الأيام بالصحافة، فإن بعضهم يدفع الرواتب السنوية إلى أرباب الصحف في مقابل سكوتهم عنه، والبعض الآخر يبتاع مساعدتهم في إنهاض الهمم أو جمع كلمة الأحزاب، فالشعراء والخطباء ونحوهم كان شأنهم في تلك الأيام مثل شأن الصحافة اليوم، فلا غرابة إذا بذل الخلفاء الأموال لاسترضائهم.

وأول من فعل ذلك في الإسلام معاوية بن أبي سفيان، فكان يسمع التقريع بأذنه ولا يجازي عليه إلا بالعطاء، ولذلك كانوا يعبرون عن إجازة الشاعر بقطع لسانه١١٦ وكان يفعل ذلك بالشعراء والوجهاء وغيرهم، وسار الخلفاء بعده على خطواته وفرضوا الأعطية لرؤساء الأحزاب من بني هاشم والطالبيين ونحوهم، وصاروا يهبون الأموال لمن يخافونهم على سلطانهم، وأكثر ما كان الخلفاء يهبونه من الجوائز والعطايا للوفود والشعراء إنما كان يُعْطَى لنحو ذلك الغرض.
وكانوا يفرضون الرواتب أحيانًا لأناس يرجون نصرتهم على مناظريهم في الملك، كما فعل العزيز بالله الفاطمي سنة ٣٨١ﻫ بعلي بن الحسين من آل المغربي لما جاءه من بغداد، فإنه جعل له ٦٠٠٠ دينار في السنة وسماه من شيوخ الدولة١١٧ وقد يفرضونها لطبقات الناس من أهل العوز، كما فعل الإخشيد بمصر في أوائل القرن الرابع للهجرة، فإنه فرض للضعفاء والمستورين من أبناء النعم وأجناس الناس (ليس فيهم أحد من الجيش ولا من الحاشية ولا من المتصرفين بالأعمال) رواتب بلغ مقدارها في أيام كافور الإخشيدي ٥٠٠٠٠٠ دينار في السنة،١١٨ فلا بد من أن يكون مثل هذه الرواتب في الدولة العباسية.
ناهيك برواتب الحاشية والأعوان ونحوهم، ممن تندرج رواتبهم في نفقات الدولة؛ فقد رأيت أنها كانت كبيرة، ومن هذا القبيل حواشي الأمراء والعمال والوزراء وغيرهم، وقد يبلغ عددهم عند بعضهم بضعة آلاف١١٩ أو تزيد.

عدد أيام الشهور

شرعت الدولة العباسية في زيادة الرواتب في إبان ثروتها، ولم تكن تشعر بثقل تلك الزيادة لوفرة الأموال الواردة على بيت المال، ثم ما لبثت أن رأت الجباية تتناقص ولم يعد في إمكانها إنقاص الرواتب بعد أن تعوَّدَ أصحابُها الإسرافَ والبذخَ واقتناءَ الخدمِ والمماليكِ اقتداءً بخلفائهم، ولم يعد في الإمكان كذلك إقالتهم خوفًا من غضبهم، فعمد الوزراء إلى حيلة حسنة اقتصدوا بها شيئًا كثيرًا من المال، وذلك أنهم جعلوا الرواتب مياومة، فإذا أرادوا تخفيض بعضها وكان مقدار الراتب ألف دينار في الشهر مثلًا، فبدلًا من أن يجعلوه ٨٠٠ دينار يبقونه على ما كان ويزيدون أيام ذلك الشهر فيجعلونها أربعين يومًا أو خمسين، فأصبح لكل فئة من الموظفين تقريبًا شهر خاص يختلف عدد أيامه عن أيام أشهر الآخرين.

فقائمة نفقات المعتضد المنشورة في هذا الجزء يختلف شهر كل من أصحاب الرواتب فيها عن شهر غيره، فالغلمان الذين أعتقهم الناصر كانت أيام شهورهم أربعين يومًا، فأساءوا الأدب في مطالبة كانت منهم فجعلها خمسين يومًا، ثم لما تولى المعتضد جعلها ستين يومًا، والفرسان الأحرار والمميزون كانت شهورهم خمسين يومًا فجعلها تسعين ونسبوا إلى التسعينية، ثم جعل شهور بعضهم ١٢٠ يومًا، وأشهر المختارين سبعون يومًا، وأشهر الفرسان المثبتين ١٢٠ يومًا، وكذلك المرتزقة برسم الشرطة بمدينة السلام والسقايين وقس عليهم سائر الموظفين في هذه القائمة وغيرها، فالذي راتبه ألف دينار في الشهر إذا جعل شهره ١٢٠ يومًا كأنه تنزل إلى الربع، وكثيرًا ما كان يعجز بيت المال عنها ويقصر عن تأديتها شهرًا بعد شهر حتى يثور الجند، فإما أن يخلعوا الخليفة، أو يقتلوه، ويفوز بالخلافة صاحب المال.

(٢-٤) النفقة على البيعة

رأيت فيما تقدم أن الخلفاء في أوائل الدولة العباسية كانوا يحتاجون في تأييد بيعتهم إلى استرضاء أهل الحرمين، وكانوا يحملون إليهم الأموال ويبذلون لهم الأعطية، ويفرقون فيهم الهدايا، فلما ضعف شأن العرب بعد المعتصم، وقوي جند الأتراك أهمل أمر الحرمين، وصارت القوة إليهم أو بالأحرى إلى المال؛ لأن الأتراك إنما يحاربون مع المال، وصارت مبايعة الخلفاء راجعة إلى رضاهم، أو إلى من يدفع المال إليهم، على أن الخلفاء كانوا من أوائل الدولة يسترضون الجند ويكرمونهم بالهدايا عند كل بيعة، ويسمون ما يدفعونه إليهم في هذه السبيل «حق البيعة»، فلما تولى الأمين فرق في الجند رزق ٢٤ شهرًا١٢٠ ولولا ذلك لم يحكم شهرًا واحدًا، ولما أراد المأمون أن يبايع لعلي الرضا صرف للجند راتب شهر على أن يصرف لهم الباقي إذا أدركت الغلة١٢١ فلم يقبلوا ولعله لو عجل لهم بالمال لبايعوا لمن شاء، وكان بنو أمية يعطون في مقابل البيعة ولاية عمل يجعلونها طعمة عدة سنين، كما فعل عبد الملك بن مروان مع عبد الله بن خازم سنة ٧٢ﻫ وكان عبد الملك يحارب ابن الزبير في مكة ويخاف منه، فبعث إلى ابن خازم المذكور يدعوه إلى بيعته ويطعمه خراسان سبع سنين.١٢٢
وأما بعد أيام المعتصم، فأصبحت البيعة تجارة ينالها صاحب المال أو صاحب الجند والمعنى واحد، وكان الجند يسرون بخلع الخلفاء طمعًا في المال؛ لأنهم كلما تولى خليفة طالبوه بحق البيعة ورزق ستة أشهر أو سنة أو أكثر أو أقل على قدر مطامعهم١٢٣ وهناك من أمثال هذه المطالبات ما لا يعد ولا يحصى، فتراجع في تاريخ الخلفاء العباسيين، فانشغل الخلفاء بذلك عن سياسة المملكة، واختلت الأحكام، وأصبح همهم منصرفًا إلى حفظ أرواحهم واستبقاء ضياعهم، وصارت البلاد فوضى للجند، أو لمن يستطيع استخدامهم، وانشغل الناس عن الزراعة والتجارة، وأهملت الأعمال بوجه الإجمال.

•••

وزاد أهل البلاد شقاءً أن قواد الجند كانوا إذا أعوزهم المال، ولم يكن في بيت المال ما يكفي، استخرجوه من الأهالي، وكثيرًا ما كان يحدث ذلك في أثناء الحروب بين فرق الجند في تنازعهم على تولية أحد الخلفاء، فقد نهب جند الديلم أموال الناس في بغداد في أثناء الخصام بين ناصر الدولة ومعز الدولة سنة ٣٣٤ﻫ بشأن الخليفة المطيع لله، وكان مقدار ما نهبوه من أموال المعروفين فقط ١٠٠٠٠٠٠٠ دينار١٢٤ ولما عين الخليفة المستكفي «شير زاد» أميرًا للأمراء في تلك السنة، زاد هذا أعطيات الجند زيادة كثيرة على جاري عادتهم عند كل بيعة، لكنه لم يجد في بيت المال ما يعطيهم، فقسط الأموال على العمال والكتاب والتجار وغيرهم، وظلم الناس، فظهرت اللصوص في بغداد، وأخذوا الأموال نهبًا، ففر التجار وأصبحت البلاد فوضى.١٢٥
فآل ذلك وأمثاله إلى تتابع الإحن على البلاد، فتقاعد أهل المدن عن العمل، كما تقاعد أهل القرى عن الزرع، وغلت الأسعار، وتوالى الجوع أعوامًا على مدن العراق، وخصوصًا بغداد، فكثر اللصوص وصاروا طوائفَ عديدةً، لا عمل لهم إلا النهب عند سنوح الفرصة، وخصوصًا في أثناء الفتن، ومنهم العيارون والشطار، ولم يجد الخلفاء ما يستأجرون به جندًا لدفع الفتن أو إخماد الثورات، على أنهم كثيرًا ما كانوا يمسكون عن دفع المال، ولو كان في خزائنهم؛ لأنهم يرون النفوذ لسواهم، كما حدث للمقتدر سنة ٣٢٠ﻫ فإنه أمسك عن دفع الأموال وهي عنده وعند والدته، حتى آل الأمر إلى قتله بمساعي مؤنس الخادم، فكان ما فعله مؤنس سببًا لجرأة أصحاب الأطراف على الخلفاء وطمعهم فيهم١٢٦ حتى تجرأوا على نهبهم ومصادرتهم كما حدث للمطيع سنة ٣٦١ إذ سطا جند الروم من جهة الجزيرة حتى بلغوا نصيبين، وسبوا وأحرقوا ففر أهلها إلى بغداد يستنجدون الخليفة وجنده وأهل المدينة، فشغب الناس وخافوا فطلب بختيار (صاحب الأمر يومئذ هناك) إلى الخليفة أن يدفع المال للنفقة على الغزاة لمحاربة الروم، فقال المطيع: «إن الغزاة والنفقة عليها وعلى غيرها من مصالح المسلمين تلزمني إذا كانت الدنيا في يدي، وتجبى إليَّ الأموال، وأما إذا كانت حالي هذه فلا يلزمني شيء، وإنما يلزم مَن البلاد في يده، وليس لي إلا الخطبة فإذا شئتم أن أعتزل فعلت.» فلم ينفعه ذلك الاحتجاج فاضطر إلى بيع ثيابه وأنقاض داره وغير ذلك لدفع ٤٠٠٠٠٠ درهم، فشاع الخبر أن الخليفة صودر، على أن المال المذكور لم ينفق في الغزاة وإنما أنفقه بختيار في مصالحه،١٢٧ وما أشبه حال الخلفاء العباسيين مع جندهم الأتراك بحال سلاطين آل عثمان مع جندهم الانكشارية في القرن الثامن عشر وبعيده، ولا ندري كيف كان يصير حالهم لو لم ينكبهم السلطان محمود الثاني سنة ١٨٢٦.
فلم يبق في الدولة العباسية، والحالة هذه مصدر للمال للقيام بنفقات مصالحها واستبقاء جندها؛ لأن الفتن أقعدت الناس عن العمل فخربت البلاد، ولكن الجند لا بد منه لحفظ السلطة، فلما استولى معز الدولة بن بويه على بغداد في خلافة المطيع شغب الجند عليه وأسمعوه المكروه فضمن لهم إيصال أرزاقهم، ولما أعجزه ذلك من طريق الحلال، اضطر إلى ضبط الناس وأخذ أموالهم من غير وجوهها فلم يغنه ذلك شيئًا، فارتأى أن يسلم القرى والضياع إلى قواده ورجاله ليزرعوها ويستغلوها، فسلم إليهم ضياع الخلافة وضياع أصحاب الأملاك فبطل لذلك أكثر الدواوين وزالت أيدي العمال، وكانت البلاد قد خربت للأسباب التي قدمناها، فاستأثر القواد بالقرى العامرة فزادت عمارتها وتوفر دخلها بسبب الجاه والنفوذ، وأخذ الأتباع القرى الخربة فزادت خرابًا فردوها وطلبوا غيرها، وأهملوا الاهتمام بمشارب القرى وتسوية طرقها، فهلكت وبطل كثير منها، وأخذ غلمان المقطعين في تحصيل العاجل بالظلم، وبالجملة فقد تعذر على معز الدولة بهذه الطريقة جمع ذخيرة للنوائب والحوادث، وكان قد أكثر من إعطاء غلمانه الأتراك والزيادة لهم في الإقطاع، فحسدهم الديلم فزادت الوحشة والمنافرة عما كانت عليه بينهما.١٢٨

(٢-٥) استئثار رجال الدولة بالأموال لأنفسهم

إذا بلغت الدولة إلى قمة ثروتها، وانغمس الملك في الترف والقصف، وتقاعد عن مباشرة الأحكام بنفسه، تحول النفوذ إلى المحيطين به، أو الذين ينوبون عنه، أو يتوسطون بينه وبين الناس، كالوزير، والعامل، والكاتب، والحاجب، والقائد، وأصبح الأمر والنهي في أيديهم، فيستأثرون بالأموال لأنفسهم يجمعون منها ما استطاعوا، فيسرفون ويبذخون على ما تقتضيه أحوالهم وأطوارهم، ولا يكون ذلك إلا في الدولة المطلقة التي ليس على أعمالها مراقب ولا محاسب، فمن ينوب عن الملك من الوزراء أو الكتاب أو الحجَّاب في عصر الترف والتقاعد يكون له مثل ذلك من النفوذ، وخصوصًا في مثل الدولة العباسية؛ لأن وزراءها وكتابها من أمة لم تقم دولتهم إلا بها، ولم يَزْهُ تمدنهم إلا بعلمائها، ولذلك كان للوزراء في هذه الحالة الكلمة النافذة، والسيف القاطع، حتى في إبان تمدنها، اعتبر ما كان من نفوذ البرامكة في أيام الرشيد، وما كان من إحرازهم الأموال لأنفسهم، حتى كان الرشيد يحتاج إلى اليسير من المال فلا يقدر عليه١٢٩ فلما غلوا يديه عما كانت تتطلبه نفسه من الترف والاستبداد١٣٠ نكبهم على ما هو مشهور، كما نكب المهدي قبله وزيره يعقوب بن داود، وكان قد استوزره وسلم إليه الأمور، وفوض إليه الدواوين، وانشغل المهدي عنه باللهو وسماع الأغاني، فعظم ذلك على الناس، وخصوصًا العرب، فهجوا يعقوب، ومن ذلك قول بشار بن برد:
بني أمية هبوا طال نومكم
إن الخليفة يعقوب بن داود
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا
خلافة الله بين الناي والعود١٣١

ووشى بعض الناس إلى المهدي بذلك فاستدعاه، وقبض عليه وسجنه وظل في سجنه أعوامًا طوالًا.

وكما اتفق للمأمون مع يحيى بن أكثم القاضي عندما عهد إليه بتدبير مملكته وأكرمه نحو إكرام الرشيد للبرامكة١٣٢ ولكنه لم يكن راضيًا عنه لأشياء لم تعجبه منه، ولذلك فلما دنت وفاة المأمون أوصى أخاه المعتصم قائلًا: «لا تتخذن وزيرًا تلقى إليه شيئًا؛ فقد علمت ما نكبني به يحيى بن أكثم في معاملة الناس وخبث سيرته.»١٣٣ وكان العرب يكرهون الوزراء خصوصًا لأنهم في الغالب من الفرس، وكانوا يصفونهم بالجبن والبخل وقبول الرشوة، قال أعرابي يصف وزيرًا:
ومظهر نسك ما عليه ضميره
يحب الهدايا بالرجال مكور
أخال به جبنًا وبخلًا وشيمة
تخبر عنه إنه لوزير١٣٤
على أن الوزراء كثيرًا ما كانوا يمنعون المال عن الخلفاء ضنًّا ببيت مال المسلمين أن يذهب في الإسراف لا طمعًا فيه لأنفسهم، كما اتفق للواثق مع وزيره ابن الزيات؛ إذ أعجبه صوت غنته إياه جارية اسمها «علم» فأمر لصاحبها بخمسة آلاف دينار، فمطل ابن الزيات في دفعها فغضب الواثق وأمره أن يدفع ضعف ذلك المال، فدفع إليه ١٠٠٠٠ دينار.١٣٥

وكان الوزراء يزدادون نفوذًا واستئثارًا بالمال بزيادة ضعف الخلفاء، حتى صارت معظم الأموال إليهم.

الوزراء

بلغ من ثروة الوزراء ما يشبه ثروة الخلفاء أو بيت المال في أيام الازدهار، كأن الأموال تحولت من بيت المال إلى بيوت هؤلاء الناس، وصارت الوزارة مطمح أنظار أهل المطامع، يبذلون الرشى ويقدمون الهدايا رغبة فيها، على أنها كثيرًا ما كانت تعرض عرضًا على من يقوم بنفقات الجند١٣٦ ولكن الغالب أن تبذل الأموال في سبيل الحصول عليها إما رأسًا إلى الخليفة، كما فعل ابن مقلة إذ بذل ٥٠٠٠٠٠ دينار حتى استوزره الراضي في أوائل القرن الرابع للهجرة، وكما فعل ابن جهير إذ ابتاع الوزارة من القائم بأمر الله بمبلغ ٣٠٠٠٠ دينار،١٣٧ أو بواسطة واحد من خاصة الخلفاء يستخدمونه بالمال، وهم لم يكونوا يفعلون ذلك إلا لاعتقادهم أنهم يسترجعون في أثناء وزارتهم أضعاف ما بذلوه، بما تصل إليه أيديهم من الرشوة، من تولية العمال والنظار والكتاب وغيرهم.

ومن غريب ما يحكى عن ارتشاء الوزراء أن الخاقاني وزير المقتدر بلغ من سوء سيرته في قبول الرشوة أنه ولَّى في يوم واحد تسعة عشر ناظرًا للكوفة، وأخذ من كل واحد رشوة، فانحدروا واحدًا واحدًا حتى اجتمعوا جميعًا في بعض الطريق، فقالوا: «كيف نصنع؟» فقال أحدهم: «ينبغي إن أردتم النصفة أن ينحدر إلى الكوفة آخرنا عهدًا بالوزير، فهو الذي ولايته صحيحة؛ لأنه لم يأتِ بعده أحد.» فاتفقوا على ذلك فتوجه الرجل الأخير نحو الكوفة وعاد الباقون إلى الوزير ففرقهم في عدة أعمال، وهجاه بعض الشعراء بقوله:

وزير لا يمل من الرقاعه
يولي ثم يعزل بعد ساعه
ويدني من تعجل منه مال
ويبعد من توسل بالشفاعه
إذا أهل الرشى صاروا إليه
فأحظى القوم أوفرهم بضاعه١٣٨

وكانت الأموال ترد على الوزراء من العمال وغيرهم من موظفي الدولة ضريبة في كل عام بصفة هدية استبقاء لرضاهم.

على أن بعضهم، وهو نادر، لم يكن يقبل الرشوة، ولا يعمل إلا بالحق، مثل عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل على الله فإنه كان عفيفًا، ذكر الفخري أن صاحب مصر حمل إليه ٢٠٠٠٠٠ دينار وثلاثين سفطًا من الثياب المصرية على عادته مع غيره من الوزراء، فلما أحضرت بين يديه قال لوكيل صاحب مصر: «لا والله لا أقبلها ولا أثقل عليه بذلك.» ثم فتح الأسفاط وأخذ منها منديلا وضعه تحت فخذه وأمر بالمال فحمل إلى خزانة الديوان وصحح بها وأخذ به دورًا لصاحب مصر.١٣٩
ومن الوزراء الذين اشتهروا بالعفة وصدق الخدمة علي بن عيسى وزير المقتدر، وهو صاحب جريدة الخراج التي نشرناها في هذا الجزء، ولا يخلو أن يكون غيرهم قد أخلص الخدمة، ولكن يقال بالإجمال إن الوزراء في عصر التقهقر العباسي قلما كانوا يتولون الوزارة إلا طمعًا في اختزان الأموال، فإن أبا الحسن بن الفرات وزر للمقتدر ثلاث دفعات: الأولى سنة ٢٩٦ﻫ بقي فيها ثلاث سنين، فكان مقدار ما اجتمع عنده من المال يساوي ٧٠٠٠٠٠٠ دينار أُخِذت كلها مصادرة، ثم عاد إلى الوزارة سنة ٣٠٤، وخُلع سنة ٣٠٦، ثم عاد ثالثة سنة ٣١١، وخُلع سنة ٣١٢، فمجموع المدة التي مكث بها في الوزارة في الدفعتين الأخيرتين نحو ثلاث سنوات، فكان عنده لما خلع أخيرًا ما يزيد على ١٠٠٠٠٠٠٠ دينار، وضِياع يستغل منها كل سنة ٢٠٠٠٠٠٠ دينار١٤٠ ومع ذلك لم يذكره المؤرخون بسوء لفرط كرمه وإحسانه، وكان إذا ولي الوزارة يغلو الثلج والشمع والكاغد لكثرة استعماله له؛ لأنه ما كان يشرب أحد كائنًا من كان في داره في الفصول الأربعة إلا الماء المثلوج، ولا كان أحد يخرج من عنده بعد الغروب إلا وبين يديه شمعة كبيرة نقية، وكان في داره حجرة معروفة بحجرة الكاغد كل من دخلها واحتاج إلى شيء منه أخذه١٤١ وكان يطلق لأصحاب الحديث عشرين ألف درهم، وللشعراء عشرين ألف درهم، ولأصحاب الأدب ٢٠٠٠٠ درهم، وللفقهاء ٢٠٠٠٠ درهم، وللصوفية ٢٠٠٠٠ درهم.١٤٢
وكان يجري الرزق على خمسة آلاف من أهل العلم والدين والبيوت والفقراء، وأكثرهم تبلغ نفقته ١٠٠ دينار في الشهر، وأقلهم خمسة دراهم وما بين ذلك١٤٣ فغطى الكرم طمعه، كما غطى طمع البرامكة قبله، وقطع ألسنة الشعراء وكسر أقلام المؤرخين.
وهناك كثيرون من الوزراء جمعوا أموالًا طائلة، وانغمسوا في أنواع الترف والبذخ، وذلك طبيعي في الدول المنتظمة على الطرق القديمة؛ لأن الوزراء كانوا يجمعون الأموال الكثيرة حيثما كانوا في العراق أو في مصر أو الأندلس، فقد خلَّف المادرائي وزير بني طولون بمصرَ من الضياع الكبار ما لم يملكه أحد قبله إلا في النادر وارتفاعها ٤٠٠٠٠٠ دينار كل سنة سوى الخراج، وقد وهب وأعطى وأفضل وحج ٢٧ حجة أنفق في كل منها ١٥٠٠٠٠ دينار.١٤٤
ويعقوب بن كلس أول وزراء الفاطميين كان في جملة أملاكه إقطاع في الشام دخله ٣٠٠٠٠٠ دينار في السنة، وخلَّف أملاكًا وضياعًا وقياسرة ورباعًا وخيلًا وبغالًا ونوقًا وغير ذلك ما قيمته ٤٠٠٠٠٠٠ دينار، غير ما أنفقه في تجهيز ابنته وهو ٢٠٠٠٠٠ دينار، وخلَّف ٨٠٠ حظية سوى جواري الخدمة، وأربعة آلاف غلام عُرِفوا بالطائفة الوزيرية١٤٥ وخلَّف الأفضل أمير الجيوش وزير المستنصر الفاطمي ما لم يُسمع بمثله وذلك ٦٠٠٠٠٠٠٠ دينار عينًا١٤٦ و٢٥٠ إردب دراهم من نقد مصر، و٧٥٠٠٠ ثوب ديباج أطلس، و٣٠ راحلة إحقاق ذهب عراقي، ودواة ذهب فيها جوهر قيمته ١٢٠٠٠، ومائة مسمار من ذهب وزن كل مسمار مائة مثقال في عشرة مجالس في كل مجلس عشرة مسامير، على كل مسمار منديل مشدود مذهب بلون من الألوان أيما أحب لبسه، و٥٠٠ صندوق كسوة ما عدا الخيل والبغال والماشية والجواري والعبيد مما لا يحصيه عد.١٤٧
وقس على ذلك أحوال الوزراء في الأندلس، فإن هدية الوزير ابن شهيد لعبد الرحمن الناصر سنة ٣٢٧ﻫ تدل على مقدار تلك الثروة، فقد أوردها ابن خلدون والمقري وفصلها هذا الأخير تفصيلًا حسنًا في ثلاث صفحات كبيرة.١٤٨
وحدث نحو ذلك في الدولة العثمانية في إبان ثروتها وبعيدها، فكان الوزراء يقتنون الضياع الواسعة ويحتالون في استغلالها بأن يوقفوها على بعض المساجد بشرط أن يستولي ورثتهم على معظم ريعها ليخلصوا أنفسهم من خراجها أو عشورها.١٤٩

•••

وأما الأبواب التي كان وزراء الدولة العباسية يتكسبون منها تلك الأموال فكثيرة، من جملتها قبول الرشوة في التوظيف كما تقدم، وما يرد عليهم من هدايا العمال للسبب نفسه، ومنها اغتصاب الضياع بما لهم من النفوذ فيستولون على ما شاءوا بغير حساب، ناهيك بما كانوا يمدون إليه أيديهم من أموال الخراج الواردة إلى الديوان، وقد تقدم أن طرق دفاتر تلك الأيام لم تكن تمنع الاختلاس أو تظهره.

ومن أبواب الكسب أيضًا أن بعض الموظفين كانوا يحتاجون إلى رواتبهم، وهم مشغولون بما هم فيه من الخدمة، ولا سبيل لهم إلى المال، فكان بعض الوزراء يقيم من قبله أناسًا يشترون توقيعات أرزاق أولئك الموظفين بنصف قيمتها، ثم يقبضها هو كاملة١٥٠ وكانوا يفعلون نحو ذلك أيضًا في رواتب الفقهاء وأرباب البيوت، فكأنهم يقاسمون الناس على أنصاف رواتبهم، وهو اتِّجار برواتب الموظفين، فضلًا عن اتجارهم بالأرزاق وعما كانوا يكتسبونه ممن يضمن بلدًا أو خراجًا على سبيل الرشوة أو الاقتسام، وما كانوا يغتصبونه من التجار بنفوذهم وإغضاء الخلفاء عنهم١٥١ وكانوا يسمون ما يكتسبه الوزراء على هذه الصورة «مرافق الوزراء» وكانت مشهورة بين الناس، ومن مرافقهم أيضًا تنقيص عيار النقود، فكانوا يضربون الدنانير ناقصة فيربحون من ذلك مالًا طائلًا.١٥٢

تلك كانت حال الوزراء وفي أيديهم الحل والعقد، ومع ذلك فالخلفاء هم المطالبون بأرزاق الجند، وقد علمت ما كان من أمر الأتراك واستبدادهم بالخلفاء ومطالبتهم بالأموال لأرزاقهم ونفقاتهم، فلم يكن يرى الخلفاء سبيلًا إلى ذلك إلا بمطالبة الوزراء، فإذا لم يدفعوا أخذوا المال منهم بالقوة وهو ما يعبرون عنه بالمصادرة، وكانت رائجة في عصر التقهقر، إذ لم يكن من سبيل إلى سد نفقات الدولة إلا بها، ولا يكاد يتولى وزير إلا انتهت وزارته بالمصادرة أو بالقتل أو بهما جميعًا.

المصادرة

هي قديمة في الإسلام تتصل بعصر الراشدين، وكان العمال أول من وقعت عليهم المصادرات، فكانوا إذا اكتسبوا مالًا من تجارة أو سبيل آخر غير مرتباتهم المفروضة أخذ الخلفاء نصفه وأضافوه إلى بيت المال، كذلك فعل عمر بن الخطاب بعمَّاله على الكوفة والبصرة والبحرين١٥٣ وكانوا يسمون ذلك مقاسمة أو مشاطرة، فلما أفضت الأمور إلى بني أمية وكان ما كان من استبداد عمالهم وطمعهم في أموال الجباية، أصبح الخلفاء في أواخر الدولة لا يعزلون عاملًا من عمله إلا حاسبوه على ما عنده من المال، واستخرجوا ما تصل إليه أيديهم، وكانوا يسمون ذلك «استخراجًا».

ولما تسنم العباسيون منصة الخلافة كان معظم العمال في أوائل الدولة من إخوتهم وأعمامهم، ولم يكن ثمة ما يدعو إلى الاستخراج أو المقاسمة ولو ساءت سيرة بعضهم، ثم انتقلت الأعمال إلى رجال الدولة من غير أهلهم، فجنح العمال إلى الطمع والعنف في استخراج الأموال، فعمد الخلفاء إلى مصادرة أموالهم لاسترجاع ما استولوا عليه من غير وجه الحق.

حتى في أيام المنصور، فكان لا يعزل عاملًا إلا قبض ماله وتركه في بيت مال مستقل سماه «بيت مال المظالم»،١٥٤ وتكاثر تعدي العمال في أيام المهدي (سنة ١٥٨–١٦٩ﻫ) فاضطر هذا الخليفة إلى النظر في المظالم، وما هي إلا مظالم العمال، ثم نظر فيها بعده الهادي فالرشيد فالمأمون إلى المهتدي في أواسط القرن الثالث.

ومما نبه الخلفاء إلى مظالم العمال أن الوزراء كانوا يباشرون الأعمال نيابة عن الخلفاء، وكان هؤلاء يستشيرونهم فيمن يولونه من العمال، فربما استمعوا إليهم وربما خالفوهم، وخصوصًا البرامكة فإنهم كانوا إذا استشارهم الخليفة في ولاية عامل بيَّنوا له ما يعلمونه من أمره، ويتركون الأمر للخليفة بعد ذلك يقضي فيه بما يريد، ومن هذا القبيل أن الرشيد استشار وزيره يحيى بن خالد في تولية علي بن عيسى بن ماهان على خراسان فأشار عليه ألا يفعل، فخالفه الرشيد وولاه إياها، فلما شخص علي إليها ظلم الناس وجمع مالًا كثيرًا ووجه إلى الرشيد هدايا من الخيل والرقيق والثياب والمسك والأموال لم ير مثلها قط، فلما وصلت الهدايا إلى الرشيد أعجب بها وكان يحيى إلى جانبه فقال له الرشيد: «يا أبا علي، هذا الذي أشرت علينا ألا نوليه هذا الثغر، فقد خالفناك فيه فكان في خلافك البركة!» فقال: «يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداءك، أنا وإن كنت أحب أن أصيب في رأيي وأوفق في مشورتي، فإني أحب أن يكون رأي أمير المؤمنين أعلى وفراسته أثقب وعلمه أكثر من علمي، إن لم يكن وراء ذلك ما يكره، إن هذه الهدايا ما اجتمعت لهذا العامل حتى ظلم فيها الأشراف، وأخذ أكثرها ظلمًا وتعديًا، ولو أمرني أمير المؤمنين لأتيته بضعفيها الساعة من بعض تجار الكرخ.»

قال الرشيد: «وكيف ذلك؟» قال: «قد ساومنا عونًا على السفط الذي جاء به من الجوهر فأعطيناه به ٧٠٠٠٠٠٠ فأبى أن يبيعه، فابعث إليه الساعة بحاجبي يأمره أن يرده إلينا لنعيد فيه نظرنا، فإذا جاء به جحدناه وربحنا ٧٠٠٠٠٠٠، ثم كنا نفعل بتاجرين من كبار التجار مثل ذلك.»١٥٥ وفي كلام يحيى دليل صريح على ما كان يستطيعه الوزراء والعمال من جمع الأموال بلا حساب.

وقد رأيت أن الطمع تطرق إلى العمال، حتى في أيام الزهو العباسي، ولكن البرامكة أخلصوا المشورة فغلوا أيدي العمال عن الظلم، فلما نكب البرامكة كان فيمن جاء بعدهم من الوزراء المخلص وغير المخلص، فأطلقت أيدي العمال وأحرزوا الأموال لأنفسهم، وكانوا يسترضون الوزراء بالرشوة — كما تقدم — حتى استفحل أمرهم واكتنزوا الأموال الطائلة.

العمال

وغنى العمال ميسور في تلك العصور بالنظر إلى استقلالهم في إدارتهم وشؤونهم، وخصوصًا عمل الاستيلاء الفوضوي في كل شيء، وأبواب الكسب عندهم كثيرة: منها أن العامل إذا جاء فأول شيء يتوقعه أن يحمل إليه الناس الهدايا، وفيها من الدواب والجواري والأموال والثياب ما يبلغ مقداره شيئًا كثيرًا١٥٦ وقد يترك ذلك في مقابل ما يقدمه العمال من أمثال هذه الهدايا إلى الخليفة أو الوزير أو القهرمانة أو الكاتب أو الحاجب أو غيرهم من حاشية الخلفاء١٥٧ على أنهم كانوا يكسبون من مصادر أخرى كالاتجار بأصناف البضائع والأخشاب وغيرها١٥٨ ناهيك بما كانوا يخترعونه من صنوف الضرائب وتحصيل بعضها مرتين أو ثلاث مرات تبعًا لما تقتضيه حاجتهم إلى المال في إرضاء الوزراء، أو لادخاره والانتفاع به عند الاعتزال من المنصب، ومن أوسع أبواب الضرائب كسبًا لهم المكوس على التجارة، فقد ذكر المقدسي أن ثلث أموال تجار اليمن كان يذهب إلى السلطان١٥٩ وكانوا يأخذون على حمل الحنطة هناك نصف دينار.

•••

ومن أبواب الكسب للمال أن ينفق العامل على بناء بيت أو جسر أو على حفر ترعة أو نهر ألف دينار مثلًا، ويطالب بعشرة آلاف أو مائة ألف، وربما قدروا ما ينفقون فيه عشرة دنانير بستين ألف دينار١٦٠ فضلًا عن اغتصاب الضياع وغيرها١٦١ وما قد يجتمع لهم من فروق الأموال التي يقبضونها من الخراج بين الفضة والذهب، فهل من عجب بعد ذلك إذا بلغت أموال محمد بن سليمان عامل الرشيد على البصرة ٥٠٠٠٠٠٠٠ درهم، سوى الضياع والدور والمستغلات؟ وكان محمد هذا يغل كل يوم ١٠٠٠٠٠ درهم١٦٢ وبلغت أموال علي بن عيسى بن ماهان ٨٠٠٠٠٠٠٠ درهم،١٦٣ فلم ير الرشيد إلا الجنوح إلى الاستخراج وهو المصادرة.
وكان الغالب في بادئ الرأي أن يقبضوا أموال العمال بعد موتهم، كما فعلوا بمحمد بن سليمان المذكور، ثم صاروا يستخرجون أموالهم وهم أحياء كما فعل الرشيد بعلي بن عيسى، فإنه عزله واستصفى أمواله المذكورة، وحملها مع خزائنه وأثاثه على ١٥٠٠ جمل، غير ٢٠٠٠٠٠٠٠ درهم كان ابنه عيسى بن علي قد دفنها في بستان بداره في بلخ.١٦٤

مصادرة الوزراء

على أن مصادرة العمال لم يطل أمرها لاستقلالهم بأعمالهم بعد قليل، فأصبح المطلوب منهم لبيت المال في الغالب مالًا معينًا في العام على سبيل الضمان ونحوه، وتحولت الثروة المغتصبة إلى الوزراء، وفسدت النيات فلم يجد الخلفاء سبيلًا لسد عوز بيت المال إلا بمصادرتهم، وكان الخلفاء لا يرون في ذلك جورًا ولا شدة لاعتبارهم ما في أيديهم مختلسًا من حقوق بيت المال.

بدأت مصادرة الوزراء في الدولة العباسية من أولها، ولكنها كانت في أول الأمر على سبيل النكبة، والغرض منها الانتقام من الوزير لجريمة سياسية أو للتخلص منه لغرض آخر، ومن هذا القبيل مقتل أبي سلمة الخلال أول وزراء بني العباس، فبعد أن أيد دعوتهم بأمواله كما أيدها أبو مسلم الخراساني بسيفه وُشِيَ إلى السفاح أنه ينوي إخراج الدولة من أيديهم، فأوعز إلى أبي مسلم فقتله، ثم أصاب أبا مسلم من المنصور مثلُ تلك النكبة، ويقال نحو ذلك في نكبة البرامكة في أيام الرشيد، والفضل بن مروان في أيام المعتصم، وفي نكبة الفضل هذا رغبة في قبض أمواله؛ لأن المعتصم نكبه سنة ٢٢١ﻫ وأخذ من داره ١٠٠٠٠٠٠ دينار، وأثاثًا وآنية قيمتها ١٠٠٠٠٠٠ دينار١٦٥ ولما تمكن الاضمحلال من الدولة صار الغرض من مصادرة الوزراء مجرد الاستحواذ على أموالهم.

•••

وبلغت المصادرة معظمها في أيام المقتدر (سنة ٢٩٥–٣٢٠ﻫ)؛ لأن الوزراء استخفوا به لصغر سنه وأفضى تدبير الأمور في صدر أيامه إلى أمه ونسائه وخدمه، فكانت دولته تدور أمورها على تدبير النساء والخدم، فخربت الدنيا وخلت بيوت الأموال وخُلع وأُعيد ثم قُتل١٦٦ وكثر تبديل الوزراء في أيامه وكثرت مصادراتهم، وأولهم ابن الفرات، وزر له ثلاث مرات، وقد تقدم ذكر ما احتشده من الأموال وقد صودر، فأخذت كلها منه، وخلفه الخاقاني وكان سيئ السيرة — كما تقدم — ثم علي بن عيسى، وكان فاضلًا ورعًا حاول إصلاح الأمور فلم يستطع لتمكن الفساد من عروق الدولة ثم حامد بن عباس وكان قاسي القلب في استخراج الأموال.
ووزر له أبو علي محمد بن عبيد الله الخاقاني وأحمد بن عبيد الله أحمد بن الخصيب، ومحمد بن علي بن مقلة صاحب الخط الحسن المشهور، وسليمان بن الحسن بن مخلد، وعبيد الله بن محمد الكلوذاتي، والحسين بن القسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب١٦٧ وما من وزير إلا وقبض أو صودر فأخذت أمواله وسجن أو قتل، وكثرت المصادرات في أيام المقتدر لغير الوزراء حتى القضاة والنساء والخدم، وربما زاد مجموع ما قبضه من المصادرة على ٤٠٠٠٠٠٠٠ دينار، على أنهم قدروا جملة ما أنفقه من الأموال تبذيرًا وتضييعًا في غير وجه نيفًا و٧٠٠٠٠٠٠٠ دينار، سوى ما أنفقه في الأمور غير الواجبة١٦٨ وقس على ذلك أحوال سائر الوزراء.

فأصبحت المصادرة بتوالي الأيام المرجع الرئيسي في تحصيل المال، فالعامل يصادر الرعية، والوزير يصادر العمال، والخليفة يصادر الوزراء ويصادر الناس على اختلاف طبقاتهم، على أن الخلفاء لم يكونوا يعمدون إلى المصادرة إلا عند حاجتهم إلى المال لأرزاق الجند أو لغيرها من نفقات الدولة، كما تعمد دول أوربا اليوم إلى عقد القروض لسد ما يعرض لها من النفقات اللازمة لحرب أو مشروع كبير.

وكان الخلفاء يعتبرون أموال أولئك الوزراء أو العمال حقًّا لبيت المال قد اغتصبوه، فاسترجاعه لا يُعَدُّ جورًا أو إجحافًا، وقد نجاهم ذلك من أثقال الدين الأهلي الذي تئن تحت عبئه معظم دول العالم المتمدن اليوم، فيذهب نحو ربع دخلها أو ثلثه في وفائه أو استهلاكه، وتضطر إلى استنباط الضرائب من أجل ذلك حتى أصبحت تلك الدول — وخصوصًا إنجلترا — تكلف الناس جعلًا على كل عمل يرجون به كسبًا.

الكُتَّاب

وهناك فئات أخرى من موظفي الدولة كانوا يستأثرون بأموالها، ومنهم كتاب الخراج ويهون ذلك عليهم؛ لأنهم يباشرون مصادر الجباية رأسًا.

وقد كانوا يطمعون في تلك الأموال في أيام بني أمية فما بعدها، ولكنهم لم يُشَعْ أمرُهم ويُخْشَ شرُّهم إلا في عصر التقهقر العباسي، فأمر الواثق سنة ٢٢٩ﻫ بحبس الكتاب وإلزامهم مالًا كثيرًا استخرجه منهم بالعنف١٦٩ وفعل نحو ذلك المعتز سنة ٢٥٥ﻫ،١٧٠ ومن الكتاب الذين اشتهروا بالغنى من مهنة الكتابة بيت المادرائي بمصر.١٧١

ولم يكن الغنى خاصًّا بكتاب الدواوين، بل كان يتناول كل كاتب من كتاب أهل الخلفاء وغيرهم، وكانت أكثر أموالهم تؤخذ بالرشوة والاختلاس، حتى اشتهروا بالظلم كما اشتهر الوزراء، وهجاهم الشعراء كما هجوا هؤلاء، من ذلك قول بعضهم وهو يمدح أحد الأمراء بالحزم والسهر على مصلحة الدولة:

هو ما علمت من الأمير فما الذي
تزداد منه وفيه لا يرتاب
لا تتقي الأجناد في أيامه
فقرًا ولا يرجو الغنى الكتاب

وقال ابن حبيبات الشاعر الكوفي يهجو الوزير والكاتب معًا:

ونجا خالد بن برمك منها
إذْ دعوه من بعدها بالأمير
أسوأ العالمين حالًا لديهم
من تسمى بكاتب أو وزير١٧٢
وكان من أبواب الكسب عند الكتاب ارتشاؤهم للتوسط في تولية العمال أو سواهم، كما فعل أحمد بن أبي خالد الأحول كاتب المأمون في توسطه لدى المأمون بتولية طاهر بن الحسين خراسان، وقد شرط له على نجاحه في ذلك ٣٠٠٠٠٠٠ درهم١٧٣ وكان كتاب الدواوين في الولايات يشاركون العمال فيما يأتيهم من الهدايا، أو من الرشوة وقد يقاسمونهم على النصف.١٧٤

الحجاب

وكانت ثروة المملكة عرضة لمطامع كل من كانت له دالة أو وساطة لدى ولاة الأمر، وخصوصًا الحجاب الذين يقفون بأبواب الخلفاء فإنهم من أكثر الناس دالة عليهم، فكانوا كثيرًا ما يستخدمون تلك الدالة واكتساب الأموال من تقديم الداخلين أو تأخيرهم والإذن لهم أو منعهم، فكانوا يرتشون للتعجيل في الإذن بالدخول على الخلفاء، وكان ذلك شأنهم حتى في عصر الراشدين، قال المغيرة بن شعبة: «ربما عرق الدرهم في يدي أرفعه ليسهل إذني على عمر.»١٧٥ وكثيرًا ما كانوا يتوسطون في تولية المناصب بالرشوة، كما توسط الربيع حاجب المنصور ليعقوب بن داود بمنصب الوزارة برشوة مقدارها ١٠٠٠٠٠ دينار،١٧٦ ويقال نحو ذلك في كل من يتوفق إلى دالة على الخليفة أو الأمير ولو كان خادمًا.

(٣) الخلاصة

وخلاصة ما تقدم أن الدولة العباسية لما غلب الجند على أمرها واستبد قواد الأتراك بها، تحولت ثروتها من بيت مالها إلى أيدي رجالها ممن ينوبون عن الخليفة أو يتوسطون بينه وبين الرعايا، كالعمال، والوزراء، والكتاب، والحجاب، ونحوهم، وأصبح الخلفاء لا يستطيعون استبقاء حكومتهم إلا باغتصاب أموال أولئك الموظفين، فكانوا كالذي يغتذي بأكل لحمه فآل ذلك إلى انحلال أمر الخلافة بعد أن بلغت غاية الضعف.

وقد يتبادر إلى الأذهان أن لثقل الضرائب دخلًا كبيرًا في سقوط الدولة العباسية، وقد رأيت أن الضرائب كانت ثقيلة في عصر الازدهار العباسي، عصر الثروة والعلم، ولم يكن الناس يشكون ثقلًا، بل ساءت حالهم منذ خفضت الضرائب، ولم يكن ذلك لأن تخفيض الضرائب يسوء الناس، ولكن تخفيضها في تلك الأيام قلل مصادر الثروة الواردة إلى بيت المال فزادت حاجة أصحاب المطامع من رجال الدولة، وكانت الأحوال قد اختلت بفساد النيات للأسباب التي ذكرناها، فزال الأمن واختل النظام العام، فتقاعد الناس عن العمل وقلت إيراداتهم وعجزوا عن إشباع مطامع رجال الدولة، فعمد هؤلاء إلى العنف في استخراج الأموال، فتعاظم الاضطراب وتضاعف الضيق في الناس حتى سئموا الحياة في دولة لا يأمنون فيها على أرواحهم ولا أموالهم.

ولو كانت كثرة الضرائب تخرب المماليك لكانت إنجلترا من أقرب الدول إلى الخراب؛ لما فيها من أصناف الضرائب التي لم يحلم بها العرب ولا خطرت ببالهم؛ لأنها فضلًا عن ضرائبها على المحصولات والواردات على اختلاف أصنافها، تقاسم الناس أرباحهم فتأخذ ضريبة على الإيراد وجعلًا على أية مهنة يريد الناس تعاطيها حتى المحاماة والطب في مقابل الإذن لهم في الاشتغال بها، والجعل المذكور ثقيل يختلف فيمن ينال أية رتبة من رتب القضاء من خمسين جنيهًا إلى عشرين، وقس على ذلك رسوم الأطباء والصيادلة والمحامين حتى الخطباء والوعاظ، وهناك ضرائب أخرى على معاملات المصارف وعلى أوراقها وعقودها وعلى الزواج والطلاق، وغير ذلك فيجتمع لها من هذه الرسوم أموال كثيرة.

وأما ضرائب الإيراد عند الإنجليز فإنها تشمل كل عمل يتكسب منه الناس حتى الوعاظ والخطباء، فكيف بأصناف التجارات والصنائع والبنوك وغيرها؟ والدولة الإنجليزية كلما احتاجت إلى مال عدلت ميزانيتها بزيادة الضرائب وخصوصًا على الإيراد، وأكثر ما تكون حاجتها إلى المال في حالة الحرب كما فعلت بميزانية سنة ١٩٠١ في أثناء حرب الترنسفال، فقد قدرت دخلها لذلك العام بمبلغ ١١٧٠٠٠٠٠٠ جنيه، وخرجها بمبلغ ١٥٤٠٠٠٠٠٠، والفرق بينهما ٣٧٠٠٠٠٠٠ سددت معظمه بزيادة الضرائب، وكانت ضريبة الإيراد ثمانية بنسات على الجنيه أي نحو ٣ وثلث في المائة، فجعلتها شلنًا في كل جنيه أي خمسة في المائة، فكان مقدار ما اجتمع لها من تلك الزيادة نحو ٩٠٠٠٠٠٠ جنيه، وفرضت ضريبة إضافية على البيرة بلغت حصيلتها ١٧٥٢٠٠٠ جنيه، وضريبة على سائر الخمور حصيلتها ١٠١٥٠٠٠ جنيه، وعلى التبغ ١١٠٠٠٠٠، وعلى الشاي ١٨٠٠٠٠٠جنيه وغير ذلك، فلما انقضت الحرب عمدت الحكومة إلى رفع تلك الإضافات، فخفضت ضريبة الإيراد أربعة بنسات أي أنها أرجعتها إلى ما كانت عليه، فقلَّت حصيلة الحكومة من الإيراد ٨٥٠٠٠٠٠ جنيه، وخفضت أيضًا ضرائب القمح وغيره.

وجملة القول أن إنجلترا مع كثرة ضرائبها وما أثقل كاهلها من الديون، فإنها تعد من أثبت الدول قدمًا وأوفرها ثروة، فتخفيض الضرائب لا شك أنه رحمة للناس، ولكن زيادتها لا تدعو إلى الخراب، وإنما يدعو إلى خراب الممالك «الظلم»؛ فإنه يقوض أركان الدول بما يدعو إليه من تقييد الأيدي عن العمل فيقعد الزارع عن زراعته، والتاجر عن تجارته، والصانع عن صناعته، ولا مال إلا إذا اشتغل هؤلاء، ولذلك قالوا: «العدل أساس الملك!»

•••

فالدولة العباسية لما أصبحت بعد المعتصم غنيمة للأجناد الغرباء يحملون أموالها إلى بلادهم، وأصبح الوزراء والعمال إنما يعملون لحشد الأموال، وأمسى الخليفة لا سلطان له حتى في قصره، وبين غلمانه وجواريه، تجمعت تلك الأثقال على رؤوس الرعية؛ لأن الجباية منهم، فطالبوهم بها بدون أن يساعدوهم على استغلالها فساءت حالهم كما علمت، أما دول هذه الأيام فأساس نظامها الحرية الشخصية، والمبادئ الاقتصادية، فلا يطالب أحد من الناس إلا بما يقتنع هو أنه حق صريح، وإلا فإنه يتظلم وظلامته مسموعة، وسنعود إلى هذا البحث في بعض الأجزاء التالية.

هوامش

(١) الفخري ١٩٨ وابن الأثير ١٤٧ ج٦ والطبري ١٠٣٩ ج٣.
(٢) الطبري ١٣٦٣ ج٣.
(٣) البيروني ٣١.
(٤) المقريزي ٢٧٣ ج١.
(٥) ابن الأثير ١٨٦ ج٧.
(٦) الماوردي ٧٧.
(٧) ابن خرداذبة ١٢٥.
(٨) ابن الأثير ٨٢ ج٢.
(٩) المقريزي ١٠٦ و١٠٨ ج١.
(١٠) ابن الأثير ١٤٩ ج٦.
(١١) ابن خلدون ١٥٠ ج١.
(١٢) ابن الأثير ١٢٦ ج٢.
(١٣) ابن الأثير ١٨١ ج٦ و٢٢٦ ج٨.
(١٤) المقريزي ٧٧ ج١ والأغاني ٣٠ ج١١.
(١٥) الماوردي ٨٧.
(١٦) المسعودي ١٨٨ ج٢.
(١٧) أبو الفداء ٣١ ج٢.
(١٨) الفخري ١٥٧.
(١٩) ابن الفقيه ٢٨٢ وابن خلدون ٣٠٨ ج١.
(٢٠) قدامة ٢٤١.
(٢١) ابن الفقيه ٢٨٤.
(٢٢) ابن الفقية ٢٨٢.
(٢٣) الإصطخري ١٥٨.
(٢٤) ابن الأثير ١٨٢ ج٧.
(٢٥) أبو الفداء ٢٤ ج٢.
(٢٦) ابن الأثير ٤٣ ج٨.
(٢٧) ابن الأثير ٦٨ ج٨.
(٢٨) Ein. Abb. 80.
(٢٩) Porter’s Const. His. Of Turkey M.S والدوكة عملة ذهبية من عملات البندقية Ducato نسبة إلى الدوج وهو حاكم البندقية، وهو لفظ محرف عن Du، وكانت البندقية في تلك العصور هي مصدر النقود الذهبية الصحيحة، ولا زال «العيار البندقي» في وزن الذهب مستعملًا عندنا إلى الآن.
(٣٠) محيط المحيط.
(٣١) قدامة ٢٤١.
(٣٢) الماوردي ٢٠٣.
(٣٣) إعلام الناس ٩٨.
(٣٤) ابن الأثير ٢٥٤ ج٢.
(٣٥) إعلام الناس ٤٥.
(٣٦) ابن الأثير ٨ ج٦.
(٣٧) ابن الأثير ٤٠ ج٦.
(٣٨) المسعودي ١٨٨ ج٢.
(٣٩) ابن الأثير ٤٠ ج٦.
(٤٠) سير الملوك ٨٥.
(٤١) الطبري ١٧١٩ ج٣.
(٤٢) الطبري ١٧٢٠ ج٣.
(٤٣) ابن الأثير ٧ ج٧.
(٤٤) ابن الأثير ٤٧ ج٧.
(٤٥) المستطرف ١٣٤ ج١.
(٤٦) ابن خلكان ١٩٩ ج١.
(٤٧) المستطرف ٤٦ ج٢.
(٤٨) ابن الأثير ٤٧ ج٨.
(٤٩) ابن الأثير ٢٤ ج٨.
(٥٠) إعلام الناس ٩٧.
(٥١) الطبري ٧٤٣ ج٣.
(٥٢) ترتيب الدول ١٢٦.
(٥٣) ابن الأثير ٤٤ ج٦.
(٥٤) الفخري ٢٣٤.
(٥٥) ابن الأثير ٣١١ ج٨.
(٥٦) ابن الأثير ١١٢ ج٦.
(٥٧) ابن الأثير ١٢٠ ج٦.
(٥٨) الطبري ٧٤٠ ج٣.
(٥٩) الفخري ٢٠٧.
(٦٠) ابن الأثير ١٣ ج٦.
(٦١) ابن الأثير ١٦٧ ج٦.
(٦٢) الطبري ١٣٢٩ ج٣.
(٦٣) ابن الأثير ٩٠ ج٨.
(٦٤) ابن خلكان ١٩٨ ج١.
(٦٥) الطبري ١٤٦٨ ج٢.
(٦٦) الطبري ٤٠٦ ج٣.
(٦٧) ابن الأثير ٤٣ ج٦ وطبعت المطبعة المنيرية ٦ / ٨١–٨٢.
(٦٨) الطبري ١٣٣٢ ج٣.
(٦٩) ابن الأثير ١٣ ج٧.
(٧٠) الدميري ١٨٨ ج٢.
(٧١) ابن الأثير ٢٧ ج٦.
(٧٢) قدامة ٢٥٣.
(٧٣) سراج الملوك ٢٧٧.
(٧٤) المقريزي ٩٥ ج١.
(٧٥) ابن خلكان ج٢.
(٧٦) ابن خلدون ٩٦ ج٣.
(٧٧) الطبري ٤٣٤ ج٣.
(٧٨) ابن الأثير ١٠٣ ج٦.
(٧٩) الطبري ٨٤١ ج٣.
(٨٠) ابن حوقل ٣٤٢.
(٨١) Ein Abb. 80.
(٨٢) ويتكر ٤٦٦.
(٨٣) المقريزي ٣٩٩ ج١.
(٨٤) ويتكر ١٧٠.
(٨٥) نفح الطيب ١٦٨ ج١.
(٨٦) الفخري ٢٧٨.
(٨٧) المقريزي ٤٠١ ج١.
(٨٨) المقريزي ٣ ج٢.
(٨٩) ابن خلكان ٧٣ ج٢.
(٩٠) سراج الملوك للطرطوشي (على هامش المقدمة).
(٩١) السيوطي ١١٥ ج٢.
(٩٢) السيوطي ١١٩ ج٢.
(٩٣) ابن الأثير ٢٧٥ ج٥.
(٩٤) الطبري ٤٢٠ ج٣.
(٩٥) سير الملوك ٦٥.
(٩٦) ابن الأثير ٤٠ ج٦.
(٩٧) الطبري ١٥٠٧ ج٣.
(٩٨) الفخري ٢٥٤.
(٩٩) المقريزي ٩٥ ج١.
(١٠٠) ابن الأثير ١٧٦ ج٨.
(١٠١) طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة ١٣٦ ج١.
(١٠٢) طبقات الأطباء ١٣٢ ج١.
(١٠٣) الطبري ٩٧٢ ج٣.
(١٠٤) الطبري ٨٨٠ ج٣.
(١٠٥) ابن الأثير ١٣٤ ج٦.
(١٠٦) الطبري ١٢٣٢ ج٣.
(١٠٧) ابن الأثير ٢٠٩ و٢١١ ج٦.
(١٠٨) اليعقوبي «كتاب البلدان» ٣٣.
(١٠٩) الطبري ١٦٨٥ ج٣.
(١١٠) ابن الأثير ٩٠ ج٨.
(١١١) صلة تاريخ الطبري لعريب بن سعد ١٤٢ — ج١٥١.
(١١٢) الطبري ١٥١٢ ج٢.
(١١٣) ابن الأثير ٧٠ ج٧.
(١١٤) الطبري ١٧٩٦ ج٣.
(١١٥) وبتكر ٢٢٠.
(١١٦) المستطرف ٣٤ ج١، أي أنهم يقولون إن الخليفة أعطى فلانًا الشاعر كذا من الدنانير؛ ليقطع بذلك لسانه عنه.
(١١٧) المقريزي ٤٥٩ ج٢.
(١١٨) المقريزي ٩٩ ج١.
(١١٩) ابن الأثير ١٨٣ ج٧.
(١٢٠) ابن الأثير ٨٩ ج٦.
(١٢١) الطبري ١٠٣ ج٣.
(١٢٢) ابن الأثير ١٦٨ ج٤.
(١٢٣) ابن الأثير ٧٥ ج٨.
(١٢٤) ابن الأثير ١٧٨ ج٨.
(١٢٥) ابن الأثير ١٧٦ ج٨.
(١٢٦) ابن الأثير ٩٠ ج٨.
(١٢٧) ابن الأثير ٢٤٤ ج٨.
(١٢٨) ابن الأثير ١٧٩ ج٨.
(١٢٩) المسعودي ٢٠١ ج٢.
(١٣٠) الطبري ١٣٣٢ ج٣.
(١٣١) الفخري ١٦٦.
(١٣٢) ابن خلكان ٢١٧ ج٢.
(١٣٣) الطبري ١١٣٩ ج٣.
(١٣٤) الطبري ١٠٨٨ ج٣.
(١٣٥) ابن الأثير ١٣ ج٧.
(١٣٦) ابن الأثير ٨٣ و٨٦ ج٨ وصلة تاريخ الطبري ٧٩.
(١٣٧) الفخري ٢٥٣ و٢٦٦.
(١٣٨) الفخري ٢٤١.
(١٣٩) الفخري ٢١٦.
(١٤٠) ابن خلكان ٣٧٢ ج١.
(١٤١) الفخري ٢٤.
(١٤٢) ابن الأثير ٥٧ ج٨.
(١٤٣) ابن خلكان ٣٧٢ ج١.
(١٤٤) المقريزي ١٥٥ ج٢.
(١٤٥) المقريزي ٦ ج٢.
(١٤٦) وهو في الأصل ستمائة ألف ألف دينار، ولا بد أن خطأ تطرق إلى نصه، إذ لا يُعقل أن يجتمع هذا المال عند واحد وهو يفوق مجموع خراج مصر لمائه سنة، فالأرجح أن يكون المراد ستين ألف ألف دينار كما قلنا، ويستبعد أن يكون المراد دراهم بدل دنانير؛ لأن أموال مصر قلما قُدِّرت بالدراهم.
(١٤٧) ابن خلكان ٢٢٢٢ ج١.
(١٤٨) نفح الطيب ١٦٨ ج١.
(١٤٩) Porter’s Gonst. Hist. of Turkey Ms.
(١٥٠) ابن الأثير ٨٤ ج٨.
(١٥١) الطبري ٧٠٣ ج٣.
(١٥٢) ابن الأثير ١٤٩ ج٨.
(١٥٣) اليعقوبي ١٨١ ج٢، والبلاذري ٨٣ و٣٨٥.
(١٥٤) الطبري ٤١٥ ج٣.
(١٥٥) الطبري ٧٠٢ ج٣.
(١٥٦) ابن الأثير ٥١ ج٦.
(١٥٧) Ein. Abb. 80.
(١٥٨) المقريزي ١٠٩ و٣٣٣ ج١.
(١٥٩) المقدسي ١٠٤.
(١٦٠) Ein. Abb. 76.
(١٦١) الماوردي ٧٨.
(١٦٢) المسعودي ١٨٨ ج٢.
(١٦٣) الطبري ٧١٣ ج٣.
(١٦٤) ابن الأثير ٨١ ج٦.
(١٦٥) ابن خلكان ٤١٥ ج١.
(١٦٦) الفخري ٢٣٦.
(١٦٧) الفخري ٢٣٩–٢٤٩.
(١٦٨) ابن الأثير ٩٠ ج٨.
(١٦٩) الطبري ١٣٣٠ ج٣.
(١٧٠) ابن الأثير ٨٥ ج٧.
(١٧١) المقريزي ٣٣١ ج١.
(١٧٢) الفخري ١٥٨.
(١٧٣) اليعقوبي ٥٥٤ ج٢.
(١٧٤) المقريزي ٩٩ ج١.
(١٧٥) الأعلاق النفيسة لابن رستة ١٩٥ ج٧.
(١٧٦) الفخري ١٦٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤