شعراء العصر الأموي

تكاثر الشعراء في العصر الأموي للأسباب التي قدمناها، فزاد عددهم في أثنائه — وهي تسعون سنة — على شعراء الجاهلية الذين نبغوا في أثناء قرنين وبعض القرن، فقد رأيت عدد الشعراء الجاهليين نحو ١٢٠ شاعرًا على اختلاف القبائل والبطون، وزاد عدد شعراء العصر الأموي على ذلك … نعني الذين اشتهروا بالشعر ووصلنا أخبارهم … وهناك مئات غيرهم لم يبقَ من آثارهم إلا أبيات أو قصائد ذُكرت في كتب الحماسة والجمهرات وغيرها من كتب الأدب، أو ضاعت أخبارهم كما ضاعت أخبار أكثر الجاهليين …

(١) شعراء العصر الأموي بالنظر إلى قبائلهم

إذا نظرنا إلى شعراء العصر الأموي من حيث قبائلهم وأنسابهم، رأينا أكثر شعراء العرب من قيس، ثم قريش، فاليمن، فتميم، فربيعة، فمضر، فقضاعة، وهم يختلفون عن حال شعراء الجاهلية من هذه الناحية اختلافًا كبيرًا، وإن اتفقوا معهم في أن الأكثرية من قيس … فشعراء قريش كانوا في الجاهلية عشرة، فصاروا في العصر الأموي ٢٣، وسبب ذلك بديهي لأن القرشيين ظهروا بعد الإسلام لقيام الإسلام بهم، وبعكس ذلك شعراء ربيعة فقد كانوا في الجاهلية ٢٠ فصاروا في العصر الأموي ١١، والسبب طبيعي أيضًا لأن ربيعة كان لها الشأن الأكبر في الجاهلية؛ إذ قامت باستقلال الحجازيين من سلطان اليمن، وكثرت حروبهم وأيامهم.

واعتبر ذلك في القحطانية أو شعراء اليمن، فقد كانوا في الجاهلية ٢٢ فصاروا في العصر الأموي ١٦؛ لانتقال عز السيادة بعد الإسلام إلى سواهم، وأما تميم فعدد شعرائها في العصرين واحد لأن حالها لم تختلف فيهما، أما إياد فلم ينبغ منهم في ذلك العصر شاعر لذهاب عصبيتهم قبل الإسلام، وكذلك اليهود لم ينبغ منهم في هذا العصر الأموي شاعر وكانوا في الجاهلية ٤ على أن طبقة من الشعراء كبيرة ظهرت في هذا العصر، لم يكن منها في الجاهلية إلا واحد نعني الموالي أو العبيد، فقد بلغ عدد الشعراء منهم ٢١ شاعرًا. وهذا جدول في المقابلة بين شعراء الجاهلية وشعراء بني أمية من حيث أنسابهم على وجه التقريب:

اسم القبيلة شعراؤها في الجاهلية شعراؤها في العصر الأموي
قيس ٢٧ ٢٦
ربيعة ٢٠ ١١
تميم ١٢ ١٣
مضر (غير قيس وقريش وتميم) ١٦ ٩
قريش ١٠ ٢٣
القحطانية (اليمن) ٢٢ ١٦
قضاعة ٤ ٨
إياد ٢ ٠٠
اليهود ٤ ٠٠
الموالي ١ ٢١

(٢) شعراء العصر الأموي بالنظر إلى أغراضهم

وإذا اعتبرنا شعراء هذا العصر بالنظر إلى أغراضهم، رأيناها تختلف عن أغراض الشعراء الجاهليين اختلافًا كبيرًا … فقد كانت الأكثرية في ذلك العصر للأمراء والفرسان المحاربين، وكان عددهم بضعة وأربعين شاعرًا، فصاروا في العصر الأموي قليلين لاشتغال الفرسان والكبراء بأعمال الدولة، ولذهاب بعض الأريحية البدوية من نفوسهم بالحضارة، وقد ظهرت آثار الحضارة في الشعر الأموي بكثرة العشاق وأهل الغزل، وكانوا في الجاهلية ٦ فصاروا ٢١ ونشأت طائفة من الشعراء السكيرين وأهل الخلاعة عددهم ٦، ولم يكن منهم في الجاهلية إلا القليل.

على أن الأكثرية في العصر الأموي لطبقة من الشعراء سميناهم «شعراء السياسة» لاشتغالهم بالدفاع عن الأحزاب التي قام النزاع بينها على السيادة في ذلك العصر، وأكثرهم طبعًا بجانب الأمويين لأنهم أقوى الأحزاب … ويليهم الخوارج، والعلويين، وغيرهم.

ويقسم العصر الأموي بالنظر إلى أغراض شعرائه إلى ثلاثة أدوار:
  • الدور الأول: منذ بدء الدولة الأموية (سنة ٤١ﻫ) إلى ذهاب آل معاوية بخلافة مروان بن الحكم سنة ٦٤ﻫ، ومعظمه في زمن معاوية، ويجوز أن نسميه «دور معاوية»، وشعراء هذا الدور لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليدين، وكانت الدولة الأموية في أيامهم لم ترسخ قدمها بعد … فكان نحو نصفهم يخالفون سياسة معاوية وخلفائه ويطعنون فيه، وبعضهم يجاهرون بعدوانه انتصارًا للأنصار أو العلويين.
  • الدور الثاني: من خلافة مروان بن الحكم (سنة ٦٤ﻫ) إلى خلافة يزيد بن عبد الملك (سنة ١٠١ﻫ) وخلفاء هذا الدور: مروان وابنه عبد الملك، فالوليد، فسليمان، فعمر بن عبد العزيز، ولكن معظمه في زمن عبد الملك بن مروان، بحيث يصح أن يُنسب إليه … فيقال «دور عبد الملك»، وفي أيامه اختلفت الأحزاب، وتعدد طلاب الخلافة، ونشبت الحروب، وراجت سوق الشعر لجمع الأحزاب أو تفريقها، وأكثر شعراء العصر الأموي نبغوا في هذا الدور وبلغ عددهم فيه نحو المائة، وفيهم شعراء السياسة وشعراء الغزل والأدب غيرهم.
  • الدور الثالث: من ولاية يزيد بن عبد الملك (سنة ١٠١ﻫ) إلى انقضاء الدولة الأموية (سنة ١٣٢ﻫ)، وفيه تضخمت الدولة وركن أهلها إلى الترف والقصف، ومن خلفائها يزيد بن عبد الملك العاشق المتيم صاحب حبابة وابنه الوليد بن يزيد الخليع المفتون، والناس على دين ملوكهم، وعدد الشعراء الذين نبغوا في هذا العصر نحو عدد شعراء الدور الأول، وأكثرهم من شعراء السوء وأهل الرخاء والترف.

(٣) الدور الأول من الشعر في العصر الأموي (من سنة ٤١–٦٤ﻫ)

هو أقرب سائر الأدوار إلى الجاهلية، وقد نشأ شعراؤه في عصر الراشدين، وتعودوا الصدق واستقلال الفكر والعدل، وكانوا لا يرون حقًّا لمعاوية في الخلافة، بل يعتقدون أنه أخذها بالدهاء ولا يتوقعون انتقالها إلى أهله، بل كانوا يرجون رجوعها بعده إلى آل علي أو غيرهم من أبناء الصحابة بالانتخاب، ولذلك كانت لهم جرأة عليه. وأهم الأحزاب السياسية يومئذ الأنصار والمهاجرون، والأنصار هم أهل المدينة شيعة علي، والمهاجرون هم قريش من أهل مكة شيعة معاوية. فكان معاوية يقرب الشعراء الذين يطعنون في الأنصار، ويندر أن يجرؤ أحد منهم على ذلك؛ احترامًا للإمام علي … فكان أكثر الشعراء في هذا الدور إما على الحياد خوفًا من معاوية، أو ينصرون العلويين عليه، وبعضهم كان يتزلف إليه بالمديح. أكثر شعراء هذا الدور من شعراء السياسة، إما مع الأمويين أو عليهم أو على الحياد، وأهم الذين كانوا مع الأمويين ابن أرطأة المحاربي كان سيد قومه، والحارث بن بدر من يربوع، والمتوكل الليثي من كنانة، والوليد بن عقبة من قريش.

والذين كانوا ضد الأمويين، أشهرهم النعمان بن بشير الأنصاري، وابن مفرغ من حمير، وأبو الأسود الدؤلي واضع علم النحو. وممن كان على الحياد القتال الكلابي، وسيأتي ذكرهم.

ولا نعني بقسمة العصر الأموي إلى أدوار، أن شعراء الدور الأول لم يدركوا الدور الثاني وأن شعراء الثاني لم يدركوا الأول … فإن أكثرهم عاصروا الدولة الأموية في معظم سنينها وعرفوا معظم خلفائها … ولكننا نعني بشعراء دور معين، الذين نبغوا في هذا الدور ونظموا فيه.

(٣-١) أنصار علي

النعمان بن بشير الأنصاري (توفي سنة ٦٥ﻫ)

هو من الخزرج من أهل يثرب، لكنه ساير معاوية فكان معه في موقعة صفين … ولم يكن مع معاوية في تلك الموقعة من الأنصار سواه، وقد اجتذبه بدهائه وسخائه، وكان يراعي جانبه، وكثيرًا ما قبل توسطه للأنصار عنده، وعاش النعمان المذكور إلى خلافة مروان بن الحكم، وكان يتولى «حمص»، فلما أفضت الخلافة إلى مروان دعا لابن الزبير وخالف مروان بعد قتل الضحاك … فلم يجبه أهل حمص إلى ذلك، فهرب منهم فتبعوه وأدركوه وقتلوه، ومع مسايرته بني أمية، فإنه كان شديد التعصب للأنصار، ولذلك لما علم بقصيدة الأخطل في الطعن عليهم، رد عليه كما تقدم. والنعمان بن بشير من العريقين في الشعر خلفًا عن سلف، فإن جده وأباه وعمه وأولاده وأحفاده كلهم شعراء.١

ومن أحفاده شبيب بن زيد بن النعمان، كان يرى فساد أمر بني أمية على أيام الوليد بن يزيد، فقال من قصيدة يعاتبهم:

يا أيها الراكب المُزجي مطيته
لقيتَ حيث توجهتَ الثَّنَا الحسنا
أبلغْ أميةَ أعلاها وأسفلها
قولًا ينفر عن نُوَّامها الوسنَا
إن الخلافة أمرٌ كان يُعْظمه
خِيارُ أولكم قدْمًا وأولنا
فقد بَقَرْتم بأيديكم بطونكمُ
وقد وُعظتم فما أحسنتم الأذنا
لما سفكتم بأيديكم دماءَكُم
بغيًا وغَشَّيتمُ أبوابكم درَنا

وترى أخبار النعمان بن بشير في الأغاني ١١٩ ج١٤، والعقد الفريد ١١٢ ج٣، وفي سيرة ابن هشام، وابن خلكان، وابن الأثير، وغيرها.

ابن مفرغ الحميري (توفي سنة ٦٩ﻫ)

هو يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري، وكان شاعرًا غزلًا محسنًا، وكان قلبه مع علي، لكنه ساير الأمويين لأنه من حلفائهم، وكان مقربًا من آل زياد بن أبيه، صحب عباد بن زياد والي سجستان، فلم يحسن صحبته فهجاه سرًّا وكان يهزأ بلحيته — وكانت كبيرة — فقال فيها:

ألا ليت اللِّحى كانت حشيشًا
فنَعْلفها خُيولَ المسلمينا
فوشى به بعضهم إلى عباد فجفاه وحبسه، فهرب إلى العراق وأخذ يطعن في آل زياد ويهجوهم لأن أباهم زياد بن أبيه مجهول النسب، وإنما استلحقه معاوية بنسبه ليستفيد من دهائه كما هو مشهور في تاريخ الإسلام٢ فعلم عبيد الله بن زياد وهو أمير البصرة، فقبض على ابن مفرغ واستأذن معاوية في قتله، فنهاه عن ذلك لأنه خليفة، ولكنه أذن بتعذيبه فعذبه تعذيبًا شديدًا.٣

ومن قول ابن مفرغ في زياد وابنه، وفيه إشارة إلى ضعف أنسابهم:

ألا أبلغْ معاويةَ بن صَخْرٍ
مُغلغلةً عن الرجل اليماني
أتغضب أن يقال أبوك عَفٌّ
وترضى أن يقال أبوك زاني
فأشهد أن رِحْمك من زيادٍ
كرِحْم الفيل من ولد الأتان
وأشهد أنها ولدت زيادًا
وصَخْرٌ من سُمَيَّة غير دان

وكان ابن مفرغ من شعراء الحماسة وله غزل لطيف.

ونجد أشعاره وأخباره متفرقة في الأغاني ٥١ ج١٧، والشعر والشعراء ٢٠٩، وابن خلكان ٢٨٩، وسيرة ابن هشام، وفي تاريخ ابن الأثير.

أبو الأسود الدؤلي (توفي سنة ٦٩ﻫ)

اسمه ظالم بن سفيان، وهو من الدئل بطن من كنانة، معدود في التابعين والفقهاء والشعراء والمحدثين والأشراف والفرسان والأمراء والدهاة والنحويين، وهو واضع علم النحو، وكان من أكثر الناس تعلقًا بعلي، وعنه أخذ علم النحو كما تقدم، أما من حيث الشعر؛ فقد كان من نصراء الشيعة لكنه لم يكن يجسر على هجو معاوية كما فعل أكثر أمثاله، وكان معاوية لا يتعمد أذاه ولكنه كان يضايقه، ولم يُرْوَ له طعن في بني أمية، وأكثر شعره في الحكم والأدب، ومن حكمه والفخر قوله:

إذا كنت مظلومًا فلا تُلْفَ راضيًا
عن القوم حتى تأخذ النصْف واغضب
وقاربْ بذي جهلٍ وباعد بعالم
جلوبٍ عليك الحق من كل مَجْلب
فإن حَدِبوا فاقعسْ وإن هم تقاعسوا
ليستمكنوا مما وراءك فاحدِبِ
ولا تَدْعُنِي للجور واصبر على التي
بها كنت أقضي للبعيد على أبي
فإني امرؤٌ أخشى إلهي وأتَّقي
مَعاري وقد جَرَّبت ما لم تجرِّب

ومن قوله:

وأحبب إذا أحببت حُبًّا مقاربًا
فإنك لا تدري متى أنت نازعٌ
وأبغض إذا أبغضت بغضًا مقاربًا
فإنك لا تدري متى أنت راجع
وكن معدنًا للحلم واصفح عن الحَنا
فإنك راءٍ ما عملتَ وسامع

وعاش أبو الأسود فقيرًا، وكان متهمًا بالبخل، وكان يقيم بجوار البصرة، وتجد ترجمته في الأغاني ١٠٥ ج١١، وفي ابن خلكان ٢٤٠ ج١، والشعر والشعراء ٤٥٧، والمستطرف ١٣٩ ج١، والعقد الفريد ٢٥٧ ج٣، والدميري ٣١٧ ج١، وطبقات الأدباء ٤، وفي المجلة الشرقية الألمانية مقالة عن شعره وشعر علي سنة ١٨٦٤.

(٣-٢) أنصار معاوية

مسكين الدارمي (توفي سنة ٩٠ﻫ)

هو ربيعة بن عامر من دارم بطن من تميم، وكان شاعرًا شريفًا من سادات قومه، وعمر إلى أواخر الدور الثاني من العصر الأموي، لكننا وضعناه هنا لغلبة شعره في معاوية على سواه، وله معه شأن في تاريخ العطاء أيام معاوية، وكان معاوية لا يفرض العطاء (الرواتب) إلا لليمن ليحاربوا معه وينحرفوا عن علي … فجاء مسكين وطلب من معاوية أن يفرض له العطاء فأبى، فقال أبياتًا يذكره فيها بقرب النسب بين تميم ومضر وهي:

أخاك أخاك إن من لا أخا له
كساعٍ إلى الهَيْجَا بغير سلاح
وإن ابن عَمِّ المرء فاعلمْ جناحَه
وهل ينهض البازي بغير جناح

فلم يجبه معاوية يومئذ، لكن سنحت له فرصة رأى فيها اليمنيين قد أخذهم الغرور وزادت دالتهم على الدولة، فعمد معاوية إلى استرضاء القيسيين ففرض لأربعة آلاف من قيس سوى من فرض لهم من تميم، وغيرهم من مضر. وصار يغزي اليمنيين في البحر والقيسيين في البر، وفرض طبعًا لمسكين وقربه حتى استعان بشعره في مبايعة ابنه يزيد.

وذلك أن معاوية كان يخاف إذا بايع لابنه بولاية العهد أن يغضب المسلمون لأن توارث الملك لم يكن معروفًا في الإسلام، فأحب أن يجس نبض الرأي العام قبل إعلان فكره، كما يفعل بعض دهاة السياسة في هذه الأيام، إذ يوعزون إلى الصحف التي تدافع عن آرائهم أن تذكر عزمهم على العمل الفلاني، وينظرون إلى ما يكون من وقعه عند الناس، ويكون لهم مندوحة للرجوع عنه إذا توسموا فيه خطرًا، فأوعز معاوية إلى مسكين أن يقول أبياتًا في معنى المبايعة ليزيد، وينشدها إياه في مجلسه وهو حافل بالوجوه والأشراف … ففعل وأنشأ قصيدة قال فيها:

ألا ليت شعري ما يقول ابنُ عامرٍ
ومروان أم ماذا يقول سعيدُ
بني خلفاء الله مهلًا فإنما
يُبَوِّئها الرحمن حيث يريد
إذا المنبر الغربيُّ خلاه ربُّه
فإن أمير المؤمنين يزيد

ومعنى القصيدة أنه يقترح عليه أن يولي يزيد العهد، فلما فرغ من إنشاده، قال له معاوية: «ننظر فيما قلت يا مسكين ونستخير الله» ولم يتكلم أحد من الحاضرين إلا بالموافقة، فأغدق عليهم معاوية العطاء، ولما مات زياد بن أبيه، رثاه مسكين بقوله:

رأيت زيادة الإسلام ولَّت
جهازًا حين وَدَّعْنا زياد

وكان الفرزدق منحرفًا عن زياد فعارضه فأجابه مسكين ثم تكافأ، وترى أخبار مسكين في الأغاني ٦٨ ج١٨، والشعر والشعراء ٣٤٧، وخزانة ٤٦٧ ج١.

(٣-٣) سائر شعراء الدور الأول

أما سائر شعراء هذا الدور، فنكتفي بالإشارة إلى أماكن تراجمهم ليطالعها من شاء:
  • (١)

    ابن ارطأة. ترجمته في الأغاني ٧٩ ج٢.

  • (٢)

    المتوكل الليني (توفي سنة ٦٠). ترجمته في الأغاني ٣٩ ج١١.

  • (٣)

    الوليد بن عقبة (توفي سنة ٧٠). ترجمته في الأغاني ١٧٥ ج٤.

  • (٤)

    القتال الكلابي (توفي سنة ٦٤). ترجمته في الأغاني ١٥٨ ج٢، والشعر والشعراء ٤٤٣.

(٤) الدور الثاني من الشعر في العصر الأموي (من سنة ٦٤–١٠١ﻫ)

في هذا الدور نبغ معظم شعراء بني أمية وأبلغهم، وعددهم يناهز مائة شاعر، وهم فئات قسمناها حسب أغراضهم، وأول تلك الفئات شعراء السياسة، وعددهم نحو ٤٠ شاعرًا، وأهمهم وأكثرهم عددًا أنصار بني أمية وهم نحو العشرين، وثمانية من أنصار آل المهلب، والباقون من أنصار سائر الأحزاب، على أن شعراء السياسة أكثر من ذلك؛ إذ قلما نبغ شاعر لم يتعرض لأحد الأحزاب التي كانت شائعة يومئذ … لكن جماعة منهم دخلوا في الطبقات الأخرى لتغلب بعض تلك الأغراض على خواطرهم، وأهم هذه الطبقات شعراء الغزل وعددهم بضعة وعشرون شاعرًا، والباقون من شعراء الأدب الذين لا يُعرف لهم غرض خاص، غير الشعراء السكيرين والمغنين.

ويقدم النقاد ستة من شعراء العصر الأموي، يعدونهم في مقدمة الشعراء الأمويين من سائر الطبقات، وهم: الأخطل، وجرير، والفرزدق، والراعي، وأبو النجم العجلي، والأحوص … يسمونهم الفحول، وأكثرهم من شعراء السياسة، ويقدمون الثلاثة الأول على سائرهم، فهم أشعر شعراء بني أمية على الإطلاق، نعني: جريرًا، والفرزدق، والأخطل، واختلف الناس فيمن هو أشعرهم، فالذين يقدمون جريرًا يقولون: إنه أكثرهم فنون شعر وأسهلهم ألفاظًا وأقلهم تكلفًا وأرقهم نسيبًا، والذين يقدمون الأخطل يقولون: إنه أكثرهم قصائد طوالًا جيادًا، ليس فيها سقط، ولا فحش، وأكثرهم تهذيبًا لشعره، وقد تقدمهم الأخطل في الزمن، ثم نبغ جرير والفرزدق، فدخل الأخطل بينهما وهو شيخ طاعن في السن، وكان أبو عمرو بن العلاء يشبِّه جريرًا بالأعشى، والفرزدق بزهير، والأخطل بالنابغة، ولم يجتمع أديبان من أدباء ذلك العصر إلا جرى بينهما البحث في أي الشاعرين أشعر: جرير أو الفرزدق، فيحتدم الجدال وينفض المجلس، وأهله حزبان يعرفان بالفرزدقيين والجريريين.

(٥) فحول الشعراء

(٥-١) الأخطل (توفي سنة ٩٥ﻫ)

يكنى أبا مالك واسمه غياث بن غوث بن الصلت من قبيلة تغلب، وهو نصراني مثل أكثر تلك القبيلة، والأخطل لقب غلب عليه لسبب اختلفوا فيه، وظهرت الشاعرية في الأخطل منذ حداثته، وكان يقيم في الحيرة، فدارت مهاجاة بينه وبين كعب بن جعيل شاعر تغلب قبله، فغلبه الأخطل وأفحمه فصار هو المقدم في شعرائها، وكان ينتخب شعره فينظم تسعين بيتًا ويختار منها ثلاثين، وسُئل حماد عن الأخطل، فقال: «وما تسألونني عن رجل حبب شعره إلى النصرانية» وكان الأخطل يشرب الخمر ولا يجيد النظم إلا إذا شرب، ولكنه لم ينظم شعرًا تستحي العذراء من سماعه.

وكان السبب في تقربه إلى بني أمية أن معاوية أراد أن يهجو الأنصار لأسباب تقدم بيانها، فاقترح ابنه يزيد على كعب بن جعيل المشار إليه أن يهجوهم وكان مسلمًا فأبى، وقال: «أدلك على غلام منا نصراني لا يبالي أن يهجوهم كأن لسانه لسان ثور؟» قال: «من هو؟» قال: «الأخطل» فدعاه معاوية وأمره بهجائهم، فقال: «على أن تمنعني» قال: «نعم» فقال قصيدة جاء فيها من الهجو بالأنصار قوله:

وإذا نسبت ابن الفُرَيْعة خِلْتَهُ
كالجحش بين حمارة وحمار
لعن الإلهُ من اليهود عِصابةً
بالجِزْع بين صُلَيْصِلٍ وصرار
قومٌ إذا هدر العصيرُ رأيتهم
حمرًا عيونهمو من المُسْطار
خَلُّوا المكارم لستمُ من أهلها
وخُذوا مساحيَكم بني النجار
إن الفوارس يعلمون ظهوركم
أولادُ كل مقبَّحٍ أكَّارِ
ذهبتْ قريشٌ بالمكارم والعُلا
واللؤمُ تحت عمائم الأنصار

فبلغ ذلك النعمان بن بشير فرد عليه بقصيدة تقدم ذكرها في كلامنا عن مميزات شعر العصر الأموي.

ثم أفضت الخلافة إلى عبد الملك بن مروان، وكان ناقمًا على قبائل قيس لأنهم نصروا أعداءه كما تقدم، فعمد إلى تقديم شعراء القبائل الأخرى ليكتسب أحزابهم. وعلم أن الأخطل شاعر تغلب له يد في نصرة الأمويين على الأنصار فقربه وأكرمه، وكان عبد الملك بصيرًا بالشعر يعجبه شعر الأخطل فيطرب لما يقوله حتى سماه «شاعر بني أمية» وبعث بمولى ينادي على رءوس الملأ «هذا شاعر أمير المؤمنين، هذا شاعر العرب» وكان الأخطل مغرمًا بالخمر، وحملته الدالة على عبد الملك أن يطلب منه أن يسقيه خمرًا،٤ فغضب عليه وقال: «لولا حرمتك لفعلت بك وفعلت» فخرج حتى لقي خمَّارًا شرب عنده وعاد فجادت قريحته، فدخل على عبد الملك ومدحه بقصيدة مطلعها:
خفَّ القَطِين فراحوا منك وابتكروا
وأزعجتهم نَوًى في صَرْفها غِيَرُ

وقال له عبد الملك: «ألا تسلم فنفرض لك في الفيء ونعطيك عشرة آلاف» فقال: «وكيف الخمر؟» قال: «وما تصنع بها وإن أولها لمر وإن آخرها لسكر» فقال: «أما إذا قلت ذلك فإن فيما بين هاتين لمنزلة ما ملكك فيها إلا كلعقة ماء من الفرات بالإصبع» فضحك وتركه على نصرانيته وسهل عليه الدخول والخروج حتى كان يجيء وعليه جبة خز، وفي عنقه سلسلة ذهب فيها صليب تنفض لحيته خمرًا، حتى يدخل على عبد الملك بغير إذن.

وكان لشعره تأثير في نفس عبد الملك يقيمه ويقعده، ومن الأدلة على ذلك أن عبد الملك لما أنزل زفر بن الحارث الكلابي عن قرقيسيا، استقدمه إليه وأقعده على سريره فعاتبه بعضهم على تقدير رجل كان في الأمس من ألد أعدائه وسيفه يقطر من دماء قومه فلم ينفع العتاب … فبلغ ذلك الأخطل وهو يشرب، فمضى حتى دخل على عبد الملك وأنشد:

وكأسٍ مثل عَيْن الدِّيك صرْفٍ
تُنسِّي الشاربين لها العقولا
إذا شرب الفتى منها ثلاثًا
بغير الماء حاول أن يَطُولا
مشى قرشيةً٥ لا شك فيها
وأرخى من مآزرهِ الفضولا

فقال له عبد الملك: «ما أخرج هذا منك يا أبا مالك إلا خطة في رأسك»، قال: «أجل والله يا أمير المؤمنين حين تجلس عدو الله هذا معك على السرير وهو القائل بالأمس:

وقد يَنْبُتُ المَرْعى على دِمَنِ الثرى
وتَبقى حزازاتْ النفوس كما هيا

فقبض عبد الملك رجله ثم ضرب بها صدر زفر فقلبه عن السرير، وقال: «أذهب الله حزازات تلك الصدور».

ومن قوله في النسيب:

من الخَفِرات البِيض أما وشاحُها
فيَجري وأما القَلْب٦ منها فلا يجري
تموت وتحيا بالضجيع وتلتوي
بمطَّرد المَتْنَيْنِ مُنْبَتِر الخصرِ

ومن قوله في المديح:

نفسي فداءُ أمير المؤمنين إذا
أبدى النواجذَ يومًا عارمٌ ذكَر
الخائض الغمرَ والميمون طائره
خليفةُ الله يُسْتَسْقَى به المطرُ

ومن قوله في الهجاء:

وكنت إذا لقيتَ عبيد تيْمٍ
وتيمًا قلت أيهمُ العبيدُ
لئيم العالمين يسود تيمًا
وسَيِّدهم وإن كرهوا مَسودُ

أما دخوله في الهجاء بين جرير والفرزدق فسببه أنه كان مرة عند بشر بن مروان أخي الخليفة وعنده جرير والفرزدق، وكان بشر يرى من السياسة أن يغري بين الشعراء، فقال للأخطل: «احكم بين الفرزدق وجرير» فقال: «أعفني أيها الأمير»، قال: «احكم بينهما» فقال: «الفرزدق ينحت من صخر، وجرير يغرف من بحر» وبلغ ذلك جريرًا فلم يعجبه، وهجاه بقوله:

يا ذا الغباوة إن بشرًا قد قضى
أن لا تجوز حكومةُ النَّشْوان
فرد عليه الأخطل ثم رد عليه جرير مما يطول ذكره،٧ وكان الأخطل أشهب اللحية له ضفيرتان، ومن أحاسن شعره قوله في وصف السكران:
صريعُ مُدام يرفع الشَّرْبُ رأسه
ليحيا وقد ماتتْ عظامٌ ومفصلُ
نهاديه أحيانًا وحينًا نجره
وما كاد إلا بالحشاشة يعقل
إذا رفعوا صدرًا تَحَامل صدره
وآخرُ مما نال منها مُخبَّلُ

وهو من أصحاب الملحمات وله ملحمة مطلعها:

تغير الرسم من سلمى بأحفار
وأقفرتْ من سليمى دِمْنَةُ الدارِ

وتفنن الأخطل في النظم من حيث الوزن تفننًا قلدوه فيه بعد أجيال، وذلك قوله:

ولقد علمت إذا الرياحُ تناوحتْ
هوج الرئِّال تكبُّهن شمالا
أنا نعجِّل بالعبيط لضيفنا
قبل العيال ونَضْرب الأبطالا

ولو قال:

ولقد علمت إذا الريا
ح تناوحت هوج الرئال

لكان شعرًا، وإذا زدت فيه «تكبهن شمالًا» كان أيضًا شعرًا من روي آخر.

وللأخطل ديوان مطبوع في بيروت للمرة الأولى بعناية الأب صالحاني عن نسخة بطرسبورج مع شروح سنة ١٨٩١ في نيف وخمسمائة صفحة، وللأب المذكور طبعة فوتوغرافية عن نسخة وجدوها في بغداد، وللدكتور غريفيني طبعة بالحجر عن نسخة وُجدت في اليمن، وعثروا في مكتبة بيازيد بالأستانة على نسخة خطية من كتاب نقائض جرير والأخطل.٨

وله أخبار متفرقة في الأغاني ١٦٩ ج٧ و٤٦ ج٩ و٢ ج١٠ و١٤٨ و١٥٤ ج١٣ والجمهرة ١٧٠ وفي الشعر والشعراء ٣٠١ والعقد الفريد ١٣٣ ج٣ وخزانة الأدب ٢٢٠ ج١، وللمستشرق دي برسفال مقالة عنه وعن جرير والفرزدق في المجلة الآسيوية الفرنسية سنة ١٨٩٤، وكتب عنه الأب لامنس مقالة في المجلة الآسيوية المذكورة سنة ١٨٩٤.

(٥-٢) جرير (توفي سنة ١١١ﻫ)

هو جرير بن عطية بن الخطفي من كليب بن يربوع (تميم) نشأ في البادية أيام معاوية، وهو واسع الخيال قوي الشاعرية مع ميل إلى الهجاء، وكان يفد إلى الشام مع من يفد على الخلفاء للاستجداء بالمديح، فعرفه أحدهم إلى يزيد بن معاوية وهو أمير وجعل يختلف إليه وهو شاب، فاستلطف يزيد نظمه، واتفق أن يزيد أراد أن يعاتب أباه بشعر فاقتبس أبياتًا من قصيدة لجرير فرفعها إلى أبيه عن لسانه، وفيها قوله:

بأيِّ سنانٍ تطعن القوم بعد ما
نَزَعتَ سِنانًا من قَناتك ماضيا

فاعتقد معاوية أن الأبيات لابنه، فلما صارت الخلافة إلى يزيد وفد عليه جرير، فاستؤذن له مع الشعراء فجاء الجواب: «أن أمير المؤمنين يقول: لا يصل إلينا شاعر لا نعرفه ولا نسمع بشيء من شعره» فقال جرير: «قولوا له أنا القائل (وذكر الأبيات)»، فأمر بإدخاله، فلما أنشده القصيدة قال يزيد: «لقد فارق أبي الدنيا وما يحسب إلا أني قائلها» وأمر له بجائزة.

ولما صارت الخلافة إلى عبد الملك بن مروان لم يتجرأ جرير على الوفود عليه لعلمه بغضب عبد الملك على شعراء مضر لأنهم كانوا يمدحون آل الزبير أعداءه (وتميم من مضر) فاحتال حتى قدم على الحجاج وهو أمير العراق على يد بعض عماله، فأعجب الحجاج ببلاغته وشاعريته، فأحب أن يقدمه إلى الخليفة وعلم أن عبد الملك سينكر ذلك، فأنفذ معه ابنه محمدًا فاستقبله عبد الملك بعد الجهد ثم أقبل يعاتبه قائلًا: «ماذا عسى أن تقول فينا بعد قولك في الحجاج عاملنا:

من سَدَّ مطَّلَعَ النفاق عليكمُ
أم مَن يصولُ كصوْلة الحجَّاج

إن الله لم ينصرنا بالحجاج وإنما نصر دينه وخليفته»، وظهر الغضب في وجه عبد الملك، فتوسط محمد بن الحجاج في الرضا، واستأذن جرير في الإنشاد، وأنشد القصيدة التي يقول منها:

ألستم خيرَ من ركب المطايا
وأنْدَى العالمين بُطونَ راحِ
فتبسم عبد الملك وقال: «كذلك نحن وما زلنا كذلك» وأمر له بمائة لقحة وثمانية من الرعاء٩ … وصار يفد على عبد الملك من ذلك الحين ويأخذ الجوائز، وكانت جائزته أربعة آلاف درهم وتوابعها من الحملان والكسوة.
ولما تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز وهو لا يرى للشعراء حقًّا في العطاء وفد عليه بقصيدة عامرة فاعتذر له ولم يعطِه، وتوفي جرير سنة ١١٠ بعد الفرزدق ببضعة أشهر، ودُفن في اليمامة حيث قبر الأعشى١٠ وكان يغن في لفظه فيخرج الكلام من أنفه أو كأن فيه نونًا.

مهاجاة جرير والفرزدق

واشتهر جرير على الخصوص بمهاجاته الفرزدق وغيره من معاصريه، وكان الناس يخافون لسانه، والسبب في اشتهاره بالهجاء أن رجلًا اسمه غسان بن ذهيل من عشيرة سليط هجاه بأبيات منها:

لعمري لئن كانت بَجيلة زانها
جَرِيرٌ لقد أَخْزَى كُلَيْبًا جريرُها

يريد أن جريرًا أخزى كليبًا وهو البطن الذي هو منه … فأجابه جرير بقصيدة وقعت على رأس الرجل وقوع السهام، منها قوله:

ألا ليت شعري عن سَليطٍ ألم تجد
سَليطٌ سوى غَسَّانَ جارًا يجيرها
فقد ضمَّنوا الأحساب صاحب سوْأةٍ
يناجي بها نفسًا خبيثًا ضميرها

فاستنصر غسان رجلًا اسمه البعيث، فنصره وهجا جريرًا وقال فيه:

كليبٌ لئامُ الناس قد تعلمونه
وأنت إذا عُدَّتْ كليبٌ لتيمُها
فأجابه جرير على الوزن والقافية، وبلغ ذلك الفرزدق وكان يحسد جريرًا فانتصر للبعيث، فاحتدم الهجاء بينهما … وانقسم الأدباء في الانتصار لهما إلى حزبين كما تقدم، وبلغ من أحد المشغوفين بالفرزدق أنه عقد جائزة قيمتها ٤٠٠٠ درهم وفرس لمن يفضل الفرزدق على جرير١١ وقد جمعت مناقضاتهما في كتاب يُعرف بنقائض جرير والفرزدق طُبع في ليدن في جزأين سنة ١٩٠٥.

وانتشبت المهاجاة بين جرير والأخطل لسبب ذكرناه في ترجمة الأخطل، وهاجاه أيضًا عمر بن لجأ التيمي وسراقة بن مرداس ثم المستنير بن سبرة العنبري لأنه أعان عليه ابن لجأ، ثم هاجى راعي الإبل وهو من الفحول لأنه فضل الفرزدق عليه وله في هجائه حديث طويل، والراعي من بني نميز فهجا جريرًا بأبيات منها:

رأيت الجَحْشَ جَحْشَ بني كُلَيْبٍ
تَيَمَّمَ حَوْضَ دِجْلةَ ثم هابا

فذهب جرير إليه ليستكفه أو يعاتبه فلقيه في المربد — نادى الأدباء والشعراء بالبصرة — على بغلة، وبجانبه ابنه جندل على مهر، فاقترب منه جرير وحياه وقال: «يا أبا جندل إن قولك يستمع وإنك تفضل الفرزدق علي تفضيلًا قبيحًا، وأنا أمدح قومك وهو يهجوهم، وهو ابن عمي، ويكفيك من ذاك إذا ذكرنا أن تقول: كلاهما شاعر كريم، ولا تحمل مني ولا منه لائمة»، فلم يجبه الراعي، ولكنه لحق ابنه ورفع الابن عصاه فضرب عجز بغلته وخاطب أباه قائلًا: «لا أراك واقفًا على هذا الكلب من بني كليب كأنك تخشى منه شرًّا أو ترجو خيرًا».

فرفست البغلة جريرًا، فوقعت قلنسوته عن رأسه، فانصرف مغضبًا حتى إذا صلى العشاء بمنزله في علية (غرفة) له قال: «ارفعوا إلي باطية من نبيذ وأسرجوا لي» فأسرجوا له وأتوه بباطية من نبيذ وجعل يشرب ويستحث قريحته وينظم حتى كان السحر، وقد نظم ٨٠ بيتًا ختمها بقوله:

فغُضَّ الطَّرفِ إنك من نمير
فلا كعبًا بلغت ولا كلابا

ثم جاء المربد وأنشد هذه القصيدة في مجلس الأدباء وفيهم الفرزدق والراعي، فكان لها وقع شديد ولا سيما البيت الأخير.

وقد لا يفقه القارئ قوة الهجاء إذا لم يعلم أن كعبًا وكلابًا ونميرًا ثلاثة أبطن من عامر بن صعصعة من قيس … فجرير فضل كعبًا وكلابًا على نمير مع أنهما أخواه … ولم يسمع ذلك البيت أحد من العرب يومئذ إلا قال: «لا يفلح النميري بعد ذلك أبدًا» ومن هذه القصيدة أبيات من أبلغ ما يكون، كقوله:

إذا غَضَبَتْ عليك بنو تميمٍ
حسبت الناس كلَّهمُ غِضابا

وهو أحسن بيت في الفخر، وبسببه بدأت المهاجاة بين جرير والعباس بن يزيد الكندي، وقد ساءه تفاخر جرير بتميم فعارضه بقوله:

ألا رغمتْ أنوفُ بني تميم
قُساة التمر إن كانوا غضابا
لقد غضبتْ عليك بنو تميمٍ
فما نكَأتْ بغضبتِها ذُبابا
لو اطلَّع الغرابُ على تميم
وما فيها من السَّوءات شابا

فاغتنم جرير سقطة من العباس وهجاه بأبيات على نفس الوزن والقافية أولها:

إذا جهل الشقيُّ ولم يقدِّر
لبعض الأمر أوشك أن يُصابا

وممن هاجاهم جرير أيضًا جفنة الهزاني، والمرار بن منقذ، وحكيم بن معية، والأشهب بن رميلة، وغيرهم، وربما تهاجى الرجلان قبل أن يتعارفا كما يتناقش الصحافيان أو الكاتبان اليوم وبينهما ألوف من الأميال وتجد أخبار هذه المهاجاة في الأغاني ج٧، وفي كتاب نقائض جرير والفرزدق، وفي الشعر والشعراء:

وأحسن أقوال جرير في النسيب قوله:

إن العيون التي في طرفها حَوَرٌ
قَتَلنْنَا ثم لا يُحْيِين قتلانا

ومن أحسن شعره قوله يرثي ابنه:

قالوا نصيبَك من أجرٍ فقلت لهم
كيف العزاءُ وقد فارقت أشبْالي
فارقتَني حين كفَّ الدهرُ من بصري
وحين صرتُ كعظم الرِّمَّةِ البَالي

ومن قوله يرثي امرأته:

لولا الحياء لعادني استعبارُ
ولزرتُ قبركِ والحبيبُ يُزَارُ
ولَّهتِ قلبي إذ عَلَتْنِي كَبرة
وذوو التَّمائم من بنيكِ صغار
لا يلبث الأحباب أن يتفرقوا
ليلٌ يَكُرُّ عليهمُ ونهار
صلَّى الملائكة الذين تُخُيِّروا
والطيبون عليك والأبرار

وهو من أصحاب الملحمات ومطلع ملحمته:

حَيَّ الغداة برامة الأطلالا
رَسمًا تقادم عَهْدُه فأحالا

وقد ذكرنا أمثلة من هجائه، ومنها أيضًا قوله في هجاء تيم:

مِنَ الأصلاب ينزل لؤمُ تَيْمٍ
وفي الأرحام يُخْلَقُ والمَشِيمِ

وكان جرير على الإجمال من الشعراء طلاب العطاء من الخلفاء والأمراء، وكان يقيم هو والفرزدق بجوار البصرة، ونظرًا لاشتغال الناس بهما أهمل ذكر من عاصرهما من الشعراء.

ولجرير ديوان منه نسخة خطية في دار الكتب المصرية، وقد طُبع في القاهرة سنة ١٨٩٥ وفي غيرها، وترى أخباره في الأغاني ٣٨ و١٧٢ ج٧ و٢ ج١٠ و٤٦ ج٩، والجمهرة ١٦٨، والشعر والشعراء ٢٨٣، وخزانة الأدب ٣٩٧ ج٣، وابن خلكان ١٠٢ ج١، والمستطرف ٥٣ ج١، والعقد الفريد ١١٤ ج١.

(٥-٣) الفرزدق (توفي سنة ١١٠ﻫ)

هو من دارم من تميم واسمه همام بن غالب بن صعصعة، وكان جده صعصعة وجيهًا يُعرف بمحيي الموءودات، وأبوه غالب كان رئيسًا في قومه وله مناقبُ مشهورة. وُلد الفرزدق في البصرة وأقام في باديتها مع أبيه، وظهرت فيه ملكة الشعر وهو غلام … فجاء به أبوه إلى علي بن أبي طالب بعد وقعة الجمل، وأخبره أنه شاعر فقال: «علمه القرآن» كما تقدم، فلم ينظم شعرًا حتى حفظ القرآن، ولم يكد ينبغ حتى قامت المهاجاة بينه وبين جرير، ولا شك أنها نفعتهما؛ لأن الانتقاد يشحذ القريحة، والضغط والمقاومة يظهران القوى الكامنة، وإنما نأتي بمثال من ذلك … نظم الفرزدق قصيدة وهو في المدينة قال فيها:

هما دَلَّياني من ثمانينَ قامةً
كما انقضَّ بازٍ أقْتَمُ الرِّيش كاسِرُه
فلما استوت رجلاي في الأرض قالتا
أحيُّ فيُرجَى أم قتيل نُحاذره
فقلت ارفعا الأمراس لا يشعروا بنا
وأفلتُّ في أعجازِ ليلٍ أبادره
أحاذر بوابين قد وكلا بنا
وأسْوَدَ من ساجٍ تصر مسامره

فلما بلغت هذه الأبيات جريرًا نظم من جملة قصيدة طويلة:

لقد ولدت أمُّ الفرزدق فاجرًا
فجاءت بوَزْوَازٍ قصير القوادم
يوصِّل حَبْلَيه إذا جَنَّ ليله
ليرقى إلى جاراته بالسلالم
تدلَّيْتَ تزني من ثمانين قامة
وقَصَّرْت عن باع العُلا والمكارم
هو الرِّجس يا أهل المدينة فاحذروا
مُداخلَ رجْسٍ بالخبيثات عالم
لقد كان إخراج الفرزدق عنكمُ
طَهورًا لما بين المصلَّى وواقم

فلما وقف الفرزدق على هذه القصيدة جاوبه بقصيدة طويلة يقول في جملتها:

وإن حرامًا أن أسبَّ مقاعسًا
بآبائي الشُّمِّ الكرام الخَضارمِ
ولكن نَصْفًا لو سببتُ وسَبَّني
بنو عبد شمس من مناف وهاشم
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
وأعْند أن أهجو كليبًا بدارم

وغضب أهل المدينة لذلك وشكوه إلى مروان بن الحكم — وهو يومئذ والي المدينة — وطلبوا إليه أن يحده، فأمر بنفيه فغضب الفرزدق، وهدده بالهجاء فخاف مروان واسترضاه بالجائزة.

وكان الفرزدق يتشيع لعلي وأهله. والتقى في أواخر أيامه بهشام بن عبد الملك في الحج، ورأى هشام هناك علي بن الحسين في غمار الناس فقال: «من هذا الشاب الذي تبرق أسرة وجهه كأنه مرآة صينية تتراءى فيها عذارى الحي وجوهها؟» فقالوا: «هذا علي بن الحسين» فنظم الفرزدق قصيدة في مدح علي المذكور مطلعها:

هذا الذي تَعرفُ البطحاء وطأتَه
والبيت يعرفه والحِلُّ والحَرم

وبلغ هشامًا خبر القصيدة وهو بين مكة والمدينة، فغضب وحبسه هناك فقال:

أتحبسني بين المدينة والتي
إليها قلوبُ الناس يهوى مُنيبها
يقلِّب رأسًا لم يكن رأسَ سيدٍ
وعينًا له حولاء باد عيوبُها

فلما بلغ ذلك هشامًا أمر بإطلاقه.

ولم يكن الفرزدق من مداح بني أمية لأنه كان يتشيع لعلي كما رأيت وقد هجا بعضهم، ولكنه مدح بعض عمالهم وخصوصًا آل المهلب والحجاج؛ خوفًا منهم.

ويعتقد علماء اللغة أن شعر الفرزدق فيه كثير من أساليب العرب وألفاظهم حتى قالوا: لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب، وكان له على الحجاج دالة، وكان من أقرب شعراء ذلك العصر إلى الثبات في الرأي؛ فقد طلب يزيد بن عبد الملك بعد قتل يزيد بن المهلب من الشعراء هجاء يزيد المذكور فأبى الفرزدق وقال: «امتدحت بني المهلب بمدائح ما امتدحت بمثلها أحدًا، وإنما يقبح بمثلي أن يكذب نفسه على كبر السن فليعفني أمير المؤمنين» فأعفاه.١٢

ومن أقوال الفرزدق التي تجزي مجرى الأمثال قوله:

فيا عجبا حتى كليبٌ تسبني
كأن أباها نَهْشَلٌ ومجاشع١٣

•••

وكنا إذا الجَّبار صَعَّر خدَّه
ضربناه حتى تستقيم الأخادع

•••

وكنتَ كذئب السوء لما رأى دمًا
بصاحبه يومًا أحالَ على الدم

•••

أحلامنا تزنُ الجبال رزانةً
وتخالنا جِنًّا إذا ما نجهل

•••

فإن تَنْجُ مني تنجُ من ذي عظيمة
وإلا فإني لا إخالك ناجيا

•••

ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا
وإن نحن أومأنا إلى الناس وقَّفوا

وهو من أصحاب الملحمات، ومطلع ملحمته:

عزفت بأعشاشٍ وما كدت تعزف
وأنكرتَ من حَدْراء ما كنت تعرف

وللفرزدق ديوان مطبوع في جملة الدواوين الخمسة (النابغة، وعروة، وحاتم، وعلقمة، والفرزدق) بمصر سنة ١٢٩٣، وطُبع على حدة في باريس سنة ١٨٧٠ وما بعدها مع ترجمة فرنسية للمسيو بوشر عن نسخة خطية صورت من مكتبة أيا صوفيا في الأستانة، وطبعت تتمتها في ميونخ سنة ١٩٠١، وفي دار الكتب المصرية نسخة خطية إملاء محمد بن حبيب مشروحة، ومنه نسخ خطية أيضًا في أكسفورد وليدن وغوطا وبرلين ولندن، وله طبعات أخرى.

وترى أخباره في الأغاني ٢ ج١٩، و١٨٦ ج٨، و٦٥ ج١، و٦ ج٩، و١٧ ج٧، و٤٦ ج٩، وفي الشعر والشعراء ٤٨ و٢٨٩ و٣٠٦ و٣١٤، وابن خلكان ١٩٦ ج٢، و١٠٣ و١٨٥ ج١، والمستطرف ٥٣ ج١، و١٤٢ ج٢، والعقد الفريد ١٤٦ ج١، والجمهرة ١٦٣ وخزانة الأدب ١٠٥ ج١ والدميري ٩ ج١.

(٥-٤) الراعي (توفي سنة ٩٠ﻫ)

هو عبيد بن حصين النميري من قبيلة نمير التي هجاها جرير في بيته المشهور، وقد تقدم سبب نظمه. وسمي الراعي لكثرة وصفه الإبل وجودة نعته إياها، وهو شاعر فحل، وكان مقدمًا مفضلًا على سائر الشعراء حتى اعترض بين جرير والفرزدق … فاستكفه جرير، فأبى أن يكف، فهجاه بالقصيدة المتقدم ذكرها ففضحه، ولذلك كان الراعي يقضي للفرزدق على جرير، وهو السبب في هجاء جرير له، ومما سبق إليه من المعاني وقد أخذت عنه:

كأن العيونَ المُرسِلات عَشيَّةً
شآبيبَ دمعٍ لم تجد متردَّدا
مَزايد خَرْقاء اليدين مسيفةٍ
أخبَّ بهن المخلفان وأحْفدا

ومن شعره في النساء قوله:

تحدِّثهن المضمراتُ وفوقنا
ظلال خدورٍ والمطيُّ جوانح
يناجيننا بالطَّرف دون حديثنا
ويقضين حاجاتٍ وهنَّ موازح

وقوله:

طاف الخيال بأصحابي فقلت لهم
أأمُّ شَذْرةَ زارتنا أم الغولُ
لا مرحبًا بابنة الأقيان إذ طرقتْ
كأن محجرها بالقار مكحول
سودٌ معاصمُها جَعْدٌ معاقصُها
قد مَسَّهَا من عَقيد القار تفصيل

وهو معدود من أصحاب الملحمات، ومطلع ملحمته:

ما بالُ دفِّك بالفراش مذيلا
أقذًى بعينك أم أردتَ رحيلا

وتجد أخباره في الأغاني ١٦٨ ج٢٠، والشعر والشعراء، وخزانة الأدب ٥٠٤ ج١، والجمهرة ١٧٢.

(٥-٥) أبو النجم الراجز (توفي سنة ١٢٠ﻫ)

هو الفضل بن قدامة من بني عجل من بكر وائل، من رجاز الإسلام الفحول المقدمين، وفي الطبقة الأولى منهم، وكان أبلغ من العجاج في النعت، ولم يكن الشعراء يعتدون بالرجاز حتى نبغ العجاج ورؤبة وأبو النجم هذا، وقد عاصر العجاج وجرت بينهما مراجزة؛ وذلك أن العجاج خرج محتفلًا وعليه جبة خز وعمامة خز على ناقة له قد أجاد رحلها حتى وقف بالمريد والناس مجتمعون فأنشدهم قوله: «قد جبر الدين الإله فجبر» وذكر فيها ربيعة وهجاهم، فجاء رجل من بكر بن وائل إلى أبي النجم وهو في بيته، فقال له: «أنت جالس وهذا العجاج يهجونا بالمربد وقد اجتمع عليه الناس» قال: «صف لي حاله وزيه الذي هو فيه» فوصفه له فقال: «أبغني جملًا طحانًا قد أكثر عليه من الهناء» فجاء بالجمل إليه فأخذ سراويل له فجعل إحدى رجليه فيها واتزر بالأخرى، وركب الجمل ودفع خطامه إلى من يقوده فانطلق حتى أتى المربد، فلما دنا من العجاج قال: «اخلع خطامه» فخلعه فأنشد: «تذكر القلب وجهلًا ما ذكر».

فجعل الجمل يدنو من الناقة يتشممها ويتباعد عنه العجاج لئلا يفسد ثيابه ورحله بالقطران حتى إذا بلغ إلى قوله: «شيطانه أنثى وشيطاني ذكر» تعلق الناس بهذا البيت وهرب العجاج.

وكان أبو النجم يحضر مجلس عبد الملك فيأمره بالمفاخرة مع الفرزدق أو غيره من الشعراء المعاصرين، وكذلك كان يفعل هشام بن عبد الملك، وسأل الشعراء مرة أن يصفوا إبلًا ترد وتصدر، فقال أبو النجم أرجوزته التي مطلعها: «الحمد لله الوهوب المجزل» وهي من أفخر نظمه حتى أتى إلى شطر يصف به الشمس، فقال: «فهي في الأفق كعين …» وأراد أن يقول: «الأحول» فتذكر أن هشامًا أحول، فلم يتم البيت وأتم الأرجوزة، فغضب عليه هشام وأمر بوجأ عنقه ونفيه، فتوسط له وجوه القوم فعفا عنه، ولكنه عاش مرذولًا يأكل فضلات الناس حتى إذا أصاب هشامًا أرقٌ، طلب أعرابيًّا يحدثه واشترط أن يكون أهوج ويروي الشعر، فخرج الخادم فلقي أبا النجم في المسجد بلباس رث، فأخذه إلى هشام فلما عرفه سأله عن حاله فقال: «إني أتغذى عند هذا وأتعشى عند هذا» فقال: «وما عندك من الولد؟» قال: «ثلاث بنات زوجت منهن اثنتين» فسأله عما أوصاهما عند الزفاف فقال: «قلت للأولى واسمها برة:

أوصيتُ من برة قلبًا حُرَّا
بالكلب خيرًا والحماة شرَّا
لا تسأمي ضربًا لها وجرَّا
حتى تَرَيْ حُلو الحياة مرَّا
وإن كستك ذهبًا ودرَّا
والحي عُمِّيهم بشرٍ طُرا»

فضحك هشام وقال: «فما قلت للأخرى؟» قال: «قلت:

سُبيِّ الحماةَ وابهَتِي عليها
وإن دنتْ فازدلفي إليها
وأوجعي بالفِهر١٤ ركبتيها
ومرفقيها واضربي جنبيها
وظاهرة النُّذرَ لها عليها
لا تخبري الدهر به ابنتيها»

فضحك هشام وأجازه، وكان قوي البديهة، ومن شعره أرجوزة وصف بها فهود عبد الملك، ومنها:

فهي ضَوَارٍ من مُضَرَّياتِ
تريك آماقًا مخطَّطاتِ
سوادًا على الأشداق ساتلات
تَلْوي بأذنابٍ موقَّفات

وترى أمثلة من الرجز في كتاب أراجيز العرب طُبع في مصر سنة ١٣١٢ﻫ، وديوان العجاج منه نسخة خطية في دار الكتب المصرية وطُبع في فينا سنة ١٨٩٦، وديوان رؤبة بن العجاج منه نسخة خطية في دار الكتب المصرية وسنعود إليه.

وأخبار أبي النجم في الأغاني ٧٧ جزء ٩، والشعر والشعراء ٣٨١ وخزانة الأدب ٤٩ جزء ١.

(٥-٦) الأحوص

وهو من الفحول، لكننا نظرًا لغلبة التشبيب عليه سنترجمه مع المشببين.

(٦) شعراء السياسة (في الدور الثاني من العصر الأموي)

كان الشعراء في صدر الدولة الأموية لا يزالون على أنفة البداوة والبُعد عن الزلفى كما رأيت، فلما صارت الدولة إلى آل مروان وقام بها عبد الملك (سنة ٦٥ﻫ) وغلب على سائر الأحزاب وكان هو أديبًا، كثر الشعراء في أيامه وتقرَّبوا إليه بمدحه والطعن على أعدائه من آل الزبير أو الخوارج أو العلويين أو غيرهم، وظل بعضهم على ولاء هؤلاء وكانوا من أنصارهم … على أن أكثر شعراء السياسة من أنصار بني أمية، وقد تقدم ذكر بعضهم مع الفحول، وأشهر من بقي منهم بضعة عشر شاعرًا أكثرهم ممن انتصر للأمويين على ابن الزبير لأنه كان بخيلًا على الشعراء وهم يطلبون الجوائز، وإليك تراجمهم، وقد جمعنا أنصار كل دولة أو حزب على حدة.

(٦-١) أنصار بني أمية

أبو العباس الأعمى

اسمه السائب بن فروخ مولى بني الدئل، فهو عربي بالولاء وليس بالنسب وأصله من أذربيجان فهو من جملة الشعراء الموالي الذين تكاثروا في الإسلام بمن أسلم من غير العرب، وهو من شعراء بني أمية المعدودين المقدمين في مدحهم والتشيع لهم وانصباب الهوى إليهم، وكان يقيم في مكة، وله أشعار كثيرة في مدح بني أمية وهجاء ابن الزبير، ومن قوله يحرضهم على حربه:

أبني أمية لا أرى لكم
شبهًا إذا ما التفَّت الشِّيَعُ
سعةً وأحلامًا إذا نزعتْ
أهل الحلوم فضرَّها النَّزع
أبني أمية غير أنكم
والناس فيما أطمعوا طمعوا
أطمعتم فيكم عدوكم
فسما بهم في ذاكم الطمع
فلو أنكم كنتم كقومكمو
مثل الذي كانوا لكم رجعوا
عما كرهتم أو لردَّهم
حذرُ العقوبة، إنها تَزَعُ

وكان بنو أمية يحسنون جزاءه، فيرسلون إليه عطاءه من الشام إلى مكة وكانت قريش كلها تبره؛ للسانه وتقربًا إلى بني أمية ولما قُتل مصعب بن الزبير سنة ٧١ﻫ، رثاه بأبيات لأنه كان صديقه فغضب عبد الملك لذلك، فلما جاء مكة حاجًّا في بعض السنين، دخل عليه الأعيان على مراتبهم وقام الشعراء والخطباء فتكلموا، ودخل أبو العباس الأعمى فسأله عبد الملك عن مدحه مصعبًا! فاستعفاه وقال: «إنما رثيته لأنه كان صديقي وقد علمت أن هواي أموي» قال: «صدقت ولكن أنشدني قولك فيه» فأنشده:

رحم الله مصعبًا فلقد ما
ت كريمًا ورام أمرًا جَسيما

فقال عبد الملك: «أجل لقد مات كريمًا:

ولكنه رامَ التي لا يرومها
من الناس إلا كلُّ حرٍّ معمَّمِ»

وكان ابن الزبير لما غلب على الحجاز جعل يتتبع شيعة بني أمية فينفيهم عن المدينة ومكة، فبلغه أن أبا العباس الأعمى يكاتب الأمويين ويتجسس لهم ويمدحهم فدعا به ثم كلموه بشأنه وأنه ضرير فعفا عنه، ونفاه إلى الطائف، فهجاه وهجا سائر بني أسد (عشيرة آل الزبير) بأبيات منها قوله:

بني أسد لا تذكروا الفخر إنكم
متى تذكروه تكذبوا وتحمَّقوا
متى تُسألوا فضلًا تضنوا وتبخلوا
ونيرانكم في الشرِّ فيها تحرق
إذا استبقتْ يومًا قريشٌ خرجتمُ
بني أسد سَكَّا وذو المجد يسبق
تجيئون خلف القوم سودًا وجوهكم
إذا ما قريش للأضاميم أصفقوا
وما ذاك إلا أنَّ للؤم طابعًا
يلوح عليكم وَسْمهُ ليس يَخْلق

وهاجى عمر بن أبي ربيعة، ثم بلغه أن عمر يرامي جارية له ببنادق الغالية فقال لقائده: «أوقفني على باب بني مخزوم فإذا مر ابن أبي ربيعة ضع يدي عليه» ففعل، فقبض على حجزته وقال:

ألا من يشترى جارًا تؤوما
بجارٍ لا ينام ولا يُنيم
ويلبس بالنهار ثيابَ ناس
وشطرَ الليل شيطانٌ رجيمُ

وأخباره في الأغاني ٥٩ ج١٥، والشعر والشعراء ٣٦٦.

أعشي ربيعة (توفي سنة ٨٥ﻫ)

اسمه عبد الله بن خارجة من شيبان (ربيعة) كان يقيم في الكوفة وهو مرواني المذهب يتعصب لبني أمية تعصبًا شديدًا، ومن قوله في آل مروان قصيدة أنشدها لعبد الملك بن مروان منها:

وما أنا في أمري ولا في خصومتي
بمهتضَم حقِّي ولا قارع سِنيِّ
ولا مُسلم مولاي عند جنايةٍ
ولا خائف مولاي من شَر ما أجني
وإن فؤادًا بين جنبيَّ عالم
بما أبصرتْ عيني وما سمعتْ أذني
وفضَّلني في الشعر واللُّب أنني
أقول على علمٍ وأعرف من أعْني
فأصبحت إذ فضَّلتُ مروانَ وابنه
على الناس قد فضلت خير أبٍ وابن

فقال عبد الملك: «من يلومني على هذا؟» وأمر له بعشرة آلاف درهم وعشرة تخوت ثياب وعشر فرائض من الإبل وأقطعه ألف جريب، وقال له: «امض إلى زيد الكاتب يكتب لك بها» وأجرى له.

ودخل مرة على عبد الملك وهو يتردد في الخروج لمحاربة ابن الزبير، فقال له: «يا أمير المؤمنين ما لي أراك متلومًا ينهضك الحزم ويقعدك العزم وتهم بالإقدام وتجنح إلى الإحجام، انفذ لنصرتك وامض رأيك وتوجه إلى عدوك … فجدك مقبل وجده مدبر، وأصحابه له ماقتون ونحن لك محبون، وكلمتهم مفترقة وكلمتنا عليك مجتمعة، والله ما تؤتى من ضعف جنان ولا قلة أعوان، ولا يثبطك عنه ناصح ولا يحرضك عليه غاش، وقد قلت في ذلك أبياتًا» فقال: «هاتها فإنك تنطق بلسان ودود وقلب ناصح» فقال:

آل الزبير من الخلافة كالتي
عَجِلَ النِّتاج بحملها فأحالها
أو كالضِّعاف من الحمولة حُمِّلَتْ
ما لا تُطيق فضيَّعت أحمالها
قوموا إليهم لا تناموا عنهم
كم للغواة أطلتمو إمهالها
إن الخلافة فيكمو لا فيهمُ
ما زلتمُ أركانها وثِمالها
أمسوا على الخيرات قُفْلًا مُغْلقًا
فانهض بيُمْنك فافتتح أقفالها

فضحك عبد الملك وقال: «صدقت يا أبا عبد الله إن أبا خبيب لقفل دون كل خير ولا نتأخر عن مناجزته إن شاء الله ونستعين الله عليه وهو حسبنا ونعم الوكيل»، وأمر له بصلة سنية، وأخباره في الأغاني ١٦٠ ج١٦.

نابغة بني شيبان

هو أيضًا من ربيعة كالأعشى واسمه عبد الله بن المخارق، وكان بدويًّا يقيم في البادية، ويفد على خلفاء بني أمية في الشام فيمدحهم ويجزلون عطاءه، وكان نصرانيًّا، وفي شعره كثير من ذكر الإنجيل والرهبان ونحوهما، وقد مدح عبد الملك، ودخل عليه يومًا، وقد عزم على عزل أخيه عبد العزيز عن ولاية العهد والمبايعة بها لابنه الوليد، وكان المجلس حافلًا بالناس على إثر فشل ابن الزبير وذهاب دولته، فدخل النابغة وأنشده قصيدة لعل عبد الملك أوعز إليه أن يفعل ليجس الرأي العام كما فعل معاوية قبله، ومنها قوله بشأن الخلع:

آليت جهدًا وصادقٌ قسمي
بربِّ عبدٍ تُجِنُّه الكُرُح
يظل يتلو الإنجيل يدرسه
من خشية الله قلبه طَفِحُ
لابْنُكَ أولى بملْك والدهِ
ونجمُ مَنْ قد عصاك مُطرَّحُ
داود عَدْلٌ فاحكم بسيرته
ثم ابنُ حَرْب فإنهم نصَحوا
وهم خيارٌ فاعمل بسنَّتهم
واحيَ بخير واكْدَح كما كَدحوا

فتبسم عبد الملك ولم يتكلم في ذلك بإقرار ولا دفع، فعلم الناس أن رأيه خلع عبد العزيز، وأدرك النابغةُ الوليدَ بن يزيد ومدحه ونال جوائزه، وله قصيدة طويلة يصف بها الخمر وتخلص منها إلى الفخر ببني شيبان، وأخباره في الأغاني ١٥١ ج٦، وله ديوان خطي في دار الكتب المصرية.

عدي بن الرقاع

هو عدي بن زيد من عاملة، حي من قضاعة، كان شاعرًا مقدمًا عند بني أمية مداحًا خاصًّا بالوليد بن عبد الملك، وله بنت شاعرة يقال لها سلمى، وكان منزله في دمشق، فهو من حاضرة الشعراء لا من باديتهم، وقد تعرض لجرير وناقضه في مجلس الوليد المذكور، ولم يجسر جرير على هجائه خوفًا من الوليد لأنه هدده بالأذى إذا فعل، ومن شعره في وصف ظبية قوله:

كالظبية البكر الفريدة تَرْتعي
من أرضها قُفَّاتها وعِهادها
خضبت لها عُقدُ البراق جَبِينها
من عَرْكها عَلَجانها وعَرادها
كالزَّيْن في وجه العَروس تبدلت
بعد الحياء فلاعبتْ أرآدها
نزجي أغَن كأنَّ إبرة رَوْقه
قلمٌ أصاب من الدواة مِدادها

وفي هذه القصيدة يذكر شعره وعلمه وحنكته:

ولقد أصبت من المعيشة لذةً
ولقيت من شَظف الخطوب شدادها
وعلمت حتى لست أسأل عالمًا
عن علم واحدةٍ لكي أزدادها
صَلَّي المليك على امرئ ودَّعْتُه
وأتمَّ نعمته عليه وزادها

ومن قوله في مدح عمر بن الوليد وفيه حكم:

وإذا نظرت إلى أميري زادني
ضنًّا به نظري إلى الأمراء
تسمو العيون إليه حين يرونه
كالبدر فرَّج دُهْمةَ الظلماء
والأصل ينبت فرْعُه متأثِّلًا
والكفُّ ليس بنانُها بسواء

وأخباره في الأغاني ١٧٩ ج٨، والشعر والشعراء ٣٩١.

أبو صخر الهذلي

واسمه عبد الله بن سلم من هذيل، وكان متعصبًا لآل مروان، مدح عبد الملك وأخاه عبد العزيز وهجا ابن الزبير فحبسه ابن الزبير حتى مات، وله نسيب في امرأة من قضاعة أحبها وتزوجها سواه، وتجد أخباره في الأغاني ٩٤ ج٢١، وخزانة الأدب ٥٥٥ ج١.

وهناك طائفة من أنصار بني أمية اضطروا إلى مدح آل الزبير؛ لقيامهم بين أظهرهم، ولأن أكثرهم كانوا يمدحون بعض أمراء بني أمية لا خلفاءهم، ولو كانوا من شعراء الخلفاء، ربما كانوا أثبت منهم في مدحهم.

عبد الله بن الزبير الأسدي

هو غير ابن الزبير القائم بالدعوة في الحجاز، وهو شاعر هجاء يرهب شره، نشأ في الكوفة وأقام فيها وكان متشيعًا لبني أمية ومن ذوي الهوى فيهم والتعصب والنصرة على عدوهم، وما زال كذلك حتى غلب مصعب بن الزبير على الكوفة فأتى به سرًّا، فمنَّ عليه ووصله وأحسن إليه فمدحه وأكثر، وانقطع إليه فلم يزل معه حتى قُتل مصعب سنة ٧١، ثم عمي عبد الله بن الزبير بعد ذلك ومات في خلافة عبد الملك، وأكثر مدائحه في بشر بن مروان الأموي، ومن قوله يمدحه:

كأن بني أمية حول بشرٍ
نجوم وسطها قمر منيرُ
هو الفرع المقدَّم من قريش
إذا أخذت مآخذها الأمور
لقد عمَّت نوافله فأضحى
غنيًّا من نوافله الفقير
جَبَرت مهيضنا وعدلت فينا
فعاش البائس الكَلُّ١٥ الفقير
فأنت الغيثُ قد علمت قريشُ
لنا والواكف الجَوْن المطير

ومن مديحه في أسماء بن خارجة قوله:

تراه إذا ما جئته متهللًا
كأنك تعطيه الذي أنت نائله
ولو لم يكن في كفه غير روحه
لجاد بها فليتق الله سائله

ومن هجائه قصيدة يهاجي بها عبد الرحمن بن أم الحكم مطلعها:

أبى الليل بالمرَّان أن يتصرما
كأني أسوم العين نومًا محرَّما

وأخباره في الأغاني ٣٧ جزء ١٣.

أبو قطيفة

هو عمرو بن الوليد بن عقبة، من بني أمية، وكان يقيم في المدينة وهواه مع بني أمية، فلما تمكن ابن الزبير من الحجاز، نفاه مع من نفاه من بني أمية إلى الشام، فلما طال مقامه فيها قال:

ألا ليت شعري هل تغيَّر بعدنا
قباء وهل زال العقيقُ وحاضرُهُ
وهل برحتْ بطحاء فبرِ محمد
أراهط غرٌّ من قريش تُباكره
لهم منتهى حُبِّي وصَفو مودتي
ومحض الهوى مني وللناس سائره

وأكثر من ذكر المدينة والحجاز في شعره وشوقه إلى الوطن، فلم يعجب ذلك عبد الملك وتنقصه لرغبته في الحجاز عن الشام، وبلغ ذلك أبا قطيفة فقال:

وأنبِئت أن ابن العملَّس عابني
ومن ذا من الناس البريءُ المسلَّم
مَن أنتم من أنتم خبِّرونا من أنتم
فقد جعلت أشياء تبدو وتُكتم

فبلغ ذلك عبد الملك فقال: «ما ظننت أنا نجهل، والله لولا رعايتي لحرمته لألحقته بما يعلم ولقطعت جلده بالسياط».

وبلغ ابن الزبير ما يقاسيه أبو قطيفة في سبيل حبه المدينة، فبعث إليه أن يعود إلى بلده وهو آمن، فانكفأ إلى المدينة فلم يصل إليها حتى مات، وتجد أخباره في الأغاني ٧ جزء ١.

سائر أنصار بني أمية

وهناك طائفة من أنصار بني أمية، وفيهم من مدح الأمراء دون الخلفاء أو مدح الاثنين، وربما اضطر بعضهم لمدح آل الزبير للأسباب التي تقدمت ولو رأينا ذكر تراجمهم لطال بنا القول، فنكتفي بالإشارة إلى المصادر التي يمكن الرجوع إليها لمن أراد الاطلاع على أخبارهم، وليس لأحد منهم ديوان معروف وهم:
  • أمية بن أبي عائذ الهذلي: مدح عبد الملك وعبد العزيز ابني مروان. ترجمته في الأغاني ١١٥ جزء ٢٠، وخزانة الأدب ٤٢١ جزء ١.
  • جبهاء الأشجعي: شاعر بدوي ليس ممن انتجع الخلفاء بشعره ومدحهم. ترجمته في الأغاني ١٤٦ جزء ١٦.
  • الحكم بن عبدل الأسدي: كان أعرج أحدب شاعرًا هجَّاء خبيث اللسان مدح بعض آل مروان. ترجمته في الأغاني ١٤٩ جزء ٢ وفوات الوفيات ١٤٥ جزء ١.
  • شبيب بن البرصاء: من ذبيان كان بدويًّا لم يحضر إلا وافدًا أو منتجعًا. ترجمته في الأغاني ٩٣ ج١١.
  • عبد الله بن حجش: من الصعاليك كان يعجب ببني أمية. الأغاني ١١٨ ج١٧.
  • العجير السلولي: هو شاعر مقل عاصر عبد الملك وسليمان وهشامًا. ترجمته في الأغاني ١٥٢ ج١١، وخزانة الأدب ٣٩٩ ج٢.
  • عويف الفراري: من قيس كان يقيم في الكوفة وبيته من البيوتات الفاخرة في العرب. ترجمته في الأغاني ١٠٥ ج١٧، وخزانة الأدب ٨٧ ج٣.
  • الفضل بن العباس: من قريش عاصر الوليد بن عبد الملك. ترجمته في الأغاني ٢ ج١٥.
  • موسى شهوات: مولى قريش وأصله من أذربيجان. ترجمته في الأغاني ١١٨ ج٣، والشعر والشعراء ٣٦٦.

(٦-٢) أنصار آل المهلب

آل المهلب بيت من بيوتات الإسلام من الأزد، اشتهروا بالكرم في أيام بني أمية مثل اشتهار آل برمك في الدولة العباسية، ونكبوا بمثل نكبتهم، وهم ينتسبون إلى كبيرهم المهلب بن أبي صفرة، عمل المهلب لبني أمية وحارب عنهم الأزارقة، وآخر ما تولى من الأعمال بلاد خراسان، تولاها من جهة الحجاج يوم كان له العراقان، وما زال عليها حتى توفي سنة ٨٣ﻫ، وهو من كبار رجال الإسلام في تلك الدولة، وكان كريمًا؛ التماسًا لحسن الأحدوثة، ومن أقواله: «الحياة خير من الموت، والثناء الحسن خير من الحياة، ولو أعطيت ما لم يعطه أحد لأحببت أن تكون لي أذن أسمع بها ما يقال فيَّ غدًا إذا مت» فهو من طلاب الشهرة بالسخاء، وسار أبناؤه على خطواته فكثر الشعراء الذين مدحوهم، وأشهر أولاده: يزيد بن المهلب، والمغيرة بن المهلب، قاتل الخوارج وكانت له معهم وقائع مأثورة، ومنهم مخلد بن يزيد بن الملهب من الأسخياء الممدوحين توفي سنة ١٠٠ﻫ، وحبيب بن المهلب وغيرهم. أما الشعراء الذين مدحوهم فهاك أشهرهم:

زياد الأعجم (توفي سنة ١٠٠ﻫ)

هو من موالي عبد القيس من بني عامر بن الحارث، وكان ينزل إصطخر فغلبت العجمة على لسانه فسموه الأعجم، وكان شاعرًا جزل الشعر فصيح الألفاظ على لكنة لسانه مثل سائر الأعاجم لا يستطيع لفظ العين، وقد مدح بخاصة المغيرة بن المهلب، وله فيه قصيدة يرثيه بها تزيد على خمسين بيتًا مطلعها:

قُل للقوافل والغزاة إذا غزوا
والباكرين وللمُجِدِّ الرائحِ
إن المروءة والسماحة ضُمَّتا
قبرًا بمَرو على الطريق الواضح
فإذا مررت بقبره فاعقِر به
كُوم الهجان وكلَّ طرف سابحِ

ومن لطيف أخباره مع حبيب بن المهلب، أنه جاء مرة إلى المهلب في أصبهان ومدحه فأمر له بجائزة فأقام عنده أيامًا، وبينما هو جالس في عشية مع حبيب المذكور في دار له وفيها حمامة تسجع، قال زياد يخاطب الحمامة:

تغنَّيْ أنتِ في ذممي وعهدي
وذمة والدي أن لم تطاري
وبَيْتك فاصلحيه ولا تخافي
على صُفْرٍ مزغَّبةٍ صغار
فإنك كلما غنيت صوتًا
ذكرت أحبتي وذكرت داري
فإما يقتلوك طلبت ثأرًا
له نَبَأ لأنك في جِواري

فقال حبيب: «يا غلام هات القوس» فقال له زياد: «وما تصنع بها؟» قال: «أرمي جارتك هذه» قال: «والله لئن رميتها لاستعدين عليك الأمير» فأتى بالقوس فنزع لها سهمًا فقتلها، فوثب زياد فدخل على المهلب فحدثه بالحديث وأنشده الشعر فقال المهلب: «علي بأبي بسطام» فأتي بحبيب فقال له: «أعطِ أبا أمامة دية جارته ألف دينار» فقال: «أطال الله بقاء الأمير إنما كنت ألعب» قال: «أعطه كما آمرك»، فأعطاه.

وهمَّ الفرزدق أن يهاجي عبد القيس موالي زياد، فبعث إليه زياد: «لا تعجل حتى أهدي إليك هدية» فانتظر الفرزدق فبعث إليه يقول:

وما ترك الهاجون لي إن هجوته
مُصِحًّا أراه في أديم الفرزدق
ولا تركوا عظمًا يُرَى تحت لحمه
لكاسره أبقوه للمتعرِّق
سأكسر ما أبقوه لي من عظامه
وأنكت مُخَّ الساق منه وأنتقي
وإنا وما تهدي لنا إن هجوتنا
لكالبحر مهما يُلْقَ في البحر يغرق

فلما بلغه الشعر قال: «ليس لي إلى هجاء هؤلاء من سبيل ما عاش هذا العبد» ومع شاعريته كان كثير اللحن في نظمه، ومن قوله يخاطب يزيد بن المهلب:

وهل لك في حاجتي حاجةٌ
أم أنت لها تارك طارحُ
أمتها لك الخير أم أحيِها
كما يفعل الرجل الصالح
إذا قلت قد أقبلتْ أدبرت
كمن ليس غاد ولا رائحُ

ومن خبيث هجائه قوله يهجو الأشاقر:

قُبَيِّلَةٌ خيرها شرها
وأصدقها الكاذب الآثمُ
وضيفهمُ وسط أبياتهم
وإن لم يكن صائمًا صائمُ

ومن مأثور حكمه قوله:

وكائن ترى من صامتٍ لك معجَبٍ
زيادته أو نَقْصه في التكلُّم
لسانُ الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده
فلم تَبْقَ إلا صورةُ اللحم والدم

وتجد أخباره في الأغاني ١٠٢ ج١٤، و٥٨ ج١٣، والشعر والشعراء ٢٥٧، وخزانة الأدب ١٩٣ ج٤، وفوات الوفيات ١٦٤ ج١.

ثابت قطنة

هو مولى بني أسد بن الحارث، واسمه ثابت بن كعب شاعر فارس شجاع، كان في صحابة يزيد بن المهلب، وكان يوليه أعمالًا من أعمال الثغور فيحمد فيها مكانه لكتابته وشجاعته، فضلًا عن شاعريته، ومن لطيف خبره أن يزيد ولاه عملًا في خراسان، فلما صعد المنبر يوم الجمعة رام الكلام فتعذر عليه وحصر فقال: «سيجعل الله بعد عسر يسرًا أو بعد عي بيانًا، وأنتم إلى أمير فعال منكم إلى أمير قوال:

وإن لم أكن فيكم خطيبًا فإنني
بسيفي إذا جَدَّ الوَغَي لخطيب»

وجالس ثابت قومًا من الشراة وقومًا من المرجئة، وكانوا يجتمعون فيتجادلون في خراسان فمال إلى قول المرجئة، ونظم هذا المذهب قصيدة وصفه فيها، من جملتها قوله:

يا هند فاستمعي لي إن سيرتنا
أن نعبد الله لم نشركْ به أحدا
نُرجي الأمور إذا كانت مشبَّهة
ونصدق القول فيمن جارَ أو عندا
المسلمون على الإسلام كلهم
والمشركون استووا في دينهم قِددا
ولا أرى أن ذنبًا بالغ أحدًا
مِ الناس شِرْكًا إذا ما وحدوا الصمدا
لا نسفِك الدَّم إلا أن يراد بنا
سفكُ الدماء طريقًا واحدًا جدَدا
ومن نظمه قصيدة يحرض بها يزيد بن المهلب على الحرب،١٦ ولما قتل يزيد قال ثابت يرثيه:
كل القبائل تابعوك على الذي
تدعو إليه وبايعوك وساروا
حتى إذا حَمِيَ الوغَى وجعلتهم
نُصْبَ الأسنة أسلموك وطاروا
إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن
عارًا عليك وبعضُ قتلٍ عارُ

ومن فخرياته قوله:

تعففتُ عن شتم العشيرة إنني
وجدت أبي قد كفَّ عن شتمها قبلي
حليمًا إذا ما الحلم كان مروءةً
وأجهل أحيانًا إن التمسوا جهلي

وأخباره في الأغاني ٤٩ ج١٣، والشعر والشعراء ٤٠٠، وخزانة الأدب ١٨٥ ج٤.

حمزة بن بيض (توفي سنة ١١٦ﻫ)

هو حنفي من بكر وائل (ربيعة) من أهل الكوفة، خليع ماجن من فحول طبقته. وكان منقطعًا لآل المهلب وولده ثم آلى أبان بن الوليد وبلال بن أبي بردة، واكتسب بالسفر إلى هؤلاء مالًا كثيرًا، ذكروا أنه اكتسب نحو مليون درهم، فهو كان ينصرهم لمجرد الاستجداء بخلاف من تقدم، ومن قوله يخاطب مخلد بن يزيد بن المهلب وعنده الكميت:

أتيناك في حاجة فاقضها
وقُلْ مرحبًا، يجب المَرْحَبْ
ولا تتكلْنَا إلى معشرٍ
متى يعدوا عِدَّةً يكذبوا
فإنك في الفرع من أسرةٍ
لهم خضعَ الشرقُ والمغرب
وفي أدبٍ منهمُ ما نشأت
ونعم لعمرك ما أدَّبوا

فأمر له بمائة ألف درهم، ولما سُجن يزيد بن المهلب، دخل عليه حمزة وأنشده أبياتًا مطلعها:

أغْلق دون السماح والجود والنـَّ
ـجْدة بابٌ حديدُه أشِبُ١٧

فدفع إليه يزيد فص ياقوت باعها بثلاثين ألف درهم.

ولحمزة أخبار طويلة حسنة أكثرها مع يزيد المذكور وابنه مخلد، وله في عبد الملك وابنه سليمان أقوال وأخبار تجدها في الأغاني ١٥ ج١٥، وفوات الوفيات ١٤٧ ج١.

كعب الأشقري

هو كعب بن معدان من الأشاقر قبيلة من الأزد، شاعر فارس خطيب معدود في الشجعان من أصحاب المهلب، وله ذكر في حروبه للأزارقة، وكان الفرزدق شديد الإعجاب به، يعده رابع الثلاثة الفحول (الفرزدق وجرير والأخطل) وأوفده المهلب إلى الحجاج ليخبره عن واقعة جرت له مع الأزارقة، فأنشده قصيدة مطلعها:

يا حفص إني عداني عنكمُ السفر
وقد سهرت فآذى عينيَ السهر

ثم وصف المعركة إلى أن قال:

عَبُّوا كمينهمُ بالسَّفْحِ إذ نزلوا
بكازرونَ فما عَزُّوا ولا نُصِروا
باتت كتائبنا تُردي مسوَّمةً
حول المهلب حتى نَوَّرَ القمر
هناك ولَّوا جراحًا بعدما هربوا
وحال دونهم الأنهار والجدر
تأبى علينا حزازاتُ النفوس كما
نبقي عليهم ولا يُبقون إن قدروا

وهجاه زياد الأعجم وقد علمت أنه ينتمي لعبد القيس، فقال كعب يهجو عبد القيس:

إني وإن كنت فَرْعَ الأزد قد علموا
أخْزَى إذا قيل عبد القيس أخوالي
فيهم أبو مالكٍ بالمجد شَرَّفني
ودَنَّس العبدُ عبدُ القيس سربالي

فرد عليه زياد يهجو الأشاقر اللجاج فشكاه إلى المهلب، فاستقدم زيادًا وعاتبه وصالحهما … وأخبار كعب كثيرة تراها في الأغاني ٥٦ ج١٣.

بيهس الجرمي

هو بيهس بن صهيب، من جرم (قضاعة) شاعر فارس شجاع، كان يبدو بنواحي الشام مع قبائل جرم وكلب وعذرة، ويحضر معهم في أجناد الشام، وقد صحب المهلب بن أبي صفرة في حربه للأزارقة، وكانت له مواقف مشهورة، أول ما هاج شاعريته أنه هوى امرأة من قومه اسمها صفراء، وكان يتحدث إليها ويكتم وجده لها ولا يخطبها لأبيها لأنه كان صعلوكًا لا مال له وكان ينتظر أن يثرى، وكان من أحسن الشبان وجهًا وبشرة وحديثًا وشعرًا … فرأته صفراء يتحدث مع بعض نساء الحي مرة فهجرته. وعرض له سفر فخرج إليه وقد زوجها أبوها رجلًا من بني أسد فذكرها في قصيدة، ثم ماتت قبل أن يعرفها زوجها، فقال يرثيها بقصيدة عبر بها عن شعوره بما ينطبق على الواقع على طريقة الجاهليين، من ذلك قوله:

هل بالديار التي بالقاع من أحد
باقٍ فيسمع صوتَ المُدلج الساري
تلك المنازل من صفراءَ ليس بها
نارٌ تضيء ولا أصوات سُمَّار
عَفَّت معارفها هوجًا مغبَرة
يَسفي عليها تراب الأبطح الهاري
حتى تنكَّرْتُ منها كل معرفة
إلا الرماد نخيلًا بين أحجار
طال الوقوف بها والعين يسبقني
فوق الرداء بَوادي دمعها الجاري
أن أصبح اليوم لا أهل ذوو لطف
ألهو لديهم ولا صفراءُ في الدار

وله قصيدة في مدح محمد بن مروان لأنه أجاره من تهمة كانت عليه، منها:

وإن محمدًا سيعود يومًا
ويرجع عن مراجعة العتاب
فيجبر صِبْيتي ويحوط جاري
ويؤمن بعدها أبدًا صحابي
هو الفرع الذي بُنِيتْ عليه
بيوتُ الأطيبين ذوي الحجاب

وتجد أخباره في الأغاني ١٦١ ج١٠ و١٠٧ ج١٩.

وممن صحب آل المهلب ونصرهم بشعره:
  • العديل بن الفرخ من ربيعة: ترجمته في الأغاني ١١ ج٢٠ وفي الشعر والشعراء ٢٤٤ وخزانة الأدب ٣٦٧ ج٢.

  • المغيرة بن حبناء من تميم: ترجمته في الأغاني ١٦٢ ج١١ وخزانة الأدب ٦٠١ ج٣.

  • يزيد بن الحكم من ثقيف: ترجمته في الأغاني ١٠٠ ج١١.

(٦-٣) أنصار العلويين أو الهاشميين

كان أنصار العلويين من الشعراء كثيرين، لكنهم لم يكونوا يجسرون على الظهور خوفًا من الأمويين وهم أهل السيادة، وربما مدحهم أحدهم سرًّا ثم يعدل إلى مدح الأمويين كما فعل الكميت بن زيد وغيره، وهاك أشهر أنصار العلويين:

الكميت بن زيد (المتوفى سنة ١٢٦ﻫ)

هو الكميت بن زيد الأسدي شاعر مقدم عالم بلغات العرب خبير بأيامها، من شعراء مضر وألسنتها، المتعصبين على القحطانية القارعين لشعرائهم، العلماء بالمثالب والأيام المفاخرين بها، وكان مشهورًا بالتشيع لبني هاشم، وقصائده فيهم تسمى الهاشميات، وهي من جيد شعره وكانت أول منظوماته، وجاء الفرزدقَ وعرض عليه شعره فسمع له وهو يستخف به حتى بلغ إلى قوله:

بني هاشمٍ رهطُ النبيِّ فإنني
بهم ولهم أرضى مِرارًا وأغضب
خفضتُ لهم مني جَناحيْ مودةٍ
إلى كَنفٍ عِطْفاه أهْلٌ ومرْحبُ
وكنت لهم من هؤلاء وهؤلاء
مِجَنَّا على أني أذم وأغضب
وَأرمي وأرمِي بالعداوة أهلها
وإني لأوذي فيهم وأونَّب

فقال له الفرزدق: «يا ابن أخي أذع ثم أذع فأنت والله أشعر من مضى وأشعر من بقي».

ويقال في سبب توسعه بعلم لغة العرب وأخبارهم إنه كان له جدتان أدركتا الجاهلية، فكانتا تصفان له البادية وأمورها وتخبرانه بأخبار الناس في الجاهلية … فإذا شك في شعر أو خبر عرضه عليهما فتخبرانه عنه فمن هناك كان علمه، وهو من أصحاب الملحمات ومطلع ملحمته:

ألا لا أرى الأيام يُقْضَى عجيبُها
بطول ولا الأحداث تَفْنَى خطوبها

وله مناقضات ومهاجاة لشعراء اليمن، وأراد خالد القسري أن يشي به إلى بني أمية، فروى قصائده الهاشميات لجارية حسناء وأعدها ليهديها إلى هشام بن عبد الملك، وكتب إليه بأخبار الكميت وأنفذ قصيدته التي يقول فيها:

فيا ربِّ هل إلا بك النصر يُبتغى
ويا ربِّ هل إلا عليك المعوَّل

وهي طويلة يرثي بها زيد بن علي (الهاشمي) ويمدح بني هاشم فأكبرها هشام، فكتب إلى خالد عامله أن يقطع لسانه ويده … فنبهه إلى ذلك بعض أصدقائه، ففر وقضى زمانًا مختفيًا ثم توسطوا له بالعفو وجاء إلى هشام ومدحه بقصيدة أنشده إياها مطلعها:

ماذا عليك من الوقو
ف بها وإنك غيرُ صاغر

إلى أن قال:

فالآن صرت إلى أميـَّ
ـةَ والأمور إلى مصائر
يا ابن العقائل للعقا
ئل والجحاجحة الأخاير
من عبد شمسٍ والأكا
بر من أمية فالأكابر
إن الخلافة والإلا
فَ برغم ذي حَسدٍ وَوَاغِرْ
دَلَفَا من الشرف التليـ
ـد إليك بالرِّفد الموافر

وأنشده غيرها وغيرها فأجاره، ومن جيد شعره قوله:

ألا لا أرى الأيام يُقْضَى عجيبُها
لطول ولا الأحداثُ تفنى خطوبها
ولا عبرة الأيام يعرف بعضَها
ببعض من الأقوام إلا لبيبُها
ولم أرَ قولَ المرء إلا كنُبله
له وبه محرومها ومصيبها

وتوفي سنة ١٢٦ وله ستون سنة، وكان يبلغ شعره لما مات ٥٢٨٩ بيتًا، والهاشميات مطبوعة بمصر وفي ليدن سنة ١٩٠٤، ولها شرح منه نسخة خطية في دار الكتب المصرية، وللكميت ترجمة مطولة في الأغاني ١١٣ ج١٥، والشعر والشعراء ٣٦٨، وخزانة الأدب ٦٩ جزء ١، والجمهرة ١٨٧.

أيمن بن خريم الأسدي

هو من بني أسد، كان شديد التشيع لعلي وقد مدح بني هاشم ومن قوله فيهم:

نهاركم مكابدةٌ وصومٌ
وليلكم صلاةٌ واقتراء
أأجعلكم وأقوامًا سواء
وبينكم وبينهمُ الهواءُ
وهم أرضٌ لأرجلكم
وأنتم لرؤوسهم وأعينهم سماءُ

على أنه اضطر إلى مسايرة بني أمية ومدح عبد الملك، وله في وصف النساء قصيدة بديعة تجدها مع سائر أخباره في الأغاني ٥ جزء ٢١، والشعر والشعراء ٣٤٥.

(٦-٤) أنصار الخوارج وآل الزبير وغيرهم

ويقال نحو ذلك في أنصار سائر الأحزاب الذين كانوا على الأمويين كالخوارج الشراة والأزارقة وآل الزبير، فإن شعراءهم لم يكونوا يستطيعون الظهور ويندر ظهور أحدهم، وهاك أشهرهم:

الطرماح بن حكيم (توفي سنة ١٠٠ﻫ)

هو من طي، من فحول الشعراء الإسلاميين وفصحائهم، نشأ في الشام وانتقل إلى الكوفة بعد ذلك مع من وردها من جيوش أهل الشام، واعتقد مذهب الشراة والأزارقة وكان معاصرًا للكميت المتقدم ذكره وكانا صديقين، وسئل الكميت مرة: «لا شيء أعجب من صفاء ما بينك وبين الطرماح على تباعد ما يجمعكما من النسب والمذهب والبلاد فهو شامي قحطاني وأنت كوفي نزاري شيعي، فكيف اتفقتما مع تباين المذهب وشدة العصبية؟» فقال: «اتفقنا على بُغض العامة».

وكان للطرماح والكميت رغبة في الغريب يدخلانه في أشعارهما، ومن قول الطرماح يمدح نفسه:

إذا قُبضت نفسُ الطرماح أخلَقت
عُرى المجد واسترخى عنانُ القصائد

ومن قوله في الفخر:

وما أنا بالراضي بما غَيْرُهُ الرِّضَا
ولا المظهر الشكوى ببعض الأماكنِ
ولا أعرف النُّعمَى علَّي ولم تكن
وأعرف فَصْل المنطق المتغابن

وله قصائد كثيرة في هجاء بني تميم، ومن لطيف ما قاله فيهم:

تميمٌ بطُرق اللؤم أهدى من القطا
ولو سلكتْ سُبْل المكارم ضَلَّت
ولو أن برغوثا على ظهر قَمْلةٍ
يَكُرُّ على صَفَّيْ تميمٍ لولَّت
ولو أن حُرقوصًا يزقَّق مسْكُه
إذا نَهِلَتْ منه تميمٌ وعلَّت
ولو جمعتْ يومًا تميمٌ جموعها
على ذَرَّة معقولة لاستقلَّت
ولو أن أمَّ العنكبوت بَنَتْ لها
مَظَلَّتها يوم النَّدَى لأكنَّتِ

وهو من أصحاب الملحمات، ومطلع ملحمته:

قَلَّ في شَطَّ نهروان اغتماضي
ودعاني هَوَى العيون المِراض

ومن قوله ويدل على مذهبه في الشراة:

لقد شقيت شقاءً لا انقطاع له
إن لم أفُزْ فوزةً تُنجي من النار
والنارُ لم ينجُ من روعاتها أحدٌ
إلا المنيبَ بقلب المخلص الشَّاري
أو الذي سبقتْ من قبل مولده
له السعادة من خَلَّاقها الباري

وكان الأصمعي يستجيد قوله في صفة الثور:

يبدو وتُضمره البلاد كأنه
سيفٌ على شرفٍ يسلُّ ويغمدُ
وللطرماح ديوان طُبع في إنجلترا بإشراف لجنة تذكار جيب مع ديوان الطفيل بن عوف بعناية المستشرق كرنكو Krenkaw، وأخباره في الأغاني ١٥٦ جزء ١٠، والشعر والشعراء ٣٧١، وخزانة الأدب ٤١٨ جزء ٣، والجمهرة ١٩٠.

عمران بن حطان (توفي سنة ٨٩ﻫ)

هو من سدوس من بكر وائل، شاعر فصيح من شعراء الشراة ودعاتهم المقدمين في مذاهبهم، وكان من القعدة لأن عمره طال فضعف عن الحرب وحضورها، فاقتصر على الدعوة والتحريض بلسانه وهو مغالٍ في التعصب على علي، يؤيد ذلك قوله في مدح ابن ملجم قاتل علي:

لله دَرُّ المراديِّ الذي سفكتْ
كفاه مهجةَ شرِّ الخلق إنسانا
أمسى عشية غشَّاه بضربته
مما جناه من الآثام عريانا

وأخذ هذا المذهب عن امرأته لأنها خارجية تزوجها ليردها عن مذهبها فذهبت به إلى رأيهم، وكان الحجاج يلح في طلب عمران بن حطان، وبلغه أن غزالة الحرورية دخلت على الحجاج فتحصن منها وأغلق عليه قصره، فكتب إليه عمران:

أسدٌ علَّى وفي الحروب نعامة
رَبداءُ تجفل من صفير الصافر
هلا برزت إلى غزالة في الوغى
بل كان قلبك في جناحيْ طائر
صدعتْ غزالةُ قلبه بفوارسٍ
تركتْ مدابره كأمس الدابرِ

ثم لحق بالشام ونزل على روح بن زنباع، واشتهر شعر ابن حطان في عصره حتى كان لا يقول أحد من الشعراء شعرًا إلا نُسب إليه لشهرته، ومر بالفرزدق وهو ينشد وكان يتهمه أنه يقول للاستجداء فيكذب فقال فيه:

أيها المادحُ العبادَ ليُعْطَى
إن لله ما بأيدي العبادِ
فاسأل الله ما طلبت إليهم
وارْجُ فضل المقَسِّم العوَّاد
لا تقلْ في الجواد ما ليس فيه
وتسمِّ البخيل باسم الجواد

وكان عمران يفتخر بأنه لم يكذب في شعره، ومن ذلك قوله يخاطب امرأته جمرة:

يا جمر إني على ما كان من خُلقي
مُثْنٍ بخَلات صدقٍ كلُّها فيكِ
الله يعلم أني لم أقل كذبًا
فيما علمت وأني لا أزكِّيكِ

وأخباره في الأغاني ١٥٢ ج١٦ وخزانة الأدب ٤٣٦ ج٢.

عبد الله بن الحجاج الذبياني (توفي سنة ٩٥ﻫ)

هو عبد الله بن الحجاج بن محصن من ذبيان ويكنى أبا الأقرع، شاعر فاتك شجاع من معدودي فرسان مضر ذوي البأس والنجدة فيهم، وكان ممن خرج مع عمرو بن سعيد على عبد الملك بن مروان، فلما تغلب عبد الملك على عمرو خرج عبد الله مع نجدة بن عامر الحنفي ثم هرب، فلحق بعبد الله بن الزبير فكان معه إلى أن قتل، ثم جاء إلى عبد الملك متنكرًا واحتال عليه حتى أمنه في حديث طويل، وعاش إلى زمن الوليد بن عبد الملك ووشي به فحبسه، فقال وهو في الحبس قصيدة من جملتها:

فإن يُعْرِضْ أبو العباس عني
ويركب بي عروضًا عن عروض
ويجعل عُرْفَه يومًا لغيري
ويُبِغِضْنِي فإني من بغيض
فإني ذو غنى وكريم قومٍ
وفي الأكفاء ذو وجه عريضِ

وأخباره في الأغاني ٢٥ ج١٢.

إسماعيل بن يسار النسائي (توفي سنة ١١٠ﻫ)

هو مولى بني تيم (من قريش) انقطع لآل الزبير، ولما استتب الأمر لعبد الملك بن مروان وفد إليه ومدح الخلفاء من ولده كما فعل غيره، ولكنهم كانوا يضمرون الكره لهم، ويمثل ذلك ما جرى لإسماعيل هذا وقد وفد على الغمر بن يزيد بن عبد الملك يومًا، فحجبه ساعة ثم أذن له فدخل يبكي فقال له الغمر: «ما لك يا أبا فائد تبكي؟» فقال: «وكيف لا أبكي وأنا على مروانيتي ومروانية أبي أحجب عنك» فجعل الغمر يعتذر إليه وهو يبكي، فما سكت حتى وصله الغمر بجملة لها قدر، وخرج من عنده فلحقه رجل فقال له: «أخبرني ويلك يا إسماعيل أي مروانية كانت لك أو لأبيك» قال: «بغضنا إياهم، امرأته طالق إن لم تكن أمه تلعن مروان وآله كل يوم مكان التسبيح، وإن لم يكن أبوه حضره الموت فقيل له: قل: لا إله إلا الله، فقال: لعن الله مروان؛ تقربًا بذلك إلى الله — تعالى».

وعاش إسماعيل عمرًا طويلًا وكان شعوبيًّا يفخر على العرب بالعجم، ومن قوله:

إنما سُمِّيَ الفوارس بالفُر
س مضاهاةَ رفعة الأنسابِ
فاتركي الفخر يا أمامَ علينا
واتركي الجَوْرَ وانطقي بالصواب
واسألي إن جهلت عنا وعنكم
كيف كنا في سالف الأحقاب
إذ نربي بناتنا وتدسُّو
ن سفاهًا بناتكم في التراب

ومن أقواله في الغزل من قصيدة:

حتى دخلتُ البيت فاستذرفت
من شَفَق عيناكِ لي تسْجُمُ
ثم انجلى الحزن ورَوْعاتُه
وغُيِّبَ الكاشح والمُبرِمُ
فبتُّ فيما شئت من نعمةٍ
يَمْنَحُنيها نحْرُها والفم
حتى إذا الصبح بدا ضوءه
وغارت الجوزاءُ والمِرزم
خرجت والوطء خفىٌّ كما
ينساب من مكمنه الأَرْقَمْ

وأخباره في الأغاني ١١٩ ج٤.

(٦-٥) سائر أنصار أعداء بني أمية

ومن أنصار أعداء بني أمية غير من تقدم جماعة نكتفي بذكر مصادر تراجمهم وهم:
  • أبو وجزة السعدي من هوازن توفي سنة ١٣٠ مدح آل الزبير، أخباره في الأغاني ٧٩ ج١١ والشعر والشعراء ٤٤٢.

  • أبو حزابة من أنصار ابن الأشعث. أخباره في الأغاني ١٥٢ ج١٩.

  • أبو كلدة اليشكري، من بكر، من أنصار ابن الأشعث سكن الكوفة وقتله الحجاج. أخباره في الأغاني ١١٠ ج١٠.

(٧) شعراء الغزل في العصر الأموي

قلنا في كلامنا عن التشبيب: إن إمام التشبيب في هذا العصر جميل بن معمر إمام المحبين، وكان يشبب بحبيبته عن شعور حقيقي بالحب … فقلده الشعراء في ذلك وإن لم يكونوا محبين، على أن أكثرهم ابتلوا بالعشق ولا سيما آل عذرة، وبلغ عدد المشببين بضعة وعشرين شاعرًا منهم خمسة من قريش هم: عمر بن أبي ربيعة، والعرجي، والحارث بن خالد، وأبو دهبل، وابن قيس الرقيات، وعروة بن أذينة، وإمامهم عمر بن أبي ربيعة، وهو أول من تجرأ على التشبيب بالنساء وصارت له فيه طريقة تحداها الشعراء بعده من قريش وغيرهم كما سيجيء، فنبدأ بجميل ثم نذكر الشعراء القرشيين وغيرهم.

(٧-١) جميل بن معمر (توفي سنة ٨٢ﻫ)

هو جميل بن عبد الله بن معمر، من عذرة، وكان شاعرًا فصيحًا مقدمًا جامعًا للشعر والرواية اشتهر بحبه بثينة ابنة عمه، ولذلك عُرف بجميل بثينة، وكانا يقيمان في وادي القرى وكان أول عهده بها وهي صغيرة، ومن أوائل نظمه فيها قوله:

وأول ما قاد المودةَ بيننا
بوادي بَغيضٍ يا بُثينُ سِبابُ
وقلت لها قولًا فجاءت بمثله
لكل كلام يا بثينُ جواب

ولم يكن يراها حتى صارت شابة، فأخذ ينظم القصائد فيها حتى اشتهر أمره، واتفق مرة أن توبة بن الحمير صاحب ليلى مر ببني عذرة، فرأته بثينة فجعلت تنظر إليه وجميل حاضر … فثارت الغيرة في قلب جميل، فقال لتوبة: «من أنت؟» قال: «أنا توبة بن الحمير» قال: «هل لك في الصراع؟» قال: «ذلك إليك»، فأعطته بثينة ملاءة حمراء فأتزر بها ثم صارعه، فصرعه جميل، ثم قال: «هل لك في النضال؟» قال: «نعم» فناضله فنضله جميل، ثم قال: «هل لك في السباق؟» قال: «نعم» فسابقه فسبقه جميل، فقال توبة: «يا هذا إنما تفعل ذلك بريح هذه الجالسة، ولكن اهبط بنا الوادي» فهبط فصرعه توبة ونضله وسبقه.

وكان عند بثينة مثل ما عند جميل، ولما رأت مناضلته عنها زادت شغفًا به، ولكنهما لم يكونا يجتمعان إلا خلسة على موعد، ولم يكن جميل يخلو من الرقباء، لكنهم لم يستطيعوا رميه، وأخباره معها كثيرة لا يسعها هذا المقام، وما زال يجتمع بها سرًّا عن أهلها فألحوا بالشكوى منه إلى العامل، ففر إلى اليمن حتى عزل العامل … وانتجع أهل بثينة الشام فرحل جميل إليهم، فترصدوه وشكوه إلى عشيرته، فعنفه أهله وهددوه، فانقطع عنها، وأخيرًا لجأ إلى مصر، وعاملها عبد العزيز بن مروان، فأحسن وفادته ومرض هناك ومات، وكان طويل القامة عريض ما بين المنكبين جميل الخلقة حسن البشرة، ومن قوله فيها:

وإني لأرضى من بثينة بالذي
لوَ أبْصره الواشي لقرت بلابله
بلا وبأن لا أستطع وبالمنى
وبالأمل المرجوِّ قد خاب آمله
وبالنظرة العَجْلَى وبالحول تنقضي
أواخره لا نلتقي وأوائله

ومن قوله أبيات ينسبونها إلى مجنون ليلى:

وما زلتم يا بَثْنَ حتى لوَ أنني
من الشوق أستبكي الحمام بكى ليا
إذا خَدِرتْ رجلي وقيل شفاؤها
دعاء حبيبٍ كنت أنتِ دعائيا
وما زادني النأي المفرِّق بعدكم
سُلُوَّا ولا طول التلاقي تقاليا
ولا زادني الواشون إلا صبابة
ولا كثرة الناهين إلا تماديا
لقد خفت أن ألقى المنية بغتةً
وفي النفس حاجاتٌ إليك كما هيا

ومن بديع قوله في النسيب:

لها في سواد القلب بالحب مَيْعَةٌ
هي الموت أو كادت على الموت تُشرفُ
وما ذكرتك النفسُ يا بثن مرةً
من الدهر إلا كادت النفس تتلف
وما استطرفت نفسي حديثًا لخلةٍ
أسرُّ به إلا حديثُك أطرف

وأكثر شعره فيها وله أبيات في الفخر بليغة منها:

يُحِبُّ الغواني البيضُ ظلَّ لوائنا
إذا ما أتانا الصارخُ المتلهِّفُ
نسير أمام الناس والناسُ خلفنا
فإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا
وكنا إذا ما معشرٌ نصبوا لنا
ومرت جواري طَيْرهم وتعيَّفوا
وضعنا لهم صاع القصاص رهينة
بما سوف نوفيها إذا الناس طَفَّفوا

ولجميل ديوان شعر كبير كان مشهورًا في أيام ابن خلكان، ولم نقف على خبره، ولكن منه أشعارًا مجموعة في كتاب منه نسخة خطية في مكتبة برلين.

ونرى ترجمة جميل في الأغاني ٧٧ ج٧ و٨٠ ج١٠، و١٣٤ و١٤٢ ج٢، وابن خلكان ١١٥ ج١، وخزانة الأدب ١٩١ ج١، والشعر والشعراء ٢٦٠، وفي الهلال ٢٤٢ سنة ٦.

(٧-٢) شعراء قريش الغزليين

عمر بن أبي ربيعة (توفي سنة ٩٣ﻫ)

هو عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة، من مخزوم بطن من قريش، وكانت العرب تقر لقريش بالتقدم عليها في كل شيء إلا الشعر، حتى ظهر عمر بن أبي ربيعة فأقرت لها به.

وقصر عمر المذكور شعره على وصف النساء ولم يصف سواهن، وكان الإسلام لا يزال في أوائله، والمسلمون يستنكفون من التعرض للنساء والتشبيب بهن، ولم يجرؤ ابن أبي ربيعة على ذلك إلا لمنزلته في قريش، ومع ذلك فقد عدوا شعره ضررًا على الآداب، فقد قال ابن جريح: «ما دخل العواتق في حجالهن شيء أضر عليهن من شعر ابن أبي ربيعة» وقال هشام بن عروة: «لا ترووا فتيانكم شعر عمر بن أبي ربيعة لئلا يتورطوا في الزنا تورطًا»١٨ وكان أخوه الحارث يمنعه من شعره ويدفع إليه المال ليكف عنه فلا يقدر.

وقد اقتبس عمر من جميل وقلده. وكان جميل يشبب بحبيبته، أما عمر فكان يشبب بكل جميلة ولو لم يكن بينه وبينها مودة، وصار له في التشبيب طريقة عُرفت باسمه حاكاها الشعراء، ولما سمع الفرزدق تشبيبه قال: «هذا الذي كانت الشعراء تطلبه فأخطأته وبكت الديار ووقع هذا عليه»، وكانوا لذلك يعدونه أنسب الناس وأوصف الشعراء لربات الجمال، وكان يقيم بمكة، فإذا آن الحج اعتمر في ذي القعدة، ولبس الحلل الفاخرة، وركب النجائب المخضوبة بالحناء، عليها القطوع والديباج، وأسبل لمته، ولقي العراقيات فيما بينه وبين ذات عرق محرمات، ويتلقى المدنيات إلى مر، ويتلقى الشاميات إلى الكديد، ويتعرض للحجاج فيشبب بشهيرات النساء اللواتي يقدمن إلى مكة وهن في مشاعر الحج، أو ينظر إليهن وهن في الطواف فيرى منهن ما لا يراه في الخارج فيصفهن … فتعرض لأشهر نساء العرب وأجملهن، وفيهن جماعة من كبريات القوم، وفي جملتهن فاطمة بنت عبد الملك بن مروان الخليفة، ولكن لم يكن يذكر اسمها؛ خوفًا من أبيها ومن الحجاج، وكان أبوها قد بعث إليه يتوعده إذا ذكرها فلما عادت من الحج قال فيها:

كِدْت يومَ الرحيل أقْضِي حياتي
ليتني متُّ قبل يوم الرحيل
لا أطيق الكلام من شدة الخو
ف ودمعي يسيلُ كلَّ مَسيل
ذرَفتْ عينُها وفاضت عيوني
وكلانا يُلفَى بلبٍّ أصيل

وممن شبب بهن عائشة بنت طلحة الشهيرة بالجمال والتعقل، وكان قد رآها تطوف فعلمت أنه لا يبرح أن يشبب فيها، فبعثت إليه مع جاريتها تقول: «اتق الله ولا تقل هجرًا» فأجابها: «اقرئيها السلام وقولي لها: ابن عمك لا يقول إلا حسنًا» وقال أبياتًا منها:

لعائشةَ ابنة التيمي عندي
حِمى في القلب، لا يُرْعَى حماها
يذكرني ابنةَ التيميِّ ظبيٌ
يرودُ بروضةٍ سهلٍ رباها
فقلت له وكاد يُرَاعُ قلبي
فلم أرَ قطُّ كاليوم اشتباها
سوى حَمشٍ بساقك مستبينٍ
وأنَّ شَواك لم يشبه شواها
وأنك عاطلٌ عار وليست
بعارية ولا عُطْلٍ يداها

وشبب أيضًا بلبابة بنت عبد الله بن عباس بأبيات مطلعها:

ودِّع لُبابة قبل أن نترحَّلا
واسأل فإن قُلَالَهٌ أن تسألا

وشبب بسكينة بنت الحسين من قصيدة قال فيها:

أسُكَيْنُ ما ماءُ الفراتِ وطيبُه
مني على ظمأٍ وحبِّ شراب
بألذَّ منك وإن نأيتِ وقلما
ترعى النساءُ أمانة الغيَّاب

وشبب بالثريا بنت علي بن عبد الله بن الحارث، وكان قد تزوجها رجل اسمه سهيل وفي ذلك يقول عمر:

أيها المنكحُ الثريَّا سُهَيْلًا
عَمْرَك الله كيف يجتمعان
هي شاميَّةٌ إذا ما استقلَّتْ
وسهيلٌ إذا استقل يماني

وشبب أيضًا برملة بنت عبد الله بن خلف أخت طلحة الطلحات وغيرها، وشعره كثير ومنه طائفة حسنة يغنونها، ومما يستحسن من شعره قوله في نحول البدن:

رأت رجلًا أما إذا الشمس عارضتْ
فيَضحَى وأما بالعشيِّ فيخْصر
قليلًا على ظهر المطية شخصه
حلا ما نَبَى عنه الرداء المحبَّرُ

وأخباره كثيرة ذكرها صاحب الأغاني مطولة من ٣٠ ج١، والشعر والشعراء ٣٤٨، وابن خلكان ٣٧٨ ج١، والدميري ٣٢٦ ج١، والعقد الفريد ١٣٢ ج٣.

وله ديوان مطبوع في ليبسك سنة ١٨٩٣، وفي مصر سنة ١٣١١، ومنه نسختان خطيتان في دار الكتب المصرية.

العرجي

هو عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان الخليفة، كان من شعراء قريش وقد اشتهر بالغزل وتشبه بعمر بن أبي ربيعة، وكان مشغوفًا باللهو والصيد قليل المحاشاة لأحد فيها، ولم يكن له نباهة في أهله، وكان أشقر أزرق العينين جميل الوجه، وقد شبب بجيداء أم محمد بن هشام المخزومي ليفضح ابنها، لا لمحبة بينهما، فأخذه محمد وضربه وحبسه حتى مات في السجن.

وكان يشبب أيضًا بالنساء الشهيرات بالجمال نحو ما كان يفعل ابن أبي ربيعة، لكنه كان ملقدًا فلم يبلغ مبلغه، وكان يقلده في البذخ فيستسقي على إبله في شملتين، ثم يغتسل ويلبس حلتين بخمسمائة دينار. ومما قاله في حبسه:

أضاعوني وأيَّ فتًى أضاعوا
ليوم كريهة وسَداد ثَغرِ
وصبرٍ عند مُعترَك المنايا
وقد شُرِعت أسنَّتُها بنَحرِي
أجَرِّرُ في الجوامع كلَّ يوم
فيا لله مَظْلمتي وصَبْري
كأني لم أكن فيهم وسيطًا
ولم تك نِسْبتي في آل عمرو

وأخباره كثيرة منشورة في الأغاني ١٥٣ ج١، و٩٠ ج٦، و١٤٥ ج٧، والشعر والشعراء ٣٦٥.

الحارث بن خالد المخزومي

هو أيضًا من مخزوم مثل عمر بن أبي ربيعة، وقد اتبع مذهبه في الغزل لا يتجاوزه إلى المديح أو الهجاء، وكان يهوى عائشة بنت طلحة ويشبب بها، وكان ذا قدر وخطر ومنظر في قريش، وأخوه عكرمة بن خالد محدث جليل. وكان بنو مخزوم جميعًا من حزب ابن الزبير إلا الحارث، فكان منحازًا لعبد الملك بن مروان فولاه مكة، وكان يراقب الحج كما يفعل ابن أبي ربيعة، ويشبب بمن يستحسنهن من النساء وهن في الطواف.

ومن قوله في عائشة بنت طلحة لما تزوجها مصعب بن الزبير ورحل بها إلى العراق:

ظعن الأمير بأحسن الخلقِ
وغدا بلُبِّك مطلع الشرق
في البيت ذي الحسب الرفيع ومِن
أهل التقى والبرِّ والصدق
فظَللت كالمقهور مُهجته
هذا الجنون وليس بالعشق
أتْرُجَّةٌ عَبِقَ العبيرُ بها
عَبَقَ الِّدهان بجانب الحُق
ما صبَّحتْ أحدًا برؤيتها
إلا غدا بكواكب الطَّلقِ

وله أقوال كثيرة ذكرها صاحب الأغاني ١٠٠ ج٣، وخزانة الأدب ٢١٧ ج١.

أبو دهبل الجمحي

اسمه وهب بن زمعة من أشراف بني جمح من قريش، وكان رجلًا جميلًا له جمة شعر يرسلها فتضرب منكبيه، وكان عفيفًا قال الشعر في آخر خلافة علي بن أبي طالب، ومدح معاوية وعبد الله بن الزبير، وكان ابن الزبير ولاه بعض أعمال اليمن ولكنه شُغل عن ذلك بالغزل لأنه هوى امرأة من قومه اسمها عمرة، وكانت جزلة يجتمع إليها الرجال للمحادثة وإنشاد الشعر والأخبار … فكان أبو دهبل لا يفارق مجلسها، وكانت هي أيضًا تحبه، فغارت امرأة منها، فبعثت إليها عجوزًا داهية وشت به حتى احتجبت عنه، فقال:

وبتُّ كئيبًا ما أنا كأنما
خِلالَ ضلوعي جمرةٌ تتوهَّجُ
فطورًا أمنِّي النفسَ من عَمرةَ المنى
وطورًا إذا ما لَجَّ بي الحزن أنشِجُ
لقد قطع الواشون ما كان بيننا
ونحن إلى أن يوصل الحبلُ أحوجُ

وقد شبب في غيرها من شهيرات النساء منهن عاتكة بنت معاوية بن أبي سفيان … وقد جاءت للحج فنزلت بذي طوى من مكة، وقد اشتد الحر فأمرت جواريها فرفعن الستر فمر أبو دهبل فرآها وهي لا تعلم، فلما رأته ينظر إليها غضبت وشتمته وأمرت بإرخاء الستر، فقال أبو دهبل في ذلك:

إني دعاني الحيْن فاقتادني
حتى رأيت الظبيَ بالباب
يا حُسنه إذ سبَّني مدبرًا
مستترًا عني بجلباب
سبحان من وقَّفها حسرةً
صُبَّت على القلب بأوصاب
يذود عنها أن تطلبتها
أبٌ لها ليس بوهَّاب
أحلَّها قصرًا منيع الذُّرا
يحمَى بأبوابٍ وحُجَّابِ

وأنشد أبو دهبل هذه الأبيات بعض إخوانه فشاعت وغنى بها المغنون، فبلغت عاتكة فبعثت إليه بكسوة وجرت الرسل بينهما، فلما صدرت عن مكة خرج معها إلى الشام، فلما دخلت دمشق (جيرون) انقطعت عن لقائه في دمشق، فنظم في ذلك قصيدة مطلعها:

طال ليلي وبت كالمحزون
ومللتُ الثواء في جَيرون

وبلغ معاوية تشبيبه بابنته، فأحب أن يمنعه بأسلوب من أساليبه الناعمة … فدعاه إليه وأخبره أنه اطلع على ما قاله، فأراد أبو دهبل أن يتنصل ويزعم أنها قيلت عن لسانه، فأكد له معاوية أنها له، ولكنه قال: «لا خوف عليك من جهتي ولكنني أخاف عليك من يزيد، فإن له سورة الشباب وأنفة الملوك» فخاف أبو دهبل وخرج إلى مكة هاربًا، لكنه عاد إلى مكاتبة عاتكة، وبلغ ذلك معاوية فحج، ولما انقضت أيام الحج دعا أبا دهبل في جملة الشعراء والأشراف وأجازه، وسأله عن أحب بنات عمه إليه، فقال: فلانة، فقال: «قد زوجتك إياها وأصدقتها ألفي دينار، وأمرت لك بألف دينار، فلما قبضها طلب العفو عما مضى ولم يتزوج الفتاة، فسر معاوية من ذلك، وأكثر شعره غير الغزل في عبد الله بن عبد الرحمن الأزرق والي اليمن».

ولأبي دهبل أخبار طويلة ذكرها صاحب الأغاني ١٥٤ ج٦، وله أشعار في الشعر والشعراء ٣٨٩.

ابن قيس الرقيات (توفي سنة ٧٥ﻫ)

اسمه عبيد الله بن قيس، من قريش، وكان ممن انحاز إلى ابن الزبير، وخرج مع مصعب بن الزبير على عبد الملك بن مروان ومدحه وطعن في بني أمية، ثم انحاز إلى عبد الملك بعد قتل مصعب وعبد الله فأمنه، فقال يمدحه من قصيدة:

إن الأغرَّ الذي أبوه أبو الـ
ـعاصي عليه الوقار والحُجُبُ
يَعْتَدل التاجَ فوق مَفْرَقِهِ
على جبينٍ كأنه الذهبُ

فقال له عبد الملك: «يا ابن قيس تمدحني بالتاج كأني من العجم، وتقول في مصعب:

إنما مصعب شهاب من الله
تجلت عن وجهه الظلماء
ملكُه ملكُ عِزَّةٍ ليس فيه
جَبَروتٌ منه ولا كبرياء

أما الأمان فقد سبق، ولكن والله لا تأخذ مع المسلمين عطاءً أبدًا».

أما تغزله فقد كان في امرأة كوفية كان ينزل عندها اسمها كثيرة، وله في أخرى اسمها رقية غزل كثير، على أن غزله أقل من غزل سائر من تقدم من الشعراء القرشيين، ولكن طائفة من شعره يغنونها ومن شعره في رقية ويغنى به:

رُقَيَّ بعيشكم لا تهجرينا
وَمنِّينا المُنى ثم امْطُلينا
عِدينا في غد ما شئتِ إنا
نحبُّ وإن مَطَلْتِ الواعدينا
فإما تنجزي عِدتي وإما
نعيش بما نؤمل منك حينا

وله فيها أيضًا:

وترى في البيت صورتَها
مثلَ ما في البيعة السُّرجُ
خبِّروني هل على رجلٍ
عاشقٍ في قبلةٍ حَرَجُ

وترى أخباره في الأغاني ١٥٥ ج٤، وفي الشعر والشعراء ٣٤٣، وخزانة الأدب ٢٦٧ ج٣ وله ديوان طُبع في فينا سنة ١٩٠٢ مع ترجمة ألمانية، وقد شرحه السكري المتوفى سنة ٢٧٥ﻫ، وفي دار الكتب المصرية نسخة خطية من الشرح المذكور.

(٧-٣) سائر الشعراء الغزليين

لا يكاد يخلو شاعر من أبيات غزلية قالها عن حب أو تشبيب، ولكن المراد بشعراء الغزل الذين أكثروا من قولهم فيه وقد تقدم ذكر بعضهم وإليك الباقين:

مجنون ليلى

هو قيس بن الملوح، ويقال: ابن معاذ بن مزاحم من عامر بن صعصعة، ويُعرف بمجنون ليلى؛ نسبة إلى ليلى التي كان يتعشقها وهو مشهور، ولكن بعض أهل النقد من علماء الشعر يرون أن قصته موضوعة، وضعها رجل من بني أمية كان يحب ابنة عم له يكره أن يُظهر ما بينه وبينها … فوضع حديث المجنون وقال الأشعار التي يظنها الناس للمجنون. وقد زاد الناس فيه بعدئذ. ويؤيد ذلك أن كثيرًا مما يُنسب إليه من الأشعار رُوي لغيره … فقصته إذًا من قبيل الشعر التمثيلي الذي يراد به تمثيل بعض الفضائل، وهي تمثل العشق مع التعفف، أو لعل لها أصلًا قليلًا وزاد فيه الرواة كما فعلوا بقصة عنترة التي تمثل الشجاعة والعشق.

وعلى كل حال، فإن بين الأشعار المنسوبة إلى المجنون طائفة تمثل أشعار المحبين كما هي على طبيعتها، وديوان مجنون ليلى شائع ومتداول، ومما ينسب إليه قوله:

وإني لينسيني لقاؤك كلما
لقيتُك يومًا أن أبثَّك ما بيا
وقالوا به داءٌ عياءٌ أصابه
وقد علمتْ نفسي مكانَ دوائيا

وقوله:

فوالله ثم الله إني لدائبٌ
أفكِّر ما ذنبي إليها وأعجب
ووالله ما أدري علام قتلتني
وأيَّ أموري فيك يا ليْلِ أركب
أأقطع حبلَ الوصل، والموتُ دونه
أمَ اشربُ رنْقًا منكمْ ليس يشربُ
أمَ اهربُ حتى لا أرى لي مجاورًا
أمَ اصنع ماذا أم أبوح فأغْلَب
فأيهما يا ليل ما ترتضينه
فإني لمظلومٌ وإني لمعتب

وأخبار المجنون في الأغاني ١٦٧ ج١، والشعر والشعراء ٣٥٥، وخزانة الأدب ١٧٠ ج٢ وله ديوان مطبوع في القاهرة ١٣٠٠ﻫ وفي بيروت سنة ١٨٨٢م، ثم طُبع مرارًا، ومنه نسخة خطية في دار الكتب المصرية، وفي مكاتب: تونس، وبرلين، وباريس، وأيا صوفيا، وغيرها.

كثير عزة (توفي سنة ١٠٥ﻫ)

هو كثير بن عبد الرحمن، من خزاعة ويُعرف بكثير عزة نسبة إلى عشيقته التي كان يشبب بها، وكان يدخل على عبد الملك وينشده، وكان شيعيًّا شديد التعصب لآل أبي طالب. وكان عبد الملك يعرف ذلك فيه فلا ينكره، فإذا أراد أن يصدقه في شيء حلَّفه بعلي، وكان له صديق اسمه خندف الأسدي شديد التشيع مثله، وبلغ من جرأة خندف هذا أنه وقف مرة في الموسم والناس مزدحمون وقال: «أيها الناس إنكم على غير حق، وقد تركتم بيت نبيكم والحق لهم وهم الأئمة» فوثب عليه الناس فضربوه ورموه حتى قتلوه، ودُفن خندف بقنونا فقال إذ ذاك كُثير يرثيه:

أصادرةٌ حُجَّاج كعبٍ ومالك
على كل عَجلي ضامر البطن محنقِ
بمرثيةٍ فيها ثناءُ محبرٍ
لأزهرَ من أولاد مُرَّة مُعْرق

والقصيدة طويلة … أما معشوقته عزة فهي بنت جميل بن وقاص من ضمرة، وكانت من أجمل النساء وآدبهن وأعقلهن، ويقال: إنه لم يرَ لها وجهًا إلا أنه استهام بها قلبه لما ذُكر له عنها، وعاتبه بعض أهلها فقالوا: «قد شهرت نفسك وشهرت صاحبتنا فاكفف نفسك» فقال: «إني لا أذكرها بما تكرهون».

واتفق خروجهم إلى مصر في عام الجلاء … فتبعهم على راحلته فزجروه، فأبى إلا أن يلحقهم، فتربص له بعضهم في الطريق وقبضوا عليه وجعلوه في جيفة حمار وربطوها عليه، فمر به صديقه خندف فأطلقه وألحقه ببلاده، وكان كثير دميمًا قليلًا أحمر أقيشر عظيم الهامة قبيحًا، وأكثر أشعاره في عزة هذه، ومن ذلك قوله لما أخرجت إلى مصر:

وقال خليلي ما لها إذ لقيتها
غداة السَّنا فيها عليك وجومُ
فقلتُ له إن المودةَ بيننا
على غير فحشٍ والصفاءُ قديم
وإني وإن أعرضتُ عنها تجلدًا
على العهد فيما بيننا لمقيم
وإن زمانًا فرَّقَ الدهر بيننا
وبينكُم في صَرْفه لمَشُوم

وقوله وبه يغني:

وكنت إذا ما جئت أجْللْنَ مجلسي
وأظهرن مني هيبةً لا تجهُّما
يحاذرْنَ مني غَيرةً قد عرفتها
قديمًا فما يضحكن إلا تبسما

ومن أحاسن شعره قوله:

أغاضِرَ لو شهدتِ غداة بِنْتُمْ
حُنوَّ العائدات على وسادي
أويتِ لوامقٍ لم تَشْكُميهِ
نوافذهُ تلذَّعُ بالزِّنادِ

ومن قوله في الحكم:

ومن لا يغمِّضْ عينه عن صديقه
وعن بعض ما فيه يمتْ وهو عاتبُ
ومن يتتبَّع جاهدًا كل عَثرةً
يجدها فلا يسلم له الدهرَ صاحبُ

ويختار من قوله:

وأجمعُ هِجْرانًا لأسماء إن دنتْ
بها الدار لا من زَهدةٍ في وصالها
فإن شحطتْ يومًا بكيتُ وإن دنت
تذللت واستكثرتها باعتزالها

ومن منتخبات قوله في عزة قصيدة طويلة مطلعها:

خليليَّ هذا ربْعُ عزة فاعقِلا
قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلَّتِ

وقوله وفيه إفراط:

ومشى إليَّ بعيب عزةَ نسوةٌ
جعل الإله خدودهنَّ نعالها
ولوَ أنَّ عزة خاصمتْ شمس الضحى
في الحسن عند موفَّقٍ لقضى لها

وأخباره كثيرة تجدها في الأغاني ٤٦ ج١١، و٢٧ ج٨، و٧٨ ج٧، والشعر والشعراء ٣١٦، وابن خلكان ٤٣٣ ج١، والعقد الفريد ١١٥ و٢٠٣ ج١، وخزانة الأدب ٣٨١ ج٢ وله ديوان شرحه أبو عبد الله الرشيدي منه نسخة خطية في الإسكوريال.

ابن ميادة

هو الرماح بن يزيد بن ثوبان، من ذبيان، وكان أحمرَ سبطًا عظيم الخلق طويلًا طويل اللحية، وكان لباسه عطرًا، وذكروا أنه أشعر غطفان في الجاهلية والإسلام، وكان خيرًا لقومه من النابغة … لم يمدح غير قريش وقيس، وكان النابغة يمدح اليمن (القحطانية) ومما يؤثر من قوله في الشعر وقد قيل له مرة: «لو أصلحت شعرك لذُكرت به لأنه فيه كثير من السقط» فقال: «إنما الشعر كنبل في جفيرك ترمي به الغرض فطالع وواقع وعاصد وقاصد».

وعاصر ابن ميادة الوليد بن يزيد ومدحه، وأدرك أول الدولة العباسية فمدح المنصور وجعفر بن سليمان … فهو من أهل الدور الثالث، وإنما ذكرناه هنا لأنه من الشعراء الغزليين، وأحب امرأة من بني مرة اسمها أم جحدر، وكان يختلف إليها فعلم أبوها وغضب وأقسم أن لا يزوجها رجلًا من قومه، فزوجها رجلًا من الشام، فقال ابن ميادة من شدة الوجد:

خليليَّ من أبناء عُذْرَةَ بلِّغا
رسائل منا لا تزيدكما وِقْرَا
ألِمَّا على تَيْمَاءَ نسألْ يهودها
فإن لدى تيماءَ من ركبها خُبرا
وبالغمر قد جازت وجاز مَطِيُّها
عليه فسَلْ من ذلك نيَّان فالغمرا
ويا ليت شعري هل يحلنَّ أهلُها
وأهلُك روضاتٍ ببطن اللوَى خضرا

ولابن ميادة مواقفات مع الحكم القضري، وأراجيز طوال ومفاخرات مع عقال بن هاشم، ذكر صاحب الأغاني بعضها وهي منتقيات، وله في مدح الوليد قصيدة مطلعها:

يا أطيب الناس ريقًا بعد هَجْعتها
وأملحَ الناس عيْنًا حين تَنْتَقب

ولما مات الوليد رثاه، فلما قامت الدولة العباسية مدح المنصور، وأخبار ابن ميادة كثيرة في الأغاني ٨٨ ج٢، والشعر والشعراء ٤٨٤.

الأحوص (توفي سنة ١٠٥ﻫ)

هو عبد الله بن محمد بن عبد الله من الأوس من أهل المدينة، وكان مثل سائر شبان يثرب في تلك الأيام ميالًا إلى اللهو، وكان قليل المروءة والدين مع ميل إلى هجاء الناس، وقد جعله ابن سلام في طبقة ابن قيس الرقيات ونصيب وجميل، ولكن أهل الحجاز يفضلونه عليهم، وهو أسمح طبعًا وأسهل كلامًا وأصح معنى منهم، ولشعره رونق وديباجة صافية وحلاوة وعذوبة، وبه ألفاظ ليست لواحد منهم، وكان متهتكًا فبلغ سليمانَ بن عبد الملك عنه أقوال فنفاه، ويقال في سبب ذلك: إن سكينة بنت الحسين فخرت يومًا بالرسول، ففاخرها الأحوص بقصيدته التي يقول فيها: «ليس جهل أتيته ببديع»، فبلع ذلك سليمان فناه ثم رده.

واشتهر الأحوص بتشبيبه بأم جعفر وهي امرأة من الأنصار، وتوعده أخوها وهدده فلم يكف عن التشبيب … فاستعدى عليه والي المدينة وهو يومئذٍ عمر بن عبد العزيز، فربط الأحوص وأخاها بحبل ودفع إليهما سوطين وقال: «تجالدا» فغلب أخوها، ومن شعره فيها:

أزور البيوتَ اللاصقاتِ ببيتها
وقلبي إلى البيت الذي لا أزور
وما كنت زوارًا ولكنَّ ذا الهوى
إذا لم يَزُرْ لا بد أن سيزور
أزور على أن لست أنفكُّ كلما
أتيت عدوًّا بالبنان يشير

ومن شعره الجيد قوله:

ألا لا تلمه اليوم أن يتبلَّدا
فقد غلب المحزون أن يتجلدا
وما العيش إلا ما تلذ وتشتهي
وإن لام فيه ذو الشنان وفَنَّدا
بكيت الصبا جهدا فمن شاء لامني
ومن شاء واسى في البكاء وأسعدا
وإني وإن عيرت في طلب الصبا
لأعلم أني لست في الحب أوحدا

وكان الخليفة يزيد بن الوليد مشتغلًا عن الخلافة بجاريته حبابة، فلامه عمه مسلمة ونهاه عنها فتركها وانقطع عن زيارتها … فأرادت أن تسترجعه فلاقته وهو خارج إلى المسجد بعودها وغنته بيت الأحوص: «وما العيش إلا ما تلذ وتشتهي» إلخ، فضرب يزيد بخيرزانته الأرض، وقال: صدقت. وعاد إلى حالته معها.

ومن غزله قوله:

فما هو إلا أن أراها فجاءةً
فأبهَت حتى ما أكاد أجيبُ

وقوله:

ستبقى لها في مُضمرِ القلب والحَشا
سريرةُ حبٍّ يوم تَبلى السرائر

وترى ترجمة الأحوص وأقواله في الأغاني ٤٥ ج٤ و٥٣ ج٦ و١١٧ ج١، وفي الشعر والشعراء ٣٢٩، والعقد الفريد ١١٥ ج١، وخزانة الأدب ٢٣٢ ج١، وفي سائر كتب الأدب، وله قصيدة محفوظة في مكتبة برلين.

قيس بن ذريح

هو قيس بن ذريح من كنانة، وكان رضيع الحسين بن علي لأن أم قيس أرضعت الحسين، كان منزل قومه في ظاهر المدينة، وكان هو وأبوه من حاضرة المدينة، واشتهر قيس بحبه لبنى بنت الحباب الكعبية، وهي التي جعلته ينظم الشعر فإنه رآها مرة واستسقاها فسقته، وكانت امرأة مديدة القامة شهلاء حلوة المنظر والكلام … فلما رآها وقعت في نفسه فعشقها وجعل ينطق بالشعر، وشكا إليها غرامه فشكت إليه مثله، فطلب إلى أبيه أن يخطبها له فأبى لأنه كان غنيًّا فأراد له إحدى بنات عمه، فشكا إلى أمه فلم تسعفه، فأتى الحسين بن علي فتوسط له فزوجوه لأن إشارته لا تُرد … فأقامت زوجته عنده مدة لا ينكر أحد من صاحبه شيئًا.

ثم دخلت الحماة بين الابن وزوجته، وذلك أن قيسًا كان أبر الناس بأمه، فألهته لبنى عنها فغضبت وأخذت تتحين الفرص للانتقام … فلما مضى على الزواج زمن ولم تلد لبنى لقيس ولدًا، خاطبت أمه أباه بذلك وقالت: «أنت ذو مال فيصير المال إلى الكلالة، فزوجه بغيرها لعل الله أن يرزقه ولدًا» وألحت عليه فاستمهلها، وسأل ابنه في ذلك فأبى أن يتزوج غيرها، فعرض عليه أن يتسرى فأبى، فقال: «طلقها»، فلم يرضَ، فألح عليه وحلف لا يكنه سقف بيت أبدًا حتى يُطلق لبنى، فكان يخرج فيقف في حر الشمس ويجيء أبوه فيقف إلى جانبه فيظله بردائه، ويصلي هو بحرِّ الشمس حتى يفيء الفيء فينصرف، ويدخل قيس إلى لبنى فيعانقها وتعانقه ويبكي وتبكي معه وتقول له: «يا قيس لا تطع أباك فتهلك وتهلكني» فيقول: «ما كنت لأطيع أحدًا فيك أبدًا»، فيقال: إنه مكث كذلك سنة. وقيل: عشر سنين. ثم طلقها، ولم يلبث أن استطير عقله ولحقه مثل الجنون وصار يبكي كالطفل … ثم أتى أبوها ليحملها إلى أهله، فلما رأى قيس هودجها وعلم أنها مسافرة بعد ليلة سقط مغشيًّا عليه وهو يقول:

وإني لمُفْنٍ دمعَ عيني بالبكا
حِذار الذي قد كان أو هو كائن
وقالوا غدًا أو بعد ذاك بليلةٍ
فراقُ حبيب لم يَبِنْ وهو بائن
وما كنت أخشى أن تكون منيتي
بكفيك إلا أن ما حانَ حائن

ولم غاب هودجها أكب على أثر خف بعيرها يقبله، ورجع يقبل موقع مجلسها وأثر قدميها فلاموه على ذلك فقال:

وما أحببتُ أرضكم ولكن
أقبِّل إثْرَ من وَطِئ الترابا
لقد لاقيت من كَلَفي بلُبنى
بلاءً ما أسيغ به الشرابا
إذا نادى المنادي باسم لبنى
عَييت فما أطيقُ له جوابا

ثم زوجوها رجلًا من غطفان، وعاود قيس زيارتها، فشكوه إلى معاوية فأهدر دمه، فقال في ذلك:

فإن يحجبوها أو يَحُلْ دون وَصْلها
مقالةُ واشٍ أو وعيدُ أمير
فلن يمنعوا عينيَّ من دائم البكا
ولن يُذهبوا ما قد أجَنُّ ضميري

وأخبار قيس بن ذريح كثيرة في الأغاني ١١٢ ج٨، وفي الشعر والشعراء ٣٩٩، وله ديوان مشروح ومنه نسخة خطية في مكتبة الإسكوريال وغيرها في برلين.

المخبل القيسي

اسمه كعب وهو صاحب ميلاء ابنة عمه، وقد رآها مرة فعشقها، ولقيها فشكا إليها حبه فوعدته، فعلم إخوتها وهم سبعة فهددوه، وكان منزله في الحجاز فخرج إلى الشام ونظم فيها الأشعار، ومن ذلك قصيدة مطلعها:

خليليَّ فد قستُ الأمور ورمتها
بنفسي وبالفتيان كلَّ زمان
فلم أخْفِ سوءًا للصديق ولم أجد
خليًّا ولا ذا البثِّ يستويان

إلى أن قال يصف غرامه:

بُلينا بهجرانٍ ولم أرَ مثلنا
مِن الناس إنسانين يهتجران
أشدَّ مصافاةً وأبعد من قِلًى
وأعْصَى لواشٍ حين يكتفيان
فوالله ما أدري أكلُّ ذوي الهوى
على ما بنا أم نحن مبتليان

وهي طويلة، ومنها:

أحقًّا عباد الله أن لست ماشيًا
بمْرحابَ حتى يُحشرَ الثقلان

وتجد أخباره في الأغاني ٢٠٩ ج٢١، وهو غير المخبل السعدي الذي تقدم ذكره مع الجاهليين.

وهناك بضعة من الشعراء العشاق يعدون من الدور الثالث لأنهم توفوا بعد انقضاء الدور الثاني، وقد أتينا على تراجمهم هنا كما أتينا على آخرين قد يعدون من الدور الأول لاستيفاء هذا الموضوع في مكان واحد.

ذو الرمة (توفي سنة ١١٧ﻫ)

هو غيلان بن عقبة بن نهيس، من مضر، ويعد من الشعراء المتيمين وصاحبته مية بنت مقاتل المنقري، وكانت جميلة وكان هو دميمًا أسود وسمعت تشبيبه بها ولم تره ثم رأته، فقالت: «وا سوأتاه» فغضب، وقال يهجوها:

على وجه مَيٍّ مسحةٌ من ملاحةٍ
وتحت الثياب العارُ لو كان باديا
ألم ترَ أن الماء يخبث طعمُه
وإن كان لون الماء أبيض صافيا
فوا ضيعة الشعر الذي لَّج فانقضى
بميٍّ ولم أملك ضلال فؤاديا

وكان يشبب بخرقاء أيضًا، وهي من عامر بن صعصعة، ومن قوله فيها وهو مما يتغنى به:

لقد أرسلت خَرْقاء نحو جِديها
لتجعلني خرقاءُ فيمن أضلت
وخرقاء لا تزداد إلا ملاحة
ولو عُمِّرتْ تعمير نوحٍ وجَلَّت

وكان ذو الرمة كثير الأخذ من غيره، وقد ذكر ابن قتيبة في الشعر والشعراء أمثلة كثيرة من ذلك، وكان ذو الرمة كثير المديح لبلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، وكان له ثلاثة إخوة كلهم شعراء، وكان مستدير الوجه حسن الشعر جعده أقنى أنزع خفيف العارضين أكحل حسن الضحك مفوهًا، إذا كلمك كلمك أبلغ الناس، يضع لسانه حيث يشاء، وهو من أصحاب الملحمات ومطلع ملحمته:

ما بالُ عينك منها الماء ينسكب
كأنه من كُلى مفريَّةٍ سَرِب

ويمتاز في شعره أنه أحسن شعراء عصره تشبيهًا، كما كان امرؤ القيس أحسن شعراء الجاهلية في ذلك، ودخل بين جرير والفرزدق لما تهاجيا، فكان مع الفرزدق على جرير، وأخباره كثيرة في الأغاني ١١٠ ج١٦، والشعر والشعراء ٣٣٣، وابن خلكان ٤٠٤ ج١، ومصارع العشاق ٧٨، والجمهرة ١٧٧، وخزانة الأدب ٥١ ج١، وله ديوان خطي في دار الكتب المصرية ومثله في مكاتب لندن وليدن.

يزيد بن الطثرية (توفي سنة ١٢٦ﻫ)

اسمه يزيد بن الصمة، من قشير، من عامر ويكنى أبا مكشوح، وكان حسن الوجه والشعر حلو الحديث غزلًا آخذًا بقلوب النساء، وكان الغزل في القشيريين نادرًا، ولهم في ذلك حادثة مع جرم ذكرها صاحب الأغاني، لا بأس من مطالعتها (١١١ ج٧) انتهت بتعلق يزيد بامرأة من جرم يقال لها: وحشية، واشتد وجده بها حتى أشرف على الموت ونظم فيها الشعر، ومن قوله فيها:

بنفسيَ من لو مرَّ برْدُ بَنانه
على كبدي كانت شفاءً أناملُه
ومن هابني في كل أمر وهِبْتُهُ
فلا هو يعطيني ولا أنا سائله

وكتب إليها هذين البيتين:

أحبكِ أطرافَ النهار بشاشةً
وبالليل يدعوني الهوى فأجيب
لئن أصبَحتْ ريحُ المودة بيننا
شَمالًا لقدْ ما كنتِ وهْي جَنَوبُ

فأجابته بقولها:

أحبك حبَّ اليأس إن نفع الحيَا
وإن لم يكن لي من هواك طبيب

وقد قاسى في حبها كما قاسى غيره من العشاق والمتيمين ونظم فيها كثيرًا، ومن قوله:

هبيني امرءًا إما بريئًا ظلمته
وإما مسيئًا تاب منه وأعتبا
وكنت كذي داء تبغَّى لدائه
طبيبًا فلما لم يجده تطبَّبا

ولابن الطثرية أخبار كثيرة في الأغاني ١١٠ ج٧، وفي ابن خلكان ٢٢٩ ج٢، وفي الشعر والشعراء ٢٥٥.

(٧-٤) سائر الشعراء العشاق

ومن الشعراء العشاق طائفة حسنة يضيق المكان عن تراجمهم، فنكتفي بالإشارة إلى المصادر وهم:
  • الأبيرد الرياحي: من تميم، كان يهوى امرأة ولم يفد على الخلفاء. أخباره في الأغاني ١٠ ج١٢.
  • ابن رهيمة: شاعر مشبب أيام عبد الملك. أخباره في الأغاني ١١٨ ج٤.
  • توبة بن الحمير: من عامر بن صعصعة وصاحب ليلى الأخيلية. أخباره في الأغاني ٦٧ ج١٠، وفوات الوفيات ٩٥ ج١، والشعر والشعراء ٢٦٩، وسيأتي ذكره مع ليلى الأخيلية.
  • مرة بن عبد الله النهدي: من قضاعة شاعر بدوي. أخباره في الأغاني ٦١ ج٢٠.
  • مزاحم العقيلي: من هوازن شاعر بدوي صاحب قصيدة ورجز، عاصر الفرزدق، أحب امرأة تزوجها غيره فتفتقت قريحته. أخباره في الأغاني ١٥٠ ج١٧ وخزانة الأدب ٤٥ ج٣.
  • مسعدة بن البختري: من أقرباء المهلب بالعراق. أخباره في الأغاني ٧٧ ج١٢.
  • النميري: من ثقيف.١٩ أخباره في الأغاني ٢٤ ج٦.
  • وضاح اليمن: شبب بامرأة الوليد فقتله: أخباره في الأغاني ٣٢ ج٦، وفوات الوفيات ٢٥٣ ج١.
  • عبد الله بن علقمة: من زرارة أخباره في مصارع العشاق.
  • حميد بن ثور الهلالي: أخباره في الأغاني ٩٨ ج٤، والشعر والشعراء ٢٣٠.

(٨) الشعراء الخلعاء والسكيرون

قد رأيت الخلاعة والسكر في بعض من تقدم ذكرهم من الشعراء، وإنما نعني بهذه الطبقة الشعراء الذين غلب عليهم السكر والتهتك والمجون، أشهرهم:

(٨-١) الأقيشر الأسدي

هو المغيرة بن عبد الله، من بني أسد، من مضر، وكان أحمر الوجه أقشر، فسمي الأقيشر ويكنى أبا معرض، كان كوفيًّا خليعًا ماجنًا مدمنًا شرب الخمر ومن شعره:

فإن أبا مُعْرض إذ حَسَا
من الراحِ كأسًا على المنبرِ
خطيبٌ لبيبٌ أبو معرض
فإن لِيمَ في الخمر لم يصبر
أحلَّ الحرام أبو معرض
فصار خليعًا على المَكْبَرِ

وكان شديد الهجو قبيحه، ومن لطائفه أنه شرب مرة في الحيرة في بيت فيه خياط مقعد ورجل أعمى وعندهم رجل مغن مطرب … فطرب الأقيشر فسقاهم من شرابه، فلما انتشوا وثب الأعمى يسعى في حوائجهم وقفز الخياط المقعد يرقص على ظلعه ويجهد في ذلك كل جهده، فقال الأقيشر:

ومُقْعدِ قوم قد مشى من شرابنا
وأعمى سقيناه ثلاثًا فأبصرا
شرابًا كريح العنبر الوردِ ريحه
ومسحوقِ هنديٍّ من المسك أذفرا

وترى أخباره في الأغاني ٨٤ ج١٠، وفي الشعر والشعراء ٣٥٢.

(٨-٢) الحزين الكناني

هو عمرو بن عبيد بن وهيب من كنانة، وقيل: إنه مولى، وهو حجازي مطبوع ليس من فحول طبقته، وكان هجاء خبيث اللسان ساقطًا، يرضيه اليسير ويتكسب بالشعر وهجاء الناس، ذرب اللسان لم يخدم الخلفاء ولا انتجع بمدح، وكان أشعر ذا بطين عظيم الأنف، على أنه مدح بعض آل مروان غير الخلفاء، ومن ذلك قصيدة رنانة قالها في عبد العزيز بن مروان، منها:

قالوا دمشقُ ينبِّيك الخبير بها
ثم ائت مصر فثَمَّ النائل العَممُ
لما وقفت عليها في الجموع ضحى
وقد تعرَّضتِ الحجَّاب والخدم
حييته بسلام وهو مرتفقٌ
وضجة القوم عند الباب تزدحمُ
في كفه خيزرانٌ ريحها عبَقِ ٌ
من كف أروع في عِرْنينه شَممُ
يُغْضِي حياءً ويُغْضِي من مهابته
فما يكلَّم إلا حين يبتسم

وترى أخباره في الأغاني ٧٦ ج١٤، و٥٢ ج١١.

ومن الشعراء الخلعاء جماعة نكتفي بذكر مصادر تراجمهم:
  • بكر بن خارجة: مولى بني أسد سكير ماجن سكن الحيرة. أخباره في الأغاني ٨٧ ج٢٠.
  • الشمردل بن شريك: من يربوع كان مغرمًا بالشراب واللهو كثير الهجو. أخباره في الأغاني ١١٧ ج١٢، والشعر والشعراء ٤٤٣.
  • الوليد بن يزيد الخليفة: أول من وصف الخمر. أخباره في الأغاني ١٠١ ج٦ و٩٨ ج٣، والعقد الفريد ٢٦٨ ج٣، وخزانة الأدب ٣٢٨ ج١.

(٨-٣) الشعراء المغنون

لم يكن بين شعراء الجاهلية من المغنين إلا الأعشى وعلس، ولكن اقتراب الأمويين من الحضارة ونمو العلاقات بين الحجاز والشام والعراق ولدت الموسيقى، ونبغ كثيرون من المغنين أكثرهم في المدينة، أشهرهم:
  • حنين الحيري: شاعر نصراني، كان يغني أيام هشام. أخباره في الأغاني ١٢٠ ج٢.
  • سعيد الدرامي: (تميم) شاعر ظريف من أهل مكة أيام عمر بن عبد العزيز. أخباره في الأغاني ١٧٨ ج٢.
  • عبادل: مولى قريش في الحجاز لم يفارقها، كان نبيلًا وكان يغني. أخباره في الأغاني ١٧٥ ج٥.
  • محمد بن الأشعث: من قريش كان كاتبًا من فتيان أهل الكوفة ينظم ويغني، أحب سلامة الزرقاء ونظم فيها وأخباره في الأغاني ١٢٧ ج١٣.
  • نصيب: مولى عبد العزيز بن مروان شاعر اشتهر بالغناء. أخباره في الأغاني ١٢٩ ج١، والشعر والشعراء ٢٤٢.
  • ابن عائشة: من موالي آل المطلب السهمي، كان يغني للوليد بن يزيد. أخباره في الأغاني ٦٢ ج٢.

(٩) الشعراء الأدباء

نريد بهذه الطبقة من الشعراء من لم نستطع إدخالهم في إحدى الطبقات المتقدم ذكرها … فهم ليسوا من شعراء السياسة، ولا العشق، ولا السكر، ولا الغناء، وهم بضعة وعشرون شاعرًا، يطول بنا ذكر تراجمهم وخصوصًا بعد أن طال بنا الكلام في شعراء هذا العصر … فنكتفي بترجمة اثنين منهم مع الإشارة إلى المصادر التي يرجع إليها من أراد التوسع في الباقين.

(٩-١) القطامي

هو عمير بن شييم من بني تغلب، وكان نصرانيًّا، عاصر الأخطل، وله شعر من الطبقة الأولى في التشبيب والحماسة والفخر، أما في التشبيب فقوله:

وفي الخدور غماماتٌ بَرَقْنَ لنا
حتى تصيَّدْننا من كل مُصْطَادِ
يقتلننا بحديثٍ ليس يعلمه
من يَتَّقين ولا مكنونه بادي
فهنَّ يَنْبِذن من قول يُصِبْنَ به
مواقعَ الماء من ذي الغُلة الصادي

وكان يمدح زفر بن الحارث الكلابي وأسماء بن خارجة الفزاري، وكان زفر قد أسره ثم أطلقه ووهب له مائة ناقة، فقال — وفيه من كبر النفس ما فيه:

من مبلغٌ زَفَر القيسيُّ مِدحته
عن القطاميِّ قولًا غير إفنادِ
إني وإن كان قومي ليس بينهمُ
وبين قومك إلا ضربةُ الهادي
مثنٍ عليك بما أوليت من حسنٍ
وقد تعرَّض مني مَقتَلٌ بادِ
فإن قدرتُ على يوم جزيتُ به
والله يجعل أقوامًا بمرصاد

وله هجاء شديد نحا فيه نحوًا خاصًّا يدل على تفننه، كقوله يريد هجاء قيس بالبخل من قصيدة استهلها بأنه كان مسافرًا ونزل ضيفًا على امرأة من قيس وأنها ارتاعت لما علمت أنه ضيف سينزل عليها … ووصف ما جرى بينهما في أسلوب جميل، وهو القائل:

والناسُ من يَلْقَ خيرًا قائلون له
ما يشتهي ولأمِّ المخطئ الهبل
قد يدرك المتأني بعضَ حاجتهِ
وقد يكون مع المستعجل الزَّللُ

ومن قوله في الفخر يصف حربًا مع قبيلة كلب:

وكلب تركنا جمعهم بين هاربٍ
حذار المنايا أو قتيل مجدَّلِ
وأفْلَتْنَا لما التقينا بعاقدٍ
على سابحٍ عند الجِراء ابنُ بجْدل
وأقسم لو لاقيته لعلوته
بأبيض قطاع الضريبة مفصل

وهو من أصحاب المشوبات، ومطلع مشوبته:

إنا محيوك فاسلمْ أيها الطلل
وإن بَليت وإن طالت بك الطِّيَل٢٠

ونجد أخبار القطامي في الأغاني ١١٨ ج٢٠، والشعر والشعراء ٤٥٣، والجمهرة ١٥١ وله ديوان طبع في ليدن سنة ١٩٠٢ ومنه نسخة خطية في دار الكتب المصرية وفي مكتبة برلين.

(٩-٢) ليلى الأخيلية وتوبة بن الحمير (توفيت ليلى سنة ٨٠ﻫ)

هي ليلى بنت عبد الله بن الرحال من بني الأخيل من عامر، وهي من النساء المتقدمات في الشعر، وكان توبة بن الحمير يهواها وهو من بني عقيل من عامر أيضًا، فعشقها وقال فيها الشعر … فخطبها إلى أبيها فأبى أن يزوجه إياها وزوجها في بني الأدلع، فجاء يومًا كما كان يجيء لزيارتها فإذا هي سافرة ولم يرَ منها إلا بشاشة، فعلم أن ذلك لأمر ما كان، فرجع إلى راحلته فركبها ومضى، وبلغ بني الأدلع أنه أتاها فتبعوه ففاتهم، فقال توبة في ذلك:

نأتك بليلى دارها لا تزورها
وشَطَّت نواها واستمرَّ مرِيرها٢١

وهي طويلة يقول فيها:

وكنت إذا ما جئت ليلى تَبرْقعت
فقد رابني منها الغداةَ سفورها

ويحكى أن توبة رحل إلى الشام فمر ببني عذرة … فرأته بثينة، فجعلت تنظر إليه، فشق ذلك على جميل فطلبه للمصارعة كما يفعل الغربيون اليوم في طلب المبارزة في مثل هذه الحال، فتصارعا وبثينة حاضرة فغلبه جميل، فقال توبة: «إنما صرعتني بريح هذه، انزل بنا الوادي» فنزلا فغلبه توبة، ومن لطيف شعره في ليلى قوله:

ولو أن ليلى الأخيليَّة سلمتْ
عليَّ ودوني تُربَةٌ وصفائح
لسلمتُ تسليم البشاشة أو زقا
إليها صَدًى من جانب القبر صائح
ولو أن ليلى في السماء لأصعدتْ
بطرفي إلى ليلى العيونُ اللوامح

وكان توبة كثير الغارات فقُتل في إحدى غاراته، كما ورد في حديث طويل ذكره صاحب الأغاني، وكانت ليلى تفد على الحجاج فتمدحه وتنال جوائزه، وأراد الحجاج أن يداعبها فقال لها: «إن شبابك قد ذهب واضمحل أمرك وأمر توبة، فأقسم عليك إلا صدقتني: هل كانت بينكما ريبة قط أو خاطبك في ذلك؟» فقالت: «لا والله أيها الأمير إلا أنه قال لي ليلة وقد خلونا كلمة ظننت أنه قد خضع فيها لبعض الأمر فقلت له:

وذي حاجة قلنا له لا تَبُحْ بها
فليس إليها ما حييتَ سبيل
لنا صاحبٌ لا ينبغي أن نخونه
وأنت لأخرى صاحبٌ وخليل

فلا والله ما سمعت منه ريبة بعدها حتى فرق بيننا»، قال لها الحجاج: «فما كان منه بعد ذلك؟» قالت: «وجه صاحبًا له إلى حاضرنا»، فقال: «إذا أتيت الحاضر من بني عبادة بن عقيل فاعلُ شرفًا»، ثم اهتف بهذا البيت:

عفا الله عنها هل أبيتن ليلة
من الدهر لا يَسْري إليَّ خيالُها

فلما فعل الرجل ذلك عرفت المعنى فقالت له:

وعنه عفا ربي وأحسنَ حِفْظه
عزيزٌ علينا حاجةٌ لا ينالها»

ومن شعرها قولها في مدح الحجاج:

أحجَّاج لا يُفللْ سلاحك إنما الـ
ـمنايا بكفِّ الله حيث تراها
إذا هبطَ الحجاجُ أرضًا مريضة
تتَّبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها
غلامٌ إذا هزَّ القناة سقاها

وأخبار ليلى وتوبة في الأغاني ٦٧ ج١٠، و١٣٢ ج٤، ١٦١ ج٧، والشعر والشعراء ٢٧١، وفوات الوفيات ١٤١ ج٢، والمستطرف ٣٤ ج١.

(٩-٣) سائر شعراء الدور الثاني

وهاك أسماء من بقي من شعراء الدور الثاني:
  • أرطأة بن سهية: من ذبيان شاعر فصيح شريف صادق جواد. أخباره في الأغاني ١٣٩ ج١١، والشعر والشعراء ٣٣٢.
  • أعشى تغلب: نصراني يسكن الشام إذا حضر وينزل بلاد قومه بنواحي الموصل إذا بدا. أخباره في الأغاني ٩٨ ج١٠.
  • الجحاف السلمي: من سليم وُلد بالبصرة وحضر معركة فيها ابن الأخطل، فهرب الجحاف إلى بلاد الروم ثم عاد وعفا عنه عبد الملك. أخباره في الأغاني ٥٧ ج١١.
  • جعفر بن الزبير: شاعر مقل. أخباره في الأغاني ١٠٤ ج١٣.
  • حجية بن المضرب: (كندة) شاعر أموي. أخباره في الأغاني ٩ ج٢١.
  • سراقة بن مرداس البارقي: أخباره في الأغاني ٤٤ ج٦٧ ج٧، و٣١ ج٨.٢٢
  • سويد بن كراع: من عكل شاعر فارس. أخباره في الأغاني ١٢٧ ج١١.
  • عبد الله بن أبي معقل: من الخزرج حجازي أخباره في الأغاني ١١٦ ج٢٠.
  • عبد الله بن الحشرج الجعدي: سيد من سادات قيس ولي الولايات ومدحه زياد الأعجم. ترجمته في الأغاني ١٥١ ج١٠.
  • العجاج الراجز: أخباره في الشعر والشعراء ٣٧٤، والأغاني ١٢٤ ج١٨.٢٣
  • عروة بن أذينة: من كنانة. أخباره في الأغاني ١٠٥ ج٢١، وابن خلكان ٢١٢ ج١، والشعر والشعراء ٣٦٧.
  • عقيل بن علفة: من ذبيان شاعر مقل جاف شديد الهوج والعجرفة والبذخ من بيت شرف في قومه. أخباره في الأغاني ٨٥ ج١١ و٩٩ ج٢.
  • ليلى بنت طريف الشيباني: رأس الخوارج. أخبارها في الأغاني ٩ ج١١.
  • مالك بن أسماء بن خارجة: من فزارة تولى أصبهان تحت إمرة الحجاج. أخباره في الأغاني ٤١ ج١٦ والشعر والشعراء ٤٩٢.
  • مالك بن الريب: من مازن نشأ في بادية البصرة، وهو من أصحاب المراثي. أخباره في الأغاني ١٦٣ ج١٩، والشعر والشعراء ٢٠٥.
  • محمد بن بشير الخارجي: من قيس شاعر حجازي من أهل المدينة، كان منقطعًا إلى أبي عبيدة بن عبد الله بن ربيعة القرشي، قدم البصرة وخطب امرأة اشترطت عليه الإقامة بها. أخباره في الأغاني ١٤٨ ج١٤.
  • مرة بن محكان السعدي: من تميم عاصر الفرزدق وجريرًا وأخملا ذكره، كان شريفًا جوادًا. أخباره في الأغاني ٩ ج٢٠، والشعر والشعراء ٤٣١.
  • المقنع الكندي: شاعر جميل الخلقة شريف. أخباره في الأغاني ١٥٧ ج١٥.
  • المهاجر بن خالد بن الوليد المخزومي: أخباره في الأغاني ١١ ج١٥.
  • يعلى الأحول: من القحطانية، لص كان يقطع السابلة. أخباره في الأغاني ١١١ ج١٩.

(١٠) الدور الثالث من الشعر (في العصر الأموي ١٠١–١٣٢ﻫ)

ويدخل فيه الشعراء الذين قضوا معظم حياتهم في أواخر الدولة الأموية، وهو دور انحطاطها وفسادها بعد أن تولاها يزيد بن الوليد وابنه الوليد بن يزيد، والناس على دين ملوكهم، فأكثر شعراء هذا الدور أميل إلى التملق والخلاعة والتهتك والقصف … أشهرهم يزيد بن الطثرية، وابن ميادة، وقد ذكرناهما بين الشعراء العشاق.

وهاك سائر شعراء الدور الثالث من العصر الأموي:
  • أبو حية النميري: من عامر مدح الخلفاء في الدولتين، وكان ساكنًا في البصرة. أخباره في الأغاني ٦٤ ج١٥، والشعر والشعراء ٤٨٦.
  • أبو عطاء السندي: عاصر الدولتين، أخباره في الأغاني ٨١ ج١٦، والشعر والشعراء ٤٨٢.
  • أبو نخيلة الراحز الحماني: (تميم) نفاه أبوه فخرج إلى الشام ثم اتصل بالعباسيين. أخباره في الأغاني ١٣٩ ج١٨، والشعر والشعراء ٣٨١.
  • جعفر بن علبة الحارثي: (كهلان) شاعر غزل وفارس. أخباره في الأغاني ١٤٦ ج١١، وخزانة الأدب ٣٢٢ ج٤.
  • حريث بن عناب: من طيء، بدوي مقل لم يتصد بالشعر للناس في مدح ولا هجاء. أخباره في الأغاني ١٠٢ ج١٣.
  • الحسين بن مطير: مولى بني أسد شاعر فصيح مدح الدولتين أخباره في الأغاني ١١٤ ج١٤، وخزانة الأدب ٤٨٥ ج٢.
  • رؤبة بن العجاج الراجز: أخباره في الأغاني ٥٠ ج٢١، والشعر والشعراء ٣٧٦.٢٤
  • سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت: مدح الوليد بن يزيد. أخباره في الأغاني ١٦٤ ج٧.
  • يزيد بن ضبة: مولى ثقيف كان يقيم في الطائف، مدح الوليد بن يزيد. أخباره في الأغاني ١٤٦ ج٦.

هوامش

(١) الأغاني ١٢٥ ج١٤.
(٢) راجع تاريخ التمدن الإسلامي ١٨ ج٤ (الطبعة الثالثة).
(٣) ابن خلكان ٢٩٢ ج٢.
(٤) الأغاني ١٧٥ ج٧.
(٥) مشى قرشية: مشية فيها خيلاء القرشيين.
(٦) القليب: السوار.
(٧) الأغاني ١٨٦ ج٧.
(٨) راجع وصفها في المشرق ٦٧ مجلد ٨.
(٩) الرعاء: الرعاة، واللقحة: الناقة الحلوب.
(١٠) الأغاني ٤٦ ج١٩.
(١١) الأغاني ٦٧ ج٧.
(١٢) الأغاني ٤٣ ج٤.
(١٣) نهشل ومجاشع من آباء الفرزدق. وكليب: عشيرة جرير.
(١٤) الفهر: الحجر.
(١٥) الكل: العالة.
(١٦) الأغاني ٥٤ ج١٣.
(١٧) أشب: مشتبك.
(١٨) الأغاني ٣٥ ج١.
(١٩) له ديوان منه نسخة خطية في مكتبة أيا صوفيا بالأستانة.
(٢٠) الطيل: الدهور.
(٢١) استمر مريرها: قويت عزيمتها.
(٢٢) له ديوان منه نسخة في دار الكتب المصرية «طُبع هذا الديوان».
(٢٣) له ديوان مشروح في دار الكتب المصرية وفيها كتاب خطي اسمه رجز العجاج (وقد طُبع هذا الديوان في مجموعة أشعار العرب بعناية المستشرق Ahlwardt).
(٢٤) له ديوان مطبوع في ليبسك سنة ١٩٠٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤