مميزات العصر الأموي

نريد بالعصر الأموي العصر الذي كانت الدولة الإسلامية فيه في حوزة الأمويين بالشام، منذ بويع معاوية بالخلافة سنة ٤١ﻫ إلى أن قهرهم عليها العباسيون سنة ١٣٢ﻫ، ويختلف العصر الأموي عن عصر صدر الإسلام اختلافًا كبيرًا من أوجه كثيرة؛ إذ يعد انتقال الدولة الإسلامية إلى بني أمية انقلابًا عظيمًا في تاريخ الإسلام؛ لأنها كانت في زمن الراشدين خلافة دينية فصارت في أيامهم ملكًا عضودًا، وكانت شورية فصارت إرثية، وقام معاوية يطلبها وينازع أعمام النبي وأبناء عمه عليها، والمسلمون يعتقدون حق هؤلاء فيها وأن معاوية طليق لا تحل له الخلافة ولكنه تمكن بدهائه وسعة صدره من التغلب عليهم جميعًا فأسس الدولة الأموية، وقد فصلنا الأسباب التي ساعدته على ذلك في الجزء الرابع من كتاب تاريخ التمدن الإسلامي.

وإنما يهمنا في هذا المقام ما نجم عن مساعي بني أمية في تأييد سلطانهم من التفريق بين القبائل والرجوع إلى عصبية الجاهلية، كما كان العرب قبل الإسلام يفعلون وما كان من تأثير ذلك في الآداب.

(١) التفريق بين القبائل وإحياء العصبيات

قد علمت أن العصبية العربية كانت في الجاهلية بين القبائل بسبب الأنساب، فلما جاء الإسلام تنوسيت تلك العصبية واجتمع العرب كافة باسم الإسلام أو الجامعة الإسلامية، وما زالت الجامعة الإسلامية تشمل العرب على اختلاف قبائلهم وبطونهم طول أيام الخلفاء الراشدين، حتى إذا طمع بنو أمية في الملك وقبضوا على أزمة الخلافة استبدوا وتعصبوا للعرب وحافظوا على مقتضيات البداوة وتمسكوا بعاداتها، فظلت خشونة البادية غالبة على حكومتهم وظاهرة في سياستهم مع ذهاب أكثر مناقب البدو الأخرى، وإنما حفظوا من مناقب جاهليتهم تعصبهم لقبيلتهم قريش وإيثار أهلهم على سواهم …

فجاشت عوامل الحسد في نفوس القبائل التي كان لها شأن في الجاهلية وضاع فضلها في الإسلام، وخصوصًا أهل البصرة والكوفة لأن أكثر العرب الذين نزلوا هذين المصرين جفاة لم يستكثروا من صحبة النبي ولا هذبتهم سيرته ولا ارتاضوا بخلقه، مع ما كان فيهم من جفاء الجاهلية وعصبيتها، فلما استفحلت الدولة إذا هم في قبضة المهاجرين من قريش وكنانة وثقيف وهذيل، وأهل الحجاز ويثرب، فاستنكفوا من ذلك وغصوا به لما يرون لأنفسهم من التقدم بأنسابهم وكثرتهم ومصادمة فارس والروم، مثل قبائل بكر بن وائل، وعبد القيس من ربيعة، وكندة والأزد من اليمن، وتميم وقيس من مضر، فصاروا إلى الغض من قريش والأنفة عليهم، فعادت العصبية إلى نحو ما كانت عليه في الجاهلية.

أسباب التفريق

كان التفريق أولًا بين قريش وسائر العرب، فتعصب العرب كافة على قريش؛ حسدًا لاستبدادهم بالسلطان دون سائر الصحابة أو التابعين، إلا الذين تألفهم معاوية من القبائل اليمنية والعدنانية، بدأ هذا الخلاف من أيام عثمان على يد سعيد بن العاص،١ وتزايدت الوحشة بين قريش وسائر القبائل من ذلك الحين وخصوصًا بينهم وبين اليمنية وفيهم الأنصار، وثبت الأنصار في نصرة أهل البيت ضد أهلهم من قريش مثلما فعلوا في أول الإسلام، إذ جاءهم الرسول مهاجرًا فرارًا من أهله، ولما جرت وقعة صفين سنة ٣٧ﻫ بين علي ومعاوية عدوها بين اليمنية الأنصار وقريش، فلما احتدم القتال في تلك الوقعة، قال رجل يمني من أنصار علي: «أيها الناس هل من رائح إلى الله تحت العوالي، والذي نفسي بيده لنقاتلنكم على تأويله (القرآن) كما قاتلناكم على تنزيله».

وامتد النزاع على هذا النحو حتى صار أكثر اليمنية شيعة علي وأنصاره … فعمد معاوية إلى اجتذاب قلوبهم لعلمه أن اكتفاءه بقريش ونحوهم لا يجديه نفعًا، فقرب منه قبيلة كلب وتزوج منها بحدل أم يزيد ابنه واستنصرهم على قتلة عثمان لأن امرأة عثمان كانت كلبية واستغواهم بالمال فحاربوا معه، ولما انتصر في حروبه ورسخت قدمه في الخلافة، تقربت منه قبائل كثيرة من مضر واليمن وظلت كلب على نصرة يزيد ابنه بعده لأنهم أخواله.

فلما مات يزيد وكان ابن الزبير في مكة يطالب بالخلافة، واختلف بنو أمية على اختيار خالد بن يزيد أو مروان بن الحكم (وكلاهما من أمية) وقع الخصام بين دعاة ابن الزبير ودعاة بني أمية، وكان أنصار ابن الزبير من قيس (مضرية) يدعون لابن الزبير، وأنصار بني أمية من كلب (يمنية) يدعون لخالد بن يزيد لأنه ابن أختهم، ونهض أناس من بني أمية فاعترضوا على خالد لصغر سنه، وأجمعوا على بيعة مروان لشيخوخته على أن تكون الخلافة بعده لخالد، ثم جرت واقعة مرج راهط بين أصحاب مروان وأصحاب ابن الزبير، أي بين كلب وقيس، وفاز مروان وثبتت قدمه في الخلافة، ثم توفي مروان ولم يفِ لخالد، فخلفه ابنه عبد الملك بن مروان الشديد الوطأة، وظلت كلب معه وقيس مضطغنة عليه، وانقسم العرب في سائر أنحاء المملكة الإسلامية بين هذين الحزبين: قيسية وكلبية، أو مضرية ويمنية، أو نزارية وقحطانية، وقامت المنازعات بينهما في الشام والعراق ومصر وفارس وخراسان وإفريقيا والأندلس، ففي كل بلد من هذه البلاد وغيرها حزبان: مضري ويمني، تختلف قوة أحدهما باختلاف الخلفاء أو الأمراء أو العمال، فالعامل المضري يقدم المضرية، والعامل اليمني يقدم اليمنية، ويختلف ذلك باختلاف الأحوال، وله تأثير في كل شيء من تصاريف أحوالهم حتى في تولية الخلفاء والأمراء وعزلهم، وكثيرًا ما كانت الولاية والعزل موقوفين على نصرة أحد هذين الحزبين.

غير الانقسام الذي وقع بين بطون قريش وأهم أحزابهم: أمية وبنو هاشم، فكان الناس يتعصبون لأحدهما على الآخر، وناهيك بالتخاصم بين العرب وغير العرب، وكما كان القرشيون مقدمين في العصر الأموي على سائر العرب، فالعرب على الإجمال كانوا مقدمين على سائر الأمم التي دانت للمسلمين. ولم يكن هؤلاء يستنكفون من ذلك، بل كانوا يعتقدون فضل العرب في إقامة هذا الدين وأنهم مادته وأصله، ولا كانوا يأنفون من أن يسموا العرب أسيادهم ويعدوا أنفسهم من مواليهم بل كانوا يعدون طاعتهم وحبهم فرضًا واجبًا عليهم.

فكان العرب في أثناء هذه الدولة يترفعون عن سائر الأمم من الموالي وأهل الذمة، وكان العربي يعد نفسه سيدًا على سواه ويعتقد أنه خُلق للسيادة وذاك للخدمة … فاقتصر العرب على الاشتغال بالسياسة، ولم يكونوا يعنون بشيء من العلم غير الشعر والتاريخ؛ لأنه لازم للسياسة، وأما الحساب والكتابة؛ فقد كانا من صنائع الموالي … حتى الشعر فإن الموالي نالوا منه حظًّا في أثناء العصر الأموي.

وبالجملة إن انتقال الدولة إلى الأمويين انقلاب سياسي عظيم، وهو طبيعي في نواميس العمران لأن القواعد التي وضعها الإمام عمر للدولة تنافي سياسة الملك ولم يكن يرجى بقاؤها، لأن من شروطها ألا تخزن الأموال في بيت المال وأن لا يشتغل المسلمون بالزرع ولا يقتنوا الأرضين ونحو ذلك مما يلائم الدين والتقوى، ويخالف السياسة والملك … فانتقالها إلى الملك في أيام بني أمية وانتقال كرسي الخلافة إلى الشام أوجب احتكاكها بالدول الأخرى، فأقيمت على دعائم سياسية واقتبس أهلها تمدن الأمم المجاورة وعلومهم، وأنشأوا تمدنًا من عند أنفسهم ووضعوا العلوم والآداب التي اقتضاها ذلك التمدن كما سيجيء.

هوامش

(١) راجع تفصيله في تاريخ التمدن الإسلامي ٥٧ ج٤ «الطبعة الثالثة».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤