خصائص الشعر الجاهلي

(١) تمثيل الطبيعة

فُطِرَ عرب الجاهلية على البساطة والبعد عن التصنع أو التعمل في كل شيء، شأن أهل البادية؛ لبعدهم عن شوائب المدنية … فهم على الفطرة الطبيعية، وعنوانها الصدق بكل معانيه، ويدخل فيه استقلال الفكر والشجاعة الأدبية والصراحة في القول والعمل، فلا يتكلفون في لباسهم ولا طعامهم ولا شرابهم ولا يتصنعون في كلامهم، وإنما يقولون ما يخطر لهم ويصورونه كما يتمثل لمخيلتهم بلا تنميق أو تأنق، يدلك على ذلك ما ظهر من حريتهم في أقوالهم في صدر الإسلام يوم كان أحدهم يخاطب الخليفة كما يخاطب سائر الناس، وإذا رأى فيه عوجًا انتقده في وجهه والخليفة لا يرى غرابة في انتقاده.

أضف إلى ذلك تعودهم الاستقلال في شؤونهم الشخصية، ونفورهم من التقيد بشيء حتى المكان، فإنهم لا يتوطنون صقعًا بل يجعلون منازلهم على ظهور إبلهم لا يحملون ضيمًا ولا يصبرون على ظلم، فتمكنت الحرية من طباعهم حتى ظهرت في أقوالهم وأفكارهم وفي أشعارهم، فإذا طرأ لهم خيال شعري صوروه كما يتخيل لهم، خلافًا لما تقتضيه الحضارة من التكلف وغيره من ثمار الذل والانكسار؛ مما تراه في أقوال الشعراء بعد أن استبحر عمران الدولة وكثر المتملقون والمتكسبون بالنجعة والزلفى، أما الجاهليون فالقاعدة في النظم عندهم بيت شاعرهم وحكيمهم زهير بن أبي سلمى وهو:

وإن أشعرَ بيتٍ أنت قائله
بيتٌ يقال إذا أنشدته صدقا١

(٢) وصف الحب

والبدوي إذا تيمه الحب وأراد التعبير عن شوقه وهيامه يصف ما يشعر به تمامًا، فإذا سمعه متيم شعر مثل شعوره … فهو لا يبالغ بضعفه من الوجد حتى يزعم أنه صار خيالًا أو طيفًا كقول المتنبي: «لولا مخاطبتي إياك لم ترني» أو قول ابن الفارض: «ما له مما براه الشوق في» ولا يبالغ في بكائه وزفيره حتى يزعم أنه غرق في بحر دمعه أو احترق بنار زفيره، ولكنه يقول قول مجنون بني عامر — وهو معدود من شعراء صدر الإسلام ولكنه بدوي في طباعه، وإن لم يصح أن المجنون اسم على مسمى كما سيأتي — فالشعر يعبر عنده عن تصور أهل البادية، ومما ينسب إليه قوله:

تذكرت ليلى والسنين الخواليا
وأيام لا أعْدى٢ على الدهر عاديا
فما أشرف الأيْفاع إلا صبابة
ولا أنشد الأشعار إلا تداويا
وعهدي بليلى وهي ذات موصد٣
ترد علينا بالعشى المواشيا
فشبَّ بنو ليلى وشب بنو ابنها
وأعلاق ليلى في فؤادي كما هيا
إذا ما جلسنا مجلسًا نستلذه
تواشوا بنا حتى أملَّ مكانيا
خليلي لا والله لا أملك الذي
قضى الله في ليلى ولا ما قضى ليا
قضاها لغيري وابتلاني بحبها
فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا
وخَبَّرتماني أن تَيْماء منزلٌ
لليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيا
فهذي شهور الصيف عنا قد انقضت
فما للنوى ترمي بليلى المراميا
فيا رب سوِّ الحبَّ بيني وبينها
يكون كفافًا لا عليَّ ولا ليا
فما سُمِّيَت عندي لها من سَمِيَّةٍ
من الناس إلا بلَّ دمعي ردانيا
ولا هبت الريح الجنوب لأرضها
من الليل إلا بت للريح حانيا
فأشهد عند الله أني أحبها
فهذا لها عندي فما عندها ليا
أعد الليالي ليلة بعد ليلة
وقد عشت دهرًا لا أعدُّ اللياليا
وأخرج من بين البيوت لعلني
أحدِّث عنك النفس بالليل خاليا

ومثل ذلك قول ابن الدمينة:

فديتك أعدائي كثيرٌ وشقَّتي
بعيد وأشياعي إليك قليل
وكنت إذا ما جئت جئت بعلَّة
فأفنيت علَّاتي فكيف أقول
فما كل يوم لي بأرضك حاجة
ولا كل يوم لي إليك وصول

فلا يسمع محب هذه الأبيات وأمثالها إلا رأى الشاعر يعبر عن شعور صحيح.

(٣) في الرثاء

ويقال نحو ذلك في سائر أغراضهم من الشعر، فإذا رثى الجاهلي ميتًا لا يوهم القارئ أن السماء أطبقت على الأرض، وأن الشمس كسفت، والدنيا لبست الحداد، ونحو ذلك … ولكنه يقول قول جليلة زوجة كليب ترثيه، وقد قتله أخوها جساس:

يا قتيلًا قَوَّض الدهر به
سَقْفَ بيتيَّ جميعا من عَلِ
ورماني فقده من كَثَبٍ
رمية المُصْمِي به المستأصِلِ
هدم البيت الذي استحدثته
وسعي في هدم بيتي الأولِ
مَسَّني فقد كليب بلَظًى
من ورائي ولظى مستقبلي
ليس من يبكي ليومين كمن
إنما يبكي ليومٍ ينجلي
يشتفي المدرك بالثأر وفي
دَرَكي ثأريَ ثكْل المُثْكِلِ
ليته كان دمًا فاحتلبوا
بدلًا منه دمي من أكحَلي

(٤) في الهجو

وإذا أراد أن يهجو، فهجوه معقول بعيد عن البذاء والفحش، وعندهم أشد الهجاء أعفه وأصدقه، وما خرج من ذلك فهو قذف وإفحاش، ومن أشد الهجاء عندهم قول زهير بن أبي سلمى في آل حصن على سبيل التشكك والتجاهل:

وما أدري وسوف إخال أدري
أقومٌ آل حِصْنٍ أم نساءُ
فإن تكن النساء مخبآت
فحُقَّ لكل محصنةٍ هِداء٤

وذكروا أن النابغة سأل قومه بني ذبيان بعد واقعة حسي عما قالوه في عامر بن الطفيل فأنشدوه، فقال أفحشتم على الرجل وهو شريف لا يقال له مثل ذلك ولكنني سأقول، ثم قال:

فإن يكُ عامرٌ قد قال جهلًا
فإن مطية الجهل الشبابُ
فكن كأبيك أو كأبي بَراءٍ
تصادفك الحكومة والصواب
فلا يذهب بلبُكِّ طائشات
من الخيلاء ليس لهنَّ باب
فإنك سوف تحلُم أو َتَناهَى
إذا ما شِبْتَ أو شاب العراب
فإن تكن الفوارس يوم حِسي
أصابوا من لقائك ما أصابوا
فما إن كان من سبب بعيد
ولكن أدركوك وهم غضاب

فلما بلغ عامرًا ما قال النابغة شق عليه، وقال: «ما هجاني أحد حتى هجاني النابغة … جعلني القوم رئيسًا وجعلني النابغة سفيهًا جاهلًا وتهكم بي».

ومن لطيف تجافيهم عن الهجو، ما قاله صخر بن عمرو أخو الخنساء، وقد أراد رثاء أخيه معاوية فقالوا له: أهج قتلته. فتعفف وقال:

وقالوا ألا تهجو فوارس هاشم
وما لي وإهداء الخَنَى من شماليا

فعبر عن الهجو بإهداء الخنى وهو تعبير جميل.

وإذا تحمس الجاهلي أو تفاخر فلا يجعل قومه آلهة وسواهم أبالسة، وإنما يقول قول قريط بن أنيف من شعراء بلعنبر:

لو كنت من مازنٍ لم تَسْتَبِحْ إبلي
بنو اللقيطة من ذُهْل بن شَيْبَانا
إذًا لقام بنصري معشرٌ خُشُنٌ
عند الحفيظة إن ذو لُوثَةٍ لانا
قومٌ إذا الشر أبدى ناجذيه لهم
طاروا إليه زَرافات ووُحدانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم
في النائبات على ما قال برهانا
لكنَّ قومي وإن كانوا ذوي عدد
ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرةً
ومن إساءة أهل السوء إحسانا
كأن ربك لم يخلق لخشيته
سواهم من جميع الناس إنسانا
فليت لي بهمُ قومًا إذا ركبوا
شَدُّوا الإغارة فرسانًا وركبانا

(٥) في الوصف

وكانوا إذا وصفوا حادثة مثلوها بلا مغالاة في المجاز والكناية كما يفعل المتأخرون، وهذا وصف أبي ذؤيب لحمر الوحش وصائدها، كيف ترد الحمر وكيف يحتال الصياد في صيدها، قال:

فورَدْن والعيُّوق مقعدَ رابئ الـ
ـضُّرباء خلف النجم لا يَتَلَّعُ
فشرعْنَ في حَجَرات عذب بارد
حَصِب البِطاح تغيب فيه الأكرُعُ
فشربنَ ثم سمعنَ حِسًّا دونه
شرف الحجاب ورَيْب قَرْعٍ يَقْرَعُ
فنكرْنه فنفرن فامترست له
هوجاءُ هاديةٌ وهاد جُرْشع
فرمى فأنفذ من نَحوصِ عائطٍ
سهمًا فخرَّ وريشه متصمِّع
فبدا له إقرابُ هادٍ رائغًا
عنه فعيَّث في الكنانة يرجع
فرمى فألحق صاعديًا مِطْحَرًا
بالكَشْح فاشتملت عليه الأضلع
فأَبَدَّهُنَّ حُتُوفَهُنَّ فهاربٌ
بِذَمائِهِ أو باركٌ مُتَجَعْجِع

وإذا وصف أحدهم حيوانًا أو مكانًا أو امرأة تحدى تصوير الطبيعة كما هي ولو اضطر إلى ذكر بعض الأعضاء التي يعد ذكرها من قبيل البذاء، يفعل ذلك لا تهتكًا وإنما يصف الطبيعة كما هي على عادته في سائر الأمور، وأحسن الأمثلة في وصف المرأة على النحو الذي تقدم قصيدة النابغة في المتجردة التي مطلعها:

أمن آل مَيَّةَ رائح أو مغتدي
عجلانَ ذا زادٍ وغيرَ مزوَّد

وقصيدته اليتيمة في دعد، ومطلعها:

هل بالطُلُول لسائل رَدُّ
أم هل لها بتكلم عَهْدُ٥
وهما مثل قصيدة سليمان الحكيم في وصف ملكة سبأ المعروفة بنشيد الإنشاد، وهو مذهب جماعة من شعراء عصرنا وكتَّابه في أوربا يمثلون الطبيعة كما هي، ويُعرفون بأصحاب الحقيقة Realistes ومنهم زولا وتولستوي.

على أن الجاهليين لا تخلو أشعارهم من التشبيه والمجاز أو الكناية، ولكنهم يفعلون ذلك بلباقة كقول عنترة يصف ذباب الروض:

وخلا الذباب بها فليس ببارحٍ
غَردًا كفعل الشارب المترنِّم
هزجًا يحكُّ ذراعه بذراعه
قَدْحَ المُكبِّ على الزِّناد الأجْذم

(٦) البلاغة في التركيب

إن لغة الجاهلية على الإجمال لا تزال مثال البلاغة حتى الآن لبعدها عن مفاسد العجمة، وهي معروفة بخلوها من الحشو وليس فيها من زخارف المدينة كالبديع والجناس ولا المجاز أو الكناية إلا بقدر الملح من الطعام، أما ما نجده في بعض أشعار الجاهلية من التعقيد، فسببه غرابة بعض الألفاظ على أفهامنا وبُعد بعض التراكيب عن مألوفنا، ولا بد لمن يطالع تلك الأشعار من تَفَهُّم الألفاظ والتعود على أساليبها، فإذا فعل ذلك هان عليه فهمها … فمن يقرأ قول امرئ القيس في قصيدته التي يصف بها الفراق وناقته وفرسه فيصل إلى قوله:

وإنك لم تقطع لُبانة طالبٍ
بمثل غُدوٍّ أو رَواحٍ مؤوَّبِ
بأدماءَ حُرْجُوجٍ كأن قُتودها
على أبلَقِ الكَشحين ليس بُمْغِرِب

يجد غرابة في تركيب الألفاظ ولا يُفهم المراد، لكنه متى علم أن الأدماء الناقة أشرب سوادها بياضًا، والحرجوج الطويلة، والقتود خشب الرحل، وأبلق الكشحين حمار الوحش، والمغرب الأبيض الوجه والأشفار وذلك عيب في اصطلاحهم، أدرك مراد الشاعر من البيت الثاني وقس عليه سائر التفسير.

إن البلاغة فطرية في عرب البادية شعرًا ونثرًا … وكان العرب في صدر الإسلام يتمثلون بأقوال الأعراب المعاصرين لهم لما فيها من البلاغة والإيجاز السهل الممتنع، وقد نقل ابن عبد ربه طائفة حسنة منها في عدة صفحات بباب كلام الأعراب في الجزء الثاني من كتابه «العقد الفريد» فليراجع هناك وفي سائر كتب الأدب، فإذا طالعتها رأيت نفوسًا كبيرة وعقولًا راجحة لما فيها من الحكمة والموعظة وصدق النظر.

على أنك تجد في كلام الأعرابي جفاءً وإغرابًا وخشونة في اللفظ لتعوده مخاطبة الإبل٦ وليست الخشونة في شعراء الجاهلية على الإجمال … وإنما هي تكثر في أهل الجبال والبادية الوعرة الذين لم يخالطوا أهل الحضارة مطلقًا، فيكون ذلك من تأثير البيئة … فإن شعر عدي بن زيد وهو جاهلي أسلس من شعر الفرزدق وجرير وهما إسلاميان؛ لملازمة عدي الحضارة واستيطانه الريف وبُعده عن جلافة البادية وجفاء الأعراب.٧

على أن الشعر تختلف رقته، وخشونته باختلاف الغرض منه، فشعر العاشق أرق من شعر الفارس، وشعر الحضارة ألطف من شعر البداوة.

(٧) مذاهبهم وأساليبهم

لا يتقيد الجاهلي في نظمه بمقدمة أو تمهيد كما يفعل غيره من شعراء المدنية بعد الإسلام من استهلال القصائد بالنسيب والغزل ونحوهما، لكنه يُصدر القصائد الطويلة غالبًا بذكر المنازل والأطلال ويبكي على الطلول … وذلك طبيعي عندهم؛ لأنهم أهل رحلة لا يقيمون في المكان حينًا حتى ينزحوا عنه؛ إما فرارًا من عدو؛ أو التماسًا للمرعى أو الماء أو نحو ذلك، كقول امرئ القيس: «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل».

وقوله: «ألا عِمْ صباحًا أيها الطللُ البالي».

أما المولدون أو المحدثون فإنهم يصدرون قصائد المدح وغيرها بذكر الحبيب والشوق والوجد والوصل، وليس هناك حبيب ولا وجد كما سنبين ذلك …

والجاهلي إذا عمد إلى النظم في الفخر بدأ به أو ذكر المنازل وتخلص له، ويندر فيهم من يفعل غير ذلك كقصيدة عنترة الفخرية التي يبدأ فيها بذكر الصبا واللهو والغزل والأعين النجل في بيتين، ثم يتخلص إلى الفخر كقوله:

من لي برَدِّ الصِّبا واللهو والغزل
هيهات ما فات من أيامك الأوَل
طوى الجديدان ما قد كنت أنشره
وأنكرتني ذواتُ الأعين النُّجُلِ
وما ثنى الدهرُ عزمي عن مهاجمة
وَخَوْض معمعةٍ في السهل والجبل

ولكن هذه القصيدة يغلب أنها موضوعة بعد الإسلام.

وقد يستهل الجاهلي شعره بمخاطبة خليله في بيت أو شطر، ثم يستطرد إلى الموضوع الذي يريده … أو يبدأ بطلب الأخبار بدون أن يذكر الخليل، كقول امرئ القيس قبيل وفاته في سفح جبل عسيب:

ألا أبلغ بني حجر ابن عمرو
وأبلغ ذلك الحيَّ الحديدا
بأني قد هلكت بأرض قوم
سحيقًا من دياركمُ بعيدا٨

وقوله بمكان آخر:

ألم يخبرك أن الدهر غول
خَتور العهد يلتهم الرجالا٩

وقد يتكلم بالمثنى كأنه يخاطب اثنين كقول عبد يغوث:

ألا لا تلوماني كفى اللوم ما بيا
فما لكما في اللوم نفعٌ ولا ليا
ألم تعلما أن الملامة نَفْعُها
قليل وما لومي أخي من شماليا

ومن مذاهبهم طرد الخيال وهو مذهب كثيرين منهم، ولكن طرفة بن العبد أول من طرقه فقال:

فقل لخيال الحنظلية ينقلب
إليها فإني واصلٌ حَبْل من وصل١٠

وفي مقدمة ابن خلدون أمثلة كثيرة من ابتداءات الجاهلية في النظم، مَن أراد التوسع في الأمثلة فليراجعها هناك (صفحة ٥٠١).

ولكن الغالب في نظمهم أن يبدأوا بالغرض المراد رأسًا، فإن كان فخرًا فبالفخر، حماسة فبالحماسة، أو غزلًا فبالغزل، أو رثاءً فبالرثاء.

ومن مراثي المهلهل لأخيه كليب قصيدة مطلعها:

كليب لا خير في الدنيا ومن فيها
إن أنت خَليَّتها فيمن يخَلِّيها١١

ومرثية أخرى مطلعها:

إن تحت الأحجار حزمًا وعزمًا
وقتيلًا من الأراقم كهلًا١٢
قتلتْه ذُهْلٌ فلست براضٍ
أو نُبيدُ الحيين قيسًا وذهلًا

وقس عليه غيره من الأغراض … على أن بعضهم يستهل بالحكم؛ ليتخلص للمدح أو الرثاء، وبعضهم يتغزل أو يشبب وهم قليلون، ولهم أسماء إناث يتغزلون بها يسمونها عرائس الشعر كقطام وهند ودعد وغيرهن.

(٨) أبواب الشعر عندهم

إن أبواب الشعر اليوم تُعد بالعشرات، ولم يكن منها في الجاهلية إلا الفخر والحماسة والتشبيب والمديح والهجاء … وتفرع من المديح الرثاء وهو مدح الميت، والأصل في المديح والهجاء الدفاع عن القبيلة والطعن في أعدائها … ذلك كان غرض الجاهليين من المديح والهجاء، فأكثر مدحهم في قبائلهم ورؤسائها وفرسانها ليس على سبيل الاستجداء إلا قليلًا، وكانت قصائدهم في ذلك قصيرة، وقلما رثوا غير إخوتهم وأخواتهم أو أبنائهم أو بعض أهلهم مدفوعين بالشعور الطبيعي، ولذلك كان لرثائهم وقع في النفس كقول تلك الأعرابية في رثاء ابنها:

من شاء بعدك فليمت
فعليك كنت أحاذر
كنت السواد لناظري
فعَمِي عليك الناظر
ليت المنازل والديا
ر حفائرٌ ومقابر
إني وغيري لا محا
لة حيث صرتَ لصائر

أما المدح فأمدحُ الجاهليين زهير والأعشى، فمن أمثلة مدح زهير بالكرم قوله:

أخي ثقةٍ لا تُهلك الخمر ماله
ولكنه قد يُهلك المالَ نائلُه
تراه إذا ما جئته متهللا
كأنك تعطيه الذي أنت سائله
فمَن مثلُ حصن١٣ للحروب ومثله
لإنكار ضيمٍ أو لخصمٍ يجادله

وقد يبالغون ولكنهم لا يخرجون عن المعقول كقول زهير في هرم بن سنان:

لو كان يقعد فوق النجم من كرم
قومٌ بأولهم أو مَجْدهم قعدوا
قومٌ سنانٌ أبوهم حين تنسبهم
طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
إنس إذا أمنوا جِن إذا فزعوا
مرزَّءون بهاليل إذا جهدوا
محسَّدون على ما كان من نعم
لا ينزع الله عنهم ما له حُسدوا

وقس على ذلك سائر الأغراض …

على أن في منظوماتهم كثيرًا من الشعر الوصفي، وأكثره في وصف حيواناتهم ومنازلهم وأدواتهم، وفي وصف أخلاقهم ومناقبهم ومثالبهم ومفاخرهم ووقائعهم، وفيهم طبقة من الوصافين اشتهروا بوصف الخيل خاصة، وآخرون بوصف الناقة أو حمار الوحش أو القطا أو غيرها، وسنعود إلى تفصيل ذلك في مكانه.

(٩) التمثل بحيواناتهم وعاداتهم

قد صور عرب الجاهلية عاداتهم وحيواناتهم وأدواتهم في أشعارهم، كما صورها المصريون والآشوريون واليونان والرومان على قصورهم ومعابدهم، وكما استخرج علماء الآثار عادات تلك الأمم وأخلاقها من آثارها المنقوشة أو المحفورة، فالباحث في شعر الجاهلية يستخرج منه عادات العرب وآدابهم وأخلاقهم وطبائعهم وسائر أحوالهم، ولذلك قال ابن خلدون: «إن الشعر ديوان علوم العرب وأخبارهم وشاهد صوابهم وخطئهم، وأصل يرجعون إليه في الكثير من علومهم وحكمهم» ونزيد على ذلك «أنه مستودع عاداتهم وأخلاقهم وأدواتهم وصنائعهم» وقد درس هذا الموضوع جرجي يني الطرابلسي صاحب المباحث، ونشر فيه مقالة ضافية في «المقتطف» سنة ١٣ و١٥ بعنوان: «العرب قبل التاريخ» ودرسه أيضًا محمد المويلحي وله مقالة في «رموز العرب وتخيلاتهم» نُشرت في «المقتطف» سنة ١٩ استخرج فيها عاداتهم ومعتقداتهم من أشعارهم.

والعرب يتغزلون بحيواناتهم ويتمثلون بها، وخصوصًا الناقة والفرس والقطا والحمام، ويغلب فيهم أن يذكروا الحمام في الغزل، والناقة في السفر، والخيل في الحرب.

(١٠) المفاخرة والمعاظمة والمقارعة

كان العرب في جاهليتهم أهل إباء واستقلال وفخر، فقامت المفاخرة بين قبائلهم وأحيائهم، وأصبحوا يتنافسون في كل شيء حتى في المصائب وهي المعاظمة، أشهرها معاظمة الخنساء وهند بنت عتبة، فكانت الخنساء تأتي الموسم وتبكي أباها وأخويها وقد سومت هودجها براية وتقول: «أنا أعظم العرب مصيبة» فأصيبت هند بنت عتبة المذكورة في واقعة بدر، فقُتل أبوها وعمها وأخوها فلما بلغها ما قالته الخنساء قالت: «أنا أعظم العرب مصيبة» وأمرت بهودجها فسُوِّم براية وشهدت الموسم بعكاظ وقالت: «اقرنوا جملي بجمل الخنساء» ففعلوا، فلما تقاربتا تعارفتا وتعاظمتا نظمًا ونثرًا.١٤
فإذا كان هذا شأن التنافس بين عامة الناس، فأحرى به أن يكون بين الشعراء، ومن أنواعه المقارعة على الأحساب كالتي جرت بين عامر ولبيد والأعشى من جهة، وعلقمة والحطيئة وفتيان من بني الأحوص من جهة أخرى … وأخذوا يتناشدون في المقارعة في حديث طويل.١٥
ومن هذا القبيل المنازعة بين قبيلتين أيهما أشعر، كما جرى بين عمر بن أبي ربيعة والفضل بن العباس اللهبي في المسجد الحرام … فأخذ كل منهما يورد أشعارًا لأبناء قبيلته، ويبرهن على أنها أحسن مما قاله الشعراء من القبيلة الأخرى.١٦
ولما جاء الإسلام ذهبت عصبية القبائل وصارت المفاخرة بين المهاجرين والأنصار،١٧ وعندهم أيضًا المراجزة١٨ وهي المقارعة بالرجز ومنها المناشدة بالأشعار.

(١١) الأنفة والعفة

كان العربي في الجاهلية صاحب أنفة وشرف يأبى الضيم ويغار على العرض، إذا قال فعل وإذا وعد وفى وإذا اضطر إلى رهن في أمر عظيم رهن قوسه … ولا قيمة للقوس بنفسها، ولكنها عندهم شرف الرجل فهو قائم بما رهنها له مهما كلفه.١٩

ولم يكن أشد منهم غيرة على العرض، وفي أخبارهم ما لا يحصى من الدفاع عن المرأة وعرضها، وكثيرًا ما نشبت الحرب في هذا السبيل، وقد كان سبب الحرب التي قُتل فيها زهير بن جذيمة العبسي، أن ابنه شأسًا اغتسل بجانب أبيات لبني غنى بماء لبني عامر فناداه رجل غنوي أن يستتر فلم يحفل به فرماه بسهم فقتله، وجر ذلك إلى حرب قُتِلَ فيها زهير المذكور وغيره.

وكانوا يفتخرون بالعفة خلافًا لما صارت إليه طبائعهم حين امتزجوا بالموالي من الأمم الأجنبية، وتمثيلًا للفرق بين الحالين، قابل ما قاله عنترة بما قاله أبو نواس الفارسي … قال عنترة:

وأغض طرفي إن بدت لي جارتي
حتى يواري جارتي مأواها

وقال أبو نواس:

كان الشباب مطية الجهل
ومحسِّن الضحكات والهزل
والباعثي والناسُ قد رقدوا
حتى أتيتُ حليلةَ البَعْل
ولذلك قل التهتك في تغزلهم، وبعض القبائل تعد الغزل رذيلة،٢٠ وتجد ذلك ظاهرًا في أشعارهم … فالجاهل متعفف بألفاظه وأخلاقه بعيد عن الفحش في القول أو السباب إلا ما يرى به تمثيل الطبيعة كما تقدم.

(١٢) لا يستجدون

الجاهلي لا ينظم التماسًا للعطاء وإنما ينظم لداعٍ يحركه، إما دفاعًا عن عرض، أو تحمسًا لحرب، أو تشكيًا من الفراق، أو بكاءً على فقيد، أو نحو ذلك، وقد يمدح ولكن مدحه يكون على الغالب شكرًا على صنيع لا استدرارًا لجائزة، كما صار إليه الشعراء في الإسلام بالتقرب والتزلف، وكان موضوع مدائح الجاهليين شيوخهم وأمراءهم، كهرم بن سنان، وعامر بن الظرب، والأقرع بن حابس، وربيعة بن مخاشن وغيرهم.

فقد مدح زهير هرمَ بن سنان ومدح غيره لا للاستجداء، على أن بعضهم انتجع بشعره، وأول من فعل ذلك الأعشى … ونظم بعض الجاهليين في مدح المناذرة أو الغساسنة أو بعض أمرائهم، وأشهر المداحين في الجاهلية الأعشى والربيع بن زياد والنابغة الذبياني والمنخل اليشكري وأبو زبيد الطائي ومعن بن أوس وزهير بن أبي سلمى والحطيئة، وسنأتي على أخبارهم في أماكنها.

(١٣) منزلة الشاعر في الجاهلية

كان للقبيلة عدة شعراء، تقدم واحدًا منهم تسميه شاعر القبيلة، وهي تهتم بإعداد الشاعر، كما تهتم بإعداد القائد والخطيب … فيقال: إن قائد القبيلة الفلانية فلان وفارسها فلان وشاعرها فلان؛٢١ لأن الشعراء حماة الأعراض وحفظة الآثار ونقلة الأخبار، وربما فضلوا نبوغ الشاعر فيهم على نبوغ الفارس، ولذلك كانوا إذا نبغ فيهم شاعر من قبيلة … أتت القبائل الأخرى فهنأتها به وصنعت الأطعمة واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعن في الأعراس، وتتباشر الرجال والولدان لاعتقادهم أنه حماية لأعراضهم ودفاع عن أحسابهم وتخليد لمآثرهم وإشادة لذكرهم،٢٢ وفي الواقع أن ما بقي لنا من أخبار عرب الجاهلية وآدابهم وعلومهم وأخلاقهم، إنما هو منقول عن أشعارهم.

وكانوا يتخذون الشعراء واسطة في الاسترضاء أو الاستعطاف أو يجعلونهم وسيلة لإثارة الحروب، فيكون الشاعر لسان حال القبيلة يعبر عن غرضها وينطق بلسانها شأن الصحف الرسمية اليوم … فإن الصحيفة الرسمية إذا قالت قولًا، علم الناس أن الحكومة تريده … وهذا هو سبب ما كان يظهر من تأثير الشعر في السياسة، ولذلك فالقبيلة مطالبة برعاية شاعرها والقيام بما يحتاج إليه وإكرامه وتقديمه.

ولم يكونوا يقدمون الشاعر لأنه يدافع عنهم فقط، ولكنهم كانوا يجلون الشعر نفسه لما كان له من الوقع في نفوسهم … يدلك على ذلك تعليق المعلقات بأستار الكعبة إجلالًا لها٢٣ وسنعود إلى ذلك.

(١٤) تأثير الشعر في نفوس العرب

قد علمت مما تقدم أن طبيعة العرب شعرية؛ لأنهم ذوو نفوس حساسة وشعور دقيق تقعدهم الكلمة وتقيمهم، شأن صاحب الفروسية والنجدة المعبر عنهما عند الإفرنج بالشفاليري. وكان العرب على الإجمال أهل حافظة إذا أعجبهم البيت حفظوه وتناقلوه … فيشيع على ألسنتهم كبارًا وصغارًا ويتحدثون به في أنديتهم ومجتمعاتهم، فإذا كان هجوًا سقط المقول فيه، وإذا كان مدحًا اشتهر اسمه، ولكن الهجو كان غالبًا عليهم، وقد وُفق بعض الشعراء إلى شيوع أشعارهم لخفتها، وكان الأعشى من أسير الناس شعرًا، وكذلك زهير والنابغة وامرؤ القيس.

فالقبيلة إذا هجاها شاعر فحل، حط الهجو منها خصوصًا إذا كان الهجو مطابقًا للواقع، وإلا رد شاعرها عنها فتعود إلى مقامها، وليس في العرب قبيلة إلا هُجيت، فمن القبائل التي لم يؤثر الهجو فيها قبائل تميم وبكر ووائل وأسد وأمثالها، ومن القبائل التي أثر فيها الهجاء مع مقامها في الشجاعة أحياء من قيس منهم غنى وباهلة ومحارب وأحياء من أد بن طابخة منهم تيم وعكل وغيرهما، وهناك قبائل كان حظها من الشعراء المديح، كبني مخزوم من قريش.

وكانت القبيلة إذا مُدحت فاخرت سائر القبائل لا سيما إذا كان مادحها من غير أبنائها. ويحكى أن شعراء تميم كانوا يذكرون قيسًا بالمدح والإعجاب، فافتخرت قيس على تميم، وما زالت تميم منكسة رؤوسها حتى قام لبيد العامري وهو من قيس، فذكر تميمًا في شعره وأطراها، وفعل ذلك شاعر آخر من قيس، فتكلمت عند ذاك تميم وافتخرت.٢٤

ومن أمثلة تأثير هجو الشعراء في القبائل شعر حط من قدر الحبطات وهم بطن من تميم، فقال الشاعر فيهم:

رأيت الحُمْرَ من شَرِّ المطايا
كما الحبطات شرُّ بني تميم

وهل أهلك ظليم البراجم إلا قول الشاعر:

إن أبانا فَقْحَةٌ لدارم
كما الظُّلَيْمُ فقحة٢٥ البراجمِ

وقد أهلك بني العجلان قول الشاعر:

إذا الله عادى أهل لؤمٍ ودقَّةٍ
فعادى بني العَجلان رهطَ ابن مُقْبلِ
قبيلته لا يغدرون بذمةٍ
ولا يظلمون الناس حبَّة خردل
ولا يَردون الماء إلا عشيةً
إذا صدر الورَّاد عن كل مَنْهلِ٢٦

ويشبه ذلك بيت جرير في بني نمير من عامر بن صعصعة في الدولة الأموية، فإنه جعل كل نميري إذا سُئل عن نسبه قال: إنه عامري، وهذا هو البيت:

فغُضَّ الطَّرْفَ إنك من نُمَيرٍ
فلا كعبًا بلغتَ ولا كلابا

وبعكس ذلك ما أصاب بني أنف الناقة من الرفعة؛ فقد كان الرجل منهم إذا سُئل عن نسبه قال من بني قريع وهو نسب آخر لهم، حتى قال الحطيئة فيهم:

قوم هم الأنف والأذناب غيرهمُ
ومن يُسوِّي بأنف الناقة الذَّنبا

فأصبحوا يفاخرون بقبيلتهم …

على أن الشعراء لم يكونوا يتعمدون هجاء غير القبائل الظاهرة النابهة، فسلمت القبائل الخاملة من هجومهم، وشأنهم في ذلك مثل شأن الصحف السياسية في البلاد الأجنبية … فإن الأحزاب يهمها انحياز إحدى الصحف المهمة إلى جانبها، كما كان يهم القبيلة أو الجماعة في الجاهلية أن ينصرها شاعر مشهور فتبذل له ما يريد في سبيل نصرتها، ولذلك فإن الأعشى لما وفد على الرسول ومدحه، فبلغ أبا سفيان ذلك، جمع رجال قريش وقال لهم: «والله لئن أتى محمدًا واتبعه ليضرمن عليكم نيران العرب بشعره فاجمعوا له مائة من الإبل»، ففعلوا فأخذها وانطلق إلى بلده.٢٧

وكان لشعر الأعشى تأثير كبير في النفوس، ويحكى من هذا القبيل أن رجلًا من كلاب اسمه المحلق كان له ثلاث بنات لم يزوجهن، وكان معسرًا، وجاء الأعشى يقصد مكة فسمعت امرأة المحلق به، فحثت زوجها أن يدعوه للضيافة قبل سواه ويذبح له لأنه إذا قال شعرًا شاع، فدعاه المحلق ونحر له ناقة، وبالغت المرأة في إكرامه وإكرام رفاقه وكان في عصابة قيسية … فلما جرى الشراب في عروقه سأل المحلق عن عياله فشكا له حال بناته، ولما وافى سوق عكاظ أنشد قصيدة مطلعها:

أرقتُ وما هذا السهاد المؤرِّق
وما بيَ من سُقْمٍ وما بي مَعْشَقُ
ثم تخلص إلى مدح المحلق وإطرائه في السخاء وكرم الأخلاق والناس يسمعون، فلما فرغ من الإنشاد انسل الناس إلى المحلق يهنئونه وهرع الأشراف من كل قبيلة يتسابقون إليه يخطبون بناته، فلم تمسِ منهن واحدة إلا في عصمة رجل أفضل من أبيها ألف ضعف،٢٨ وكذلك فعل سكين الدارمي في إنفاق الخمر السود،٢٩ ومن شدة تأثرهم بالشعر أن الشاعر ربما لُقب بلفظ ورد في بيت من أشعاره كما لُقب المرقش والنابغة والمخرق وأفنون وغيرهم٣٠ حتى في الغناء، فإن السامع ربما تأثر من معنى الشعر أكثر من نغمه.

(١٥) أشعر شعراء الجاهلية

ما برح العرب منذ صدر الإسلام مختلفين فيمن هو أشعر شعرائهم، ولهم في ذلك أقوال كثيرة … على أن تقسيم الشعراء إلى طبقات قد يُعد حكمًا إجماليًّا في ذلك، ويستدل منه أن أصحاب المعلقات هم أشعر الشعراء في حكمهم، وأشعر هؤلاء ثلاثة: امرؤ القيس، وزهير بن أبي سلمى، والنابغة. وقد أجمعوا تقريبًا على تفضيلهم، وإنما اختلفوا فيمن هو أشعرهم اختلافًا كثيرًا … قال أبو عبيدة: «أشعر الناس أهل الوبر خاصة وهم امرؤ القيس، وزهير، والنابغة، فإن قال قائل: إن امرأ القيس ليس من أهل نجد فلعمري إن هذه الديار التي ذكرها في شعره ديار بني أسد بن خزيمة، وفي الطبقة الثانية الأعشى ولبيد وطرفة»، وقيل: إن الفرزدق قال: «امرؤ القيس أشعر الناس»، وقال جرير: «النابغة أشعر الناس»، وقال الأخطل: «الأعشى أشعر الناس»، وقال ابن أحمر: «زهير أشعر الناس»، وقال ذو الرمة: «لبيد أشعر الناس»، وقال ابن مقبل: «طرفة أشعر الناس»، وقال الكميت: «عمرو بن كلثوم أشعر الناس» والقول الراجح ما قال أبو عبيدة: «امرؤ القيس، ثم زهير، والنابغة، والأعشى، ولبيد، وعمرو، وطرفة».

على أننا نرى في الحكم على شاعر أنه أشعر أهل زمانه على الإطلاق حيفًا؛ إذ قد ينفرد كل شاعر بمزية تفضله على سواه … فيجيد شاعر في الحماسة، وآخر في المديح، أو الغزل، أو غير ذلك من أغراض الشعر، وعلى ذلك قالوا: «أشعر الشعراء أربعة: زهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا طرب، وعنترة إذا غضب».

والذي عليه الأكثرون في وصف أصحاب المعلقات، أن امرأ القيس صاحب النصيب الأوفر في الشعر …؛ لأن الشعر في تعبيرهم كان جملًا فنُحر، فأخذ امرؤ القيس رأسه، وأن زهيرًا يمتاز بأنه لا يعاظل بين كلامين ولا يتبع وحشي الكلام ولا يمدح أحدًا بغير ما فيه، ولشعره ديباجة إن شئت قلت: شهد إن مسسته ذاب،٣١ وأن النابغة أوضح الشعراء معنى وأبعدهم غاية وأكثرهم فائدة، وأن الأعشى أمدحهم للملوك وأوصفهم للخمر وأقدرهم شعرًا وأحسنهم قريضًا، وأن لبيدًا أقلهم لغوًا وعمرو بن كلثوم أعزهم نفسًا وأكثرهم امتناعًا وأجودهم واحدة، وطرفة أشعرهم؛ إذ بلغ مع حداثة سنه ما بلغ القوم في طول أعمارهم.

(١٦) رواة الشعر

من عادة العرب في رواية الشعر، أنهم كانوا في أيام الجاهلية إذا نبغ الشاعر صحبه رجل يروي له أشعاره، ويغلب في الراوية أن يكون مرشحًا للشاعرية، كأنه تلميذ يتدرب على يد أستاذ يأخذ عنه، وكان اعتمادهم في الجاهلية على الحفظ؛ لأنهم لم يكونوا يكتبون … فكان كُثَير عزة راوية جميل بثينة، وجميل راوية هدية بن خشرم، وهدية راوية الحطيئة، والحطيئة راوية زهير وابنه،٣٢ وكان الراوية في الجاهلية وأوائل الإسلام يروي للشاعر الواحد ويصحبه وينشد له، ويعجب به إعجاب التلميذ بأستاذه، ويناضل عنه ويفضله على سواه.
وليست هذه العادة خاصة بالعرب، فإن اليونان القدماء كان عندهم أناس يروون الشعر وغيره ويسمون واحدهم Rhapsodist، أشهرهم في القديم رواة الإلياذة … على أن بعض الأدباء أهل الذكاء من العرب، كان يروي الشعر بدون التخصص بشاعر دون آخر … وإنما كان يفعل ذلك رغبة في الأدب والعلم، فقد كان في القديم أربعة من قريش كانوا رواة الناس للأشعار وعلماءهم بالأنساب والأخبار، وهم: مخرمة بن نوفل بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة، وأبو الجهم بن حذيفة بن غانم بن عامر بن عبد الله بن عوف، وحويطب بن عبد العزى، وعقيل بن أبي طالب، وكان عقيل أكثرهم ذكرًا لمثالب الناس … فعادوه لذلك وقالوا فيه وحمقوه حتى ألف بعض الأعداء فيه الأحاديث.

(١٧) شعراء الجاهلية من حيث أغراضهم

تقدم ما للشعر الجاهلي من الخصائص التي يمتاز بها على الإجمال، ولكن هذه الخصائص تختلف باختلاف أغراض الشعراء … وينقسم الشعراء من هذا الوجه إلى مجاميع، لكل منها غرض أو أسلوب أو منحى خاص، وسنتوخى في تقسيمهم غير ما نراه في كتب القدماء، فنقسم الشعراء بالنظر إلى أغراضهم في النظم.

وقد علمت أن الشعراء الجاهليين الذين بلغتنا أخبارهم نحو مائة شاعر وبعض المائة من القبائل على اختلاف أصولها … وكلهم عرب إلا واحدًا كان عبدًا لبني الحسحاس وهو أعجمي، فلا عجب إذا خلص الشعر الجاهلي من العُجمة لفظًا وتركيبًا، خلافًا لما آلت إليه حال الشعراء بعد الإسلام؛ إذ نبغ فيهم طبقة من الموالي غير العرب، كما سيجيء … فالشعراء الجاهليون كلهم عرب، وأكثرهم من عدنان كما تقدم … ومعظمهم أهل بادية ورحلة متشابهون في أخلاقهم وأغراضهم، وأهمها في القرنين الأخيرين قبل الإسلام: الحرب فيما بينهم، يوم كان البدوي يبيت وسيفه أو رمحه ضجيعه، كأنه يتحفز للنهوض في الصباح للغزو؛ التماسًا للرزق أو الفخر أو للثأر، فيقضي أيامه في الحرب أو يتأهب للحرب، والشاعر لسان حال قبيلته أو مرآة أخلاقها وآدابها، فلذلك كان أكثر شعراء الجاهلية من أهل الحرب الفرسان الشجعان، وقد اشتهر جماعة منهم في وقائع مشهورة نظموا فيها قصائد الحماسة والفخر، وإذا اعتبرنا عدد شعراء الجاهلية مائة، كان نصفهم من الفرسان وأهل الحرب، وأكثر أشعارهم في الحماسة والفخر … وبينهم طائفة من الملوك والأمراء، أي كانت لهم الرياسة في قبائلهم وهي أكبر المناصب السياسية في ذلك العصر، ومنهم طائفة من الحكماء وأهل التعقل والعلم والحكمة، وطائفة أخرى من العشاق المتيمين الذين هاج العشق شاعريتهم، وآخرون يدخلون في صف الفرسان، لكنهم يختصون بصفة مشتركة هي العدو والغزو، ويسمونهم الصعاليك، ومنهم طائفة تجمعها طبيعة الهجو ففيهم ميل إلى المهاجاة، وآخرون اختصوا بوصف الخيل وغيرهم بالغناء، ومن الشعراء من يجمعهم المذهب، وأخيرًا النساء الشواعر وهناك طائفة لا تدخل في إحدى هذه الطبقات.

فهذا تقسيم الشعر من حيث أغراض الناظمين وطبائعهم ومراتبهم، لكن علماء الشعر تعودوا تقديم أصحاب المعلقات على سواهم وهم مختلفون غرضًا ووجهة؛ متشابهون قوة وشاعرية، فنجعلهم في باب على حدة، وعليه فتكون طبقات الشعراء الجاهلية من حيث أغراضهم ومراتبهم ١٣ طبقة، وهذه هي مع عدد الشعراء من كل طبقة:
عدد الشعراء
١٢١ المجموع
١٠ أصحاب المعلقات
١٤ الشعراء الأمراء
٢٨ الشعراء الفرسان
٤ الشعراء الحكماء
٨ العشاق
٧ الصعاليك
١ المغنون
٤ النساء الشواعر
٤ الهجاءون
٤ الوصافون للخيل
١ الموالي
٣٦ سائر الشعراء

هؤلاء شعراء الجاهلية وعددهم ١٢١ شاعرًا، وليس هم كل من قال شعرًا في الجاهلية؛ إذ لم يوجد بينهم ذكي لم يقل الشعر؛ لأنه كان سجية في العرب كما تقدم، وإنما وصلنا من أخبار أولئك نخبتهم وأشعرهم، ولم نذكر كل من وصلنا أخبارهم وإنما اخترنا أكثرهم شعرًا وأقواهم شاعرية، وإلا ففي ديوان الحماسة وجمهرة أشعار العرب والمفضليات وأشعار الهذليين والأغاني وسائر كتب الأدب واللغة أسماء مئات من الشعراء لم يصلنا من أقوالهم إلا بيت أو بضعة أبيات.

ومن الذين اخترنا ذكرهم نفر أدرك الإسلام وعاش في أيام الراشدين، وقد عددناه جاهليًّا؛ لأنه نشأ على طبائع الجاهلية وأما المؤرخون فيسمونهم مخضرمين.

لكل طبقة مزية

ولكل طائفة من هؤلاء الشعراء صبغة في أشعارهم حسب غرضها … فالشعراء الأمراء أو الملوك تمتاز أشعارهم بأنفة المُلك وعِزِّه، فيفتخرون بالسيادة أكثر من السيف والرمح والقبيلة … فمن أقوال أحدهم وهو الأفوه الأودي:

معاشر ما بنوا مجدًا لقومهم
وإن بَنَى غيرهم ما أفسدوا عادوا

ويعد هذا البيت من حكمة العرب، وإذا مدحوا لا نجد في مدحهم تزلفًا أو استجداءً، وإنما يكون للشكر على خدمة سلفت كقول امرئ القيس يمدح بني ثعل:

فأبلغ معدًّا والعباد وطيِّئًا
وكندة أني شاكر لبني ثُعَلْ

وترى في تشابيههم عند الوصف ذكر آنية الترف الذي يألفها الملوك والأمراء، فامرؤ القيس لما أراد وصف عين فرسه شبهها بالمرآة وهي من آنية الترف عندهم، وقال:

وعين كمرآة الصَّناع تديرها
لمحجرها من النصيف المنقَّب

ووصف بعض حمر الوحش، فشبه ألوانها بأنواع الوشي الجميلة، ولما وصف قروحه شبهها بنقش الخواتم.

ولا يخلو شعر الأمراء من ذكر المجد السالف، ويشيرون إلى مواليهم وأعوانهم وغير ذلك مما ستراه في مكانه.

ويقال نحو ذلك في شعراء سائر الطبقات، فإن كلًّا منها تختص بأسلوب أو بشيء يميزها عن الطبقات الأخرى … فشعر العشاق المتيمين أكثره في التشبيب وشكوى الغرام والهجران، وشعر الحكماء أكثره حكم وعظات وعِبَر، ولا يمنع ذلك أن يشترك الشاعر في غير غرض من هذه الأغراض، أي أن يكون متحمسًا وحكيمًا وعاشقًا وغير ذلك، فإن كثيرين من الفرسان عشقوا وهاموا، وإنما جعلناهم من طبقة الفرسان؛ لغلبة ذلك عليهم.

وقد آن لنا أن نصف أشهر هؤلاء الشعراء وأشعرهم وفيهم المكثر من الشعر والمقل، وبعضهم نظموا كثيرًا، ولم يصلنا من أشعارهم إلا القليل، ولا فائدة لطالب تاريخ آداب اللغة من إيراد تراجم هؤلاء … وإنما نختص بالوصفِ الشعراءَ الذين كانوا قدوة لسواهم أو خلَّفوا آثارًا يمكن الحصول عليها ومطالعتها، ونكتفي في الآخرين بذكر المآخذ التي يمكن الرجوع إليها في مطالعة أخبارهم لمن أراد.

هوامش

(١) العقد الفريد ٩٣ ج٣.
(٢) أعدى: أعين.
(٣) الموصد: الخدر.
(٤) العمدة ١٣٩ ج٢ والهداء: زفاف العروس.
(٥) نُشرت هذه القصيدة في السنة ١٤ من الهلال ص١٧٤ مع سبب نظمها.
(٦) يتيمة الدهر ٢٤١ ج٣.
(٧) البيان والتبيين ٥٢ ج٢.
(٨) شعراء النصرانية ٣٤.
(٩) شعراء النصرانية ١ت والختور: الخائن.
(١٠) العمدة ١٠١ ج٢.
(١١) شعراء النصرانية ١٦٦.
(١٢) الأراقم: حي من تغلب.
(١٣) حصن: من سادة بني فزارة.
(١٤) الأغاني: ٣٥ ج٤.
(١٥) الأغاني: ٥٥ ج١٥.
(١٦) الأغاني: ٨ ج١٥.
(١٧) الأغاني: ١١٣ ج١٥.
(١٨) الأغاني: ١٠٠ ج٧.
(١٩) العقد الفريد ٥٢ ج٣.
(٢٠) الأغاني: ١١١ ج٧.
(٢١) الأغاني: ١٤٦ ج٤.
(٢٢) المزهر ٢٣٦ ج٣.
(٢٣) العقد الفريد: ٩٣ ج٣.
(٢٤) العمدة: ١٤٩ ج٢.
(٢٥) الفقحة: السوأة.
(٢٦) البيان والتبيين: ١٦٩ ج٢.
(٢٧) الأغاني: ٨٦ ج٨.
(٢٨) العمدة: ٢٥ ج١.
(٢٩) تاريخ التمدن الإسلامي ٢٩ ج٣.
(٣٠) لطائف المعارف ١٧.
(٣١) جمهرة أشعار العرب ٢٥.
(٣٢) الأغاني: ٧٨ ج٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤