ثروة المملكة العباسية أي البلاد وأهلها

فرغنا من الكلام في ثروة الدولة (الحكومة) العباسية ورجالها، وبقي علينا النظر في ثروة المملكة، وهي البلاد بما فيها من الناس على اختلاف طبقاتهم من أهل التجارة والزراعة والصناعة وغيرهم، وكانت البلاد قسمين: المدن، والقرى.

(١) المدن

كانت المدنية محصورة في المدن دون القرى عملًا بقاعدة التمدن في تلك الأيام، وهي أن تكون الثروة والأبهة حيثما يكون ولاة الأمر، ومن يلوذ بهم، من الخليفة وآل بيته فرجال بلاطه فعماله ووزرائه، وهؤلاء كانوا يقيمون في المدن وخصوصًا العواصم، ولذلك عمرت بغداد والبصرة ودمشق والفسطاط والقاهرة والقيروان وقرطبة وغرناطة ونحوها، وظلت القرى والضياع مغارسَ لا عمارةَ فيها، ولا تكاد تجد أثرًا من آثار ذلك التمدن في غير المدن.

ففي هذه المدن فاضت ينابيع الثروة الإسلامية، وعاش الناس في الرخاء والرغد بجوار الخليفة ورجال دولته، ينالون جوائزهم وهداياهم ويبيعونهم السلع والجواهر، والأقمشة وما إليها، وفي هذه المدن كان يجتمع العلماء والشعراء والمغنون والندماء يتعيشون بما يجود به الخليفة أو أمراؤه أو رجال دولته.

ويمثل طبقات الناس في تلك الأيام قول الفضل بن يحيى: «الناس أربع طبقات: ملوك قدمهم الاستحقاق، ووزراء فضلتهم الفطنة والرأي، وعلية أنهضهم اليسار، وأوساط ألحقهم بهم التأدب، والناس بعدهم زبد جفاء وسيل غثاء، لكع ولكاع، وربيطة اتضاع … همُّ أحدهم طعمه ونومه!»١

وقد جعل ابن خلدون عطاء السلطان أصل ثروة المملكة، وعلة كثرة جبايتها، لاعتباره أن الدولة أو السلطان السوق الأعظم للعالم ومنها مادة العمران، قال: «فإذا احتجن السلطان الأموال أو الجبايات أو فقدت فلم يصرفها في مصارفها، قلَّ حينئذ ما بأيدي الحاشية والحامية، وانقطع أيضًا ما كان يصل منهم لحاشيتهم وذويهم، وقلت نفقاتهم جملة، وهم معظم السواد، ونفقاتهم أكثر مادة للأسواق ممن سواهم، فيقع الكساد حينئذ في الأسواق وتضعف الأرباح في المتاجر فيقل الخراج لذلك؛ لأن الخراج والجباية إنما يكونان من الاعتمار، والمعاملات، ونفاق الأسواق، وطلب الناس للفوائد والأرباح، ووبال ذلك عائد على الدولة بالنقص لقلة أموال السلطان حينئذ بقلة الخراج، فإن الدولة كما قلنا هي السوق الأعظم أم الأسواق كلها، وأصلها ومادتها في الدخل والخرج، فإن كسدت وقلت مصارفها فأجدر بما بعدها من الأسواق أن يلحقها مثل ذلك وأشد منه.» ا.ﻫ.

فالمدن الإسلامية كانت مؤلفة من: الملوك وهم الأصل، ثم رجال الدولة، وإنما يكونون كذلك؛ لأن الملوك يختارونهم لفطنتهم، ثم الأغنياء، وأخيرًا الأوساط، وهم جمهور الناس ويكونون كما يشاء أولئك، وذلك يخالف حال الهيئة الاجتماعية في هذا العصر، عصر الحرية الشخصية، فالناس فيه مستقلون بأعمالهم كل منهم يعد نفسه عضوًا من أعضاء ذلك المجتمع لا يُستغنَى عنه، سواء كان صانعًا أو كاتبًا أو تاجرًا أو موظفًا.

أما في العصر العباسي فقد كان أهل المدن عالة على الخلفاء والأمراء فتحوم آمالهم حولهم، يلتقطون ما يجودون به عليهم، وهؤلاء إنما يجودون بما يصل إليهم من أموال الجباية، فإذا كثرت أكثروا وإذا قلت أقلوا، والجباية من الخراج، والخراج على الأرض، والأرض إنما يعمل بها الفلاحون وهي القرى، فالثروة العباسية مصدرها من القرى وتجمع من عرق الفلاحين، والفلاح أساس الثروة في كل العصور، وخصوصًا في البلاد الزراعية، وهو في الغالب أقل الناس حظًّا منها، وخصوصًا في عهد التمدن القديم أو ما نسج على منواله، إذ كانت الثروة والقوة في أيدي فئة الحكام أو من ينوب عنهم أو ينتمي إليهم، ويبقى سائر الناس أعوانًا أو أتباعًا أو خدمًا أو عبيدًا، يشتغلون إما بالصناعة لصنع ما قد يحتاج إليه أولئك من أصناف الأبنية والألبسة والأثاث والمجوهرات أو لخدمتهم في قصورهم بالتطبيب أو الكتابة أو لإمتاع سمعهم وبصرهم بالغناء والعزف أو لترطيب قلوبهم بالنظم والنثر ونحوهما، وإما بالفلاحة في الأرض واستغلالها، والفلاحون هم الفئة الكبرى من الناس في كل زمان، وسنفصل ذلك في الجزء المختص بالآداب الاجتماعية من هذا الكتاب.

فالثروة في المدن تابعة لثروة الحكومة أو رجالها للأسباب التي قدمناها، فلما كان بلاط الرشيد غاصًّا بالوفود وبيت ماله حافلًا بالنقود والبرامكة يبذلون المئات والألوف، كان تجار بغداد في نعمة وثروة وخصوصًا باعة المجوهرات والرياش؛ لأنها مما تتطلبه المدنية في عهد الترف والبذخ، فقد رأيت في بعض ما تقدم أن جوهريًّا بالكرخ في بغداد ساومه يحيى البرمكي على سفط من الجوهر بمبلغ ٧٠٠٠٠٠٠ درهم فلم يبعه٢ وهو جزء مما في حانوته، فما قولك بسائر ما فيه؟ وهناك جوهري آخر يقال له ابن الجصاص صادره الخليفة المقتدر سنة ٣٠٢ﻫ، فكان ما أخذوه من بيته من صنوف الأموال تزيد قيمته على ٢٠٠٠٠٠٠٠ دينار٣ وكان في بغداد شريف يسمى محمد بن عمر بلغ خراج أملاكه ٢٥٠٠٠٠٠ درهم في السنة،٤ وقس على ذلك سائر التجارات في بغداد وغيرها، فقد كان في إصطخر بيت ينتسب إلى آل حنظلة أحدهم عمرو بن عيينة بلغ من يساره أنه ابتاع بمليون درهم مصاحف فرقها في مدن الإسلام، وكان مبلغ خراج هذا البيت من ضياعهم نحو ١٠٠٠٠٠٠٠ درهم، ومنهم مرداس بن عمر كان خراج ماله ٣٠٠٠٠٠٠ وابن عمه محمد بن واصل ملكه مثل ملكه٥ وكان في سيراف تجار واسعو الثروة يزيد مال أحدهم على ٦٠٠٠٠٠٠٠ درهم اكتسبها من تجارة البحر من العود والكافور والعنبر والجواهر والخيزران والعاج والأبنوس والفلفل وغيرها،٦ ومنهم من يبني دارًا فينفق على بنائها ٣٠٠٠٠ دينار٧ وأوصى أحدهم بثلث ماله لعمل فبلغ ١٠٠٠٠٠٠ دينار بين مركب قائم بنفسه وآلته،٨ وأمثال ذلك كثير في معظم مدن المشرق.
وقس عليه ثروة كل من خالط الخلفاء ونال جوائزهم، أو خدمهم في بلاطهم في إبان ثروتهم غير الوزراء والكتاب والعمال، فإنهم جمعوا أموالًا طائلة حتى المغنون والشعراء، فقد توفي إبراهيم الموصلي مغني الرشيد عن ثروة مقدارها ٢٤٠٠٠٠٠٠ درهم٩ وتوفي جبريل بن بختيشوع طبيب الرشيد وخلف ما يساوي ٩٠٠٠٠٠٠٠ درهم من ضياعٍ وجواهرَ ونقودٍ كما تقدم.

واعتبر ذلك في سائر البلاد والأحوال، فتجد الثروة كانت في الغالب عند الخلفاء، أو من ينتمي إليهم، حتى التجار فإنهم إنما كانوا يأمنون على ثروتهم بالانتماء إلى أولي الأمر.

(٢) القرى

أما القرى فقد كان سكانها الفلاحين من أهل البلاد الأصليين، ويسمونهم «أهل الخراج»، فهؤلاء يعملون بالأجرة أو شركاء لأصحاب الأملاك من الخلفاء أو الأمراء، أو من ينتمي إليهم من الأعيان، وخصوصًا الدهاقين في العراق وفارس، وهم أصحاب الإقطاعات الكبرى قبل الإسلام.

فلما كان الإسلام تقرب أولئك الدهاقين من الحكومة بأموالهم١٠ ونفوذهم في أهل بلادهم، ويندر أن يكون للفلاحين ملك خاص بهم لأسباب تقدم بيانها.
فسكان القرى هم الفلاحون ومن يجري مجراهم، وكانوا يقنعون بالحصول على ما يقوم بأود حياتهم، ويغلب فيهم الفقر المدقع، وربما كان بينهم من لم ير الدينار طول عمره، فكان أهل الدولة في المدن يبذلون الدنانير جزافًا ويهبونها مئاتٍ وآلافًا، وأهل القرى في فقر مدقع لو رأى أحدهم الدينار لقبله مثنى وثلاث، ولو دفعت إليه عشرة دنانير أو عشرين لأصابه خبل أو مات لساعته، كما اتفق للصياد بين يدي ابن طولون أمير مصر في أواسط القرن الثالث للهجرة، وهو مشهور بكرمه وبذخه، بما أنشأه من القصور والغياض والإصطبلات، وكان ينفق كل شهر ألف دينار على القراء، وهو الذي جاء وكيله يومًا وقال: «إني تأتيني المرأة وعليها الإزاز وفي يدها خاتم الذهب فتطلب مني فأعطيها.» فقال له: «مَن مد يده إليك فأعطه.»١١ ومع ذلك فإن هذا الأمير نفسه ركب في غداة باردة إلى جهات المقس بجوار الفسطاط، فأصاب بشاطئ النيل صيادًا عليه خلق لا يواري منه شيئًا، ومعه صبي في مثل حاله وقد ألقى الشبكة في البحر، فلما رآه ابن طولون رق لحاله وقال: «يا نسيم ادفع إلى هذا عشرين دينارًا.» فدفعها إليه ولحق ابن طولون، فسار ولم يبعد ورجع فوجد الصياد ميتًا والصبي يبكي ويصيح، فظن ابن طولون أن بعض سودانه قتله وأخذ الدنانير منه، فوقف بنفسه عليه وسأل الصبي عن أبيه فقال له الغلام: «هذا (وأشار إلى نسيم الخادم) دفع إلى أبي شيئًا فلم يزل يقلبه حتى وقع ميتًا.» فقال: «فتشه يا نسيم.» فنزل وفتشه فوجد الدنانير معه بحالها، فحرض الصبي أن يأخذها فأبى وقال: «هذه قتلت أبي وإن أخذتها قتلتني!» فأحضر ابن طولون قاضي المقس وشيوخه وأمرهم أن يشتروا للصبي دارًا بخمسمائة دينار تكون لها غلة وأن تحبس عليه وكتب اسمه من أصحاب الجرايات وقال: «أنا قتلت أباه؛ لأن الغنى يحتاج إلى تدريج وإلا قتل صاحبه، هذا كان يجب أن يُدفَع إليه دينار بعد دينار حتى تأتيه هذه الجملة على تفرقة فلا تكثر في عينيه.»١٢

فإذا كان هذا حال رجل من أهل ضواحي العاصمة، فكيف بأهل القرى البعيدين عن ترف الدولة وبذخها وجراياتها ووظائفها؟

(٣) المدن الإسلامية

نريد بالمدن الإسلامية ما بناه المسلمون من المدن لأنفسهم، وهي غير ما افتتحوه من مدائنِ الرومِ والفرس، والمدن الإسلامية عديدة في العراق والشام ومصر وإفريقية والأندلس وغيرها، ومنها ما لم يزل عامرًا إلى اليوم كالبصرة وبغداد والقاهرة، ومنها ما انقرض وعفت آثاره كالفسطاط بمصر والزهراء بالأندلس وسنذكر أشهرها ونصف ما بلغ إليه عمرانها في إبان التمدن الإسلامي تتمة لموضوع هذا الجزء، ولكننا نقول قبل ذلك كلمة إجمالية فيما حمل العرب أو المسلمين على إنشاء تلك المدن:

كان المسلمون في صدر الإسلام عربًا أهل خيام وماشية وخيل، يكرهون الإقامة داخل الأسوار وينفرون من الانحصار في المدن، فلما تأيد الإسلام واجتمع العرب على فتح الأمصار في العراق والشام ومصر، كانوا في بادئ الرأي إذا ساروا إلى غزو أو فتح اصطحبوا نساءهم وعيالهم، فإذا فتحوا بلدًا أقاموا في ضواحيه بخيامهم وأخبيتهم، وجعلوا هذا الموضع معسكرهم، وكان عمر بن الخطاب يشترط على جنده المقيمين في الأمصار ألا يقيموا في مكان يحول الماء فيه بينهم وبينه، حتى إذا أراد أن يركب راحلته إليهم ركب، كذلك فعل عمرو بن العاص في الفسطاط، وسعد بن أبي وقاص في الكوفة والبصرة، وكانت كلها مضارب لجند العرب الفاتحين يعبرون عنها بالرابطة أو المعسكر، فإذا طال بهم المقام اختطوا الأسواق وبنوا المنازل والقصور، ذلك كان شأنهم في صدر الإسلام فبنوا البصرة والكوفة والفسطاط على هذه الصورة.

فلما ضخم ملك العرب وتعددت دول المسلمين صاروا يختطون المدن تثبيتًا لفتوحهم كما فعل عقبة بن نافع عندما اختط القيروان في إفريقية (تونس الحالية) تثبيتًا للفتح الإسلامي لهذه الناحية، أو تحصنًا بها من أعدائهم كما فعل المنصور باختطاطه بغداد فإنه بناها حصنًا له، وكذلك فعل الفاطميون بالقاهرة، وكثيرًا ما كان الخلفاء يبنون المدن للتنزه بها والابتعاد عن الغوغاء، مثل سامرا والمتوكلية والزهراء وغيرها مما يطول بنا إيراده، فلنأتِ إلى وصف أشهر المدن الإسلامية في إبان ثروتها.

كثيرًا ما وصف المؤرخون المسلمون المدن الإسلامية، كما يصف السائحون اليوم ما يزورونه من المدن العظمى، ولكنهم لم يذكروا عدد سكان تلك المدن أو مساحتها إلا نادرًا، وإنما كان همهم تعداد ما في تلك المدن من الجوامع والحمامات، والغالب أن يبالغوا في ذلك إلى ما يتجاوز طور التصديق كما سترى، وإليك وصف أشهر المدائن الإسلامية مرتبة باعتبار قدمها:

(٣-١) البصرة

هي من أقدم المدن التي بناها المسلمون أو هي أقدمها، ولا تزال باقية إلى الآن، مصرها عتبة بن غزوان سنة ١٦ للهجرة١٣ وقد اتخذها العرب في بادئ الأمر معسكرًا في مكان لا يحول الماء بينه وبين مكة، فكان من البصرة على الضفة الغربية للفرات إلى مكة رمال وجبال وسهول لا يفصل بينهما نهر، وبنوها أولًا بالقصب ثم خافوا الحريق فبنوها باللَّبِنِ بإذن عمر — كما سيأتي في الكلام عن الكوفة — وجعلوا المدينة خططًا بحسب القبائل لكل قبيلة خطة، وجعلوا عرض شارعها الأعظم ستين ذراعًا، وهو مربدها، وعرض ما سواه من الشوارع عشرين ذراعًا، وجعلوا عرض كل زقاق سبعة أذرع، ووسط كل خطة رحبة فسيحة لمرابط خيولهم وقبور موتاهم، وتلاصقوا بالمنازل١٤ ونظرًا لموقعها التجاري فرضة للعراق ووسطًا بين الشام وفارس، أسرع إليها العمران واتخذتها الحكومة مقرًّا لإمارة العراق في أيام بني أمية فعمرت البصرة في أيامهم واتسعت عمارتها، حتى بلغت مساحتها في إمارة خالد بن عبد الله (القسري) فرسخين في فرسخين أي ٣٦ ميلًا مربعًا في أرض منبسطة لا جبال فيها، وذلك أوسع من مدينة القاهرة مع زيادة عمارتها اليوم (سنة ١٩٠٣).

وكثرت ثروة البصرة في أيام العباسيين لاجتماع التجار فيها، وتجاراتهم تمتد شرقًا إلى الهند والصين، وغربًا إلى أقصى بلاد المغرب، وجنوبًا إلى الحبشة، وكانت السفن ترسو في ميناها وتحمل أصناف التجارات من الأقمشة والأطياب وغيرها، وتكاثرت الثروة فيها بتكاثر الناس القادمين إليها للاتِّجار أو الإقامة، فابتنوا فيها القصور والحدائق وأنشأوا الميادين والبرك، قال ابن حوقل: «وهي موصوفة بالمجالس الحسنة، والمناظر الأنيقة، والميادين العجيبة، والفواكه البديعة، والبرك الفسيحة، لا تخلو من المتنزهين، ولا تعرى من المتطرقين منحدرين ومصعدين …»

وكانت مياه البصرة مرسى مئات من السفن التجارية، وقد ذكرنا في مكان آخر مقدار ما كانت الحكومة تجبيه من تاجر واحد من تجارها وهو نحو ١٠٠٠٠٠ دينار في العام، فقس عليهم التجار الآخرين وفيهم الكبير والصغير.

واشتهر أهل البصرة بالأسفار التجارية إلى كل الجهات، حتى ضرب المثل في ذلك فقالوا: «وأبعد الناس نجعة في الكسب بصري وخوزي، ومن دخل فرغانة (في الشرق) والسوس الأقصى (في الغرب)، فلا بد من أن يرى بها بصريًّا أو خوزيًّا (من أهل خوزستان) أو حيريًّا (من أهل الحيرة).»١٥ وشأنهم في ذلك شأن السوريين اليوم، أو هو دأبهم من عهد الفينيقيين.
وقد نقلنا في الجزء الأول من هذا الكتاب ما قاله الإصطخري عن سعة مدينة البصرة وعدد أنهارها على أيام بلال بن أبي بردة (سنة ١١٨ﻫ)١٦ وأنها زادت على ١٢٠٠٠٠ نهر، تجري بها الزوارق، وأن الإصطخري نفسه شك في صحة هذا العدد كما يشك كل من يقرأه، فذهب بنفسه لمشاهدة المكان في القرن الرابع للهجرة فلما عاينه قال: «وقد كنت أنكر ما ذكر من هذه الأنهار في أيام بلال حتى رأيت كثيرًا من تلك البقاع، فربما رأيت في مقدار رمية سهم عددًا من الأنهار صغارًا تجري في كلها زوارق صغار، ولكل نهر اسم ينسب إلى صاحبه الذي احتفره أو إلى الناحية التي يصب فيها، فجوزت أن يكون ذلك في طول هذه المسافة وعرضها.» وقال نفس هذا القول ابن حوقل في عرض كلامه عن البصرة،١٧ ومع ذلك ما زلنا نستكبر هذا العدد حتى رأينا عالِمًا دقيق الملاحظة أقام في البصرة أعوامًا طوالًا وخبر أرضها فذكرنا له ذلك فهون علينا تصديقه بما بيَّنه لنا من سعة البصرة في تلك الأيام وحفر الأنهار، وإمكان اشتباكها بحيث تتحول إلى مجار قصيرة هم يسمون كلًّا منها نهرًا، ويؤيد ذلك أنهم لا يريدون بالبصرة المدينة فقط التي ذكرنا أن مساحتها ٣٦ ميلًا مربعًا، وإنما يضمون إليها ما يتبعها من المغارس إلى عبادان عند بحر فارس، مع ما كانت عليه من الخصب وكثرة الفرس، قال ابن حوقل والإصطخري: «ولها نخيل متصلة من عبدسي إلى عبادان نيفًا وخمسين فرسخًا متصلة لا يكون الإنسان بمكان منها إلا وهو في نهر ونخيل أو يكون بحيث يراها.» فاعتبر هذه المسافة طولًا في مثل نصفها عرضًا على الأقل أي ١٥٠ ميلًا في ٧٥ وذلك ١١٢٥٠ ميلًا مربعًا، فيعقل أن يكون في الميل الواحد عشر ترع صغيرة، والله أعلم.

(٣-٢) الكوفة

بنيت الكوفة بعد البصرة ببضعة أشهر؛ بناها سعد بن أبي وقاص، ويقال في سبب بنائها إن سعدًا بعد أن فتح العراق وتغلب على الفرس نزل في عاصمتهم المدائن، ثم بعث إلى الخليفة عمر بن الخطاب في المدينة وفدًا يخبره بذلك الفتح، فلما وصل الوفد إلى عمر رأى ألوانهم قد تغيرت وحالهم قد تبدلت، فسألهم عن سبب ذلك فقالوا: «وخومة البلاد غيرتنا.» فأمرهم أن يرتادوا منزلًا يُنزِلون فيه المسلمين؛ لأن العرب لا يوافقهم من البلاد إلا ما يوافق إبلهم، وكتب إلى سعد: «ابعث سليمان وحذيفة رائدين فليرتادا منزلًا بريًّا بحريًّا ليس بيني وبينكم فيه بحر ولا جسر.»١٨ ففعل سعد ذلك فاختاروا مكانًا وراء الفرات وبينه وبين الحيرة، وبنوها أولًا بالقصب كما بنوا البصرة ففعلوا ذلك لتكون المنازل قريبة من الخيام فأحرقت، فاستأذنوا عمر في البناء باللبن فأجابهم إلى ذلك على شرط ألا يزيد أحدهم على ثلاثة أبيات ولا يطاولوها، وكان للكوفة شأن كبير عند الشيعة؛ لأن الإمام عليًّا جعلها عاصمة ملكه إلى أن قُتِلَ.

(٣-٣) الفسطاط

هي أول مدن المسلمين في القطر المصري، بناها عمرو بن العاص سنة ١٨ للهجرة، فيما بين القاهرة اليوم ومصر العتيقة، ومن بقاياها جامع عمرو والأطلال والخرائب حوله إلى المقطم، وكان ذلك المكان معسكرًا للعرب لما جاءوا لفتح حصن بابليون، وهو المعروف اليوم بدير النصارى أو دير مار جرجس بمصر العتيقة، فلما فتحوه ساروا إلى الإسكندرية لفتحها، فأمر عمرو بنزع فسطاطه (أي خيمته) فإذا فيه يمام قد فرخ فأخبروا عمرًا بذلك فقال: «لقد تحرم بنا بمتحرم.» فأمر بالفسطاط فأقر كما كان وأوصى به من بقي هناك من القبط، وسار بجنده حتى نزل الإسكندرية وفتحها وكتب إلى الخليفة عمر بالمدينة يخبره بذلك ويستشيره في السكنى فيها، فسأل عمرُ الرسولَ الذي أرسله عمرو: «هل يحول بيني وبين المسلمين ماء؟» قال: «نعم يا أمير المؤمنين إذا جرى النيل.» فكتب إلى عمرو: «إني لا أحب أن تُنزِل المسلمين منزلًا يحول الماء بيني وبينهم شتاء ولا صيفًا، فمتى أردت أن أركب إليكم راحلتي حتى أقدم عليكم قدمت.»١٩ فاستخلف عمرو في الإسكندرية حامية وأمر فشدت الرحال إلى حصن بابليون، فلما بلغوا فسطاط الأمير رأوه لا يزال منصوبًا وفيه الطيور، فنزلوا فيه وجعلوا تلك الخيمة مركزًا لمعسكرهم، ودعوا ذلك المكان من ذلك اليوم بالفسطاط، ثم انضمت القبائل بعضها إلى بعض وأخذوا في بناء البيوت لسكنى الجيوش، فاختط عمرو مدينة شمالي الحصن دعاها الفسطاط، فيها نحو عشرين حارة دعاها خططًا، وأقام أربعة من كبار رجاله ينزلون الناس في الخطط المذكورة بحسب أحزابهم وقبائلهم.

ثم أخذت الفسطاط تتسع وتزداد عمارة كلما رسخت قدم المسلمين في البلاد وتوطد سلطانهم حتى فاقت البصرة والكوفة في كثير من الوجوه.

وبلغ طولها على ضفة النيل ثلاثة أميال٢٠ وذكر مؤرخو العرب عن مقدار عمارتها أنه كان فيها ٣٦٠٠٠ مسجد، و٨٠٠٠ شارع مسلوك، و١١٧٠ حمَّامًا، وقد يستبعد ذلك، ولكن إيراده يدل في كل حال على العظمة والعمران، ومما نظمه الشعراء في مدحها قول الشريف العقيلي:
أحنُّ إلى الفسطاط شوقًا وإنني
لأدعو لها ألا يحل بها القطر
وهل في الحيا من حاجة لجنابها
وفي كل قطر من جوانبها نهر
تبدَّت عروسًا والمقطم تاجها
ومن نيلها عقد كما انتظم الدر٢١
وبلغ من تزاحم الناس في الفسطاط أن جعلوا المنازل طبقات عديدة بلغ بعضها خمس طبقات إلى سبع، وربما سكن في البيت الواحد ٢٠٠ من الناس، وبلغت نفقة البناء على بعضها ٧٠٠٠٠٠ وهي دار الحرم لخمارويه.٢٢
واشتهر من تلك الأبنية دار ضُرِبَ المثلُ بعظمتها وغِنى أهلها تسمى «دار عبد العزيز»، كانت مطلة على النيل، بلغ من سعتها وكثرة ساكنيها أنهم كانوا يصبون فيها أربعمائة راوية ماء كل يوم، ونقل بعضهم أن الأسطال التي كانت بالطاقات المطلة على النيل بلغ عددها ١٦٠٠٠ سطل مؤيدة ببكر وأطناب لها ترخى وتملأ، وذكر رجل دخلها في أوائل القرن الثالث للهجرة في زمن خمارويه بن أحمد بن طولون قال: «طلبت بها صانعًا يخدمني فلم أجد فيها صانعًا متفرغًا لخدمتي، وقيل لي إن كل صانع معه اثنان يخدمهما وثلاثة، فسألت كم فيها من صانع فأخبرت أن بها سبعين (كذا) صانعًا قَلَّ من معه دون ثلاثة سوى من قضى حاجته وخرج.»٢٣

وفي ذلك دليل على غنى أهل الفسطاط وترفهم، ومن هذا القبيل استكثارهم من الفرش، فقد يقتني أحدهم ألف فرشة أو عشرة آلاف فرشة، وذكروا رجلًا من أهل الفسطاط عنده ثلاثمائة فرشة كل فرشة لحظية، وكذلك كانوا يفعلون بالثياب ونحوها، وقد تكون أثمانها فاحشة فلا يبالون لغناهم، قال القضاعي إن قطر الندى ابنة خمارويه كان في جملة جهازها ألف تكة ثمن كل واحدة عشرة دنانير، فبلغ ثمنها كلها عشرة آلاف دينار، ناهيك بتأنقهم في المآكل والمشارب مما يطول شرحه، وقد فصله المقريزي وغيره في كلامهم على الفسطاط.

(٣-٤) بغداد

هي عاصمة العباسيين، بناها المنصور سنة ١٤٥ﻫ ولا تزال باقية إلى اليوم، وقد تغير موضعها مرارًا، والسبب في بنائها أن السفاح لما بويع بالخلافة وأكثر أنصاره في العراق وفارس، نزل الكوفة ومعه أخوه المنصور، ثم بنى السفاح قرب الأنبار مدينة سماها الهاشمية إشارةً إلى ما يجمع بين العباسيين والعلويين وانتقلا إليها٢٤ وبها مات السفاح وقبره فيها، وأقام المنصور في الهاشمية بضع سنين، ثم ثار جماعة الراوندية فَكَرِهَ سكناها وخرج يبحث عن مكان يبني فيه مدينة حصينة، فدلوه على مكان بغداد وحسنوه له، فبنى فيه مدينة سماها بغداد، وعرفت بمدينة المنصور.

بناها في الجانب الغربي لدجلة بشكل مستدير، وجعل حواليها قطائعَ لحاشيته ومواليه وأتباعه، فلما كانت أيام المهدي جعل معسكره في الجانب الشرقي من دجلة، وسُمِّيَ ذلك المكان عسكر المهدي، ثم انتقل إليه الوجهاء وأهل الدولة وبنوا فيه، وانتقلت الخلافة إلى الجانب المذكور، وامتدت أبنية الخلفاء وحدائقها على ضفة النهر، ويسمى جانب بغداد الشرقي الرُّصافة والجانب الغربي الكرخ.

وبلغت بغداد معظم عمارتها في أيام المأمون، حتى امتدت أبنيتها وبساتينها على بقعة قالوا إن مساحتها ٥٣٧٥٠ جريبًا، منها ٢٦٧٥٠ جريبًا في الجانب الشرقي، و٢٧٠٠٠ في الجانب الغربي٢٥ والجريب ٣٦٠٠ ذراع مربع، ونسبته إلى الفدان كنسبة ١٠٠ إلى ، فتكون مساحة بغداد كلها نحو ١٦٠٠٠ فدان، وهو شيء كثير، ولكن يظهر أنها كانت عبارة عن مدن متلاصقة، قال الخطيب البغدادي في تاريخه إنها أربعون مدينة، وإن الحمامات بلغ عددها في أيام المأمون ٦٥٠٠٠ حمام٢٦ وقد أراد صاحب سير الملوك بيان مقدار عمارة بغداد فقال: «وكان عدد الحمامات في ذلك الوقت ببغداد ستين ألف حمام، وأقل ما يكون في كل حمام خمسة نفر: حماميٌّ وقيم وزبال ووقاد وسقاء، يكون ذلك ثلاثمائة ألف رجل، وذكر أن يكون بإزاء كل حمام خمسة مساجدَ يكون ذلك ثلاثمائة ألف مسجد، وتقدير ذلك أن أقل ما يكون في كل مسجد خمسة نفر يكون ذلك ألف ألف وخمسمائة ألف إنسان.»٢٧
ولا ينطبق هذا التخريج على ما نعلمه من أحوال هذه الأيام، فلا نسلم به كما هو، ولكنه يدلنا على ما بلغت إليه هذه المدينة من العظمة في عهد ذلك التمدن العجيب، وقد يؤيد ذلك ما رواه الطبري في أثناء كلامه عن الفتنة التي وقعت في بغداد سنة ٢٥٥ﻫ قال: «وقيل إنه عبر الجسرين من العامة في ذلك الوقت ١٠٠٠٠٠ إنسان في الزواريق.»٢٨ فإذا كان هذا عدد الذين عبروا النهر فما قولك بمن لم يعبروا؟ فلا نبالغ إذا جعلنا عدد سكان بغداد في ذلك العهد نحو مليون ونصف أو مليونين.
ناهيك بما كان من العمارة حول بغداد وفي سائر بلاد السواد، قال ابن حوقل، وقد رآها في أثناء القرن الرابع للهجرة: «وبين بغداد والكوفة سواد مشتبك غير متميز تخترق إليه أنهار من الفرات … إلخ.»٢٩

وهناك مدائن أخرى من بناء المسلمين ذات شأن كالقيروان في بلاد المغرب، وواسط في العراق، وغيرهما في مصر والشام وفارس، ناهيك بالمدائن التي كانت عامرة قبل الإسلام، وقد نزل فيها المسلمون وزادوا عمارتها، مثل دمشق الشام، وقرطبة، وغرناطة، وطليطلة، والإسكندرية، وسنأتي على شيء كثير من حضارة هذه المدن وغيرها فيما سنذكر من حالتها الاجتماعية في بعض الأجزاء الآتية إن شاء الله.

هوامش

(١) ابن الفقيه ١.
(٢) الطبري ٧٠٢ ج٣.
(٣) ابن الأثير ٣٣ ج٨.
(٤) ابن الأثير ٢٠ ج٩.
(٥) الإصطخري ١٤٢.
(٦) الإصطخري ١٥٤.
(٧) ابن حوقل ١٩٨.
(٨) ابن حوقل ٢٠٧.
(٩) سير الملوك ١١٣.
(١٠) ابن الأثير ١٠١ ج٥.
(١١) ابن خلكان ٢٢٣ ج٢.
(١٢) المقريزي ١٢٣.
(١٣) ابن الفقية ١٨٨.
(١٤) الماوردي ١٧١. وانظر عن اختطاط البصرة وتنظيمها كتاب الدكتور الصالح أحمد العلي: «التنظيمات السياسية والاقتصادية في البصرة» — بغداد ١٩٥٢.
(١٥) ابن الفقيه ١٩١.
(١٦) ابن الأثير ٩٣ ج٥.
(١٧) الإصطخري ٨٠.
(١٨) ابن الأثير ٢٥٩ ج٢.
(١٩) المقريزي ٢٩٦ ج١.
(٢٠) ابن حوقل ٩٦.
(٢١) المقريزي ٣٤٠ ج١.
(٢٢) المقريزي ٣٣٠ ج١.
(٢٣) المقريزي ٣٣٠ ج١.
(٢٤) ابن خلكان ١٥١ ج١.
(٢٥) سير الملوك ٥٥.
(٢٦) ابن خلدون ٢٨٧ ج١.
(٢٧) سير الملوك ٥٥.
(٢٨) الطبري ١٧٣٠ ج٣.
(٢٩) ابن حوقل ١٦٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤