أشهر شعراء الجاهلية

(١) أصحاب المعلقات

اختلف الرواة في عدد المعلقات وأصحابها، فأبو زيد القرشي صاحب جمهرة أشعار العرب يجعلهم ثمانية كما رأيت … وهم امرؤ القيس، وزهير والنابغة، والأعشى، ولبيد، وعمرو بن كلثوم، وطرفة، وعنترة، ولكن الزوزني جعل المعلقات سبعًا، ليس بين أصحابها النابغة ولا الأعشى، وأضاف الحارث بن حلزة، وأضاف أبو زكريا التبريزي فوق ذلك قصيدة عبيد بن الأبرص، فصارت المعلقات وملحقاتها عشرًا … هذه أسماء أصحابها:

امرؤ القيس – النابغة – زهير – طرفة بن العبد – لبيد – عنترة – عمرو بن كلثوم – الحارث بن حلزة – الأعشى – عبيد بن الأبرص.

وذكر أبو جعفر النحاس المتوفى سنة ٣٣٨ﻫ، وهو شارح المعلقات، أنها سبع وأن بعضهم أضاف إليها قصيدتيْ النابغة والأعشى وإن لم يعدهما من المعلقات، وذكر ابن خلدون سبعة من أصحاب المعلقات فيهم علقمة بن عبدة١ لكنه لم يعين معلقته، وسنأتي هنا على ترجمة كل من نُسبت إليه معلقة معينة … فإن الشاعرية تجمعهم جميعًا.

(١-١) هل عُلقت المعلقات بالكعبة؟

اختلف أصحاب الأخبار في شأن هذه المعلقات في الجاهلية، فقال بعضهم: إن العرب بلغ من تعظيمهم إياها أن علقوها بأستار الكعبة. وأنكر بعضهم ذلك وأكبروه، وأقدم المنكرين أبو جعفر النحاس النحوي المتقدم ذكره، فقد قال في شرحه المعلقات بالنسخة الخطية الموجودة منه في مكتبة برلين ما نصه: «واختلفوا في جمع هذه القصائد السبع، وقيل: إن العرب كان أكثرهم يجتمع بعكاظ ويتناشدون الأشعار … فإذا استحسن الملك قصيدة قال: علقوها وأثبتوها في خزائني. فأما قول من قال إنها علقت في الكعبة فلا يعرفه أحد من الرواة، وأصلح ما قيل في هذا «إن حمادًا الراوية لما رأى زهد الناس في الشعر جمع هذه السبع وحضهم عليها، وقال لهم هذه هي المشهورات … فسميت القصائد المشهورة»، ونقل ذلك ابن الأنباري فقال: «وهو (حماد) الذي جمع السبع الطوال، هكذا ذكره أبو جعفر أحمد بن محمد النحاس، ولم يثبت ما ذكره الناس من أنها كانت معلقة على الكعبة» فهو يستغرب مخالفة النحاس لما ذكره الناس.

والأكثرون يذهبون إلى أنها عُلقت في الكعبة، وهذا ابن عبد ربه كان معاصرًا للنحاس المذكور وتوفي قبله (سنة ٣٢٨ﻫ) قال: «وقد بلغ من كلف العرب به (بالشعر) وتفضيلها له أن عمدت إلى سبع قصائد ميزتها من الشعر القديم، فكتبتها بماء الذهب في القباطي المدرجة وعلقتها في أستار الكعبة، فمنه يقال: مذهبة امرؤ القيس، ومذهبة زهير، والمذهبات سبع، وقد يقال لها: المعلقات»،٢ وأيد ذلك كثيرون في عصور مختلفة، منهم ابن رشيق صاحب كتاب العمدة وهو من أكبر نقدة الشعر، قال: «وكانت المعلقات تُسمى المذهبات؛ وذلك لأنها اختيرت من سائر الشعر فكتبت في القباطي بماء الذهب وعُلقت على الكعبة، فلذلك يقال: مذهبة فلان إذا كانت أجود شعره، ذكر ذلك غير واحد من العلماء، وقيل: بل كان الملك إذا استجيدت قصيدة الشاعر يقول: علقوا لنا هذه. لتكون في خزائنه»،٣ فترى أن ابن رشيق أميل إلى القول بتعليقها؛ لأنه ينسب القول بذلك إلى «غير واحد من العلماء» ويضعف الرأي الآخر بقوله: «وقيل».
أما ابن خلدون فإنه يقطع بتعليقها ولا يذكر سواه، وهذا قوله: «حتى انتهوا (أي العرب) إلى المناغاة في تعليق أشعارهم بأركان البيت الحرام موضع حجهم وبيت إبراهيم كما فعل امرؤ القيس بن حجر، والنابغة الذبياني، وزهير بن أبي سلمى، وعنترة بن شداد، وطرفة بن العبد، وعلقمة بن عبدة، والأعشى وغيرهم من أصحاب المعلقات السبع».٤

وقد وافقهم أكثر العلماء والباحثين في هذا الموضوع، وإنما استأنف إنكار ذلك بعض المستشرقين من الإفرنج ووافقهم بعض كُتَّابنا؛ رغبة في الجديد من كل شيء.

وأي غرابة في تعليقها وتعظيمها بعدما علمنا من تأثير الشعر في نفوس العرب وتعظيمهم لأصحابه؟! أما الحجة التي أراد النحاس أن يضعف بها القول بتعليقها فهي غير وجيهة؛ لأنه قال: «إن حمادًا رأى زهد الناس بالشعر إلخ» والحقيقة أن الناس لم يكونوا راغبين في الشعر مثل رغبتهم في أيامه، ألم يكن الخلفاء يستقدمون حمادًا هذا من العراق إلى الشام ليسألوه عن بيت: مَن قاله، أو فيمَ قيل؟ … وإليك تراجم أصحاب المعلقات ومن يلحق بهم.

(١-٢) امرؤ القيس بن حجر (توفي نحو سنة ٥٤٠م)

هو أشهر شعراء الجاهلية وأشرفهم أصلًا وأرفعهم منزلة، يتصل نسبه بملوك كندة، وهم في قول العرب بطن من كهلان، وكانوا يقيمون في البحرين والمشقر، ثم أجلوا عنهما إلى منازل كندة في حضرموت، وإليها ينسبون، أقاموا هناك دهرًا يتولون بعض مناصب الدولة على عهد التبابعة الحميريين، وقد ضاع أكثر أخبارهم، وأقدم من عرفت أخباره منهم حجر بن عمرو آكل المرار جد جد امرئ القيس الشاعر، ونزح حجر إلى نجد ونزل بطن عاقل في أوائل القرن الخامس للميلاد، وكان اللخميون (المناذرة) قد ملكوا كثيرًا من تلك البلاد ولا سيما بلاد بكر بن وائل، وهم يومئذ بنجد … فنهض البكريون معه لمحاربة اللخميين واستقلوا عن سلطانهم، فاجتمعت كلمتهم على تعظيمه وملكوه عليهم حتى توفي بأواسط القرن الخامس للميلاد فخلفه ابنه عمرو بن حجر، فلما مات خلفه ابنه الحارث بن عمرو، وفي أيامه فتح الأحباش اليمن فضعف شأن دولته، فوجه مطامعه نحو اللخميين في الحيرة، وكان يحسدهم؛ لتقربهم من الأكاسرة … واغتنم تغير كسرى قباذ على المنذر بن ماء السماء بسبب المزدكية وتقرب إليه، فوافقه وولاه الحيرة مكان المنذر، فعظم الحارث في نظر القبائل وجعلوا يتقربون إليه بالطاعة وسألوه أن يولي عليهم من أراد، وكان له أربعة أولاد أقام كلًّا منهم حاكمًا على بعض القبائل، ومنهم حجر بن الحارث والد امرئ القيس تولى على بني أسد وغطفان.

ثم انقلب الأمر على الحارث بعد موت قباذ؛ لأن أنوشروان ابنه وافق المنذر وعزل الحارث ففر، وطمع فيه المنذر فطار حتى قتله، وجعل يفسد بين أولاده بالتحاسد حتى تحاربوا فقتل اثنان منهم وبقي اثنان: هما حجر والد امرئ القيس ومعد يكرب أمير قيس، ورأى بنو أسد تضعضع دولة كندة، فاجتمعوا على خلاف ملكهم حجر وأمسكوا عن أداء الإتاوة فحاربهم فقتلوه.

وكان امرؤ القيس عند مقتل أبيه غائبًا فلما علم بقتله رجع وهو يعتقد عجزه عن الأخذ بثأره؛ لأن عدوه قوي، وعلم أيضًا أن ذلك العدو إذا عرف مقره قبض عليه، فقضى برهة من الدهر وهو يتجول متنكرًا في اليمن ونجد والحجاز يستجير القبائل، فلم يجره أحد حتى أتى السموءل صاحب حصن الأبلق فاستجاره فأجاره، فاستودعه أدرعه، وأمتعته وهو لا يرى من يستنصره على أعدائه إلا قيصر الروم …؛ لأن ملوك الحيرة عمال الفرس نصروا أعداءه على جاري عادة العرب في ذلك العهد، إذا تظلموا من إحدى هاتين الدولتين استنصروا الأخرى، ولم يكن لامرئ القيس سبيل إلى القيصر فوسط الحارث بن أبي شمر الغساني صاحب النفوذ عند قيصر الروم يومئذ وطلب منه أن يوصله إليه ففعل، فسار امرؤ القيس إلى القيصر، ويقول العرب: إن القيصر بعد أن أجاب دعوته وسمع مدائحه وشى به أحد بني أسد أعدائه، وقال للقيصر: «إن امرأ القيس شتمك» فصدق الوشاية، وألبس الشاعر حلة مسمومة قتلته، ولا نعرف سمًّا يفعل هذا الفعل، وعلى كل حال إن امرأ القيس قتل ولم ينل إربًا.

وجاء في شعراء النصرانية بعد ذكر موت امرئ القيس بالجدري ما نصه: «وذكر في كتاب قديم مخطوط أن ملك قسطنطينية لما بلغه وفاة امرئ القيس أمر بأن ينحت له تمثال وينصب على ضريحه … ففعلوا، وكان تمثال امرئ القيس هناك إلى أيام المأمون، وقد شاهده هذا الخليفة عند مروره هناك لما دخل بلاد الروم؛ ليغزو الصائفة».

شعر امرئ القيس

وكان امرؤ القيس قوي الشاعرية ولولا ذلك لم يقل الشعر؛ لأن الملوك كانوا قبله يأنفون من قوله، ولكنه كان مطبوعًا عليه يقوله وأبوه حي، وكثيرًا ما زجره وهو يعصاه حتى اضطر أبوه أن يبعده عنه … فلم يبالِ بل جعل يجول في الأحياء مع بعض الأخلاط من شذاذ العرب من طيء وكلب وبكر بن وائل، فإذا صادف غديرًا أو روضة أو موضع صيد أقام فذبح لمن معه في كل يوم، وخرج إلى الصيد فتصيد ثم عاد فأكل وأكلوا معه وشرب الخمر وسقاهم وغنته قيانه، ولا يزال كذلك حتى ينفد ماء ذلك الغدير ثم ينتقل عنه إلى غيره.

فلما أتاه نعي أبيه كان بدمون من أرض اليمن، فغضب غضبًا شديدًا، وغضبه أهاج شاعريته، وأسفاره في البلاد زادت اختباره، ولعله جاء بلاد الروم قبل سفرته الأخيرة، والأسفار توسع الخيال الشعري، وإذا عاشر الناس وخالطهم اطلع على آدابهم واستفاد معاني جديدة أو تتفتق فريحته فتستنبط صورًا جديدة، وذلك من الأسباب التي جعلت امرأ القيس يسبق إلى أشياء في الشعر لم تكن معروفة قبله وتبعه الشعراء فيها.

وإذا أمعنت النظر فيما استنبطه من المعاني والأساليب، رأيتها من ثمار الأسفار وسعة الاطلاع … فمنها استيقاف الصحب في الديار كقوله: «قفا نبك إلخ» فإنه طبيعي فيمن قضى معظم حياته في توديع ديار واستقبال ديار، وقد كان الوفا، إذا أقام في المكان ألفه وإذا عاشر الرجل كلف به.

ومنها دقة وصفه وإجادته على الخصوص في وصف الفرس والناقة، وهذا طبعًا من ثمار الأسفار لأنه كان يقضي الساعات والأيام على فرسه لا شيء يشغله عنه مع تعلقه به لأنه أكبر مساعد له على النجاة في فراره من أعدائه، ولذلك لا تكاد تقرأ له قصيدة إلا وجدت فيها أبياتًا يصف بها فرسه أو ناقته. وقد فتقت الأسفار والمعاشرة قريحته لاستنباط المعاني أو اقتباسها، فمن ذلك قوله في قصيدته البائية التي يصف بها الفراق وناقته وفرسه مطلعها:

تبصَّر خليلي هل ترى من ظَعائن
سَلَكْنَ ضُحيَّا بينَ حزْميْ شَعَبْعَب

ولكن القارئ لا يستأنس بالمعنى إلا بعد أن يتعرف الألفاظ الغريبة، وعند ذلك يرى وصفًا بديعًا لم يأتِ الشعراء بأحسن منه كقوله في وصف الفرس:

وقد أغتدي قبل الشروق بسابح
أقَبَّ كيَعْفور الفلاة مُحَنَّبِ
بمنجرِدٍ قَيْد الأوابد لاحَهُ
طِرادَ الهوادي كلَّ شأوٍ مُغَرِّبِ
له أيْطَلا ظَبْيٍ وساقا نعامةٍ
وصهْوةُ عَيْرٍ قائم فوق مَرْقَبِ
ويخطو على صُمٍّ صِلاب كأنها
حجارة غِيلٍ وارساتٌ بطُحْلَبٍ
له كَفَلٌ كالدِّعص لَبَّدهُ النَّدى
إلى حاركٍ مثل الغَبِيط المُذَأب
وعينٌ كمرآة الصناع تديرها
لمحجرها من النصيف المنقَّبِ
له أذنان تعرفُ العِتْقَ فيهما
كسامعتي مذعورةٍ وَسْطَ رَبْرَبِ

ووصف الفرس كثير في شعره، فليراجع في ديوانه، وقد أجاد في سائر ضروب الوصف، وله قصيدة في وصف المطر وأخرى في الوصف على الإجمال مطلعها:

ألا انعم صباحًا أيها الرَّبْع فانلطقِ
وحدِّث حديثَ الركب إن شئت واصدق

ومع ما في شعره وسائر أشعار الجاهلية من اللفظ الغريب؛ فقد امتاز امرؤ القيس برقة الألفاظ ولطف التشبيه كقوله:

كأن قلوب الطير رَطبًا ويابسًا
لدى وكرها العُنَّابُ والحَشَفُ البالي

وقوله:

كأن عيونَ الوحش حول قبابنا
وأرْحُلنا الجَزْع الذي لم يثَّقبِ

وقوله:

كأني غداة البين لما تحمَّلوا
لدى سَمُرَاتِ الحي ناقفُ حنظلِ

وقد أجاد في وصفه الفرس بقوله:

مِكَرٍّ مِفَرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معًا
كجلمود صَخْرٍ حطه السيلُ من عَلِ

وله أبيات كثيرة جرَت مجرى الأمثال على ألسنة الناس، واتخذ الشعراء بعضها قواعد لنظمهم، وهو أول من رقق المعاني، ومما بلغ حد النهاية في الرقة واللطف قوله:

وما ذرقت عيناك إلا لتضربي
بسهْمَيك في أعشار قلبٍ مُقَتَّلِ
وهو أول من وصف النساء بالظباء والمها، وشبه الخيل بالعقبان، والعصى، وفرق بين النسيب وسواه في القصيدة، وقرب مآخذ الكلام فقيد الأوابد وأجاد الاستعارة والتشبيه٥ ومن تشبيهه وهو مما يتغنى به:
وثغرٍ أغرَّ شتيت الثنايا
لذيذ المقبَّل والمبتسمْ
وما ذقته غير ظَنٍّ به
وبالظن يَقضي عليك الحكَمْ

ويقال: إن امرأ القيس أول ما شبب بالنساء، شبب بأبيات مطلعها:

عهدتني ناشئًا ذا غِرَة
خَجِلَ الجُمَّة ذا بطنٍ اقبَّ٦

وله محاورة شعرية في أوابد العرب مع عبيد بن الأبرص، أولها قول عبيد:

ما حيَّةٌ مَيْتَة قامت بميتتها
درداءٌ ما أنبتتْ سنًّا وأخراسًا

فأجابه امرؤ القيس:

تلك الشعيرة تُسقَى في سنابلها
فأخرجت بعد طول المكث أكداسًا

وهي طويلة.

معلقته وسبب نظمها

أما معلقته فقد نظمها في وصف واقعة جرت له مع حبيبته وابنة عمه عنيزة بنت شرحبيل إذ حظر عليه لقاؤها، ولعلهم منعوه منها لما كان من رغبته في الشعر، أما هو فكان ينتهز الفرص لملاقاتها … فاغتنم فرصة ظعن الحي، وكانوا إذا ظعنوا مشى الرجال أولًا ثم النساء، فتخلف امرؤ القيس عن الرجال وتربص حتى ظعنت النساء، وكان في طريق الظاعنين غدير يسمى دارة جلجل في منازل كندة بنجد، فسبقهن امرؤ القيس إلى الغدير وفيهن عنيزة، فنزعن ثيابهن ونزلن في الماء فبرز هو من مخبئه وجمع الثياب وجلس عليها وحلف: لا يعطي الواحدة منهن ثيابها إلا إذا خرجت إليه عارية، فخرجن وبقيت عنيزة وأقسمت عليه أن يعدل عن شرطه، فأبى وألح عليها أن تخرج فخرجت، ثم دفع إليها ثيابها فلبستها واجتمع النسوة عليه، وأخذن يعنفنه وقلن له: «إنك أخرتنا عن الحي وجوعتنا»، فقال: «سأعقر لَكُنَّ راحلتي تأكلن منها» فعقرها وأتين بالحطب، وجعلن يشوين اللحم حتى شبعن، وكان معه ركوة فيها خمر فسقاهن منها … فلما ارتحلن حملن أمتعته على رواحلهن وبقي هو لا مركب له، فقال لعنيزة: «لا بد لك من أن تحمليني» وساعده صواحبها على طلبه فحملته على مقدم هودجها، فجعل يدخل رأسه في الهودج يقبلها ويحادثها ثم نظم معلقته ومطلعها:

قِفَا نَبْكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزل
بِسِقْطِ اللِّوَى بين الدَّخول فحومَلِ

وصف بها ما تقدم أحسن وصف، وهي مدرجة مع سائر المعلقات في كتاب، شرح عدة شروح.

أما سائر أشعاره فإنها جُمعت في ديوان منه نسخة خطية في دار الكتب المصرية، وقد طُبع في باريس سنة ١٨٣٧ وفي غيرها وقد شرحه البطليوسي النحوي المتوفى سنة ٤٩٤ﻫ وطُبع الشرح بمصر سنة ١٢٨٢ﻫ وللنحاس شرح للمعلقة طبع في هال سنة ١٨٧٦.

وقد تُرجمت معلقته إلى اللغة الروسية وطُبعت مع الأصل العربي في بطرسبورج سنة ١٨٨٥ بعناية موركوس.

وتجد كثيرًا من أشعار امرئ القيس وأخباره في كتاب الأغاني ٦٢ ج٨ و١٩ ج٢، والشعر والشعراء لابن قتيبة ص٣٧، وفي شرح المعلقات، وفي كتاب الشعراء الستة الجاهليين طبع لندن سنة ١٨٧٠، وخزانة الأدب ٥٣٢ ج٣، وفي شعراء النصرانية صفحة ٦ وفي جمهرة أشعار العرب ٣٩ وفي أكثر كتب الأدب والتاريخ.

(١-٣) زهير بن أبي سلمى (توفي نحو سنة ٦١٥م)

هو أحد الثلاثة المقدمين على سائر الشعراء، وهم: امرؤ القيس وزهير والنابغة، وإنما اختلفوا في تقديم أحد الثلاثة على صاحبيه، وكما امتاز امرؤ القيس باستنباط الأفكار والأساليب وتلطيف المعاني؛ فقد امتاز زهير بما في نظمه من الحكمة البالغة وكثرة الأمثال مع القدرة على المدح، وهو لا يعاظل في الكلام ويتجنب وحشيه ولا يمدح أحدًا إلا بما فيه، وكثيرون يفضلونه على صاحبيه، ويقولون: إنه أحسنهم شعرًا وأبعدهم عن سخف، وأجمعهم لكثير من المعاني في قليل من الألفاظ.

وهو من مزينة إحدى قبائل مضر، وكان يقيم هو وأبوه وولده في منازل بني عبد الله بن غطفان بالحاجز من نجد، وأول من نزل هناك منهم أبوه أبو سلمى لأنه تزوج امرأة من بني قهر بن مرة من ذبيان بن غطفان فولدت له زهيرًا، وتزوج زهير امرأة من سحيم بن مرة، ولذلك كان زهير يذكر في شعره بني مرة وغطفان ويمدحهما، وكان لزهير أخلاق عالية ونفس كبيرة مع سعة صدر وحلم … فرفع القوم منزلته وجعلوه سيدًا، وكثر ماله واتسعت ثروته، وكان مع ذلك عريقًا في الشاعرية فكان أبوه شاعرًا وكذلك خاله وأختاه وابناه، وكان لشعره تأثير كبير في نفوس العرب وكان مقربًا من أمراء ذبيان وخصوصًا هرم بن سنان والحارث بن عوف، وأول قصيدة نظمها في مدحهما معلقته المشهورة التي مطلعها:

أمِنْ أمِّ أوْ في دِمْنَةٌ لم تكلَّم
بحَوْمانة الدَّرَّاج فالمتثلَّمِ
قالها على أثر مكرمة أتياها بحقن الدماء بين عبس وذبيان.٧

ثم مدح هرمًا بقصائد كثيرة حتى حلف هرم ألا يمدحه زهير إلا أعطاه، ولا يسأله إلا أعطاه، ولا سلم عليه إلا أعطاه عبدًا أو وليدة أو فرسًا، فاستحيا زهير من كثرة ما كان يقبل منه فأصبح إذا رآه في ملأ من الناس قال: «عموا صباحًا غير هرم … وخيركم استثنيت» وقال عمر بن الخطاب لبعض ولد هرم: «أنشدني بعض مدح زهير أباك» فأنشده، فقال عمر: «إنه كان ليحسن فيكم القول» فقال: «ونحن والله كنا نحسن له العطاء»، فقال عمر: «قد ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم» ومدح زهير أيضًا سنان بن أبي حارثة المري وحصن بن حذيفة بن بدر وغيرهما.

ومما قاله في مدح هرم، ولم يسبقه إليه أحد قوله:

قد جعل المبتغون الخيرَ في هرمٍ
والسائلون إلى أبوابه طُرُقَا
من يلقَ يومًا على علَّاته هرمًا
يَلق السماحةَ منه والنَّدى خلقا
يطلب شَأوَ امرأين قدما حسبًا
بَذَّا الملوك وبَذا هذه السُّوقا
هو الجواد فإن يلحق بِشَأوهما
على تكاليفه فمثلُه لحقا
أو يسبقاه على ما كان من مهلٍ
فمثلُ ما قدَّما من صالح سبقا

ومن بليغ مدحه قوله في مدح حصن بن حذيفة بعد أن استهل بوصف الصيد ثم تخلص إلى المدح في قصيدة طويلة جئنا بمثال منها في فصل سابق من هذا الكتاب، وتجد أمثلة من نظمه في أماكنَ أخرى منه.

ويؤخذ من بعض أقواله أنه كان مؤمنًا بالبعث، كقوله:

يؤخَّرْ فيودَعْ في كتاب فيدَّخَرْ
ليوم الحساب أو يعجَّل فيُنْتَقَمِ

ومما يدل على تعقله وحنكته وسعة صدره حِكَمه في معلقته التي نقلنا بعضها في الصفحات الأولى من هذا الكتاب، وقد جمع خلاصة التقاضي في بيت واحد هو:

وإن الحق مقطعُه ثلاثٌ
يَمينٌ أو نِفارٌ أو جِلاءٌ
فزهير يمتاز بمدحياته وحكمياته وبلاغته، وقد جُمعت أشعاره في ديوان شرحه ثعلب المتوفى سنة ٢٩١ﻫ ومنه نسخة خطية في دار الكتب المصرية، وقد طُبع سنة ١٣٢٣ﻫ وشرحه الشنتمري المعروف بالأعلم المتوفى سنة ٤٧٦ﻫ، وقد طُبع هذا الشرح في ليدن سنة ١٣٠٦ﻫ، وله شروح أخرى ضاعت أو لم نقف عليها، وكتب ديروف Dyroff الألماني كتابًا بالألمانية في زهير وأشعاره، وما لم يُنشر منها طُبع في منشن سنة ١٨٩٢.

وقد جُمعت أخباره وأقواله في كتاب الأغاني ٤٨ و١٤٦ ج٩ وفي ديوان الشعراء الستة الجاهليين، وخزانة الأدب ٣٧٥ ج١ والشعر والشعراء ٥٧ وجُمعت معلقته مع سائر المعلقات وفي الجمهرة ص٤٧، وقد شرحها كثيرون منهم النحاس المتقدم ذكره وهو أهم شروحها، وقد نشره الدكتور هوسهير الألماني سنة ١٩٠٥ في برلين مع مقدمة ألمانية مفيدة.

(١-٤) النابغة الذبياني (توفي سنة ٦٠٤م)

هو أحد الثلاثة المقدمين على سائر الشعراء واسمه زياد بن معاوية من ذبيان من قيس، وهو من الأشراف الذين غض الشعر منهم كما غض من امرئ القيس، وكان يفد على النعمان صاحب الحيرة فيمدحه، فوقعت العداوة بينه وبين المنخل الشاعر، فوشى به إلى النعمان … فهرب النابغة إلى بني غسان ونزل بعمرو بن الحارث الأصغر ملك الغساسنة فمدحه، وما زال مقيمًا عنده حتى مات عمرو وخلفه النعمان أخوه، فمكث معه حتى اصطلح مع النعمان صاحب الحيرة فعاد إليه.

وكان يفد على صاحب الحيرة أيضًا حسان بن ثابت الأنصاري، ولكن النابغة كان مقدمًا على الجميع، فجمع من عطايا النعمان صاحب الحيرة ثروة طائلة وصار يأكل ويشرب في آنية الفضة والذهب، وله منزلة كبرى عند شعراء عصره، فإذا جاء سوق عكاظ ضربوا له قبة من جلد وجاء الشعراء ينشدون أشعارهم، وأول من أنشده ذات مرة الأعشى ثم حسان ثم الخنساء، وهذا شرف لم ينله أحد من الشعراء سواه.

ويمتاز النابغة عن صاحبيه بأنه أحسنهم ديباجة شعر وأكثرهم رونق كلام وأجزلهم بيتًا، فكان شعره كلام ليس فيه تكلف، وذلك ظاهر في كل أقواله حتى جرى كثير منها مجرى الأمثال، واقتبس الشعراء كثيرًا من أقواله؛ منها:

نُبِّئْتُ أن أبا قابوس أوعدني
ولا قرارَ على زأرٍ من الأسد

تمثل به الحجاج بن يوسف حين سخط عليه عبد الملك بن مروان، وقوله:

فلو كَفِّي اليمين بَغْتَكَ خوْنًا
لأفردتْ اليمين من الشِّمالِ

أخذه المثقب العبدي فقال:

ولو أني تخالفني شمالي
بنصرٍ لم تصاحبها يميني

وقوله:

فحمَّلتني ذنب امرئ وتركته
كذي العُرِّ يُكْوي غيره وهو راتِعُ

أخذه الكميت فقال:

ولا أكوي الصحاحَ براتعاتٍ
بهن العرُّ قبلي ماكُوِينا

وقوله:

واستبق وُدَّك للصديق ولا تكن
قَتَبًا يعضُّ بغاربٍ ملحاحًا

أخذه ابن ميادة فقال:

ما إن ألح على الإخوان أسألهم
كما يلحُّ بِعَضِّ الغارب القَتَبُ

ومما يتمثل به من شعره قوله:

لو أنها عرضت لأشمطَ راهبٍ
عَبَدَ الإله صَرورةَ المتعبِّدِ
لرنا لبهجتها وحُسن حديثها
ولخالَهُ رَشَدًا وإن لم يَرْشُدِ

أخذه ربيعة بن مقروم الضبي فقال:

لو أنها عرضتْ لأشمط راهبٍ
في رأس مُشْرِفةِ الذُّرَى يَتَبَتَّلُ
لرَنا لبهجتها وحسن حديثها
ولهمَّ من ناموسه يتنزَّلُ

ومما يتمثل به أيضًا من شعره:

ومن عصاك فعاقبه معاقبة
تَنْهَى الظَّلومَ ولا تقعد على ضَمَدِ

وقال في العفة وهو أحسن ما قيل فيها:

رقاق النعال طَيِّبٌ حُجُزاتهم
يحيَّوْن بالريحان يوم السَّباسبِ

أخذه عدي بن زيد فقال:

أجْلَ إن الله قد فضلكم
فوق من أحكى بصلب وإزارِ

فالصلب: الحسب، والإزار: العفاف، وفي أمثالهم: أصدق من قطاة — قال النابغة:

تدعو قَطًا وبها تُدْعى إذا نُسِبَتْ
يا حُسنها حين تدعوها فتنتسب

وذلك لأنها تلفظ باسمها، أخذه أبو نواس فقال: «أصدق من قول قطاة قطا».

وقد مدح النابغة النعمان وعمرو بن هند من أصحاب الحيرة، وعمرو بن الحارث الغساني وأخاه النعمان ووائل بن الحلاج الكلبي وهجا ابن زرعة ورثى واعتذر وفاخر، ولكن الشعر الوصفي قليل في منظومه إلا القصيدة التي نظمها في وصف المتجردة زوجة النعمان صاحب الحيرة وقد تقدم مطلعها، ومن قوله في وصفها:

نظرتْ بمُقلةِ شادن متربِّبٍ
أحْوَى أحَمَّ المقلتين مقلَّدِ
والنظم في سلكٍ يزيِّن نحْرها
ذهبٌ توقَّد كالشهاب الموقَدِ
صفراءُ كالسِّيرَاء أكمِلَ خلقها
كالغصن في غُلَوائه المتأوِّدِ
قامت تراءى بين سِجْفَي كِلَّةٍ
كالشمس يوم طلوعها بالأسْعَدِ
أو دُرَّةٍ صَدَفيَّةَ غَوَّاصها
بَهِجٌ متى يرها يهِلَّ ويسجدَ
أو دميةٍ من مرمر مرفوعة
بنيتْ بآجُرٍ يُشاد وقَرمَد
سقط النَّصِيفُ ولم تُرد إسقاطه
فتناولتْه واتقتنا باليَدِ
بمخضَّبٍ رَخْصٍ كأن بنانه
عَنَمٌ يكاد من اللطافة يُعقَدِ

وهي طويلة وفيها أبيات لا يليق نشرها، ولكنه وصف فيها الطبيعة كما هي عادة الجاهليين في تمثيل الواقع، وكما فعل سليمان الحكيم في نشيد الإنشاد، ومن أحسن شعره معلقته التي مطلعها:

عوجوا فحيُّوا لنُعْمٍ دِمْنَةَ الدار
ماذا تحيُّون من نُؤْيٍ وأحجار

وهي ستون بيتًا ذكرها صاحب جمهرة أشعار العرب.

وللنابغة ديوان مطبوع غير مرة، وشُرح منه نسخة خطية في دار الكتب المصرية، وقد ترجمه إلى الفرنسية وطبعه مع الأصل العربي المسيو ديرنبرج في المجلة الأسيوية الفرنسية سنة ١٨٦٨، وصدر كتاب اسمه التوضيح والبيان لأشعار نابغة ذبيان طُبع بمصر.

وأخباره متفرقة في الأغاني ١٦٢ ج٩ والشعر والشعراء ٧٠ و١٢٦ والجمهرة ٥٢ وفي دواوين الشعراء الستة الجاهليين وفي شرح المعلقات وسائر كتب الأدب.

(١-٥) أعشى قيس (توفي سنة ٦٢٩م)

اسمه ميمون بن قيس بن جندل بن بكر بن وائل من ربيعة، وهو أحد الأعلام من شعراء الجاهلية وفحولهم، والبعض يقدمونه على سائرهم إذا طرب، كما يتقدم امرؤ القيس إذا غضب، والنابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب٨ ويحتج الذين يقدمونه بكثرة طواله الجياد وتصرفه في المديح والهجاء وسائر فنون الشعر مما ليس لسواه، ويقال: إنه أول من سأل بشعره وانتجع به أقاصي البلاد، وكان يغني به فسموه صناجة العرب، وقد تقدم أنه قدري المذهب لقوله:
استأثر الله بالوفاء وبالـ
ـعدل وولَّى الملامةَ الرجلا
ويظن أنه أحد ذلك من نصارى الحيرة، وهو الذي زوج بنات المحلق بأبيات قالها فيه، ولم يكن يمدح قومًا إلا رفعهم، ولم يهجُ قومًا إلا وضعهم؛ لأنه من أسير الناس شعرًا وأعظمهم فيه حظًّا٩ وله منافرة مع علقمة الفحل، ويمتاز الأعشى عن معظم شعراء الجاهلية بوصف الخمر؛ إذ قل فيهم من ذكره وأما هو فقد وصفها بقوله:
وأدكن عاتقٍ جَحْلِ ربَحْلِ
صَبَحْتُ براحةِ شَرْ باكِراما
من اللائي حُملن على المطايا
كريح المسك تستلُّ الزُّكاما

وقوله:

من خَمْرِ عانَة قد أتى لختامها
حوْلٌ تسلُّ غُمامة المزكوم

وقد أدرك الرسول ووفد عليه فمدحه بقصيدة مطلعها:

ألم تغتمضْ عيناك ليلة أرْمَدا
وعادك ما عاد السليمَ المسهَّدا
وما ذاك من عشق النساء وإنما
تناسيت قبل اليوم خُلةَ مَهْددا١٠

وفيها يقول لناقته:

فآليت لا أرثى لها من كلالةٍ
ولا من حَفًا حتى تزور محمدا
نبي يرى ما لا ترون وذكره
أغار لعمري في البلاد وأنجدا
متى ما تُناخي عند باب ابن هاشم
تُراحي وتَلْقَي من فواضله يَدا

فلما علم أبو سفيان بذلك حرض قومه على إرضائه بالرجوع خوفًا من أن يسلم فينصر الرسول بشعره على قريش، فجعلوا له مائة من الإبل فأخذها ورجع، وله معلقة مطلعها:

ما بكاء الكبير في الأطلال
وسؤالي وما ترد سؤالي١١
وللأعشى ديوان خط في دار الكتب المصرية، وله قصيدتان تُرجمتا إلى الألمانية ترجمهما المستشرق الألماني «جاير» “Geyer” الأولى المعلقة المتقدم ذكرها، والثانية أولها: «ودع هريرة إن الركب مرتحل» وقد عني بشرحهما مطولًا حتى بلغت صفحات شرح الأولى وحدها ٢٢٣ صفحة، وللمستشرق المذكور ولع خاص بشعر الأعشى وهو يطبع ديوانه عن النسخة الوحيدة الكاملة الموجودة في الإسكوريال.

وتجد أخبار الأعشى وأشعاره في الأغاني ٥٢ ج١٥ و١٦٠ ج١٦ و٧٧ ج٨ و١٤٣ ج١٠ والشعر والشعراء ١٣٥ والجمهرة ٥٦ وغيرها وفي سيرة الرسول ومعجم البلدان وفي سائر كتب الأدب.

(١-٦) لبيد بن ربيعة (توفي سنة ٦٦٢م)

هو لبيد بن ربيعة العامري (من قيس) وكان من أشراف الشعراء المجيدين والفرسان المعمرين، يقال: إنه عَمَّرَ ١٤٥ سنة عاش معظمها في الجاهلية، وقد أدرك الإسلام وأسلم وهاجر وحسن إسلامه ونزل الكوفة أيام عمر بن الخطاب، فأقام بها حتى مات في أوائل خلافة معاوية، فكان عمره ١٤٥ سنة منها ٩٠ في الجاهلية، وكانت الشاعرية ظاهرة في عينيه منذ صباه … ذكروا أن النابغة رآه وهو غلام جاء مع أعمامه إلى النعمان بن المنذر فتوسم فيه الشاعرية، فسأل عنه فنسبوه، فقال له: «يا غلام إن عينيك لعينا شاعر، أفتقرض من الشعر شيئًا؟» قال: «نعم يا عم» قال: «فأنشدني» فأنشده قوله: «ألم ترجع على الدمن الخوالي إلخ» فقال له: «يا غلام أنت أشعر بني عامر زدني» فأنشده قوله: «طلل لخولة في الرسيس قديم»، فضرب بيده على جبينه، وقال: «اذهب فأنت أشعر قيس كلها».

وأكثر شعره في الجاهلية؛ لأن الخلفاء الراشدين شغلوا الناس عن الشعر بالقرآن، ذكروا أن عمر بن الخطاب بعث إلى المغيرة بن شعبة وهو على الكوفة يقول له: «استنشد من قبلك من شعراء مصرك ما قالوا في الإسلام»، فأرسل إلى الأغلب الراجز العجلي، فقال له أنشدني، فقال:

أرجزًا تريد أم قصيدًا
لقد طلبتَ هينًا موجودًا
ثم أرسل إلى لبيد، فقال: «أنشدني ما قلته في الإسلام، فكتب سورة البقرة في صحيفة، ثم أتى بها وقال: أبدلني الله هذا في الإسلام مكان الشعر» فكتب المغيرة بذلك إلى عمر، فنقص من عطاء الأغلب خمسمائة وجعلها في عطاء لبيد.١٢

فمعظم ما يروونه من شعره قيل في الجاهلية، وكان من أجود العرب، ويقال: إنه آلى على نفسه في الجاهلية أن لا تهب صبًا إلا أطعم، وكان له جفنتان يغدو بهما ويروح في كل يوم على مسجد قومه فيطعمهم، فهبت الصبا يومًا والوليد بن عقبة في الكوفة، فصعد الوليد المنبر فخطب الناس، ثم قال: «إن أخاكم لبيد بن ربيعة قد نذر في الجاهلية أن لا تهب صبًا إلا أطعم، وهذا يوم من أيامه قد هبت صبًا فأعينوه، وأنا أول من فعل»، ثم نزل عن المنبر فأرسل إليه بمائة بكرة، وكتب إليه بأبيات قالها:

أرى الجزارَ يشحَذُ شفرتيه
إذا هبت رياحُ أبي عقيل
أشم الأنف أصْيدُ عامري
طويل الباع كالسيف الصقيل
وَفَى ابن الجعفريِّ بحَلْفَتَيْهِ
على العِلاتِ والمالِ القليل
بنَحر الكُوم إذ سحبت عليه
ذيولُ صَبًا تجاذب بالأصيل١٣

فلما بلغت أبياته لبيدًا قال لابنته: «أجيبيه فلعمري لقد عشت برهة وما أعيا بجواب شاعر» فقالت ابنته:

إذا هبت رياح أبي عقيل
دعونا عند هَبَّتها الوليدا
أشمَّ الأنف أروعَ عَبْشمِيًّا
أعان على مروءته لبيدا
بأمثال الهضاب كأن ركبًا
عليها من بني حامٍ قعودا
أبا وهب جزاك الله خيرًا
نحرناها فأطعمنا الثريدا
فعُد إن الكريم له مَعادٌ
وظني لا أبا لك أن تعودا

فقال لها لبيد: «قد أحسنت لولا أنك استطعمتِه»، فقالت: «إن الملوك لا يستحي من مسألتهم»، فقال: «وأنت يا بنية في هذه أشعر».

ومما يستجاد من قوله قصيدة مطلعها:

ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطلٌ
وكلُّ نعيم لا محالةَ زائلٌ

ويقال: إنه لم يقل في الإسلام إلا بيتا واحدًا، وهو:

الحمد لله أن لم يأتني أجلي
حتى لبستُ من الإسلام سربالا

أما معلقته فمطلعها:

عَفَتِ الديارُ محلها فمقامها
بمِنى تأبَّدَ غَوْلُها فرِجامها
وقد جُمعت أشعاره في ديوان طُبع في فينا للمرة الأولى سنة ١٨٨٠ بعناية يوسف ضياء الدين الخالدي، ثم تُرجمت هذه الطبعة إلى الألمانية مع تعليقات بالمقابلة على نسخ خطية في ستراسبورج وليدن مع ترجمة حياة الشاعر بعناية «هوبر Huber»، وطُبع في ليدن سنة ١٨٩١، وله سيرة بالألمانية بقلم المستشرق هوبر المذكور طبعت في ليدن سنة ١٨٨٧ وأخرى «لكريمر Kremer» طُبعت في فينا سنة ١٨٨١، وأخباره في الأغاني ٩٣ ج١٤ و١٣٧ ج١٥ والشعر والشعراء ١٤٨ والمستطرف ٤٣ ج٢ والجمهرة ٦٣، وغيرها من كتب الأدب.

(١-٧) عمرو بن كلثوم (توفي سنة ٦٠٠م)

هو من قبيلة تغلب، وأمه ليلى بنت المهلهل أخي كليب المشهور، فهو حفيد المهلهل، واشتهرت أمه ليلى بالأنفة وعظم النفس تفاخرًا بأبيها، وساد عمرو بن كلثوم قومه تغلب وهو في الخامسة عشرة، وقد عمِّر طويلًا وكان أعز الناس نفسًا وأكثرهم امتناعًا وأنفة، وكان شاعرًا مطبوعًا اشتهر بمعلقته التي مطلعها:

ألا هبي بصحنك فاصبحينا
ولا تُبقي خمور الأندرينا

وهي حماسية فخرية يقال: إنها كانت تزيد على ألف بيت وإنما وصل إلينا بعضها، وقد نظمها غضبًا لأمه وقبيلته من عمرو بن هند صاحب الحيرة، وكان عمرو هذا معجبًا بنفسه، فقال يومًا للندماء: «هل تعلمون أحدًا من العرب تأنف أمه من خدمة أمي؟» فقالوا: «نعم … أم عمرو بن كلثوم» قال: «ولِمَ؟» قالوا: «لأن أباها المهلهل بن ربيعة، وعمها كليب بن وائل أعز العرب، وبعلها كلثوم بن مالك أفرس العرب، وابنها عمرو وهو سيد قومه».

فأرسل عمرو بن هند صاحب الحيرة إلى عمرو بن كلثوم يستزيره، ويسأله أن يزير أمَّه أمَّه، فأقبل ابن كلثوم من الجزيرة إلى الحيرة في جماعة من بني تغلب، وأقبلت ليلى بنت مهلهل في ظعن من بني تغلب، وأمر عمرو بن هند برواقه، فضربه فيما بين الحيرة والفرات، وأرسل إلى وجوه أهل مملكته فحضروا في وجوه بني تغلب، فدخل عمرو بن كلثوم على عمرو بن هند في رواقه، ودخلت ليلى وهند في قبة من جانب الرواق، وقد كان عمرو بن هند أمر أمه أن تنحي الخدم إذا دعا بالطرف وتستخدم ليلى، فدعا عمرو بمائدة، ثم دعا بالطرف، فقالت هند: «ناوليني يا ليلى ذلك الطبق» فقالت ليلى: «لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها» فأعادت عليها وألحت، فصاحت ليلى: «وا ذلاه يا لتغلب» فسمعها عمرو بن كلثوم، فثار الدم في وجهه، ونظر إليه عمرو بن هند فعرف الشر في عينيه، فوثب عمرو بن كلثوم إلى سيف لعمرو بن هند معلق بالرواق ليس هناك سيف غيره، فضرب به رأس عمرو بن هند ونادى في بني تغلب فانتهبوا ما في الرواق وساقوا نجائبه وساروا نحو الجزيرة.

فجاشت نفس ابن كلثوم وحمى غضبه وأخذته الأنفة والنخوة، فنظم معلقته أو لعله نظم بعضها في ذلك الحين، ثم أتمها في حادثة أخرى جرت له مع عمرو بن هند المذكور على أثر خلاف جرى بين قومه التغلبيين وإخوانهم البكريين وتقاضوا إلى عمرو هذا، وكان قد أصلح بينهما بعد حرب البسوس وشرط عليهما شروطًا إذا اختصما، فلما جاءوه للمقاضاة كان ابن كلثوم سيد تغلب والنعمان بن هرم سيد بكر، وجرى بين الأميرين جدال بين يدي صاحب الحيرة، وكان هذا يؤثر تغلبًا على بكر فطرد ابن هرم، فنهض ابن كلثوم وأنشد معلقته، وكان حاضرًا هناك الحارث بن حلزة من بكر وائل فأنشد معلقته كما سيجيء، فالغالب أن ابن كلثوم نظم معلقته على مرتين في حادثة أمه وهذه الحادثة، ولذلك رأيت فيها إشارة إلى كليهما وقد وقف عمرو بن كلثوم بهذه في سوق عكاظ فأنشدها في موسم مكة، وكان بنو تغلب يعظمونها ويرويها صغارهم وكبارهم؛ لما حوته من الفخر والحماسة مع جزالتها وسهولة حفظها؛ فقد استهلها بذكر الخمر ووصف شاربها وتأثيرها، وهذا قيل في شعر الجاهلية كما تقدم، ثم وصف ليلى نحو وصفِ النابغةِ المتجردةَ، ثم خاطب عمرو بن هند وافتخر بنفسه وأهله، وأشار إلى ما أراده ابن هند من احتقار والدته، وذكر واقعة لهم في ذي أراط فازوا بها وأبدعوا، ثم تخلص إلى الفخر في أبيات هذا بعضها:

وقد علم القبائل غير فخرٍ
إذا قُبَبٌ بأبْطَحها بُنينا
بأنا العاصمون إذا أطعنا
وأنا العارمون إذا عصينا
وأنا المنعمون إذا قدرنا
وأنا المهلكون إذا أتينا
وأنا الحاكمون بما أردنا
وأنا النازلون بحيث شينا
وأنا التاركون لما سخطنا
وأنا الآخذون لما هوينا
وأنا الطالبون إذا نقمنا
وأنا الضاربون إذا ابتلينا
وأنا النازلون بكل ثَغْر
يخاف النازلون به المَنُونا
ونشرب إن وردنا الماء صفوًا
ويشرب غيرنا كدرًا وطينا

وليس لعمرو بن كلثوم ديوان معروف، ولكن أشعاره متفرقة في الأغاني ١٨١ ج٩ وفي الشعر والشعراء ١١٧ والجمهرة ٧٤ وشعراء النصرانية ١٩٧ وشرح القصائد العشر ١٠٨ وفي معجم البلدان وديوان الحماسة وغيرها.

(١-٨) الحارث بن حلزة اليشكري (توفي سنة ٥٨٠م)

هو من بكر وائل، وقد اشتهر بين أهل العراق، وكان به وضح أي بَرَص، وهو قليل النظم وإنما اشتهر بمعلقته وهي قصيدة واحدة كما اشتهر بمثلها عمرو بن كلثوم وطرفة بن العبد الآتي ذكره، وقد تقدم أن الحارث كان في وفد البكريين الذين أتوا عمرو بن هند وخطيبهم النعمان بن هرم، فلما غضب ابن هند عليه وأوشك أن يقضي لبني تغلب، قال الحارث بن حلزة لقومه: «إني قد قلت خطبة فمن قام بها ظفر بحجته وفلج على خصمه … فرواها أناسًا منهم، فلما قاموا بين يدي الملك لم يرضه إنشادهم»، فقال: «إني لا أرى أحدًا يقوم بها مقامي لكني أكره أن أكلم الملك من وراء سبعة ستور، وينضح أثري بالماء إذا انصرفت عنه»، وكانوا يفعلون ذلك بمن فيه بَرَص، وقيل: بل كان ابن هند يفعل ذلك؛ لعظم سلطانه ولا ينظر إلى أحد به سوء، ثم خاف ابن حلزة على قومه وقال: «أنا محتمل ذلك وأقرب من الملك» فقيل لعمرو بن هند: «إن به وضحًا» فأمر أن تمد بينه وبين الحارث سبعة ستور، فجعلت، فلما نظر عمرو بن كلثوم قال للملك: «أهذا يناطقني وهو لا يطيق صدر راحلته» فأجابه الملك حتى أفحمه، وأنشد الحارث قصيدته التي مطلعها:

آذنتْنا بِبَيْنِها أسماءُ
ربَّ ثاوٍ يُمَلُّ منه الثَّواء

وكانت هند أم عمرو صاحب الحيرة تسمع، فقالت: «تالله ما رأيت كاليوم قط رجلًا يقول مثل هذا القول يكلم من وراء سبعة ستور» فقال الملك: «ارفعوا سترًا وأدنوا الحارث» حتى إذا أزيلت الستور السبعة أقعده الملك قريبًا منه وبالغ في إكرامه، وضُرب بالحارث المثل بالفخر، فقيل: «أفخر من الحارث بن حلزة» وخصوصًا؛ لأنهم يزعمون أنه قالها ارتجالًا، وذلك بعيد؛ لأنه ذكر فيها عدة من أيام العرب عير ببعضها بني تغلب تصريحًا وعرَّض ببعضها بعمرو بن هند، فهي من قبيل الملاحم في وصف الوقائع.

وللحارث غير معلقته أبيات قليلة منشورة مع أخباره في الأغاني ١٧٧ ج٩ وشرح القصائد العشر ١٢٥ والشعر والشعراء ٩٦ وشعراء النصرانية ٤١٦ وفي سائر كتب الأدب.

(١-٩) طرفة بن العبد (توفي سنة ٥٠٠م)

هو أبو عمرو طرفة بن العبد من بكر وائل من ربيعة ابن أخت جرير بن عبد المسيح المعروف بالمتلمس، وقد نبغ في الشعر منذ حداثته حتى صار يعد من الطبقة الأولى وتوفي صغير السن، ومع كونه من المقلين فإن أشعاره كانت معول أصحاب اللغة في الاستشهاد، وكان في صباه عاكفًا على الملاهي يعاقر الخمر وينفق ماله عليها، ولكن مكانه في قومه جعله جريئًا على الهجاء، ومات أبوه وهو صغير فأبى أعمامه أن يقسموا ماله وظلموه حقًّا لأمه وردة، فنظم في هجائهم قصيدة أبدع فيها مطلعها:

ما تنظرون بحق وردة فيكم
صَغُرَ البنون ورهطُ وردة غيبُ

واشتهر في الأكثر بمعلقته … ويقال في سبب نظمها: إن أخاه معبدًا كانت له إبل ضلت فذهب أخوه طرفة إلى ابن عمه مالك ليعينه في طلبها فلامه وانتهره، وقال: «فرطت فيها ثم أقبلت تتعب في طلبها» فهاجت قريحة طرفة، فقال معلقته التي مطلعها:

لخولة أطلالٌ بِبُرْقَةِ ثَهْمَدِ
تلوحُ كباقي الوَشْم في ظاهر اليدِ

وفيها يشبه حدوج حبيبته بالسفن السابحة في الماء، ثم يصف ناقته وصفًا جميلًا يوهمك لأول وهلة أنه يصف حبيبته، ولكنك لا تلبث أن ترى وصفه الدقيق لكل عضو من أعضائها حتى ذيلها، ثم ينتقل إلى الحكم والموعظة ثم العتاب يعاتب ابن عمه على تعنيفه، ويأسف لأنه لا يقدر أن يرد تعنيفه لمقامه عنده.

ولطرفة حديث مع عمرو بن هند صاحب الحيرة والمتلمس الشاعر كان سببًا في قتله، وذلك أن طرفة كان في صباه معجبًا بنفسه يتخلج في مشيته، فمشى تلك المشية مرة بين يدي عمرو بن هند فنظر إليه نظرة كادت تبتلعه من مجلسه، وكان المتلمس حاضرًا، فلما قاما قال له المتلمس: «يا طرفة إني أخاف عليك من نظرته إليك» فقال طرفة: «كلا» ثم إنه كتب لهما كتابين إلى المكعبر، وكان عامله على البحرين وعمان، فخرجا من عنده وسارا حتى إذا هبطا بأرض قريبة من الحيرة رأيا فيها شيخًا دار بينهما وبينه كلام نبه المتلمس إلى ما قد يكون في الكتاب الذي يحمله من الأذى، ولم يكن يعرف القراءة فإذا هو بغلام من أهل الحيرة يسقي غنمًا له من نهر الحيرة، فقال له المتلمس: «يا غلام أتقرأ؟» قال: «نعم» قال: «اقرأ هذه» فإذا فيها: «باسمك اللهم من عمرو بن هند إلى المكعبر إذا أتاك كتابي هذا من المتلمس فاقطع يديه ورجليه وادفنه حيًّا» فألقى المتلمس الصحيفة في النهر، وقال: «يا طرفة معك والله مثلها» فقال: «كلا ما كان ليكتب لي مثل ذلك» ثم أتى طرفة إلى المكعبر، فقطع يديه ورجليه ودفنه حيًّا، فضرب المثل بصحيفة المتلمس لمن يسعى في حتفه بنفسه.

وقد جُمعت أشعار طرفة في ديوان طبع بشالون بفرنسا سنة ١٩٠٠ مع ترجمة فرنسية بعناية «سلكسن»، وتجد أخبار طرفة مع بعض أقواله متفرقة في الأغاني وفي شرح المعلقات وأمثال الميداني وحياة الحيوان للدميري ٢٠٩ ج٢ والجمهرة ٨٣ وفي ديوان الشعراء الستة الجاهليين وخزانة الأدب ٤١٤ ج١ والشعر والشعراء ٨٨ وفي شرح القصائد العشر ٣٠ وفي الحماسة وغيرها، وفي المجلة الآسيوية الفرنسية Journal Asiatique لسنة ١٨٤١ مقالة عنه وعن المتلمس.

(١-١٠) عنترة بن شداد العبسي (توفي سنة ٦١٥م)

هو عنترة بن شداد من قبيلة عبس من قيس، وهو من الشعراء الفرسان الشجعان، وعَشَقَ فهاجت شاعريته واتسع خياله، وأخباره مدونة في قصته المشهورة، لكن أكثرها موضوع من قبيل القصص الروائية، أما عنترة فلا شك في وجوده، وله حروب وأشعار، والصحيح من خبره أن أمه زبيبة كانت حبشية فلما أنجبت ابنها وظهرت مواهبه اعترف به أبوه وألحقه بنسبه على اصطلاحهم في ذلك العصر.

وهو أحد أغربة العرب، ممن أمهاتهم إماء وهم ثلاثة: عنترة وخفاف بن عمير والسليك بن السلكة، وشهد عنترة حرب داحس والغبراء وهو شاب ووقعت ملاحاة بينه وبين بني عبس في إبل أخذها من حليف لهم اقتتلوا عليها، وحدثت حروب بين جديلة وثعل، وكان عنترة مع جديلة فنصرهم فانتصروا فشكته ثعل إلى غطفان، ووقائعه كثيرة يشتبه فيها الصحيح بالموضوع وهم في اختلاف في سببه قتله، وأحب عبلة بنت عمه وهو يذكرها في أكثر أشعاره.

ولعنترة أشعار كثيرة تدخل في ديوان كبير، والرواة مختلفون فيما هو له وما هو موضوع، ومما هو ثابت له المعلقة التي مطلعها:

هل غادر الشعراء من متردَّم
أم هل عرفت الدار بعد توهُّم

ويقال في سبب نظمها إنه جلس يومًا في مجلس بعدما كان قد أبلى واعترف به أبوه وأعتقه، فسبه رجل من بني عبس ذكر سواده وأمه وإخوته، فسبه عنترة وفخر عليه، وقال فيما قال له: «إني لأحضر البأس وأوفى المغنم وأعف عند المسألة وأجود بما ملكت يدي وأفصل الخطة الصماء» قال له الرجل: «أنا أشعر منك» قال: «ستعلم ذلك» فقال عنترة يذكر قتل معاوية بن نزال وهي أول كلمة قالها.

فبدأ بذكر الديار ديار عبلة وخاطبها يشكو البُعد والغرام، ثم استأنف الفخر والحماسة، وأكثر الرواة ينكرون أن يكون مطلع المعلقة له ومنهم الأصمعي وابن الأعرابي، وكلهم يقولون: إن أول المعلقة الحقيقي:

يا دار عبلةَ بالجواءِ تكلَّمي
وعمي صباحًا دار عبلة واسلمي

ومن غرر القصائد المنسوبة إليه قصيدة يذكر فيها واقعة يوم الفروق مطلعها:

ألا قاتل الله الطلول البواليا
وقاتل ذكراك السنين الخواليا

وصف فيها الواقعة وافتخر … وله قصيدة فخمة يتوعد بها النعمان ويفتخر بقومه كلها حكم وحماسة مطلعها:

لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب
ولا ينال العلى من طبعه الغضب

وفي هذا البيت من الحكمة البالغة ما ليس بعده غاية. ومن أقواله قصيدة يهدد بها عمارة والربيع ابني زياد العبسي معرضًا بذكر قومهما، مطلعها:

لغير العلا مني القِلا والتجنب
ولولا العلا ما كنت في العيش أرغب

وغير هذه شيء كثير يراجع في ديوانه وفيه معانٍ لم يسبق إليها، منها قوله:

وخلا الذبابُ بها فليس ببارح
غَرِدًا كفعل الشارب المترنم
هَزِجًا يحكُّ ذراعه بذراعه
فعل المكبِّ على الزناد الأجذمِ

وقوله:

وإذا شربت فإنني مستهلك
مالي وعرضي وافرٌ لم يُكْلَمِ
وإذا صحوت فما أقصِّر عن ندى
وكما علمتِ شمائلي وتكرمي

ومن ذلك قوله:

إني امرؤ من خير عبس مَنصبًا
شَطري وأحمي سائري بالمُنْصَل
وإذا الكتيبةُ أحجمت وتلاحظت
ألفيتُ خيرًا من مُعِمٍّ مخول

يقول: النصف من نسبي شريف في خير عبس، وأحمي النصف الآخر وهو نسبه في السودان بالسيف فأشرفه أيضًا، ومن أحسن شعره قوله:

بكرتْ تخوِّفني الحتوف كأنني
أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل
فأجبتها إن المنية منهلٌ
لا بد أن أُسقَى بذاك المنهل
فاقْنِي حياءَكِ لا أبا لك واعلمي
أني امرؤ سأموت إن لم أقتل
إن المنية لو تمثَّل مُثِّلت
مثلي إذا نزلوا بضَنْك المنزل

ومن إفراطه قوله:

وأنا المنية في المواطن كلها
والطعن مني سابق الآجالِ

وفي هذه يفخر بأخواله من السودان؛ إذ يقول:

إني لتُعْرَف في الحروب مواطني
في آل عبسٍ مشهدي وفعالي
منهم أبي حقًّا فهم ليَ والد
والأم من حامٍ فهم أخوالي
وأشعار عنترة كلها واردة في قصته وقد أفردها بعضهم في ديوان على حدة، وطُبع في بيروت بغير تحقيق فيما هو له وما ليس له، وقد وردت أخباره في الأغاني ١٤٨ ج٧ والشعر والشعراء ١٣٠ وشعراء النصرانية ٧٩٤ والجمهرة ٩٢ وخزانة الأدب ٦٢ ج١ والعقد الفريد ٣٤ ج١ وشرح القصائد العشر ٩٠ وترجمنا له في السنة الخامسة من الهلال، وللمستشرق الألماني توربكي Thorbecke كتاب بشأنه طُبع في هيدلبرج سنة ١٨٦٨.

قصة عنترة

أما قصته فقد اختلفوا في وضعها، ويظهر أنها وُضعت بالتدريج ومعنى ذلك أنهم توسعوا فيها وأضافوا إليها زيادات على مر التاريخ حتى بلغت ما هي عليه الآن، وكان من عادة المسلمين في صدر الإسلام أن يستنهضوا همم الجند للحرب بتلاوة أخبار الشجعان وفرسانهم الجاهليين، وقد رأيناهم يفعلون ذلك في القرن الأول للهجرة في زمن الحجاج بن يوسف سنة ٧٧ في الواقعة التي قُتل فيها شبيب عتاب بن ورقاء. ذكر ابن الأثير أن عتابًا سار في أصحابه قبل المعركة يحرضهم على القتال ويقص عليهم، ثم قال: «أين القصاص؟» فلم يجبه أحد، فقال: «أين من يروي شعر عنترة؟» فلم يجبه أحد إلخ.

فكانوا أولًا يروون أشعار عنترة للحماسة، ثم صاروا يجمعون أخباره وأحاديثه ويتناقلونها رواية عن الأصمعي وهي تتسع حتى جُمعت بمصر في أواخر القرن الرابع للهجرة في زمن الخليفة العزيز بالله الفاطمي، وقد جاء في سبب جمعها وتدوينها أن رجلًا اسمه الشيخ يوسف بن إسماعيل كان يتصل بالعزيز بالله … فاتفق أن حدثت ريبة في دار العزيز، لهجت الناس بها في المنازل والأسواق فساء العزيز ذلك، وأشار على الشيخ يوسف المذكور أن يطرف الناس بما عساه أن يشغلهم عن هذا الحديث.

وكان الشيخ يوسف هذا واسع الرواية في أخبار العرب كثير النوادر والأحاديث، وكان قد أخذ روايات شتى عن أبي عبيدة وابن هشام وجهينة الأخبار والأصمعي وغيرهم من الرواة، فأخذ يكتب قصة عنترة ويوزعها في الناس فأعجبوا بها واشتغلوا عن سواها. ومن تلطفه في الحيلة أنه قسمها إلى ٧٢ كتابًا والتزم في آخر كل كتاب أن يقطع الكلام في حادث مهم يشتاق القارئ والسامع إلى الوقوف على تمامه … فلا يفتر عن طلب الكتاب الذي يليه، فإذا وقف عليه انتهى به مثل ما انتهى في الأول وهكذا إلى نهاية القصة، وقد أثبت في هذه الكتب ما ورد من أشعار العرب المذكورين فيها، ولكن تداول النساخين الجهلاء للقصة أفسد روايتها … والقصة مشهورة ومطبوعة مرارًا.

(١-١١) عبيد بن الأبرص الأسدي (توفي سنة ٥٥٥م)

هو من بني أسد من مضر من شعراء الطبقة الأولى قديم الذكر عظيم الشهرة، لكن الباقي من شعره أقل من شهرته، وكان عبيد لا يقول الشعر في صباه. وذكروا في سبب ما بعثه على النظم أنه كان ضيق الرزق قليل المال، فأقبل ذات يوم بغنم له ومعه أخته ماوية ليوردا غنمهما، فمنعه رجل من مالك وجبهه … فانطلق حزينًا مهمومًا ثم ابتهل إلى الله: إن كان فلان ظلمني ورماني بالبهتان فأدلني منه وانصرني عليه، ووضع رأسه فنام، فرأى في المنام أن رجلًا أتاه بكبة من شعر ألقاها في فِيهِ ثم قال: قم، فقام وهو يرتجز، واستمر بعد ذلك ينظم الشعر حتى صار شاعر بني أسد غير مدافع، فنظم قصيدته البائية وهي التي تُعد من المعلقات، مطلعها:

أقْفَرَ من أهله مَلْحوبُ
فالقُطَبِيَّاتُ فالذَّنُوبُ
وهي ٤٨ بيتًا نشرها التبريزي ملحقة بالمعلقات السبع مع قصيدتي الأعشى والنابغة في شرح القصائد العشر، وهو معدود من أصحاب المجمهرات عند صاحب جمهرة أشعار العرب، وجمهرته عنده هي نفس هذه المعلقة مع بعض التغيير.١٤

وفي أيامه كان حجر بن الحارث الكندي والد امرئ القيس ملكًا على بني أسد كما تقدم، وكان عبيد ينادمه فنظم فيه قصائد من جملتها قصيدة يغني بها، مطلعها:

طاف الخيال علينا ليلةَ الوادي
من أمِّ عمرو ولم يُلمم بميعاد

وأبى بنو أسد مرة أن يدفعوا الإتاوة لحجر وقتلوا رسله، فغضب وحاربهم واستباح أموالهم وأخرجهم إلى تهامة وحبس بعض سادتهم وفيهم عبيد بن الأبرص … فذهب منهم وفد إليه، وجاء عبيد فوقف وأنشد قصيدة جاء فيها:

ومَنَعَتْهُمْ نجدًا فقد
حَلُّوا على وَجَلٍ تِهَامَهْ
بَرِمَتْ بنو أسد كما
بَرِمَتْ ببيضتها الحمامه
جعلت لها عودين من
نَشَمٍ وآخرَ من ثُمامه١٥
مهما تركت تركت عفوًا
أو قتلت فلا مَلامه
أنت المليكُ عليهم
وهمُ العبيد إلى القيامه
ذلَّوا لسوطك مثل ما
ذل الأشَيْقِرُ ذو الخِزامه١٦

فأطلق حجر سبيلهم، ثم ثارت أسد ثانية عليه وقتلوه كما ذكرنا في ترجمة امرئ القيس، وغضب امرؤ القيس ولم يقبل منهم دية أبيه وتوعدهم فقال عبيد قصيدة مطلعها:

ياذا المخوِّفنا بقَتـْ
ـل أبيه إذلالًا وحَيْنا
وزعمت أنك قد قتلـ
ـت سَرَاتنا كذبًا ومَيْنا

وعمِّر عبيد طويلًا حتى قتله المنذر بن ماء السماء في حديث، خلاصته أن المنذر قتل نديمين له من بني أسد وهو غضبان، فلما أصبح ندم فبنى على قبريهما ضريحين سماهما الغريين وجعل لنفسه يومين في السنة يجلس فيهما هناك؛ أحدهما يوم نعيم، والآخر يوم بؤس، فأول من يطلع عليه في يوم النعيم يعطيه مائة من الإبل وأول من يطلع عليه في يوم البؤس يقتله ويطلي بدمه الغريين، فاتفق لعبيد أن أتاه في يوم بؤسه فقتله، وهذا الحديث يشبه ما ذكروه عن حنظلة والنعمان، لكن حادثة حنظلة تمثل الوفاء أحسنَ تمثيلٍ؛ إذ يطلق النعمان حنظلة بضمانة على أن يغيب سنة ثم يعود ليقتل، فلما حان الوقت جاء وسأله النعمان عما حمله على المجيء بعد أن نجا بنفسه، فقال: «الوفاء».

فلعل الأصل فيها قصة عبيد فزاد عليها العرب وعد حنظلة ووفاءه؛ ليمثلوا بها الوفاء على نحو ما كما يفعل اليونان في الروايات التمثيلية، وقد أشرنا إلى ذلك قبلًا.

ومن أحاسن شعر عبيد، قصيدته الدالية التي مطلعها:

لمن ذمْنَةٌ أقوتْ بحَرَّة صرغد
تلوح كعنوان الكتاب المجدَّد
ولعبيد ديوان تحت الطبع على يد لجنة تذكار جيب بإنجلترا مع ديوان عامر بن الطفيل بتصحيح المستشرق لايل Lyall.

وتجد أخبار عبيد في الأغاني ٨٤ ج١٩ والشعر والشعراء ١٤٣ وشعراء النصرانية ٥٩٦ والجمهرة ١٠٠ وفي مجمع الأمثال للميداني ومعجم البلدان والعمدة ومعجم البكري وغيرها.

(١-١٢) المعلقات والمستشرقون

وقد عني غير واحد بشرح المعلقات وإن اختلفوا في عددها كما تقدم، وعني جماعة من علماء أوربا المستشرقين بترجمتها، وأشهر من فعل ذلك منهم وليم جونس W. Jones الإنجليزي فقد نشرها مع ترجمة وشرح في لندن سنة ١٧٨٣، وابل Abel النمساوي ترجمها إلى النمساوية ونشرها مع الأصل العربي في برلين سنة ١٨٩١، ثم جنسن Johnson الإنجليزي ترجمها إلى الإنجليزية ونشرها في لندن سنة ١٨٩٤، مع مقدمة للشيخ فيض الإبهي، وقد كتب عنها وعن غيرها من شعر الجاهلية لايل Lyall المذكور كتابًا طُبع في لندن سنة ١٨٨٥ ونولدكي Noeldeke الألماني وغيرهما.

(٢) الشعراء الأمراء

الشعراء من الملوك والأمراء بضعة عشر شاعرًا، منهم اثنان من أصحاب المعلقات هما امرؤ القيس وعمرو بن كلثوم وقد ترجمنا لهما، وإليك من بقي:

(٢-١) الأفوه الأودي (توفي سنة ٥٧٠م)

هو صلاءة بن عمرو من أود، وينتهي نسبه إلى مذحج من قبائل اليمن، وكان سيد قومه وقائدهم، وكانوا يصدرون عن رأيه، والعرب تعده من حكمائها، وله قصيدة دالية تدل على حكمة وصدق نظر؛ منها قوله:

إن النجاة إذا ما كنت ذا بَصرٍ
من أجَّة الغَي إبعادٌ فإبعاد
والخير تزداد منه ما لقيت به
والشر يكفيك منه قَلَّما زاد
والبيت لا يُبْتَنَى إلا له عَمدٌ
ولا عمادَ إذا لم تُرْسَ أوتاد
فإن تجمَّع أوتادٌ وأعمدةٌ
وساكنٌ بلغوا الأمر الذي كادوا
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
ولا سراةَ إذا جُهَّالهم سادوا
تُلفى الأمور بأهل الرأي ما صلحت
فإن تولوا فبالأشرار تنقاد
إذا تولى سراة الناس أمرهم
نمى على ذاك أمر القوم فازدادوا

ومن حماسياته قوله:

نقاتل أقواما فنَسْبِي نساءهم
ولم يرَ ذو عِزٍّ لنسوتنا حَجْلا
نقود ونأبى أن نُقَاد ولا ترى
لقوم علينا في مكارمهم فضلا
وإنَّا بطاء المشي عند نسائنا
كما قَيَّدت بالصيف نجديَّةٌ بزْلا

وقد جمعت أقواله في الأغاني ٤٤ ج١١ وشعراء النصراينة ٧٠ والشعر والشعراء ١١٠ وله أبيات متفرقة في كتب الأدب ونحوها وليس له ديوان مجموع.

(٢-٢) المهلهل بن ربيعة (توفي نحو سنة ٥٣١م)

هو عدي بن ربيعة التغلبي أخو كليب من نجد من الطبقة الأولى، وهو خال امرئ القيس الشاعر الملك، وكان المهلهل فصيحًا شديد البأس في الحروب، وقد شهد حرب يوم السلان مع أخيه كليب، وأبلى بلاءً حسنًا، وكان المهلهل في أول أمره صاحب لهو، كثير المحادثة للنساء، فسماه أخوه كليب «زير النساء» أي جليسهن، ولم يكن يرجو منه خيرًا، فلما قُتل كليب في أمر البسوس المشهور،١٧ كان المهلهل يعاقر الخمر، فهاجه مقتل أخيه وذهب إلى قومه واستحثهم على الأخذ بالثأر، وجز شعره وقصر ثوبه، وهجر النساء وترك الغزل، وحرم القمار والشراب، ونهض للحرب، وما أشبه عمله هذا بعمل ابن أخته امرئ القيس، ولعل هذا ورث الشاعرية عن خاله؛ لأن كليهما وصَّاف ومستنبط، وطالت الحروب بين بكر وتغلب نحو أربعين سنة كان النصر فيها سجالًا ثم تصافوا واصطلحوا.

وكان المهلهل في أثناء ذلك يقول الشعر على مقتضيات الأحوال بين فخر وحماسة وغيرهما … فمن ذلك قوله يوم علم بمقتل أخيه وجاء إلى قومه فرأى النساء يبكين، فقال: «استبقين للبكاء عيونًا إلى آخر الأبد» وقال وهو أول شعره:

كنا نغار على العواتق أن ترى
بالأمس خارجةً عن الأوطان
فخرجن حين ثوى كليبٌ حُسرًا
مستيقناتٍ بعده بهوان
فترى الكواعب كالظباء عواطلًا
إذ حان مصرعه من الأكفان
يخمُشن من أدَمِ الوجوه حواسرًا
من بعده ويَعِدْنَ بالأزمان
متسلبات نُكدهن وقد وَرى
أجوافَهن بحرقة ووراني

ثم تخلص إلى الرثاء والوعيد بالثأر، ومن مراثيه في أخيه قوله من قصيدة:

كليبُ لا خير في الدنيا ومن فيها
إن أنت خلَّيتها فيمن يخلِّيها
كليب أي فتى عزٍّ ومكرمة
تحت السقائف إذ يعلوك سافيها
نعى النعاةُ كليبًا لي فقلت لهم
مادت بنا الأرض أم مادت رواسيها
ليت السماء على من تحتها وقعت
وانشقَّت الأرض فانجابت بمن فيها

ومن أقواله قصيدته المعدودة من المنتقيات ومطلعها:

حَلَّتْ ركاب البغي من وائلٍ
في رهط جَسَّاسٍ ثقال الوسوق

والعرب تسميها الداهية، وقد وضع القصاصون قصة حماسية بطلها المهلهل تُعرف بقصة الزير، كما وضعوا قصة عنترة ولكنها متأخرة وعبارتها أقرب إلى العامية، وللمهلهل ذكر في تاريخ الشعر العربي فإنه أول من طول قصائده كما تقدم.

وقد جُمعت أشعاره في ديوان، وهو أقدم شاعر جُمع له ديوان ولم يصل إلينا هذا الديوان، ولكن بعض المعاصرين جمع له ديوانًا أخذه من أقواله في كتب الأدب وغيرها ولم نقف عليه، ولكنك تجد معظم أشعاره في الأغاني ١٤٨ ج٤ وخزانة الأدب ٣٠٠ ج١ والشعر والشعراء ١٦٤ والجمهرة ١٦٥ وفي تاريخ ابن الأثير ومعجم ياقوت ومعجم البكري وشعراء النصرانية ١٦٠ وفي ديوان الحماسة وغيرها.

(٢-٣) عبد يغوث (توفي سنة ٥٨٠م)

هو عبد يغوث بن صلاءة من بني الحارث بن كعب من كهلان، كان فارسًا سيدًا لقومه، وكان قائدهم في يوم الكلاب الثاني إلى بني تميم وقد أُسر يومئذ وقُتل، وهو عريق في الشاعرية ونبغ من أهله غير شاعر وكلهم فحول، وأحسن شعره قصيدة قالها وهو يتأهب للموت، وكان قد أُسر وشُدَّ لسانه بنسعة، وخيروه في الطريقة التي يريد أن يُقتل بها فقال: «اسقوني الخمر ودعوني أنح على نفسي» فسقوه وقطعوا له عرق الأكحل وتركوه ودمه ينزف ومعه ابناه، فجعلا يلومانه على ما أركبهما من المشاق فنظم هذه القصيدة ومطلعها:

ألا لا تلوماني كفى اللوم ما بيا
فما لكما في اللوم نفعٌ ولا ليا

ومنها قوله:

أقول وقد شدوا لساني بنِسْعَةٍ
أمعشرَ تَيْمٍ أطلقوا عن لسانيا
أمعشر تيم قد ملكتم فأسْجِحوا
فإن أخاكم لم يكن من بَوانيا
فإن تقتلوني تقتلوا بي سيدًا
وإن تطلقوني تحربوني بماليا
أحقًّا عباد الله أن لست سامعًا
نشيد الرِّعاء المُعْزِ بين المتاليا
وقد كنت نحَّار الجَزور ومُعمل الـ
ـمَطِيِّ وأمضي حيث لا حيَّ ماضيا
وأنحرُ للشَّرْب الكرام مطيتي
وأصدع بين القَيْنَتَيْنِ ردائيا
وعاديةٍ سَوْمَ الجراد وزعْتُها
بكفي وقد أنحوا إليَّ العَواليا
كأني لم أركب جوادًا ولم أقل
لخيليَ كُرِّي نفِّسي عن رجاليا
ولم أسبأ الزِّقَّ الرَّويَّ ولم أقل
لأيسار صدقٍ: أعظموا ضوءَ ناريا

وأخباره في الأغاني ٧٣ ج١٥ وخزانة الأدب ٣١٧ ج١ وشعراء النصرانية ٧٥ والكامل لابن الأثير ومعجم البلدان وغيرها.

(٢-٤) زهير بن جناب (توفي سنة ٥٠٠م)

هو زهير بن جناب الكلبي من قضاعة، وهو من مشاهير أمراء العرب في الجاهلية، وُلد في آخر القرن الرابع للميلاد وعمِّر طويلًا ربما بلغ عمره ١٥٠ سنة، وله حروب كثيرة مع قبائل العرب وتولى الإمارة على بكر وتغلب لصاحب اليمن، وما زال عليهم حتى حاولوا الاستقلال من اليمن كما تقدم.

ولما كبر زهير وشاخ ثقلت همته وكُف بصره، وظل مع ذلك مقدمًا عند ملوك اليمن والشام، وكان الغساسنة يستشيرونه حتى توفي نحو سنة ٥٠٠ وهو من أقدم الشعراء وأجودهم ولم يصلنا من شعره إلا القليل، هذه أمثلة منه في الحماسة:

أبَى قومنا أن يقبلوا الحق فانتهوا
إليه وأنياب من الحرب تُحرَق
فجاءوا إلى رَجْراجةٍ مستميزة
يكاد المُرنِّي نحوها الطرف يصعقُ
دروعٌ وأرماح بأيدي أعزةٍ
وموضونة مما أفاد مخرِّق
وخيلٌ جعلناها دخيلَ كرامةً
عَقَارًا ليوم الحرب تُحفى وتغبق
فما برحوا حتى تركنا رئيسهم
يُعفِّر فيه المضرحيُّ المذلِّق

ويقال: إنه صاحب البيت المشهور:

إذا قالتَ حذام فصدقوها
فإن القول ما قالتْ حذام

وجاءت أخباره في الأغاني ١٧ ج٣ والشعر والشعراء ٢٢٣ وشعراء النصرانية ٢٠٥ وأمثال الميداني وغيرها.

(٢-٥) عامر بن الطفيل العامري (توفي سنة ٦٣٣م)

هو ابن عم لبيد الشاعر، وكان فارس قيس وسيدهم، وكان عقيمًا لا يولد له، ومن جيد شعره في الحماسة قوله:

وما الأرض إلا قيسُ عَيْلان أهلُها
لهم ساحتاها سهلها وحُزومها
وقد نال آفاقَ السموات مجدنا
لنا الصحوُ من آفاقها وغيومها

ومن قوله في الفخر:

فإني وإن كنت ابنَ فارس عامرٍ
وسيدَها المشهورَ في كل موكب
فما سودتني عامرٌ من وراثةٍ
أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
ولكنني أحمي حماها وأتقي
أذاها وأرمي من رماها بمنكب
ولعامر المذكور ديوان أخذت في نشره لجنة تذكار جيب الإنجليزية مع ديوان عبيد بن الأبرص بعناية المستشرق لايل Lyall وله أخبار في الشعر والشعراء ١٩١ والأغاني ٤٦ ج١٠ وخزانة الأدب ٤٩٢ ج٣.

(٢-٦) أبو قيس بن الأسلت

هو عامر بن جشم من الأوس وهو سيدهم أسندوا إليه حروبهم وجعلوه رئيسًا عليهم في حرب يوم بعاث، فقام فيها خير قيام، ومن شعره قوله في امرأة خفرة:

ويُكرمها جاراتُها فيزرنها
وتعتل عن إتيانهن فتُعْذَرُ
وليس لها أن تستهين بجارةٍ
ولكنها منهن تحيا وتَخْفَرُ

وهو من أصحاب المذهبات ومطلع مذهبته:

قالت ولم تقصد لقول الخَنَى
مهلًا فقد أبلغتَ أسماعي

وأخباره في الأغاني ١٦٠ ج١٥ والجمهرة ١٢٦.

(٢-٧) الحصين بن الحمام (توفي سنة ٦٢١م)

هو الحصين بن الحمام بن ربيعة سيد بني سهم بن مرة من قيس، وكان يُعرف بمانع الضيم، وأحسن ما وصل إلينا من أقواله قصيدة حماسية فخرية قالها على أثر نصر في موضع يقال له دارة موضوع، مطلعها:

جَزَى اللهُ أفناءَ العشيرة كلها
بدارة موضوعٍ عقوقًا ومأثما

وهي من جملة المفضليات التي اختارها المفضل الضبي، أخباره في الأغاني ١٢٣ ج١٢ والشعر والشعراء ٤١٠ وشعراء النصرانية ٧٣٣ والسيرة النبوية لابن هشام والحماسة والعمدة.

(٢-٨) قيس بن عاصم

من تميم ويكنَّى أبا علي، وهو شاعر فارس شجاع حكيم كثير الغارات مظفر في غزواته، أدرك الجاهلية والإسلام وساد فيهما، وهو أحد من وأد بناته في الجاهلية، وله حديث عن إحدى بناته يؤثر في النفس١٨ وكان مشهورًا بالكرم لا يستطيع الأكل وحده، ومن نظمه في ذلك قوله وقد جاءته امرأته بالطعام:
أيا ابنة عبد الله وابنة مالكٍ
ويا ابنة ذي البُرْدين والفرس الورد
إذا ما صنعتِ الزاد فالتمسي له
أكيلًا فإني لست آكله وحدي
أخًا طارقًا أو جارَ بيتٍ فإنني
أخاف ملاماتِ الأحاديث من بعدي
وإني لعبد الضَّيف من غير ذلة
وما بيَ إلا تلك من شِيَمِ العبد

وعنه يروون وصية أوصى بها أولاده، ضرب لهم فيها مَثل الاتحاد بالرماح إذا ضُمت معًا يعسر كسرها وإذا تفرقت كُسرت.

وأخبار قيس في الأغاني ١٤٩ ج١٢ وخزانة الأدب ٤٢٨ ج٣ والمستطرف ٩٧ ج١ والعقد الفريد ١٦٤ ج١.

ومن الشعراء الأمراء أيضًا:
  • (١)

    ورقاء بن زهير الغطفاني سيد بني عبس. ترجمته في الأغاني ٨ ج١١.

  • (٢)

    حجر بن عمرو والد امرئ القيس. ترجمته في شعراء النصرانية ص١.

  • (٣)

    أمية بن الأسكر التيمي (مضر) ترجمته في الأغاني ١٥٦ ج١٨.

  • (٤)

    منظور بن زبان سيد فزارة وقائدهم، ترجمته في الأغاني ٥٥ ج١١.

  • (٥)

    الأخشن بن شهاب من سادات تغلب. ترجمته في شعراء النصرانية ١٨٤.

  • (٦)

    دريد بن الصمة (توفي سنة ٦٣٠) من هوازن سيد جشم، وهو من أصحاب المنتقيات، ترجمته في الأغاني ٢ ج٩، والشعر والشعراء ٤٧٠، وشعراء النصرانية ٧٥٢، والجمهرة ١١٧.

وقد ذكرنا بجانب كل واحد من هؤلاء المأخذ الذي يمكن الرجوع إليه في مطالعة خبره أو أمثلة من شعره، ولهم أخبار وأشعار أيضًا في سائر كتب الأدب … وخصوصًا الشعر والشعراء والحماسة.

(٣) الشعراء الفرسان

هم أكثر شعراء الجاهلية؛ لأن الفروسية والحرب من طبائع أهل البادية، وقَل من الشعراء من لم يركب أو يغزُ، ولكننا اختصصنا في هذا الفصل من غلبت عليهم الفروسية، وفيهم الفرسان المشهورون وغير المشهورين، وهم نحو ٤٠ فارسًا، لو أردنا إيراد تراجمهم لاستغرق ذلك مكانًا كبيرًا مع قلة الحاجة إلى التفصيل في هذا المقام، فنكتفي بذكر الأشهر منهم أو من كان له ديوان محفوظ يمكن الرجوع إليه، ونكتفي فيمن بقي منهم بذكر المآخذ التي يمكن الرجوع إليها في مطالعة أخبارهم، وهاك تراجم الأشهر:

(٣-١) أبو محجن الثقفي (توفي سنة ٦٥٠م)

هو فارس شجاع يُنسب إلى ثقيف، وكان مولعًا بالشراب، وقد أدرك الإسلام فهو مخضرم، وحبسه سعد بن أبي وقاص لشرب الخمر، واتفق بعد قليل أن المسلمين أصابهم جهد في القادسية، وكان عند أم ولد لسعد المذكور، فهاجت حماسته ونظم هذه الأبيات:

كفَى حزنًا أن تُطْعَنَ الخيلُ بالقنا
وأترَكَ مشدودًا عليَّ وثاقيا
إذا قمت عَنَّاني الحديد وغُلِّقت
مغاليقُ من دوني تصم المناديا
وقد كنت ذا أهلٍ كثير وإخوة
فقد تركوني واحدًا لا أخا لِيا
هلم سلاحي لا أبا لك إنني
أرى الحرب لا تزداد إلا تماديا

ثم احتالت أم ولد سعد المذكور في اطلاق سراحه، ومن قوله في حب الخمر:

إذا مت فادفني إلى جَنْبِ كَرمةٍ
تروِّي عظامي بعد موتي عروقُها
ولا تدفنني بالفلاة فإنني
أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها

ولأبي محجن ديوان شعر مطبوع في لندن سنة ١٨٨٧، ومنه نسخة خطية في دار الكتب المصرية، وأخباره متفرقة في الشعر والشعراء ٢٥١، وخزانة الأدب ٥٥٣ ج٣، وفي الأغاني وغيره.

(٣-٢) الأغلب العجلي (توفي سنة ٦٤٣م)

هو الأغلب بن عمرو من جشم من بني عجل من ربيعة، وهو أحد المعمرين في الجاهلية، وأدرك الإسلام وأسلم، وكان في جملة من توجه إلى الكوفة مع سعد بن أبي وقاص، ومات في واقعة لها وُلد سنة ٢١ﻫ، وهو أول من رجز الأراجيز الطوال … فقد كان العرب ينشدون الرجز في الحرب والحداء والمفاخرة فيأتون منه بأبيات يسيرة، ثم جاء الأغلب فكان أول من قصد الرجز وأطاله ثم سلك الناس طريقته، والإسلام لم يمنعه من النظم كما منع لبيدًا، وقد تقدم خبر ذلك في ترجمة لبيد، ولم نقف له على شعر أو خبر غير ما في الأغاني ١٦٤ ج١٨، والشعر والشعراء ٣٨٩، وخزانة الأدب ٣٣٣ ج١.

(٣-٣) حاتم الطائي (توفي سنة ٥٠٦م)

هو حاتم بن عبد الله من قبيلة طي ويكنى أبا سفانة، وهو من أجواد العرب وله أخبار في السخاء مشهورة حتى جرى ذكره مجرى الأمثال، فيقال: «أجود من حاتم طيء» وكانت والدته من أسخى الناس حتى اضطر إخوتها أن يحجروا على أموالها خوفًا من تبذيرها، وكانت ابنته سفانة سخية أيضًا، فكان أبوها يعطيها القطعة بعد القطعة من إبله فتهبها للناس، وكان حاتم مع ذلك شاعرًا وشجاعًا، ويشبه جوده شعره، وإذا قاتل غلب، وإذا غنم أنهب، وإذا سابق سبق، وكان إذا أهل الشهر الأصم الذي كانت مضر تعظمه في الجاهلية وتنحر له، ينحر في كل يوم عشرة من الإبل فيطعم الناس، وكانت الشعراء تفد عليه كالحطيئة وبشر بن أبي حازم، ويروون عن سخاء حاتم وقائع يغلب أن تكون موضوعة أو مبالغًا فيها؛ لتمثيل فضيلة السخاء وتحبيبها إلى الناس من قبيل الشعر التمثيلي وقد أشرنا إلى ذلك في كلامنا عن أقسام الشعر عند اليونان، ومن أقواله في السخاء:

أماويَّ قد طال التجنب والهجر
وقد غَدَرتني في طلابكم الغدر
أماويَّ إن المال غاد ورائح
ويبقى من المال الأحاديث والذِّكْر
أماويَّ إني لا أقول لسائل
إذا جاء يومًا حلَّ في مالنا النذر
أماويَّ إما مانع فمُبَينٌ
وإما عطاءٌ لا ينهنهه الزجر
أماويَّ ما يغني الثراءُ عن الفتى
إذا حشرجت نفس وضاق بها الصدر

وقوله:

إذا كان بعض المال ربًّا لأهله
فإني بحمد الله مالي معبَّد

أخذه ابن يعفر فقال:

ذريني أكن للمال ربًّا ولا يكن
ليَ المال ربًّا تحمدى غِبَّه غدا
أريني جوادًا مات هَزْلًا لعلني
أرى ما تَرَيْنَ أو بخيلًا مخلَّدا

ويستحسن له قوله:

ألا أبلغا وَهْمَ بن عمرو رسالةً
فإنك أنت المرء بالخير أجدرُ
رأيتك أدنى من أناسٍ قرابةً
وغيرًك منهم كنت أحبو وأنصر
إذا ما أتى يومٌ يفرق بيننا
بموتٍ فكن أنت الذي يتأخر

ولحاتم ديوان مطبوع في لندن سنة ١٨٧٢ بعناية المرحوم رزق الله حسون، وطُبع أيضًا في بيروت، وأخباره منثورة في الأغاني ٩٦ ج١٦، والشعر والشعراء ١٢٣، وخزانة الأدب ٤٩٤ ج١، والمستطرف ١٣٧ ج١، والعقد الفريد ٨١ ج١، وشعراء النصرانية ٩٨.

(٣-٤) زيد الخيل

هو زيد بن مهلهل من طي، وكان رجلًا جسيمًا طويلًا جميلًا فارسًا مغوارًا مظفرًا شجاعًا بعيد الصيت في الجاهلية، وأدرك الإسلام وَوَفَد على النبي … فسُرَّ به ولَقَبَهُ وقرظه وسماه زيد الخير، وهو شاعر مقل لأنه إنما كان يقول الشعر في مفاخراته ومغازيه وأياديه عند من مر عليه وأحسن في قراه إليه، وقد سمي زيد الخيل لكثرة خيله يوم لم يكن لسواه من العرب إلا الفرس والفرسان، فكانت له خيل كثيرة … منها المسماة المعروفة التي ذكرها في شعره وهي ستة: الهطال، والكميت، والورد، وكامل، ودوول، ولاحق، وله في كل منها شعر وكان له ثلاثة بنين كلهم شاعر، وأكثر أشعاره في الحماسة والفخر وذكر المواقع والطعن والضرب كقوله:

إنا لنكثر في قيسٍ وقائعنا
وفي تميمٍ وهذا الحيِّ من أسَد
وعامرُ بن طفيل قد نحوت له
صَدْر القناة بماضي الحدِّ مطَّرد
لما أحسَّ بأن الوَرْدَ مدركه
وصارمًا وربيط الجأش ذا لِبَدِ
نادى إليَّ بسِلْمٍ بعد ما أخذت
منه المنية بالحَيْزوم واللَّغُدِ
ولو تصبَّر لي حتى أخالطه
أسْعرته طعنةً كالنار بالزنَدِ

وجرت بينه وبين بعض القبائل معركة أُسر فيها الحطيئة الشاعر فحبسه وضيق عليه، وقال في ذلك:

أقول لعبدي جرولٍ إذ أسرته
أثِبْني ولا يغررك أنك شاعرُ
أنا الفارس الحامي الحقيقة والذي
له المكرمات واللُّهي والمآثر
وقومي رءوس الناس والرأس قائد
إذا الحرب شَبَّتها الأكفُّ المساعر
فلست إذا ما الموت حوذر وِرْده
وأتْرِع حَوْضاه وحمِّجَ ناظر
بوقَّافةٍ يخشى الحتوف تهيبا
يباعدني عنها من القبِّ ضامر
ولكنني أغْشَى الحتوف بصعْدتي
مجاهرة إن الكريم يجاهر
وأروي سناني من دماء عزيزةٍ
على أهلها إذ لا تُرَجَّى الأياصر

ولا نعرف لزيد الخيل ديوانًا مجموعًا ولكن أخباره منثورة في الأغاني ٤٧ ج١٦، والشعر والشعراء ١٥٦، والدميري ٢٠١ ج١، وخزانة الأدب ٤٨٨ ج٢.

(٣-٥) سلامة بن جندل التميمي (توفي سنة ٦٠٨م)

هو شاعر جليل من قدماء الشعراء، وكان من فرسان تميم المعدودين وأخوه أحمر مثله، شعره سلس يستشهد به أهل اللغة؛ لمتانته، وكان معاصرًا لعمرو بن هند صاحب الحيرة والنعمان أبي قابوس وله فيهما أشعار، ومن أحسن شعره قصيدته التي مطلعها:

يا دار أسماء بالعلياء من أضمٍ
بين الدَّكادك من قوٍّ فمَعصوبِ
كانت لنا مرة دارًا فغيَّرها
مَر الرياح بساقي التُّربِ مجلوب

وترى أمثلة من شعره في كتاب الشعر والشعراء ١٤٧، وشعراء النصرانية ٤٨٦، وخزانة الأدب ٨٦ ج٢، ومعجم البلدان.

(٣-٦) علقمة الفحل

هو علقمة بن عبدة من تميم، وكان معاصرًا لامرئ القيس وينازعه الشعر، وتحاكما إلى أم جندب زوجة امرئ القيس، فقالت لهما أنظما قصيدتين من وزن واحد وقافية واحدة تصفان بها الخيل، فنظم امرؤ القيس قصيدته التي مطلعها:

خليليَّ مُرَّا بي على أم جُنْدَبِ
لنقضي لُبانات الفؤاد المعذَّب

ونظم علقمة قصيدة مطلعها:

ذهبتَ من الهجران في كلِّ مذهب
ولم يك حقًّا كل هذا التجنُّبِ

وأنشداها القصيدتين فحكمت لعلقمة لأن امرأ القيس قال في وصف سرعة الفرس:

فللسوط ألهوب وللساق دِرَّة
وللزَّجر منه وقع أهوج مَنِعْبِ١٩

وقال علقمة:

فأدركهنَّ ثانيًا من عِنانه
يمرُّ كمر الرائح المتحلِّبِ

ومرجع حكمها إلى أن امرأ القيس أجهد فرسه بسوطه وساقه، أما علقمة فإن فرسه أدرك طريدته وهو ثان عنانه … فغضب امرؤ القيس وطلق امرأته فتزوجها علقمة!

ومن جيد شعره قوله:

فإن تسألوني بالنساء فإنني
بَصيرٌ بأدواء النساء طبيبُ
إذا شاب رأسُ المرء أو قلَّ ماله
فليس له في ودِّهن نصيب
يُرِدْنَ ثراء المال حيث عَلِمْنَه
وشَرْخُ الشباب عندهن عجيب
ولعلقمة ديوان مطبوع في ليبسك سنة ١٨٦٧ مع تعاليق بعناية ألبرت سوسين Socin وطُبع في بيروت في بضع عشرة صفحة، وله أخبار متفرقة في خزانة الأدب ٥٦٥ ج١، والأغاني ١٢٨ ج٧، وشعراء النصرانية ٤٩٨، والشعر والشعراء ١٠٧، والعمدة وسائر كتب الأدب.

(٣-٧) عمرو بن معدي كرب (توفي سنة ٦٤٣م)

هو من زبيد من مذحج (كهلان) فارس من فرسان اليمن أو هو فارس اليمن ويقدمونه على زيد الخيل في البأس، وقد أدرك الإسلام وأسلم وجاهد حتى مات في آخر خلافة عمر بن الخطاب، وهو ممن يصدق عن نفسه في شعره فلا يفاخر بالمحال، ومن ذلك قوله:

ولقد أجمع رجلِّي بها
حذَر الموت وإني لفَرورُ
ولقد أعطفها كاوهة
حين للنفس من الموت هَرِيرُ
كل ما ذلك مني خلق
وبكلٍّ أنا في الروع جدير

ومن أشعاره الذاهبة مذهب الأمثال قوله:

إذا لم تستطع شيئًا فدعه
وجاوزه إلى ما تستطيع
وصله بالزَّماعِ فكلُّ أمر
سما لك أو سموتَ له ولوع

وأخباره في الأغاني ٢٥ ج١٤، والشعر والشعراء ٢١٩، وخزانة الأدب ٤٢٥ ج١، والمستطرف ١٧٩ ج١.

(٣-٨) قيس بن الخطيم (توفي سنة ٦١٢م)

هو شاعر فارس من الأوس، اعتدى رجل من الخزرج على أبيه وهو غلام فقتله، وعلم أن جده قتله رجل من عبد القيس … فلما عرف موضع ثأره لم يزل يلتمس غرة من قاتل أبيه وجده في المواسم، فظفر بقاتل أبيه في يثرب فقتله وظفر بقاتل جده في ذي المجاز، ولكنه رآه في ركب عظيم فاستنجد خداش بن زهير فنهض معه ببني عامر حتى أتوا القاتل، فطعنه قيس بحربة قتلته وفرَّ، فأراد رهط الرجل أن يتبعوه فمنعهم بنو عامر، وفي ذلك يقول قيس:

ثأرت عَدِيًّا والخَطيم فلم أضِعْ
ولايةَ أشياخٍ جُعلت إزاءها
ضربت بذي الزُّجَّين ربقةَ مالك
فأبْت بنفسٍ قد أصبتُ شفاءها
وسامحني فيها ابن عمرو بن عامر
خِدَاشٌ فأدَّى نعمةً وأفادَها
طعنتُ ابن عبدِ القيس طعنة ثائرٍ
لها نَفَذٌ لولا الشعاع أضاءها
ملكتُ بها كفي فأنْهرْت فَتْقَهَا
يرى قائم ٌمن دونها ما وراءها

وهو معدود من أصحاب المذهبات، ومطلع مذهبته:

أتعرف رسمًا كاطِّراد المذاهب
لعمرة وَحْشًا غير موقف راكب
تبدَّت لنا كالشمس تحت غمامةٍ
بدا حاجبٌ منها وَضنَّتْ بحاجب

ومن أقواله في الفخر:

ونحن الفوارس يوم الربيـ
ـعِ قد علموا كيف فرسانها

ولقيس بن الخطيم ديوان منه نسخة خطية في دار الكتب المصرية، وله أخبار متفرقة في كتب الأدب وخصوصًا الأغاني ١٥٩ ج٢ والجمهرة ١٢٣.

(٣-٩) سائر الشعراء الفرسان

ومن الشعراء الفرسان أيضًا طائفة، أخبارهم قليلة أو ليس لهم دواوين محفوظة، فنكتفي بذكر المصادر التي يمكن الرجوع إليها في تراجمهم وأخبارهم:
اسم الشاعر أسماء المصادر
أحيحة بن الجلاح (توفي سنة ٥٦١م) من الأوس ومن أصحاب المذهبات الأغاني ١١٩ ج١٣.
جحدر بن ضبيعة من بكر وائل (٥٣٠) شعراء النصرانية ٢٦٨
أفنون هو ضريم بن معشر من تغلب شعراء النصرانية ١٩٢ والشعر والشعراء ٢٤٨
بسطام بن قيس الشيباني من بكر شعراء النصرانية ٢٥٦
جابر بن حني التغلبي (٥٦٤) شعراء النصرانية ١٨٨
الحارث بن الطفيل وفد على كسرى الأغاني ٥٣ ج١٢
خفاف بن ندبة السلمي من قيس الأغاني ١٣٩ ج١٦ وخزانة الأدب ٨١ ج٢
ذو الإصبع العدواني (٦٠٢) الأغاني ٢ ج٣ وخزانة الأدب ٤٠٨ ج٢ وشعراء النصرانية ٦٢٥
الربيع بن زياد العبسي (٥٩٠) الأغاني ٢٠ ج١٦ وشعراء النصرانية ٧٨٧
زهير التميمي من أشراف مازن الأغاني ١٥٦ ج١٩
الحارث بن عباد من بكر بن وائل شعراء النصرانية ٢٧٠
صخر بن عبد الله من هذيل الأغاني ٢٠ ج٢٠
العباس بن مرداس وأخوه سراقة الشعر والشعراء ١٦٦ج و٤٦٧ والأغاني ٦٤ ج١٣ وخزانة الأدب ٧٣ ج١
عبدة بن الطبيب تميم الأغاني ١٦٣ ج١٨ والشعر والشعراء ٤٥٦
سويد بن أبي كاهل يشكر الأغاني ١٧١ ج١١ وشعراء النصرانية ٤٢٥ والشعر والشعراء ٢٥٠
عمرو بن العجلان هذيل الأغاني ٢٢ ج٢٠
الفند الزماني (٥٣٠) بكر الأغاني ١٤٣ ج٢٠ وخزانة الأدب ٥٨ ج٢ وشعراء النصرانية ٢٤١
متمم بن نويرة من أصحاب المراثي الأغاني ٦٦ ج١٤ وابن خلكان ١٧٢ ج٢ والشعر والشعراء ١٩٢ وخزانة الأدب ٢٣٦ ج١ والجمهرة ١٤١
نبيه بن الحجاج قريش خزانة الأدب ١٠١ ج٣
كعب بن سعد الغنوي قيس الخزانة ٦٢١ ج٣ وشعراء النصرانية ٧٤٦

(٤) الشعراء الحكماء

نريد بالحكماء من الشعراء الذين كان لهم علم غير الشعر وكانت له حكمة، وقد دخل بعضهم في طبقة الشعراء والأمراء وفي أصحاب المعلقات كالأفوه الأودي وزهير بن أبي سلمى، ونحن ذاكرون فيما يلي من غلبت فيه الحكمة على سواها مع الشاعرية.

(٤-١) أمية بن أبي الصلت (توفي سنة ٦٢٤م)

يتصل نسبه بثقيف، وكان عالمًا بغير العربية على ما يظهر … فاطلع على كتب القدماء وخصوصًا التوراة وقد أورد في شعره ألفاظًا غريبة لم تكن العرب تعرفها، وكان يسمي الله في بعض أشعاره «السلطيط» وفي بعضها «التغرور» فربما اقتبسهما من الحبشة أو صاغهما على صيغ تلك اللغة، فالأحباش يسمون الله في اللغة الأمهرية «أغزا بهر» فلعلها كانت قبلًا أقرب إلى لفظ التغرور، والسلطيط نظنها صيغة من تلك اللغة صاغ عليها اسمًا من السلطة.٢٠

وكان أمية مفطورًا على التدين، فلقي في تجارته إلى الشام بعض أهل الدين، فزهد في الدنيا ولبس المسوح وتعبد، وقد ذكر إبراهيم وإسماعيل والحنيفية ووصف الجنة والنار في شعره وحرم الخمر وشك في الأوثان وطمع في النبوة، وكان العرب ينتظرون نبيًّا يهديهم، فكان يرجو أن يكون هو، فلما ظهر النبي أسقط في يده، وقال: «إنما كنت أرجو أن أكونه» ولكنه ما انفك يختلف إلى الأديرة والكنائس يجالس الرهبان والقسوس حتى غلب على ظن البعض أنه مسيحي، ومن قوله وفيه فلسفة:

الحمد لله مُمسانا ومُصبَحَنا
بالخير صبَّحنا ربي ومسَّانا
ربُّ الحنيفة لم تَنْفْدْ خزائنها
مملوءةً طَبَّق الآفاقَ سلطانا
ألا نبيُّ لنا منَّا فيخبرَنا
ما بعد غايتنا من رَأسِ مَحيانا
بينا يُرَبِّبُنَا آباؤنا هلكوا
وبينما نقتني الأولاد أفْنانا
وقد علمنا لو أنَّ العلم ينقصنا
أنْ سوف يَلحق أخرانا بأولانا

وله قصيدة يصف بها الله وملائكته مطلعها:

لك الحمد والنعماء والملك ربَّنا
فلا شيءَ أعلى منك مجدًا وأمْجَدَ

وبعد أن يصف العزة الإلهية ومجلسها يصف الملائكة بقوله:

ملائكةٌ أقدامهم تحت عرشه
بكفيَّه لولا الله كَلُّوا وأبلدوا
قيام على الأقدام عانين تحته
فرائصهم من شدة الخوف تُرْعَدُ
وسِبْطُ صفوف ينظرون قضاءه
يُصيخون بالأسماع للوحي رُكَّد
أمينٌ لوحي القدس جبريل فيهمُ
وميكالُ ذو الروح القوي المسدَّدُ
وحرَّاس أبواب السماوات دونهم
قيامٌ عليها بالمقاليد رُصَّدُ

وله عدة قصائد في حوادث التوراة كخراب سدود وقصة إسحق وإبراهيم، وله قصيدة معدودة في المجمهرات مطلعها:

عرفت الدار قد أقْوَتْ سنينا
لزينب إذ تحلُّ بها قَطينا
وفي أشعاره معان وأساليب لم تكن العرب تعرفها أخذها من كتب غيره وأدخلها في شعره.٢١

وأخباره في الأغاني ١٨٦ ج٣ و٣ ج٨ و٧١ ج١٦ والدميري ١٥٤ ج٢ وخزانة الأدب ١١٩ ج١ وشعراء النصرانية ٢١٩ والعمدة وغيرها.

(٤-٢) ورقة بن نوفل (توفي سنة ٥٩٢م)

هو ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى من قريش، وهو أحد من اعتزل الأوثان في الجاهلية وقرأ الكتب وامتنع عن أكل ذبائح الأوثان، وكان يكتب اللغة العربية بالحرف العبراني وقد شاخ وكُفَّ بصره، وله ذكر في السيرة النبوية عندما سمع الرسول جبريل يكلمه وجاء خديجة امرأته خائفًا، فسألت ورقة وهو ابن عمها٢٢ عما رآه الرسول فقال:

إنه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى وإنه لنبي هذه الأمة.

وله أشعار كان يغني بها المغنون في صدر الإسلام منها قوله:

ولقد غزوت الحيَّ يُخشى أهله
بعد الهُدُوِّ وبعد ما سقَط النَّدَى
فلتلك لذاتُ الشباب قضيتها
عني فسائلْ بعضَهم ماذا قضى

ومن شعره في التوحيد والدين قصيدة مطلعها:

لقد نصحت لأقوامٍ وقلت لهم
أنا النذير فلا يغرركمُ أحدُ

وقصيدة أخرى مطلعها:

رشدتَ وأنعمت ابنَ عمرو وإنما
تجنبت تَنُّورًا من النار حاميا

وتجد شيئًا من أخباره في السيرة النبوية لابن هشام ٧٦ و٨٠ ج١، والأغاني ١٣ ج٣، وشعراء النصرانية ٦١٦، والسيرة الحلبية ٢٥٦ ج١، ومعجم البلدان.

(٤-٣) زيد بن عمرو (توفي سنة ٦٢٠م)

هو أيضًا من عبد العزى من قريش، وقد اعتزل الأوثان مثل ورقة، وكان يقول: «يا معشر قريش أيرسل الله قطر السماء وينبت بقل الأرض ويخلق السائمة فترعى فيه وتذبحوها لغير الله؟» فأخرجه القرشيون من مكة، ومنعوه أن يدخلها، وكان أشدهم عليه الخطاب بن نفيل والد عمر، وكان قد تخلف عن عبادة الأوثان أربعة من قريش هم: ورقة وزيد المذكوران، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، فاجتمع هؤلاء وتواطأوا على رفض الوثنية، وعلى أن يضربوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم، فلما أجمع زيد على الخروج منعه الخطاب عمه وعاتبه على فراق دين آبائه، ثم خرج سائحًا ويقال: إنه قُتل في الشام، وله أشعار في التدين منها:

وأسلمتُ وجهي لمن أسلمتْ
له الأرض تحمل صَخرًا ثِقالا
دَحاها فلما رآها استوت
على الماء أرسى عليها الجبالا
وأسلمتُ وجهي لمن أسلمت
له المُزْنُ تحمل عَذبًا زلالا
إذا هي سيقت إلى بلدة
أطاعت فصبَّت عليها سجالا

وتجد أخباره في الأغاني ١٥ ج٣، والسيرة النبوية لابن هشام ٧٦ ج١، وشعراء النصرانية ٦١٩، وخزانة الأدب ٩٩ ج٣.

(٤-٤) قس بن ساعدة (توفي سنة ٦٠٠م)

هو من إياد يعدونه من الخطباء، ولكنه كان خطيب العرب وشاعرها وحكيمها في عصره، وهو أسقف من نجران، والمشهور أنه أول من علا على شرف وخطب عليه، وأول من قال: «أما بعد»، وينسبون إليه قوله: «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر»، وقد أدركه الرسول ورآه في عكاظ فكان يروي عنه كلامًا سمعه منه، وكان فصيحًا يضرب المثل بفصاحته، وكان يفد على قيصر زائرًا فيكرمه ويعظمه، ولكنه كان زاهدًا في الدنيا ينظر إليها نظر الفلاسفة فلا يرغب في البقاء فيها كما يؤخذ من خطبته التي قالها في عكاظ ورواها أبو بكر الصديق وهي مشهورة، ختمها بقوله:

في الذاهبين الأوَّلـ
ـين من القرون لنا بصائْر
لما رأيت مواردًا
للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها
يَمضي الأصاغر والأكابرْ
لا يرجع الماضي ولا
يبقى من الباقين غابر
أيقنت أني لا محا
لة حيث صار القوم صائر

ولعل الذي زهده في الدنيا وكرهها إليه المصيبة التي انتابته بفقد أخوين كانا يعبدان الله معه، فماتا ودفنهما معًا وشق عليه مصابه بهما فكان يتردد على قبريهما ويندبهما، ومن قوله في قصيدة:

خليليَّ هُبَّا طالما قد رقدتما
أجِدَّكما لا تقضيان كراكما
ألم تعلما أني بسَمْعان مفردٌ
وما لي فيها من خليل سواكما
أقيم على قبريكما لست بارحًا
طوال الليالي أو يجيب صَداكما
جرى الموت مجرى اللحم والعظم منكما
كأن الذي يسقي العُقار سقاكما

وله أشعار كثيرة ضاع معظمها وله أقوال جرت مجرى الأمثال وجمعت في كتاب شعراء النصرانية ٢١١ وفي الأغاني ٤١ ج١٤ وخزانة الأدب ٢٦٧ ج١ وغيرها من كتب الأدب والتاريخ والبيان.

(٥) الشعراء العشاق

قل من الشعراء من لم يحرك قلبه الحب، وإذا لم يحركه كان شعره جافًّا قاسيًا، ولذلك فالعشاق من الشعراء كثيرون، ومنهم في الجاهلية طائفة كبيرة: فعنترة عشق عبلة، والمخبل السعدي عشق الميلاء، وحاتم الطائي عشق ماوية، والمرقش الأكبر عشق أسماء، والنمر بن تولب عشق جمرة، وسحيم عبد بني الحسحاس عشق عميرة،٢٣ غير الذين اشتهروا في صدر الإسلام من آل عذرة وغيرهم، وسيأتي ذكرهم عند كلامنا عن الشعر والشعراء في أيام الأمويين.

والحب يحرك الشاعرية ويشحذ القريحة — وخصوصًا مع الغيرة — ليس للشعر فقط، بل في كل ما يفتقر إلى خيال، وبين الشعراء الفرسان الذين ترجمنا لهم غير واحد من المحبين، وكذلك في سائر الطبقات، لكننا خصصنا هذا الباب فيمن لم يكن له باعث على النظم غير العشق، وكان أكثر شعره أو كله في معشوقته، وهذه الطبقة كانت قليلة قبل الإسلام؛ لاشتغال القوم بالحرب عن سواها، ولأن بعض القبائل كانت تحرم الغزل على الإطلاق.

ثم تكاثر الشعراء العشاق بعد الإسلام لانتشار التسري وركون القوم إلى الرخاء، حتى إذا نضج التمدن الإسلامي ودخلت العناصر الأجنبية تحول ذلك إلى التهتك والتخنث كما سيجيء، أما في الجاهلية، فالشعراء المتيمون يُعدون على الأصابع، أشهرهم:

(٥-١) المرقش الأكبر (توفي سنة ٥٥٢م)

اسمه عوف بن سعد بن مالك من بكر وائل، وهو من الشعراء المقدمين، ويمتاز عن أكثر شعراء الجاهلية بأنه كان يعرف الكتابة لأن أباه دفعه وأخاه حرملة إلى نصراني من أهل الحيرة علمهما الخط، ويندر في أهل الجاهلية من فعل ذلك خصوصًا الشعراء، فإن معولهم في حفظ أشعارهم على الرواة، ويختلف عن أكثر شعراء الجاهلية بأنه مات متيمًا، وسبب موته أنه كان يهوى ابنة عم له اسمها أسماء عشقها وهو غلام، فقال له عمه: «لا أزوجك حتى تُعرف بالبأس» فسافر المرقش في طلب العلا، وأُصيب عمه في أثناء غيابه بضيق فأتاه رجل من بني مراد أطمعه بالمال فزوجه أسماء على مائة من الإبل، فلما عاد المرقش أخفوا خبر الزواج عنه، ثم اكتشف خبره، فركب في طلب ذلك المرادي مع صديق له من غفيلة، فمرض في الطريق فنزلا كهفًا في أسفل نجران، وهي أرض مراد ومعه صديقه الغفيلي وامرأته، وسمعهما يتآمران على تركه يأسًا من شفائه … فاختلس فرصة كَتب فيها على مؤخر الرحل هذه الأبيات:

يا صاحبيَّ تلبَّثا لا تعجلا
إن الرَّواح رهينُ أن لا تعذلا
يا راكبًا إما عرضت فبلِّغنْ
أنسَ بن سعد أن لقيتَ وحَرْمَلا
لله دَرُّكما ودر أبيكما
إن أفلت العبدان حتى يُقْتَلا
من مبلغُ الأقوام أن مرقشًا
أضحى على الأصحاب عِبئًا مُثْقَلا
وكأنما ترد السباع بشِلوِهِ،
إذ غابَ جمعُ بني ضُبَيْعَة، منهلا

ورأينا بعض الأبيات يُنسب إلى المهلهل أيضًا، وانطلق الغفيلي حتى أتى أهله وأخبرهم أن المرقش مات، ولكن أخاه حرملة قرأ ما على الرحل، فشك في صدق الرجل واستنطقه فاعترف له بالحقيقة فركب في طلبه … فلما بلغ الكهف أخبر أن المرقش علم وهو هناك بوجود أسماء وزوجها، فاحتال حتى حمل إليهما في حديث طويل ولم يطل مكثه فمات عندهما، وقال في موته شعرًا مطلعه:

سرى ليلًا خيالٌ من سُليمى
فأرَّقني وأصحابي هجود

وهو من أصحاب المنتقيات … وله أقوال في الحماسة يصف بها بعض المعارك وأخرى في الفخر … ومن أحسن شعره في الحماسة قصيدته التي استهلها بذكر حبيبته:

أمن آل أسماءَ الطلول الدوارس
تخطِّط فيها الطير، قَفْرٌ بَسابس

ثم تخلص إلى وصف خروجه وسفره، وقصيدة أخرى في وصف الطلول ونجائب الإبل وغيرها، واتصل المرقش الأكبر بالحارث بن أبي شمر الغساني، ونادمه سنة ٥٢٤ ومدحه.

وترى أشعاره وأخباره في الأغاني ١٨٩ ج٥، والشعر والشعراء ١٠٢، وشعراء النصرانية ٢٨٢، وخزانة الأدب ٥١٤ ج٣، والجمهرة ١١٢، وغيرها من كتب الأدب.

(٥-٢) عبد الله بن عجلان (توفي سنة ٥٦٦م)

هو من نهد من قضاعة شاعر متيم قتله الحب، وكان له زوجة يقال لها هند طلقها؛ لأنها لم تلد له، فتزوجها غيره، ثم ندم على ذلك ومات أسفًا عليها، وكان سيدًا في قومه وابن سيد من سادتهم، وكان أبوه أكثر بني نهد مالًا، وكان يجدر بنا إدخاله في جملة الشعراء الأمراء لولا تغلب العشق عليه، ومن أقواله فيها:

فارقت هندًا طائعًا
فندمت عند فراقها
فالعين تذري دمعة
كالدر من آماقها
مُتحلِّبًا فوق الردا
ء يجول من رقراقها
خَوْدٌ رَداح طَفْلةٌ
ما الفحش من أخلاقها
ولقد ألذ حديثها
وأُسَرُّ عند عناقها

وله أخبار وأشعار جُمعت في الأغاني ١٠٢ ج١٩، والشعر والشعراء ٤٤٩.

(٥-٣) عروة بن حزام العذري (توفي سنة ٣٠ﻫ)٢٤

هو من الشعراء المتيمين الذين أدركوا الإسلام، وقد قتلهم الهوى، لا يُعرف له شعر إلا في عفراء بنت عمه، وتشبيبه بها وكان قد خطبها من أبيها فوعده ثم زوجها لغيره … فأثر ذلك في مزاجه فضعف واضطرب حتى ظنوا فيه الخبل وأصابه هزال، فرآه ابن مكحول عراف اليمامة فجالسه وسأله عما به وهل هو خبل أو جنون؟ فقال له عروة: «هل لك علم بالأوجاع؟» قال: «نعم» فأنشأ يقول:

وما بيَ من خَبْلٍ ولا بيَ جِنَّةٌ
ولكنَّ عمي يا أُخَيَّ كذوب
أقول لعرَّاف اليمامة داوني
فإنك إن داويتني لطبيبُ
فو اكبدا أمست رُفاتًا كأنما
يلذِّعها بالموقدات طبيبُ
عشيَّةَ لا عفراء منك بعيدةٌ
فتسلو ولا عفراءُ منك قريبُ
فوالله لا أنساك ما هبت الصبا
وما عَقَّبتها في الرياح جَنوبُ
وإني لتغشاني لذكراك هزةٌ
لها بين جلدي والعظام دبيبُ

وقال يخاطب صديقين له رافقاه:

متى تكشفا عني القميص تَبَيَّنَا
بيَ الضرَّ من عفراء يا فَتَيانِ
إذًا تريا لحمًا قليلًا وأعظمًا
رقاقًا وقلبًا دائم الخفقان
جعلت لعرَّاف اليمامة حكمه
وعراف حِجْرٍ إن هما شفياني
فما تركا من حيلةٍ يعرفانها
ولا شربةٍ إلا وقد سقياني
ورشا على وجهي من الماء ساعةً
وقاما مع العوَّاد يبتدراني
وقالا شفاك الله والله ما لنا
بما ضَمِنَتْ منك الضلوع يدان

وتجد أخباره في الأغاني ١٥٢ ج٢٠، وفوات الوفيات ٣٣ ج٢، والشعر والشعراء ٣٩٤، وخزانة الأدب ٥٣٤ ج١.

(٥-٤) مالك بن الصمصامة

هو من جعدة كان يهوى جنوب بنت محصن الجعدي فمنعه أخوها منها، وكان مالك شاعرًا فارسًا شجاعًا جميلًا فبلغه أن أخاها أقسم إذا تعرض مالك لأخته أسره وجز ناصيته فقال:

وما الحلَقُ بعد الأسر شَرٌ بقيةً
من الصد والهجران وهي قريبُ
ألا أيها الساقي الذي بلَّ دلْوه
بقُرْيان يَسقي هل عليك رقيبُ
أحقًّا عبادَ الله أن لستُ خارجًا
ولا والجًا إلا عليَّ رقيبُ
ولا زائرًا وحدي ولا في جماعةٍ
من الناس إلا قيل أنت مريبُ
وهل ريبةٌ في أن تَحِنَّ نَجيبَةٌ
إلى إلْفِها أو أن يَحِنَّ نجيبُ

وله أشعار أخرى في الأغاني ٨٣ ج١٩.

(٥-٥) مسافر بن أبي عمرو

هو من قريش، كان سيدًا جوادًا أَحب هندًا بنت عتبة التي تزوجها أبو سفيان بعد ذلك، وهي أم معاوية وإخوته، فخطبها مسافر وهو ذو ثروة فلم تقبله، فلما بلغه زواجها بأبي سفيان اعتلَّ ومات وله فيها أشعار، وأخباره في الأغاني ٤٨ ج٨.

ومن الشعراء الجاهليين المتيمين:
  • منظور بن زبان من فزارة كان عاشقًا، وهو من الأمراء أيضًا وقد تقدم ذكره.

  • مسعود بن خراشة من تميم، وهو من المخضرمين.

  • عنترة العبسي، وقد تقدمت ترجمته.

(٦) الشعراء الصعاليك

هم طائفة من الشعراء اشتهروا بالعدو والإغارة على القبائل للنهب، أشهرهم:

(٦-١) الشنفرى (توفي سنة ٥١٠م)

هو من الأواس بن الحجر من الأزد شاعر من أهل اليمن معدود في العدائين الذين لا تلحقهم الخيل، منهم هذا، وسليك بن السلكة، وعمرو بن براقة، وأُسيد بن جابر، وتأبط شرًّا، ويقال: إن الشنفرى حَلَفَ ليقتلن مائة رجل من بني سلامان فقتل تسعة وتسعين، فاحتالوا عليه فأمسكه رجل منهم عدَّاء هو أسيد بن جابر ثم قتله، فمر به رجل منهم فركل جمجمته … فدخلت شظية منها في رجله فمات، فتمت القتلى مائة، وللشنفرى أشعار في الفخر والحماسة أشهرها لاميته المعروفة بلامية العرب ومطلعها:

أقيموا بني أمي صدورَ مطيكم
فإني إلى قوم سواكم لأميَل

وقصيدة اختارها صاحب المفضليات مطلعها:

ألا أمُّ عمرو أجمعتْ فاستقلَّتِ
وما ودَّعت جيرانها إذ تولَّتِ
وقد عني الأستاذ المستشرق ردهوس Redhouse بترتيب لامية العرب وترجمتها إلى الإنجليزية، وقد طُبعت في المجلة الأسيوية الإنجليزية سنة ١٨٨١ وترجمها إلى الألمانية ريس Reuss في المجلة الألمانية الشرقية سنة ١٨٥٣.

وأخبار الشنفرى مفرقة في الأغاني ٨٧ ج٢١، والشعر والشعراء ١٨، وخزانة الأدب ١٦ ج٢، والمفضليات وغيرها.

(٦-٢) تأبط شرًّا (توفي سنة ٥٣٠م)

هو ثابت بن جابر من فَهم من قيس كان أسمع العرب وأبصرهم وأكيدهم، كان أعدى رجل، ينظر إلى الظباء فينتقي على نظره أسمنها، ثم يعدو خلفه فلا يفوته، وله أخبار كثيرة يضيق عنها هذا المكان، ومن شعره في وصف الغول:

ألا من مبلغٌ فتيان فَهْمٍ
بما لا قيت عند رَحَى بِطانِ
بأني قد لقيت الغول تهوي
بسهْبٍ كالصحيفةَ صحصحان
فقلت لها كلانا نِضْوُ أيْنٍ
أخو سفرٍ فخلِّي لي مكاني
فشدَّت شدَّةً نحوي فأهوى
لها كفِّي بمصقول يماني
فأضربها بلا دَهَشٍ فخرَّت
صريعًا لليدين وللجران
فقالتْ ثَنِّ قلت لها رويدًا
مكانك إنني ثبت الجَنان
فلم أنفك متكئًا عليها
لأنظر مُصبحًا ماذا أتاني
إذا عينان في رأس قبيح
كرأس الهرِّ مشقوق اللسان
وساقا مُخدَجٍ وشواة كلب
وثوب من عَباءٍ أو شِنان
وأخباره في الأغاني ٢٠٩ ج١٨، والشعر والشعراء ١٧٤، وخزانة الأدب ٦٦ ج١، وكتب عنه بور Baur بالألمانية مقالة في سيرة حياته وشعره في المجلة الشرقية الألمانية سنة ١٨٥٦.

(٦-٣) السليك بن السلكة (توفي سنة ٦٥٠م)

هو من تميم، أمه أمة سوداء، وكان من عاداته إذا كان الشتاء استودع بيض النعام ماء السماء ثم دفنه … فإذا كان الصيف وانقطعت إغارة الخيل أغار، وكان أدل من قطاة يجيء حتى يقف على البيضة، وكان لا يغير على مضر وإنما يغير على اليمن، فإذا لم يمكنه ذلك أغار على ربيعة، ويعده المفضل الضبي من أشد رجال العرب وأنكرهم وأشعرهم، وكان أدل الناس بالأرض وأعلمهم بمسالكها، وله أخبار كثيرة مدهشة، ومن شعره على أثر غزوة رابحة:

بكى صُرَدٌ لما رأى الحيَّ أعرضت
مهامهُ رملٍ دونهم وسهوبُ
فقلت له لا تَبْكِ عينُك إنها
قضيةُ ما يقضي لها، فتئوبُ
سيكفيك فقد الحي لحم مقدَّد
وماء قدورٍ في الجفان مشوبُ
ألم تر أن الدهر لونان لونه
وطوران بشرٌ مرة وكذوب
فما ذرَّ قرن الشمس حتى أريته
مصاد المنايا والغبار يثوب

وأخباره في الأغاني ١٣٣ ج١٨ والشعر والشعراء ٢١٣.

(٦-٤) عروة بن الورد (توفي سنة ٥٩٦م)

هو من عبس، وكان شاعرًا فارسًا وصعلوكًا مقدمًا، وكان يلقب عروة الصعاليك؛ لأنه كان كالرئيس عليهم يجمعهم ويقوم بأمرهم إذا أخفقوا في غزواتهم، ويعولهم إذا لم يكن عندهم معاش، وكان لشعره تأثير في نفوس قبيلته. سئل الحطيئة كيف كنتم في حربكم؟ قال: «كنا ألف حازم»، فقيل، وكيف ذلك؟ قال: «كان فينا قيس بن زهير وكان حازمًا وكنا لا نعصيه وكنا نقدم إقدام عنترة ونأتم بشعر عروة بن الورد وننقاد لأمر الربيع بن زياد»، ومن شعر عروة قوله:

وإني امرؤٌ عافي إنائي شركةٌ
وأنت امرؤ عافي إنائك واحدُ
أتهزأ مني أن سمنتَ وأن ترى
بجسمي شحوبَ الحقِّ، والحقُّ جاهد
أفرِّق جسمي في جسومٍ كثيرة
وأحسو قَراحَ الماءِ، والماءُ بارد

ومن قوله في الإقدام:

دَعيني للغنى أسعى فإني
رأيت الناسَ شرُّهم الفقير

ومن ذلك قوله:

لعلَّ ارتيادي في البلاد وبُغيتي
وشدِّي حيازيم المطية بالرَّحل
سيدفعني يومًا إلى رب هَجْمةٍ
يدافع عنها بالعقوق وبالبخل

والهجمة من الإبل ما زاد على الأربعين، وله قصيدة تعد من المنتقيات مطلعها:

أقلي عليَّ اللوم يا ابنة منذر
ونامي فإن لم تشتهي النوم فاسهري
ذريني أطوَّفْ في البلاد لعلني
أخليك أو أغنيك عن سوء محضري

فترى الهمة والنشاط والإقدام ظاهرة في كل أقواله.

ولعروة ديوان طُبع في غوتنجن سنة ١٨٦٤ مع ترجمة ألمانية وشروح لنولدكي وطُبع أيضًا في بيروت، وله أشعار متفرقة في الأغاني ١٩٠ ج٢، والشعر والشعراء ٤٢٥ وشعراء النصرانية ٨٨٣ والجمهرة ١١٤، وكتب بوشر Boucher الفرنسي مقالة عنه وعن ذي الإصبع العدواني في المجلة الأسيوية الفرنسية سنة ١٨٦٧.
ومن الشعراء الصعاليك:
  • (١)

    حاجز الأزدي (٥٧٠) كان يسبق الخيل. ترجمته في الأغاني ٤٩ ج١٢.

  • (٢)

    قيس بن الحدادية الأزدي. ترجمته في الأغاني ٢ ج١٣.

  • (٣)

    أبو الطمحان القيني من قضاعة، مخضرم. ترجمته في الأغاني ١٣٠ ج١١ والشعر والشعراء ٩٢٩ وخزانة الأدب ٤٢٨ ج٣.

(٦-٥) شعراء اليهود

لا يتجاوز شعراء اليهود في الجاهلية عدد أصابع اليد الواحدة أشهرهم:
  • (١)

    السموأل بن غريض بن عاديا (توفي سنة ٥٦٠م).

    ويلحقون نسبه بالكاهن هرون أخي موسى، وهو صاحب حصن الأبلق بتيماء، ويُضرب المثل بوفائه، وحديثه مع امرئ القيس الشاعر ودروعه أشهر من أن يذكر حتى يتبادر إلى الذهن أن العرب وضعوا ذلك الحديث أو بالغوا فيه على سبيل التمثيل؛ ترغيبًا في الوفاء فإن الطبيعة تأبى على الرحل أن يضحي بابنه في سبيل الوفاء، ولا نقول: إن ذلك مستحيل لكنه بعيد الحدوث وقد أشرنا إلى ذلك قبلًا، وكانت العرب تنزل بالسموأل فيضيفها، واشتهر بقصيدته الفخرية التي مطلعها:

    إذا المرء لم يَدْنَس من اللؤم عرضُه
    فكلُّ رداءٍ يرتديه جميل

    وقد خمسها غير واحد أشهرهم صفي الدين الحلي.

    وللسموأل ديوان شعر طُبع في بيروت سنة ١٩٠٩ وله أخبار في الأغاني ٩٨ ج١٩ و١٢ ج٣ و٨٧ ج٦ و٣٧ ج٩ والمستطرف ١٦٢ ج١ والشعر والشعراء ٤٥ والمشرق مجلد ٩ و١٠ و١٢.

ومن الشعراء اليهود أيضًا:
  • (٢)

    أوس بن دني من قريظة ترجمته في الأغاني ٩٤ ج١٩.

  • (٣)

    الربيع بن أبي الحقيق من رؤساء قريظة ترجمته في الأغاني ٦١ ج٢١.

  • (٤)

    كعب بن الأشرف من النضير له مناقضات. ترجمته في الأغاني ١٠٦ ج١٩.

(٧) النساء الشواعر

قد ذكرنا ما كان من رُقي المرأة في الجاهلية وعزة نفسها وذكائها، والشعر لا ينمو ويزهر إلا في ظل العز والارتقاء، ويندر نبوغ الشعراء البلغاء في أمة ذليلة … فظهر في الجاهلية عدة شواعر جاء ذِكر عشرات منهن في الحماسة وغيرها، وذكرنا أسماء بعضهن فيما تقدم، وهاك تراجم أشهرهن:

(٧-١) الخنساء (توفيت سنة ٦٤٦م)

هي تماضر بنت عمرو بن الشريد من سراة سليم (قيس) من أهل نجد، وقد أجمع رواة الشعر على أنه لم تقم امرأة في العرب قبلها ولا بعدها أشعر منها، وقد أنشدت شعرها النابغة في عكاظ، فأعجب به وقال لها: «لولا أن هذا الأعمى أنشدني قبلك (يعني الأعشى) لفضلتك على شعراء هذا الموسم» على أن أكثر قولها في رثاء أخيها صخر، وكان قد قُتل في واقعة يوم الكلاب من أيام العرب ودُفن في أرض سليم … فأخذت تنظم فيه المراثي كأن الحزن أثار شاعريتها، وقد أدركت الخنساء الإسلام وهي عجوز ولها أربعة أولاد، فشهدت حرب القادسية وحرضت أولادها على الثبات في القتال، فلما حمي الوطيس تقدموا واحدًا واحدًا ينشدون الرجز يذكرون فيه وصية والدتهم حتى قُتلوا عن آخرهم، فلما بلغها الخبر، قالت: «الحمد لله الذي شرفني بقتلهم».

ومن أشعارها في رثاء صخر أخيها قولها:

ألا ما لعينيك أم ما لها
لقد أخْضَل الدمعُ سربالها
أبعد ابن عمرو منَ آل الشَّريـ
ـد حَلَّتْ به الأرض أثقالها
فإن تك مُرَّة أودت به
فقد كان يكثر تَقْتالها
سأحمل نفسي على خطَّة
فإما عليها وإما لها
فإن تصبر النفسُ تَلْقَ السرورَ
وإن تجزع النفس أشقى لها

وللخنساء ديوان شعر كبير طُبع في بيروت مشروحًا سنة ١٨٨٨، وفيه مراثٍ لستين شاعرة، وتُرجم إلى الفرنسية وطُبع سنة ١٨٨٩، ولها أخبار كثيرة متفرقة بالأغاني ٦٤ و١٣٦ ج١٣ و٣٤ ج٤، وخزانة الأدب ٢٠٨ ج١، والشعر والشعراء ١٩٧.

(٧-٢) خرنق بنت بدر بن هفان (توفيت سنة ٥٧٠م)

هي أخت طرفة بن العبد لأمه، ولها أشعار كثيرة في أخيها وزوجها لم يصلنا منها إلا بضعة وخمسون بيتًا جُمعت في ديوان، منه نسخة خطية في دار الكتب المصرية، وقد طُبعت أخبارها وأشعارها في شعراء النصرانية ٣٢١، وأفردت في ديوان على حدة طُبع في بيروت، ولها أخبار في خزانة الأدب ٣٠٦ ج٢.

(٧-٣) ليلى العفيفة (توفيت سنة ٤٨٣م)

هي بنت لكيز من ربيعة من أقدم الشعراء، وكانت تامة الحُسن كثيرة الأدب، ولها شعر حسن نُشر بعضه في كتاب شعراء النصرانية ١٤٨.

(٧-٤) جليلة بنت مرة (توفيت سنة ٥٣٨م)

هي أخت جساس الشيباني قاتل كليب بن ربيعة، وهي أيضًا زوجة كليب المقتول، فلما قُتل زوجها رحلت من بيته وشمتت بها أخت كليب فأجابتها بشعر مطلعه:

يا ابنةَ الأقوام إن لمتِ فلا
تعجلي باللوم حتى تسألي

وتجد أخبارها في شعراء النصرانية ٢٥٢، والأغاني ١٥١ ج٤.

(٨) الشعراء الهجاءون

لا تكاد تجد في شعراء الجاهلية شاعرًا يتوخى الهجو فيفرد له قولًا، وإنما كان هجوهم يأتي في أثناء مفاخراتهم وحماسياتهم، ولكن ظهرت طبقة من الهجائين في أواخر عصر الجاهلية، وأكثرهم من المخضرمين الذين أدركوا الإسلام … منهم الحطيئة العبسي، وحسان بن ثابت وابنه عبد الرحمن، وعبد الرحمن بن الحكم، وعبد الله بن الزبعري السهمي، فأفردنا لهم هذا الفصل.

(٨-١) الحطيئة

هو جرول بن أوس من بني عبس من فحول الشعراء ومقدميهم وفصحائهم، متين الشعر شرود القافية متصرف في جميع الفنون من المديح والهجاء والفخر والنسب، مجيد في ذلك كله، ولكنه كان ذا شر وسفه، دنيء النفس لا رأي له، وإنما يساق إلى ما يرجو منه مصلحة فينتمي إلى كل واحدة من القبائل إذا غضب من غيرها، فإذا غصب من بني عبس، قال: إنه من بني ذهل والعكس بالعكس، لكنه كان شديد الهجاء يخاف العرب لسانه ويسترضونه بالمال خوفًا من شره، وكان يتعمد تخويف الناس بالهجو؛ استدرارًا لأموالهم بما يعبر عنه الإفرنج اليوم بقولهم chantage وذلك نادر في طباع أهل الجاهلية.

وكان إذا نزل مدينة أو نجعًا دب الخوف في أهله، وأرصدوا له العطايا؛ خوفًا من لسانه، وهو يبالغ في الطمع كثيرًا … ذكروا أنه نزل المدينة مرة فمشى أشرافها بعضهم إلى بعض فقالوا: «قد قدم علينا هذا الرجل وهو شاعر والشاعر يظن فيحقق، وهو يأتي الرجل من أشرافكم يسأله فإن أعطاه جهد نفسه بهرها (فوق ما تستطيع) وإن حرمه هجاه» فأجمع رأيهم على أن يجعلوا له شيئًا معدًا يجمعونه بينهم … فكان أهل البيت من قريش والأنصار يجمعون له العشرة والعشرين والثلاثين من الدنانير حتى جمعوا له أربعمائة دينار وظنوا أنهم قد أغنوه فأتوه، فقالوا له: «هذه صلة آل فلان، وهذه صلة آل فلان، وهذه صلة آل فلان» فأخذها فظنوا أنهم قد كفوه عن المسألة، فإذا هو يوم الجمعة قد استقبل الإمام ماثلًا ينادي: «مَن يحملني على بغلين» … هكذا كان يفعل مع كل قوم ينزل فيهم وإلا سلقهم بهجوه.

وأكثر هجوه الذي وصل إلينا في الزبرقان وبغيض، وكان الزبرقان من عمال عمر بن الخطاب، وقد عرف شدة وطأة الحطيئة فأحب أن يقربه فدعاه إليه وأنزله في قومه، وضمن له مؤونة عياله على أن يستصفي له مدحه. وكان بغيض بن عامر من بني أنف الناقة وإخوته وأهله ينازعون الزبرقان الشرف، فاغتنموا استهانة أم شذرة أم الزبرقان مرة بالحطيئة ودعوه إليهم، وفي مقدمتهم بغيض هذا وعلقمة بن هوذة، فسار معهم وضربوا له قبة بكل طنب من أطنابها جلة (وعاء تمر) هجرية وأراحوا عليه إبلهم وأكثروا من التمر واللبن وبالغوا في إكرامه، فمدحهم بالبيت المشهور الذي رفع رءوسهم وهو:

قوم هم الأنف والأذناب غيرهم
ومن يسوِّي بأنف الناقة الذَّنَبا

ثم جاء الزبرقان يطلب الحطيئة منهم؛ لأنه جاره فأبوا وتنازعوا، ثم اتفقوا على أن يخيروه في الذهاب إلى أحد الحيين فاختار بغيضًا، فرجع الزبرقان مغضبًا فحرض بغيض الحطيئة على هجوه ففعل. ومن قوله يهجو الزبرقان ويناضل عن بغيض:

والله ما معشر لاموا امرأً جنبًا
في آل لأي بنِ شمَّاس بأكياسِ
ما كان ذنْبُ بغيض لا أبا لكم
في بائسٍ جاء يحدو آخرَ الناس
وقد مدحتكم عمدًا لأرشدكم
كيما يكون لكم مَتْحي وأمراسي
لما بدا لي منكم عيبُ أنفسكم
ولم يكن لجراحي فيكم آسي
أزمعتُ يأسًا مبينًا من نوالُكم
ولن يرى طاردًا للحُرِّ كالياس
جارٌ لقوم أطالوا هُونَ منزله
وغادروه مقيمًا بين أرْماس
مَلُّوا قِراه وهَرَّته كلابهم
وجَرَّحوه بأنيابٍ وأضراس
دَعِ المكارم لا ترحلْ لبُغْيتها
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
من يفعل الخير لا يعدم جَوازَيه
لا يذهب العُرْفُ بين الله والناس

وشكاه الناس لعمر بن الخطاب فسجنه، فكتب إليه من السجن أبياتًا يشكو إليه حال أهله بسبب سجنه منها:

ماذا تقول لأفراخٍ بذي مَرَخٍ
حُمر الحَواصل لا ماءٌ ولا شجر
ألقيت كاسِبَهم في قَعْر مظلمةٍ
فاغفر عليك سلام الله يا عمر

ثم أخرجه من السجن وهدده بقطع لسانه وأذنيه فتوسط له بعض الصحابة، فأطلقه وأوصاه أن يكف لسانه عن الهجو، وبلغ من شغف الحطيئة بالهجو أنه هجا أمه وأباه وهجا نفسه … فمما هجا به أمه قوله:

أغِرْ بالًا إذا استودعتِ سِرًّا
وكانونًا على المتحدِّثينا
جزاك الله شرًّا من عجوز
ولقَّاك العقوق من البنينا

وقال لأبيه:

لحَاكَ الله ثم لحاك حقًّا
أبا ولحاك من عَمٍّ وخالٍ
فنعم الشيخُ أنت لدى المخازي
وبئس الشيخ أنت لدى المعالي
جمعتَ اللؤم لا حيَّاك ربي
وأبوابَ السفاهة والضلالِ

وقال لنفسه:

أبتْ شفتايَ اليومَ إلا تكلُّما
بسوءٍ فما أدري لمن أنا قائلُه
أرى لِي وجهًا شوَّه الله خَلْقه
فقُبِّح من وجهٍ وقُبح حامله

وهو من أصحاب المشوبات ومطلع مشوبته:

نَأتك أمامةُ إلا سؤالا
وأبصرْتَ منها بعينٍ خيالا

وللحطيئة أشعار كثيرة جُمعت في ديوان طُبع في ليبسك سنة ١٨٩٣، وفي مصر وبيروت مع شروح. وله شرح خطي في دار الكتب المصرية، وأخباره في الشعر والشعراء ١٨٠، وفي الأغاني ٤٣ ج٢ و٣٩ ج١٦، وفي العقد الفريد ٨٠ ج١، و١١١ ج٣، وفي المستطرف ١٣٩ ج١، وخزانة الأدب ٤٠٩ ج١، والجمهرة ١٥٣.

(٨-٢) حسان بن ثابت (توفي سنة ٥٤ﻫ)

هو من الخزرج من أهل المدينة، وقد عاصر الجاهلية والإسلام … فهو من المخضرمين، واشتهر في الجاهلية بمدح ملوك غسان وملوك الحيرة، وله مع النابغة الذبياني أحاديث، واختُص بعد الإسلام بمدح النبي والدفاع عنه، وهو يعد أشعر أهل المدن في ذلك العصر، وكان شديد الهجاء حتى قيل: لو مزج البحر بشعره لمزجه. قال أبو عبيدة: «فضل حسان الشعراء بثلاثة: كان شاعر الأنصار في الجاهلية، وشاعر النبي في النبوة، وشاعر اليمن كلها في الإسلام»، ومن شعره في الجاهلية قوله يمدح جبلة بن الأيهم الغساني:

أولاد جَفْنَةَ عند قبر أبيهمُ
قبر ابنِ ماريَةَ الكريمِ المُفضِلِ
يَسْقون مَن وَردَ البَريصَ عليهم
بَرَدَى يصفَّق بالرَّحيق السَّلْسَل
يُغشَوْن حتى ما تهِرُّ كلابهم
لا يَسألون عن السواد المقبل
بيضُ الوجوه كريمةٌ أحسابهم
شمُّ الأنوف من الطِّراز الأول

أما في الإسلام، فكان حسان في جملة من أسلم وأخذ يناصر الرسول، ولم يكن رجل حرب فنصره بلسانه، وكان الرسول يُسر به ويستنشده الأشعار في الدفاع عن المسلمين إذا هجاهم هاج من المشركين أو غيرهم، وقد حمله الرسول على ذلك؛ ليرد عنه هجو الهاجين … فقد كان يهجو الرسول والمسلمين ثلاثة من قريش هم: عبد الله بن الزبعري، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعمرو بن العاص، فقال قائل لعلي بن أبي طالب: «اهج عنا القوم الذين قد هجونا» فقال علي: «إن أذن لي رسول الله فعلت» فقال رجل: «يا رسول الله ائذن لعليٍّ كي يهجو عنا هؤلاء القوم الذين قد هجونا» قال: «ليس هناك أو ليس عنده ذلك»، ثم قال: «ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله بسلاحهم أن ينصروه بألسنتهم؟» فقال حسان بن ثابت: «أنا لها» وأخذ يطرف لسانه وقال: «والله ما يسرني به مقول بين بصرى وصنعاء» قال: «كيف تهجوهم وأنا منهم» فقال: «إني أسلُّك منهم كما تُسل الشعرة من العجين» فكان يهجوهم ثلاثة من الأنصار: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، فكان حسان وكعب يعارضانهم بمثل قولهم بالوقائع والأيام والمآثر ويعيرانهم بالمثالب، وكان عبد الله بن رواحة يعيرهم بالكفر … فكان في ذلك الزمان أشد القول عليهم قول حسان وكعب، وأهون القول عليهم قول ابن رواحة … فلما أسلموا وفقهوا الإسلام، كان أشد القول عليهم قول ابن رواحة، ومن أمثلة دفاعه عن الرسول أن وفدًا من تميم جاءوا الرسول وهم سبعون أو ثمانون رجلًا فيهم خيرة الشعراء من تميم … وفيهم الزبرقان بن بدر، فأنشد الزبرقان قصيدة فخر فأمر الرسول حسانًا أن يجيبهم فقال:

إن الذوائب من فِهر وإخوتهم
قد بَيَّنُوا سُنَّةً للناس تُتَّبَعُ
يرضى بها كلُّ من كانت سريرته
تَقْوَى الإله وبالأمر الذي شرعوا
قومٌ إذا حاربوا ضَرُّوا عدوهم
أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
سجيَّة تلك منهم غيرُ مُحْدَثة
إن الخلائق فاعلمْ شرُّها البِدَعُ
لا يَرقعُ الناس ما أوهت أكفُّهمُ
عند الرقاع ولا يوهون ما رقعوا
إن كان في الناس سَبَّاقون بعدهم
فكل سبق لأدنى سبقهم تَبَعُ
أعفَّةٌ ذكرتْ في الوحي عفَّتُهم
لا يطمعون ولا يُزرِي بهم طمع
يَسْمُون للحرب تبدو وهي كالحة
إذا الزعانف من أظفارها خشعوا
لا يفرحون إذا نالوا عدوهمُ
وإن أصيبوا فلا خُورٌ ولا جُزُعُ

إلى أن قال:

أكرمْ بقومٍ رسولُ الله قائدهم
إذا تفرقتِ الأهواء والشِّيَعُ
وإنهم أفضلُ الأحياء كلهمِ
إن جَدَّ بالناسِ جدُّ القول أو شَمعوا

وهو من أصحاب المذهبات ومطلع مذهبته:

لعمر أبيك الخيرِ حقًّا لما نَبَا
علىَّ لساني في الخطوب ولا يدي

وقد جُمعت أشعاره في ديوان وطُبع في الهند وتونس، ثم طبعته لجنة تذكار جيب في إنجلترا سنة ١٩١٠، وضبطته على النسخ الخطية الموجودة في مكاتب لندن وبرلين وباريس وبطرسبورج بعد الاطلاع على النسخ المطبوعة المتقدم ذكرها.

وتجد أخباره في الشعر والشعراء ١٧٠، والأغاني ٢ ج٤، و١٦٩ ج٨، و١٦٩ ج١٠، و١٥٠ ج١٣، و٢ ج١٤، وخزانة الأدب ١١١ ج١، والجمهرة ١٢١، وفي السنة السادسة من الهلال ٤٨٢.

(٨-٣) عبد الرحمن بن الحكم

هو أخو مروان بن الحكم الذي تولى الخلافة في الدولة الأموية، وأفضت بعده إلى أولاده وأحفاده، وكان عبد الرحمن هذا يهاجي عبد الرحمن بن حسان بن ثابت، الأول يدافع عن قريش وبني أمية، والثاني عن الأنصار، وقد هجا ابن الحكم أخاه الحارث لأنه ذهب في غزوة ولم يفلح، فقال فيه أبياتًا منها:

كفاك الغزوَ إذا أحجمتَ عنه
حديثُ السنِّ مقتبلُ الشباب
فليتك حَبْضةٌ ذهبتْ ضلالًا
وليتك عند منقطع السحابِ

وهجا أخاه مروان، فضلًا عن هجوه الأنصار وغيرهم.

وتجد أخباره في ذلك مدونة في الأغاني ٧٢ ج١٢، و١٥٠ ج١٣.

ومن الشعراء الهجائين أيضًا:

(٨-٤) عبد الله بن الزبعري

هو أحد شعراء قريش المعدودين لكنه كان هجَّاءً فأكثر من هجو المسلمين وحرض عليهم كفار قريش، ثم أسلم فقُبل إسلامه، وتجد أخباره في الأغاني ١١ ج١٤.

(٩) الشعراء الوصافون للخيل

قد رأيت وصفًا كثيرًا في أشعار من تقدم ذكرهم، وخصوصًا أصحاب المعلقات ولا سيما امرأ القيس، ولكننا نريد أن نضمن هذا الباب الشعراء الذين اشتهروا بوصف الخيل دون سواها، وهم ثلاثة، نضيف إليهم شاعرًا اشتهر بوصف الحمير وهم:

(٩-١) أبو دؤاد الأيادي

هو من أقدم شعراء الجاهلية، وأكثر أشعاره في وصف الخيل وله أشعار في المدح والفخر ومن قوله في وصف الفرس:

ولقد اغتدى يدافع رُكني
أحوذيُّ ذو مَيْعةٍ أضرِيجُ
مِخْلَطٌ مِزْيَلٌ مِكَرٌ مفرٌ
مِنْفَحٌ مِطْرَحٌ سبوحٌ خروج
سَلْهَبٌ سَرْحَبٌ كأن رماحًا
حملتْه وفي السَّراة دُموج

وليس له ديوان معروف، ولكن أخباره في الأغاني ٩٥ ج١٥ و٤٧ ج٢، والشعر والشعراء ١٢٠.

(٩-٢) طفيل الغنوي

هو طفيل بن عوف، شاعر جاهلي من الفحول المعدودين، ومن أشعر شعراء قيس، ومن أوصف العرب للخيل حتى سموه طفيل الخيل لكثرة وصفه إياها، وهو يدخل وصفها في كل باب من شعره، ومن قوله:

بخيل إذا قيل اركبوا لم يَقُل لهم
عواويرُ يخشون الرَّدَى أين نركبُ
ولكن يجاب المستغيث وخيلهم
عليها حماةٌ بالمنية تضرب

ومن قوله في وصف بيته:

وأطنابه أرسانُ جُرْدٍ كأنها
صدور القَنا من بادئ ومعقِّبِ
نصَبْتُ على قوم تُدِرُّ رماحهم
عروقَ الأعادي من غريرٍ وأشيب
ولطفيل الغنوي ديوان تحت الطبع بنفقة لجنة تذكار جيب الإنجليزية مع ديوان الطرماح بن حكيم بعناية المستشرق كرنكو Krenkow وأخباره في الأغاني ٨٨ ج١٤، والشعر والشعراء ٢٧٥.

(٩-٣) النابغة الجعدي

هو غير النابغة الذبياني، وهو من جعدة (قيس) مخضرم، قال الشعر في الجاهلية، وسكت دهرًا ثم نبغ في الإسلام. ويقال مع ذلك: إنه كان أسن من الذبياني. وهو ممن فكر في الجاهلية فأنكر الخمر والمسكر وهجر الأزلام والأوثان، وكان مغلبًا إذا هوجى غلب، وله مهاجاة مع ليلى الأخيلية وغيرها، ويقول علماء الشعر في وصف شعره: «خمار بواف ومطرف بآلاف» يريدون أن بين أشعاره تفاوتًا كبيرًا، ومن قوله في وصف الفرس:

كأن مقطَّ شَراسيفه
إلى طرف القَتْب فالمَنْقبِ٢٥
لُطِمْنَ بتُرْس شديد الصِّقا
ل من خَشب الجوز لم يُثْقَب

وله قصيدة جمعها أبو زيد مع المشوبات في جمهرة أشعار العرب، يصف بها حاله منذ كان عند المنذر، وكيف سار إلى الرسول وأسلم، ووصف ناقته وفرسه وبعض المواقع وغير ذلك مطلعها:

خليليَّ عوجا ساعةً وتهجَّرا
ولوما على ما أحدث الدهر أو ذَرَا

وللنابغة الجعدي أخبار متفرقة في الأغاني ١٢٨ ج٤، والشعر والشعراء ١٥٨، وجمهرة أشعار العرب ١٤٥، وفي خزانة الأدب ٥١٢ ج١

(٩-٤) الشماخ بن ضرار

ويدخل في هذا الباب الشماخ بن ضرار الذبياني، فإنه وصاف للحمير وهو مخضرم، ويقولون: إن الحطيئة كتب في وصيته: «أبلغوا الشماخ أنه أشعر غطفان كلها» وقد أجمع علماء الشعر على أنه أوصف الشعراء للحمير، وأوصفهم للقوس، وأرجزهم على البديهة، وكان فيه ميل إلى الهجاء حتى إنه يهجو أهله وضيفه، وقد يصح عده من الشعراء الهجائين، ولكن الوصف غالب عليه، ومن وصفه القوس، قوله:

وذاق فأعطتنه من اللَّين جانبا
كفَى ولهًا أن يُغرق السهمَ حاجزُ
إذا أنبضَ الرامون عنها ترنمت
ترنُّم ثكلى أوجعتها الجنائز

وهذان البيتان من قصيدة عدها أبو زيد من المشوبات ومطلعها:

عَفَا بَطنُ قوٍّ من سليمى فعالز
فذات الصَّفا فالمشرفات النَّواشِز

وقد جمعت أشعار الشماخ في ديوان منه نسخة خطية في دار الكتب المصرية، وله أخبار متفرقة في الأغاني ١٠١ ج٨، والشعر والشعراء ١٧٧، وخزانة الأدب ٥٢٦ ج١، والجمهرة ١٥٤.

ومن وصاف الخيل أيضًا سلامة بن جندل وقد ترجمنا له مع الشعراء الفرسان، وفاتنا أن نذكر هناك أن له ديوانًا طُبع في بيروت.

(٩-٥) الشعراء الموالي

عبد بني الحسحاس

ليس فيمن وصلنا خبرهم من الجاهليين شاعر من الموالي أو العبيد إلا عبد بني الحسحاس، وهو حبشي واسمه سحيم، كان مطبوعًا على الشعر، اشتراه بنو الحسحاس وهم بطن من أسد، ومن نظمه قوله:

أشعار عبد بني الحَسحاس قُمن له
عند الفخار مقام الأصل والورِقِ
إن كنت عبدًا فنفسي حُرَّةٌ كرمًا
أو أسودَ اللون إني أبيضُ الخلق

وذكروا أن صاحبه كان اسمه مالكًا جاء به ليبيعه لعثمان بن عفان، فقال: «لا حاجة لي به؛ إذ الشاعر لا حريم له، إن شبع تشبب بنساء أهله، وإن جاع هجاهم» فاشتراه غيره فلما رحل قال في طريقه:

أشوقًا ولما تمضِ لي غيرُ ليلةٍ
فكيف إذا سار المطيُّ بنا شهرا
وما كنت أخشى مالكًا أن يبيعني
بشيءٍ ولو أمستْ أنامله صفِرا
أخوكم ومولى مالكم وحليفكم
ومن قد ثَوَى فيكم وعاشركم دهرا

فلما بلغهم شعره هذا رثوا له فاستردوه، فكان يشبب بنسائهم، ويفحش غاية الفحش، فقتلوه، وأخباره في الأغاني ٢ ج٢٠، والشعر والشعراء ٢٤١.

(١٠) سائر الشعراء الجاهليين

بقيت طائفة من شعراء الجاهلية لا يدخلون في باب من الأبواب التي تقدمت، وإن كانت تلك الأبواب كثيرًا ما تختلط أغراضها …؛ إذ لا يتفق أن يستقل شاعر أو بضعة شعراء بالحكم أو الفخر أو الوصف أو الهجاء دون سواه، ولكننا جمعنا المتقاربين في بعض تلك الأغراض ليسهل تعليقهم بالذاكرة، وبقي جماعة منهم لا يجتمعون في باب … وهم كثيرون نكتفي بذكر أشهرهم وخصوصًا الذين لهم آثار باقية يمكن الحصول عليها وهم:

(١٠-١) ابن الدمينة

هو عبد الله بن عبيد الله أحد بني عامر من خثعم وأمه الدمينة من سلول — اشتهر بحديث امرأته حمادة — وذلك أنه بلغه أن بعض أخواله من سلول يأتيها خلسة، فرصده حتى أتاه فقتله وقتلها، على أنه قبل أن يقتل الرجل منعه عن المجيء إليها فغضب وأراد أن ينتقم منه، فنظم قصيدة يصف بها المرأة وصفَ من تفحص بدنها … فذهب ابن الدمينة إلى امرأته وسألها: «كيف عرف ذلك فيك؟» قالت: «وصفته له النساء» فغضب وقال: «والله إن لم تمكنيني منه لأقتلنك» فبعثت إليه وواعدته، وكان زوجها كامنًا له … فقام وقتله ضغطًا على كبده حتى يخفي جريمته، لكن أهله تحققوا فعلته، وعشق في أثناء ذلك امرأة من قومه اسمها أميمة وهام بها، فلما وصلته تجنى عليها وجعل ينقطع عنها ثم زارها فقالت هذه الأبيات:

وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني
وأشمتَّ بي من كان فيك يلومُ
وأبرزتني للناس ثم تركتني
لهم غرضًا أُرْمَى وأنت سَليمُ
فلو أن قولًا يَكْلِمُ الجسمَ قد بدا
بجسميَ من قول الوشاة كلومُ

فأجابها بمثل عتابها وهو ألطف أساليب العتاب:

وأنتِ التي قطَّعتِ قلبي حَزَازَةً
وقَرَّحْتُ قرحَ القلب فهو كليمُ
وأنتِ التي كلَّفتني دَلَجَ السُّرى
وجُونُ القَطا بالجَلْهَتيْنِ جثومُ
وأنت التي أحفظتِ قومي فكلهم
بعيدُ الرضا داني الصُّدود كظيمُ

ثم تزوجها بعد ذلك وقُتل وهي عنده، وهذه الأبيات تغنى بها المسلمون أجيالًا، وإليه تُنسب الأبيات المشهورة:

ولي كبدٌ مقروحةٌ مَن يبيعني
بها كبدًا ليستْ بذات قُروحِ

ولابن الدمينة ديوان شعر منه نسخة خطية في دار الكتب المصرية، وله أخبار في الأغاني ١٥١ ج١٥ والشعر والشعراء ٤٥٨.

(١٠-٢) أوس بن حجر

هو من نمير أحد بطون تميم من فحول الشعراء الجاهليين، يقرنه بعضهم بالحطيئة وبالنابغة. قالوا: كان أوس شاعر مضر كلها حتى حل مكانه النابغة وزهير، فأصبح شاعر تميم في الجاهلية غير مدافع، وكان غزلًا مغرمًا بالنساء فخرج في سفر، وبينما هو في أرض بني أسد يسير على ناقته ليلًا صرعته فاندقت فخذه، فظل في مكانه لا يستطيع انتقالًا حتى خرجت بنات الحي يجتنين الكماة … فبصرن بالناقة ورأين أوسًا ملقى ففزعن، فنادى إحداهن وسألها عمن هي، فقالت: «حليمة بنت فضالة» وكان يعرف أباها، فدفع إليها حجرًا وقال: «أعطي هذا إلى أبيك، وقولي له: ابن هذا يقرؤك السلام» فمضت وبلَّغت ما قاله فأتى فضالة فاحتمله إلى بيته وعالجه، فنظم فيه أوس مدائحَ كثيرةً وأحب ابنته ونظم فيها، ثم توفي فضالة فرثاه أحسن الرثاء، منه قوله:

أيتها النفس أجْملي جزعًا
إن الذي تحذرين قد وقعا
إن الذي جمع السماحة والنـ
ـجدة والحزم والقُوى جُمِعا
المُخلف المتلف المرزأ لم
يُمتع بضعفٍ ولم يمت طَبِعا
أوْدَى وهل تنفع الإشاحة من
شيءٍ لمن قد يحاول النزعا
ولأوس بن حجر ديوان طُبع في فينا مع ترجمة ألمانية سنة ١٨٩٢ بعناية المستشرق جاير Geyer وعليه تعليقات، وأخباره في الأغاني ٦ ج١٠، والشعر والشعراء ٩٩، وخزانة الأدب ٢٣٥ ج٢.

(١٠-٣) المتلمس (توفي سنة ٥٨٠م)

هو جرير بن عبد المسيح من ضبيعة (ربيعة) وهو خال طرفة بن العبد، وإليه تنسب صحيفة المتلمس كما مر في حديثه مع طرفة وعمرو بن هند صاحب الحيرة، ولهذه الحكاية مثال في تاريخ قدماء اليونان تعزى إلى بيلروفنت٢٦ فلما علم المتلمس بفحوى الصحيفة كما تقدم في ترجمة طرفة رماها في النهر قرب الحيرة وهرب إلى الشام ولحق بملوك آل غسان، ونظم في ذلك قصيدة ذكر فيها نجاته، وكان قد استحث طرفه على رمي ورقته بقوله:
ألقِ الصحيفةَ لا أبا لك إنه
يُخشى عليك من الحِباء النِّقرِسُ

فلما بلغه أنه قُتل بها قال:

عصاني فما لاقى الرشاد وإنما
تَتَبَّين من أمر الغويِّ عواقبه
فأصبح محمولًا على آلة الرَّدَى
تمجُّ نجيعَ الجوف منه تَرائبه

ونظم في هجو عمرو بن هند قصيدة طويلة هي من خيرة شعره مطلعها:

يا آل بكرٍ ألا لله أمكمُ
طال الثواءُ وثوبُ العجز ملبوسُ

وأقام المتلمس في حوران عند الغساسنة إلى وفاته، ومن قوله وفيه إفراط في الفخر من قصيدة عاتب بها خاله الحارث اليشكري:

أحارثُ إنا لو تُساط دماؤنا
تزايَلنَ حتى لا يمسَّ دمٌ دما

يريد أن دماءهم تمتاز عن دماء غيرهم أو تأبى الامتزاج بها، ومنها:

وكنا إذا الجبار صَعَّر خدَّه
أقمنا له من مَيْله فتقوَّما
لذي الحلم قبل اليوم ما تُقرعُ العصا
وما عُلِّم الإنسان إلا ليعلما
ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي
جعلتُ لهم فوق العَرانين مِيسما

ومما يتمثل به من شعره قوله:

وأعلمُ علم حقٍّ غير ظنٍّ
وتقوى الله من خير العَتاد
لحفظُ المال أيسرُ من بُغاه
وضَرب في البلاد بغير زادِ
وإصلاحُ القليل يزيد فيه
ولا يبقى الكثيرُ على الفساد

وهو من أصحاب المنتقيات ومطلع قصيدته:

كم دون مَيَّة من مستعمَلٍ قَذِفٍ
ومن فلاةٍ بها تُستودَع العِيسُ

وقد جمع شعر المتلمس في ديوان منه نسختان خطيتان في دار الكتب المصرية وأخباره في الأغاني ١٢٠ ج٢١، والشعر والشعراء ٨٥، وحياة الحيوان للدميري ٢٠٩ ج٢، وابن خلكان ١٩٩ ج٢، والجمهرة ١١٣، وشعراء النصرانية ٣٣٠، والحماسة وشرحها، ومعجم البلدان، ولسان العرب، وغيرها.

(١٠-٤) المثقب العبدي (توفي سنة ٥٨٧م)

هو عائذ بن محصن بن ثعلبة من ربيعة، وكان في جملة الذين كانوا يترددون على عمرو بن هند ويمدحونه وله فيه قصائد، وله في وصف راحلته قصيدة مطلعها:

هل عند عانٍ لفؤاد َصدِ
من نهلةٍ في اليوم أو في غد

وله قصيدة يمدح بها عمرًا المذكور مطلعها:

أفاطمَ قبل بينِك ودِّعيني
ومَنْعُكِ ما سألتُ كأن تبيني

ومما سبق إليه وأخذ عنه قوله من هذه القصيدة في وصف ناقته:

كأن مواقعَ الثَّفِنات منها
معرَّسُ باكرات الوِرْدِ جُون

الباكرات القطا، فأخذ هذا المعنى عنه ذو الرمة والطرماح.

وله قصيدة منها البيت المشهور:

حسنٌ قولُ نَعَمْ من بعد لا
وقبيحٌ قول لا بعد نعم

وللمثقب ديوان حوى شعره مع شروح منه نسخة خطية في دار الكتب المصرية وأخباره في الشعر والشعراء ٢٣٣، وخزانة الأدب ج٤، وشعراء النصرانية ٤٠٠.

(١٠-٥) المنخل اليشكري (توفي سنة ٥٩٧م)

هو المنخل بن عبيد من يشكر من بكر وائل (ربيعة) شاعر مقل، كان ينادم النعمان مع النابغة الذبياني، ولكن النعمان كان يُؤْثِر شعر النابغة على شعره، فسعى المنخل بالنابغة وأوغر صدر النعمان عليه حتى هم بقتله فهرب النابغة وخلا المنخل بمجالسته، ثم اتهمه النعمان بامرأته وأمر بقتله فقُتل، ويقال: إنه دُفن حيًّا، والعرب تضرب المثل به كما تضربه بمن هلك منهم ولم يعلم خبره، ومن مشهور شعره أبيات من قصيدة له في الفخر مطلعها:

إن كنت عاذلتي فسِيري
نحو العراق ولا تَحُوري

إلى أن يقول:

ولقد شربت من المُدا
مة بالصغير وبالكبير
فإذا انتَشيت فإنني
ربُّ الخَوَرْنَقِ والسَّديرِ
وإذا صحوت فإنني
رب الشُّوَيْهَةِ والبعير

وأخبار المنخل في الأغاني ١٥٢ ج١٨، و١٦٦ ج٩، والشعر والشعراء ٢٣٨، وشعراء النصرانية ٤٢١.

(١٠-٦) كعب بن زهير (توفي سنة ٢٤ﻫ)

هو كعب بن زهير بن أبي سلمى، ولكعب ذكر خاص عند ظهور الإسلام؛ لأنه من المخضرمين، وكان هجا الرسول ثم جاءه وأسلم، ومدحه بقصيدته المشهورة التي مطلعها:

بانت سعاد فقلبي اليوم مَتبُول
مُتَيَّمٌ عندها لم يُجْزَ مَكْبُولُ

وهي من المشوبات … ولما أقبل على النبي وطلب الأمان أنشده إياها والمجلس حافل بالصحابة من قريش وغيرهم، فلما وصل إلى قوله:

إن الرسول لنور يستضاء به
مُهَنَّدٌ من سيوف الله مَسْلُولُ
في فتيةٍ من قريش قال قائلهم
بِبَطْنِ مكة لما أسلموا زولوا
زالوا فما زال أنكاسٌ ولا كشف
عند اللقاء ولا خُورٌ معازيلُ
أشار الرسول إلى الناس أن يسمعوا شعر ابن زهير، ولما فرغ من الإنشاد خلع الرسول عليه بردته وهي التي تداول الخلفاء لبسها.٢٧

وقد طُبعت هذه القصيدة مرارًا بمصر وأوربا، وشرحها كثيرون منهم ابن دريد والتبريزي وغيرهما في العصور المختلفة إلى الآن، ومن الأصل والشروح نسخ كثيرة في مكاتب برلين ولندن والإسكوريال ومصر وغيرها، وشطرها غير واحد مما يطول شرحه، وأخبار كعب في الأغاني ١٤٧ ج١٥، والشعر والشعراء ٥٨، و٦٧، والجمهرة ١٤٨ والحماسة وغيرها.

(١٠-٧) معن بن أوس (توفي سنة ٢٩ﻫ)

هو معن بن أوس بن نصر من مزينة (مضر) شاعر مجيد فحل من المخضرمين وله مدائح في جماعة من الصحابة، ووفد على عمر بن الخطاب مستعينًا به على أمره وخاطبه بقصيدته التي أولها:

تأوَّبه طيْفٌ بذات الجراثمِ
فنام رفيقاه وليس بنائمِ

ويقال: إنه لقي معاوية أيضًا، وكان معاوية يفضل مزينة في الشعر ويقول: «كان أشعر أهل الجاهلية منهم وهو زهير» وأشعر أهل الإسلام منهم، وهما ابنه كعب ومعن بن أوس، وكان معن مئنانًا، يحسن صحبة بناته وتربيتهن، ومن شعره قوله:

وذي رحمٍ قلمتُ أظفار ضِغنِه
بحلمي عنه وهو ليس له حِلْمُ
إذا سُمتُه وَصْل القرابة سامني
قطيعتَها تلك السفاهةُ والظلم
فأسعى لكي أبني ويهدم صالحي
وليس الذي يبني كمن شأنه الهدم
يحاول رَغمي لا يحاول غيره
وكالموت عندي أن يحلَّ به رغمُ
فما زلت في لينٍ له وتعطُّفٍ
عليه كما تحنو على الولد الأمُّ
لأستلَّ منه الضِّغن حتى سللته
وإن كان ذا ضغنٍ يضيق به الحلمُ

وله ديوان مطبوع في ليبسك سنة ١٩٠٣، وأخباره في الأغاني ١٦٤ ج١٠، وخزانة الأدب ٢٥٨ ج٣.

(١٠-٨) الباقي من هذه الطبقة

وفي هذه الطبقة من الجاهليين والمخضرمين جماعة ضاق المقام عن تراجمهم، وفيهم بضعة من الفحول، ولكن أكثرهم مقلون، فنكتفي بأسمائهم مرتبة حسب الحروف الأبجدية مع الإشارة إلى المآخذ التي يمكن الرجوع إليها في معرفة أخبارهم:
اسم الشاعر المصادر
كثير بن الغريرة من تميم شاعر مخضرم الأغاني ٩٧ ج١٠
أبو خراش الهذلي من هذيل الأغاني ٣٨ ج٢١
أبو ذؤايب الهذلي من أصحاب المراثي الأغاني ٥٨ ج٦ والشعر والشعراء ٤١٣
أبو زبيد الطائي كان يزور عثمان الأغاني ٢٤ ج١١ والشعر والشعراء ١٦٧
أبو العيال من هذيل شاعر فصيح أدرك معاوية الأغاني ١٦٧ ج٢٠
الأسود بن يعفر من تميم شاعر فصيح الشعر والشعراء ١٣٤ والأغاني ١٣٤ ج١١ والخزانة ٩٥ ج١ وشعراء النصرانية ٤٧٥
جران العود* الشعر والشعراء ٤٥٠
الحادرة المازني شاعر مقل الأغاني ٨٢ ج٣
حنظلة الطائي صاحب الوفاء شعراء النصرانية ٨٩ والمستطرف ١٦١ ج١
خزيمة بن نهد من قضاعة شاعر قديم الأغاني ١٥٩ ج١١
ربيعة بن مقروم من ضبة الأغاني ٩٠ ج١٩ والشعر والشعراء ١٨٠ وخزانة الأدب ٥٦٦ ج٣
سويد بن أبي كاهل من يشكر الأغاني ١٧١ ج١١ والشعر والشعراء ٢٥٠
عدي بن زيد العبادي من تميم من أصحاب المجمهرات شاعر، كاتب كسرى الأغاني ١٨ ج٢ والشعر والشعراء ١١١ والجمهرة ١٠٢
عدي بن نوفل من قريش شاعر مقل الأغاني ١٣٥ ج١٣
عمرو بن شأس من أسد الأغاني ٦٣ ج١٠ والشعر والشعراء ٢٥٤
عمرو بن سعيد من قريش الأغاني ٨٧ ج٨
عمرو بن براقة شاعر قديم الأغاني ١٣٠ ج٢١
عمرو بن قميئة من ربيعة الأغاني ١٦٣ ج١٦ والخزانة ٢٤٩ ج٢ والشعر والشعراء ٢٢٢
عيينة بن مرداس شاعر مقل الأغاني ١٤٣ ج١٩
غيلان الثقفي من أهل الطائف الأغاني ٤٥ ج١٢
فضالة بن شريك من مضر وفد على ابن الزبير الأغاني ١٧١ ج١٠
كعب بن مالك من الخزرج مخضرم الأغاني ٢٦ ج١٥ والخزانة ٢٠٠ ج١
لقيط بن يعمر الأبادي شاعر جاهلي قديم الأغاني ٢٣ ج٢٠ والشعر والشعراء ٩٧
المتنخل من هذيل شاعر فحل الأغاني ١٤٥ ج٢٠ وخزانة الأدب ١٣٧ ج٢
المخبل السعدي من تميم مات أيام عمر الأغاني ٤٠ ج١٢ والشعر والشعراء ٢٥٠ وخزانة الأدب ٥٣٥ ج٢
الممزق العبدي (٤٨٠م) شاعر قديم الشعر والشعراء ٢٣٥
النمر بن تولب من عكل من أصحاب المجمهرات الأغاني ١٥٧ ج١٩ والشعر والشعراء ١٧٣ والجمهرة ١٠٩
هدبة بن الخشرم§ من بادية الحجاز كان راوية الحطيئة الأغاني ١٦٩ ج٢١ والشعر والشعراء ٤٣٤ وخزانة الأدب ٨٤ ج٤
يزيد بن عبد المدان شعراء النصرانية ٨٠
له ديوان مطبوع.
† له ديوان خطي في دار الكتب المصرية وفي المتحف البريطاني وطُبع شيء منه في ليدن ١٨٥٨ «وقد طُبع في مصر».
‡ له ديوان في مكتبة أيا صوفيا.
§ عنه مقالة بالفرنسية لدوجات في المجلة الأسيوية الفرنسية سنة ١٨٥٥.

هؤلاء شعراء الجاهلية والمخضرمون ممن وقفنا لهم على تراجم مستقلة مع بيان أغراضهم ومراتبهم. وهناك طائفة كبيرة عُرفوا بأبيات أو قصائد ومنهم كثيرون في كتب الأدب والحماسة والمجمهرات والمفضليات وغيرها.

(١٠-٩) مآخذ الشعراء الجاهليين

يحسن بنا أن نأتي على ذكر الكتب التي يمكن لطلاب الشعر التوسع بها في معرفة الشعراء الجاهليين أو المخضرمين، غير الدواوين التي تقدم ذكرها وغير المعاجم اللغوية، وهذه أهمها مما طُبع ويقرب تناوله، ونذكر هنا الطبعات التي عولنا عليها في المصادر التي بين أيدينا مُرتبة حسب الحروف الأبجدية؛ لتسهل المراجعة على المطالع:

اسم الكتاب سنة الطبع ومكانه
(١) أشعار الهذليين رواية السكري لندن سنة ١٨٥٤
(٢) الأصمعيات ليبسك سنة١٩٠٢
(٣) الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني ٢١ جزءًا بولاق سنة ١٢٨٥
(٤) أمالي القالي مصر سنة ١٣٢٦
(٥) أمثال العرب للضبي الأستانة سنة ١٣٠٠
(٦) البيان والتبيين للجاحظ جزآن مصر سنة ١٣١٣
(٧) جمهرة أشعار العرب لأبي زيد بن أبي الخطاب بولاق سنة ١٣٠٨
(٨) جمهرة الأمثال لأبي الحسن العسكري بمباي سنة ١٣٠٧
(٩) الحماسة لأبي تمام وشرحها للتبريزي ٤ أجزاء بولاق سنة ١٢٩٦
(١٠) الحماسة للبحتري بيروت سنة ١٩٠٩
(١١) خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب ٤ أجزاء بولاق سنة ١٢٩٩
(١٢) سيرة الرسول لابن هشام ٣ أجزاء بولاق سنة ١٢٩٥
(١٣) شرح القصائد العشر للتبريزي كلكته سنة ١٨٩٤
(١٤) شرح المقامات الحريرية للشريشي بولاق سنة ١٢٨٤
(١٥) الشعر والشعراء لابن قتيبة ليدن سنة ١٩٠٢
(١٦) شعراء النصرانية للأب شيخو ٦ أجزاء بيروت سنة ١٨٩٠
(١٧) طبقات الشعراء لإسكندر أبكاريوس بيروت سنة ١٨٥٨
(١٨) العقد الثمين في الشعراء الستة الجاهليين لندن سنة ١٨٧٠
(١٩) العقد الفريد لابن عبد ربه ٣ أجزاء مصر سنة ١٣٠٥
(٢٠) العمدة لابن رشيق جزءان مصر سنة ١٣٢٥
(٢١) قواعد الشعر لثعلب ليدن سنة١٨٩٠
(٢٢) الكامل لابن الأثير ١٢ جزءًا مصر سنة ١٣٠٢
(٢٣) الكامل للمبرد مصر سنة ١٢٨٦
(٢٤) الكشكول وعلى هامشه أدب الدنيا والدين مصر سنة ١٣٠٥
(٢٥) مجمع الأمثال للميداني مشروح بيروت سنة ١٣١٢
(٢٦) مصارع العشاق للسراج الأستانة سنة ١٣٠٨
(٢٧) معجم البلدان لياقوت الحموي ٦ أجزاء ليبسك سنة ١٨٧٠
(٢٨) معجم ما استعجم للبكري جزءان غوتنجن سنة ١٨٧٧
(٢٩) المعلقات وشروحها مصر سنة ١٣١٩
(٣٠) المفضليات للمفضل الضبي ليبسك سنة ١٨٨٥
(٣١) نقد الشعر لقدامة بن جعفر الأستانة سنة ١٣٠٢
ولا يخفى أن للمستشرقين عناية كبرى بالشعر العربي، ولهم فيه أبحاث وانتقادات، وإليك أشهر ما كتبوه بهذا الشأن لعل القارئ يحب الاطلاع عليها نذكرها باللغات التي كُتبت بها مع مكان طبعها وسنته:
  • Ahlwardt, Ueber Poesie Poeetik der Araber, Gotha 1856.
  • Clouston. Arabian Poetry for English readers, Glasgow 1881.
  • Guyard, Théorie nouvelle de la métrique arabe précédée de Considération gén, sur le rythme natural du langue J.A. 1876.
  • Muir. Ancient Arabic Poetry; its genuinness & its Authenticity. J.R.A.S.1879.
  • Noeldeke, Beitroege Zur Kenntness der Poesie der alten Araber, Hanover 1864.
  • Slane, Le diwan d’Amrou ’L’ Kais précédé de la vie de ce poéte, Paris 1837.
  • Lyall, Translation of Ancient Arabic poetry, London 1887.

وهناك شرح للمعلقات بالعربية والفارسية والهندية اسمه رياض الفيض طُبع في لاهور (الهند) سنة ١٢٩٩.

(١١) الخطابة في الجاهلية

الخطابة تحتاج إلى خيال وبلاغة، ولذلك عددناها من قبيل الشعر أو هي شعر منثور، وهو شعر منظوم، لكل منهما موقفه … فالخطابة تحتاج إلى الحماسة، ويغلب تأثيرها في أبناء عصر الفروسية وأصحاب النفوس الأبية طلاب الاستقلال والحرية مما لا يشترط في الشعر، ولذلك تشابهت جاهلية العرب وجاهلية اليونان من هذا الوجه لأن كليهما أهل شعر وخطابة وأهل إباء واستقلال، ولذلك أيضًا كانت الخطابة رائجة عند الرومان مع تأخر الشعر عندهم، ولنفس هذا السبب قصر العبرانيون في الخطابة مع تقدمهم في الشعر لغلبة الذل والضعف على طباعهم، فتحول خيالهم الشعري إلى الشكوى والتضرع وانصرفت قرائحهم إلى نظم المراثي والحكم.

أما العرب فقد قضى عليهم الإقليم بالحرية والحماسة وهم ذوو نفوس حساسة مثل سائر أهل الخيال الشعري، فأصبح للبلاغة وقع شديد في نفوسهم … فالعبارة البليغة تقعدهم أو تقيمهم بما تثيره في خواطرهم من النخوة، واقتضت المنازعات بينهم أن يتفاخروا ويتنافروا، فاحتاجوا إلى الخطابة في الإقناع وتأليف الأحزاب، وإن غلب في موضوعات خطبهم المفاخرة بالأحساب والآداب في المجالس والأندية العمومية والخصوصية. وكانوا يخطبون وعليهم العمائم، وهم وقوف في أيديهم المخاصر، ويعتمدون على الأرض بالقسي ويشيرون بالعصي والقنا، وقد يخطبون وهم جلوس على رواحلهم،٢٨ ومما يدل على تشابه الشعر والخطابة أن الغالب في الشعراء أن يخطبوا والخطباء أن ينظموا، فيكون الواحد شاعرًا وخطيبًا … فإذا غلب عليه الشعر سموه شاعرًا أو الخطابة سموه خطيبًا، والقبائل التي كثر خطباؤها هي غالبًا التي كثر شعراؤها. ومن أقوالهم في تاريخ الشعر والخطابة، إن عبد القيس بعد محاربة إياد تفرقوا فرقتين، ففرقة وقعت بعمان وشق عمان وفيهم خطباء العرب، وفرقة وقعت إلى البحرين وشق البحرين وهم من أشعر القبائل، ولم يكونوا كذلك حين كانوا في سرة البادية وفي معدن الفصاحة٢٩ ويدل ذلك على نتائج احتكاك الأفكار عند الاختلاط بالأعاجم، ولهذا السبب كثر الخطباء أيضًا في اليمن؛ لاختلاطهم بالفرس، وكان الفرس أهل خطابة مثل العرب.

(١١-١) موضوعات الخطب

وكان العرب يخطبون بعبارة بليغة فصيحة وهم أميون لا يقرأون ولا يكتبون، وإنما كانت الخطابة فيهم قريحة مثل الشعر، وكانوا يدربون فتياتهم عليها من حداثتهم؛٣٠ لاحتياجهم إلى الخطباء في إيفاد الوفود مثل حاجتهم إلى الشعراء في حفظ الأنساب والدفاع عن الأعراض، ولكنهم كانوا يقدمون الشاعر على الخطيب في الجاهلية، ولما جاء الإسلام صار الخطيب مقدمًا لحاجتهم إليه في الإقناع وجمع كلمة الأحزاب، ولكن نظرًا لحاجة العرب إلى الخطباء في الوفود، فقد كان خطيب القبيلة عندهم عميدها وزعيمها، وهو واحد يعدل قبيلة ولسان يعرب عن السنة.

أما إيفاد الوفود فقد كان شائعًا في تلك العصور، فكانت دول الروم والهند والصين والفرس يتبادلون الوفود لمبادلة العلاقات أو للمفاخرة، ولم يكن للعرب دول تستوفد من قبلها، ولكن المنادرة ملوك العرب في العراق كانوا يذكرون فصاحة العرب بين يدي الأكاسرة وخصوصًا كسرى أنوشروان فكان يميل إلى مشاهدتهم … فاتفق مرة أن النعمان خاطبه في ذلك، فطلب إليه أن يريه واحدًا منهم فاستقدم جماعة من خطباء العرب اختار من كل قبيلة اثنين أو ثلاثة هم بالحقيقة حكماؤها ووجهاؤها، ومنهم أكثم بن صيفي، وحاجب بن زرارة من قبيلة تميم، والحارث بن ظالم، وقيس بن مسعود من قبيلة بكر، وخالد بن جعفر، وعلقمة بن علاثة، وعامر بن الطفيل من بني عامر، وغيرهم فقدموا علىي كسرى، وخطب كل منهم بين يديه خطابًا ذكره ابن عبد ربه مفصلًا في الجزء الثالث من العقد الفريد.

على أن عرب اليمن وشرقي جزيرة العرب كانوا يقدمون على كسرى للشكوى من عماله هناك، وكان غيرهم من العرب يفدون عليه بالهدايا من الخيل ونحوها على سبيل الاستجداء كما فعل أبو سفيان والد معاوية.

وكانوا يفدون على الأمراء من العرب وغيرهم كوفود حسان بن ثابت على النعمان بن المنذر بالحيرة وعلى آل جفنة في البلقاء، ووفود وجهاء قريش على سيف بن ذي يزن في اليمن بعد انتصاره على الحبشة … وفدوا عليه للتهنئة بالنصر، وكان في جملة خطباء ذلك الوفد عبد المطلب جد النبي، ومن هذا القبيل وفود القبائل على النبي بعد أن استتب له الأمر؛ فقد جاءه من كل قبيلة وجهاؤها وخيرة بلغائها للدخول في الإسلام أو للاستفهام أو غير ذلك، ومن هذا القبيل أيضًا وفود العرب على الخلفاء للتسليم والتهنئة … كوفود جبلة بن الأيهم، وعمرو بن معدي كرب على عمر بن الخطاب، ووفود أهل اليمامة على أبي بكر وغيرهم مما يطول شرحه.

(١١-٢) الخطباء

وجملة القول إن الخطباء كانوا كثيرين في النهضة الجاهلية كالشعراء، والغالب فيهم أن يكونوا أمراء القبائل أو وجهاءها أو حكماءها، وكان لكل قبيلة خطيب أو أكثر كما كان لها شاعر أو أكثر، وأشهر خطباء الجاهلية قس بن ساعدة من بني إياد وقد أدركه الرسول فرآه في سوق عكاظ على جمل أحمر، وهو يقول في خطابه: «أيها الناس اجتمعوا فاسمعوا وعوا، من عاش مات ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت»،٣١ وقد تقدم ذكره بين الشعراء.

ومنهم سحبان وائل الباهلي الذي يُضرب المثل بفصاحته، فيقال: «هو أخطب من سحبان وائل» وكان إذا خطب يسيل عرقًا ولا يعيد كلمة ولا يتوقف ولا يقعد حتى يفرغ. ومنهم جماعة كبيرة من حِمير كدويد بن زيد، وزهير بن جناب، ومرثد الخير، وغيرهم من سائر القبائل كالحارث بن كعب المذحجي، وقيس بن زهير العبسي، وذي الإصبع العدواني، وأكثم بن صيفي التميمي، وعمرو بن كلثوم، وغيرهم.

وكانوا يتخيرون في خطبهم الألفاظ الرقيقة والمعاني المألوفة. وكانت خطبهم على ضربين: الطوال، والقصار، والقصار أكثر عددًا لأنهم كانوا يفضلونها؛ لسهولة حفظها، وكانوا لشدة عنايتهم بالخطب يتوارثونها ويتناقلونها في الأعقاب ويسمونها بأسماء خاصة كالعجوز خطبة لآل رقية، والعذراء خطبة قيس بن خارجة، والشوهاء خطبة سحبان.٣٢

وتجد أمثلة من خطب الجاهلية أو في أثناء الفتوح في كتب الأدب، ولا سيما العقد الفريد لابن عبد ربه، والبيان والتبيين للجاحظ، والأغاني ونهج البلاغة (خطب علي) وفي كتب المغازي والفتوح كفتوح الشام لأبي إسماعيل البصري، وفتوح الشام للواقدي، وفتوح البلدان للبلاذري، والسيرة النبوية لابن هشام، وتاريخ الطبري، وابن الأثير، وغيرها.

(١٢) الأنساب في الجاهلية

للأنساب في عصور الجاهلية عند الأمم القديمة شأن كبير؛ إذ يكون للناس عناية عظمى في حفظ أنسابهم للتناصر على الأعداء، أو للتفاخر بالآباء، وقد بالغ اليونان في ذلك حتى حفظوا أنساب آلهتهم وكيفية تسلسلها بعضها من بعض، ثم نسبوا أنفسهم إليها فلم يكن في جاهلية اليونان أسرة كبيرة من الأشراف ورجال السلطان إلا وحبل نسبها يتصل ببعض تلك الآلهة، وقد نظم بعضهم الأشعار للتفاخر بذلك قبل المسيح ببضعة قرون، وكذلك كان الرومان في أقدم أجيالهم … فالطبقة التي تُعرف عندهم بالبطارقة، كانوا يدعون الانتساب إلى آباء أعلى طبقة من البشر.

(١٢-١) نسب العرب

العرب العدنانيون من حيث أنسابهم يرجعون في أصل آبائهم الأولين إلى إسماعيل بن إبراهيم، والقحطانيون ينتسبون إلى يقطان بن عابر، وقد زادت عناية العرب بالأنساب؛ رغبة في التناصر على الغرباء، وقد رُتبت أنساب العرب في ست مراتب أو طبقات، أولها: الشعب، ثم القبيلة، فالعمارة، فالبطن، فالفخذ، فالفصيلة، فالشعب هو النسب الأبعد مثل عدنان وقحطان، ثم القبيلة وهي ما انقسمت فيها أنساب الشعب مثل ربيعة ومضر، ثم العمارة وهي ما انقسمت فيها أنساب القبائل مثل قريش وكنانة، ثم البطن وهو ما انقسمت فيه أنساب العمارة مثل بني عبد مناف، وبني مخزوم، ثم الفخذ وهو ما انقسمت إليه أنساب البطن مثل بني هاشم، وبني أمية، ثم الفصيلة مثل بني أبي طالب، وبني العباس.٣٣
وبالغ العرب في الرجوع إلى الأجداد حتى رجعوا بأسماء المدن إلى أسماء بعض أجدادهم، والغالب أن ينتهي النسب بأحد آباء التوراة … فإذا سُئل أحدهم مثلًا عن الأندلس من بناها، قال: «بناها أندلس بن يافث بن نوح»٣٤ وكان النسابون يحفظون أسماء القبائل وما يتفرع منها حفظًا دقيقًا، فإذا عرض لهم رجل فقال: أنا من بني تميم مثلًا انسبني، فإنه يبدأ من قبيلة تميم وما تفرع منها من العمائر والبطون والأفخاذ حتى ينتهي إلى الفصيلة، ومنها إلى والد السائل أو إليه هو نفسه.
وكثر النسابون في الجاهلية، ولم تخلُ قبيلة أو عمارة أو بطن من نسابة، ومن أشهرهم دغفل السدوسي من بني شيبان، وعميرة أبو ضمضم، وابن لسان الحمرة من بني تيم اللات، وزيد بن الكيس النمري، والنخار بن أوس القضاعي، وصعصعة بن صوحان، وعبد الله بن عبد الحجر بن عبد المدان وغيرهم،٣٥ وظل النسب محفوظًا في صدر الإسلام، واشتهر كثير من النسابين، فلما آلت الدولة إلى الموالي والمصطنعين صار الناس ينتسبون إلى مواليهم، ومصطنعيهم.

(١٣) الأخبار أو التاريخ في الجاهلية

لم يكن عند عرب الجاهلية تاريخ من قبيل ما نفهمه من هذه الكلمة اليوم، ولكنهم كانوا يتناقلون أخبارًا متفرقة بعضها حدث في بلادهم والبعض الآخر نقله إليهم الذين عاشروهم من الأمم الأخرى، فمن أمثال أخبارهم حروب القبائل المعروفة بأيام العرب، وقصة سد مأرب واستيلاء أبي كرب تبان أسعد على اليمن وبعض من خلفه، وملك ذي نواس، وقصة أصحاب الأخدود وفتح الحبشة لليمن، وقصة أصحاب الفيل وقدومهم إلى الكعبة وحرب ذي يزن الحميري إلى آخر ما انتهى إليه أمر الفرس في اليمن، وقصة عمرو بن لحي وأصنام العرب وحكاية جرهم ودفن التماثيل في زمزم، وتاريخ الكعبة إلى أيام قصي بن كلاب، وولاية الحج وأمر عامر بن الظرب، ثم ما كان من تغلب قصي على أمر مكة، وقصة حلف المطيبين وحلف الفضول وحفر بئر زمزم وحرب الفِجار وحديث بنيان الكعبة … غير أخبار عاد وثمود وغيرهما من العرب البائدة، وحكاية بلقيس وسليمان ونحوهما من أخبار التوراة وغير ذلك من الأخبار التي كان العرب يتناقلونها عند ظهور الإسلام.

(١٤) الأسواق ومجالس الأدب في الجاهلية

(١٤-١) أسواق العرب

السوق مكان يجتمع فيه أهل البلاد أو القرى في أوقات معينة، يتبايعون ويتداولون ويتقايضون، ولا تزال أمثال هذه الأسواق تُقام إلى اليوم في القرى أو في البلاد البعيدة عن التمدن الحديث، على أن في بعض المدن الكبرى كالقاهرة مثلًا أسواقًا تنعقد في بعض أيام الأسبوع وتعرف بها، كسوق السبت أو السبتية وسوق الثلاثاء أو الأربعاء … فيجتمع إليها الناس من الضواحي للبيع والشراء.

ومن هذه الأسواق ما ينعقد كل أسبوع، ومنها ما لا ينعقد إلا مرة في الشهر أو في السنة، ومنها ما ينعقد مرة في بضع سنين، فإن للهنود سوقًا يقيمونها في هردوار على ضفاف الكنج كل سنة، ويبلغ عدد المجتمعين هناك في الموسم ٣٠٠٠٠٠ نفس، ويقيمون في ذلك المكان حجًّا مرة كل ١٢ سنة، يبلغ عدد الحاجين إليه نحو مليون نفس، وهو أكبر أسواق العالم، وأمثال هذه الأسواق كثيرة في روسيا وتركيا وألمانيا وفرنسا وإنجلترا وأمريكا، ففي روسيا سوق تقام في مدينة نوفكرود مرتين في السنة، يبلغ عدد الذين يؤمونها ١٢٠٠٠ نفس يجتمعون هناك من سائر بلاد روسيا ومن شرقي أوربا، ويقدرون قيمة ما يُباع من البضائع في أسواق روسيا بنحو ١٢٠٠٠٠٠٠ روبل في العام، وقس على ذلك سائر الأسواق الكبرى.

وقد كان كثير من أمثال هذه الأسواق في العالم القديم، ولكن الأقوام لا تتزاحم فيها إلا إذا كان الغرض من الاجتماع حجًّا دينيًّا، فإذا اجتمع الناس في مكان الحج وتكاثروا، احتاجوا إلى من يبيعهم الأطعمة والأشربة وغيرها فتقام الأسواق لهذه الغاية، كذلك كان شأن العرب في سوق عكاظ وغيرها من أسواق الجاهلية.

وكان للعرب في الجاهلية أسواق يقيمونها في أشهر السنة، وينتقلون من إحداها إلى الأخرى … يحضرها العرب من قرب منهم ومن بعد، فإذا فرغوا من سوق انتقلوا إلى سواها، فكانوا ينزلون دومة الجندل في أعالي نجد أول يوم من شهر ربيع الأول، فيقيمون فيها الأسواق للبيع والشراء والأخذ والعطاء ثم ينتقلون إلى سوق هجر … فيقيمون هناك شهرًا ويرتحلون منها إلى عمان حيث يقيمون سوقًا ثم يرتحلون إلى حضرموت فعدن، وبعضهم ينزل صنعاء فيقيمون بعض أسواقهم ثم يرتحلون إلى عكاظ في الأشهر الحرام، وكانت لهم أسواق أخرى في صحار والشحر والمجنة وحباشة والمشقر وغيرها.٣٦
وأشهر أسواق عرب الجاهلية سوق عكاظ، وهي مكان بين الطائف ونخلة، صحراء مستوية لا علم فيها ولا جبل إلا ما كان من الأنصاب التي كانت لأهل الجاهلية، وبها من دماء البُدن، كالأرحاء العظام٣٧ … فكانت العرب إذا قصدت الحج أقامت بهذه السوق من أول ذي القعدة، يبيعون ويشترون، إلى عشرين منه، ثم يتوجهون إلى مكة فيقضون مناسك الحج ثم يعودون إلى أوطانهم، وكان كل شريف إنما يحضر سوق بلده إلا سوق عكاظ، فإنهم كانوا يتوافدون إليها من كل ناحية، ومن كان له أسير سعى في فدائه هناك، ومن كانت له حكومة ارتفع إلى الذي يقوم بأمر الحكومة في أيام الموسم وهم أناس من تميم، ومن كان له ثأر على أحد ولم يعرف مكانه، طلبه في المواسم … وإذا أراد أحد أن يعمل عملًا تعرفه العرب أو يشهدها فيه، عمله في عكاظ،٣٨ وإذا أراد أن يفاخر أحدًا على مشهد من الناس فاخره هناك، وكانوا يتفاخرون حتى في المصائب، كما تقدم عن معاظمة الخنساء وهند بنت عتبة.
ويهمنا في هذا المقام أن العرب كانوا يغتنمون وقت المواسم واجتماع القبائل ويقيمون مجالس للبحث في كل موضوع كالمناشدة والمفاخرة، فينشد الشعراء ويخطب الخطباء … فيختارون كبيرًا من وجهائهم يجعلونه حكمًا فيما يختلفون فيه، وكان النابغة الذبياني إذا أتى سوق عكاظ في الموسم ضربوا له قبة حمراء من أدم، وتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها٣٩ ليحكم فيها، ويقال: إنهم كانوا إذا أعجبتهم قصيدة علقوها في الكعبة، ومنها المعلقات السبع.
وشأن العرب في ذلك شأن اليونان القدماء في الجمناسيوم، وهي أبنية كانوا يجتمعون فيها للألعاب البدنية وفيهم الفلاسفة والعلماء … فكانوا يغتنمون فرصة وجودهم هناك ويتباحثون ويتناظرون ويتنافرون كما كان يفعل العرب في عكاظ،٤٠ ولا يخفى ما في ذلك من تمحيص الحقائق واستحثاث القرائح، فضلًا عما كان يترتب على ذلك الاجتماع من تنقيح اللغة ونموها … فإن قريشًا كانوا يسمعون لغات القبائل في أثناء تلك الاجتماعات، فما استحسنوه من لغاتهم تكلموا به، فصاروا أفصح العرب، وخلت لغتهم من مستبشع اللغات ومستقبح الألفاظ كالكشكشة والكسكسة والعنعنة والفحفحة والوكم والوهم والعجعجة والاستنطاء وغير ذلك من العيوب في لغات الأمم الأخرى.٤١

(١٤-٢) مجالس الأدب

وكان للعرب مجالس يجتمعون فيها لمناشدة الأشعار ومبادلة الأخبار والبحث في بعض شؤونهم العامة، وكانوا يسمون تلك المجالس الأندية، ومنها نادي قريش ودار الندوة بجوار الكعبة، وكان لكل بيت فناء بين يديه للاجتماع،٤٢ ولكل قوم مجتمع عام في المضارب،٤٣ على أنهم كانوا حيثما اجتمعوا تناشدوا وتفاخروا.

وتجد أخبار أسواق العرب وأماكنها في جملة التاريخ الجاهلي، وفي كتب الأقاليم والمعاجم الجغرافية، وخصوصًا معجم البلدان لياقوت الحموي، ومعجم ما استعجم للبكري، وصفة جزيرة العرب للهمذاني، وكلها مطبوعة، فضلًا عما جاء من أخبارها في الأغاني ٩ ج١، و٦١ ج٢، و٢٢ و١١٠ و١٣٦ ج٤، و٩٢ ج٦، و٤٦ ج٧، و١٠ ج٩ و١٢ و٢٩ و١٤٨ ج١٠، و٥٤ ج١٢، و١٤١ ج١٣، و٤١ ج١٤، و٧٣ ج١٩ وفي السير النبوية وغيرها.

هوامش

(١) ابن خلدون ٥٠٩ ج١.
(٢) العقد الفريد ٩٣ ج٣.
(٣) العمدة ٦١ ج١.
(٤) ابن خلدون ٥٠٩ ج١.
(٥) المزهر: ٢٣٩ ج٢.
(٦) الأغاني ٦٧ ج٣.
(٧) الأغاني ١٤٩ ج٩.
(٨) الأغاني ٧٧ ج٨.
(٩) العمدة ١٤٦ ج٢.
(١٠) مهدد: صاحبة الأعشى.
(١١) جمهرة أشعار العرب ٥٦.
(١٢) الأغاني ٩٧ ج١٤.
(١٣) الكوم: القطعة من الإبل.
(١٤) الجمهرة: ١٠٠.
(١٥) النشم: شجر، والثمامة: نبت.
(١٦) الأشيقر: الأحمر من الإبل، والخزامة: حلقة من شعر تجعل في أنف البعير.
(١٧) اقرأ تفصيله في كتابنا «العرب قبل الإسلام» صفحة ٢٣٢.
(١٨) اقرأه في الأغاني ١٥٠ ج١٢.
(١٩) الألهوب: شدة جري الفرس ومثله الدرة. والأهوج: الأحمق، والمنعب: الذي يمد عنقه في الجري.
(٢٠) راجع ترجمة أمية بن أبي الصلت مطولة في «الهلال» السنة التاسعة.
(٢١) الأغاني ١٨٧ ج٣.
(٢٢) ابن هشام ٨١ ج١.
(٢٣) الموشى ٤٣.
(٢٤) فوات الوفيات ٣٣ ج١.
(٢٥) الشراسيف: أطراف الأضلاع، المنقب: وسط البطن، والقتب: الرحل.
(٢٦) شعراء النصرانية ٣٣٠.
(٢٧) راجع تاريخ البردة النبوية في تاريخ التمدن الإسلامي ١١٥ ج١ «طبعة ثالثة».
(٢٨) البيان والتبيين ٢٠ ج٢ و١٣٩ ج١.
(٢٩) البيان ٤٢ ج١.
(٣٠) البيان والتبيين ٥٨ و٩٨ ج١.
(٣١) البيان والتبيين ١١٩ ج١.
(٣٢) البيان والتبيين ١٣٣ ج١.
(٣٣) الماوردي: الأحكام السلطانية ١٩٤.
(٣٤) ابن خلكان ١٤ ج١.
(٣٥) بلوغ الأرب ١٩٦ ج٣ والبيان ١١٨ ج١.
(٣٦) نهاية الأرب.
(٣٧) معجم البكري ٦٦٠.
(٣٨) الأغاني ٢ ج١٣.
(٣٩) الشعر والشعراء ١٩٧.
(٤٠) Lit. Gr. 132.
(٤١) المزهر ١٠٩ ج١.
(٤٢) الأغاني ٥٢ ج٢.
(٤٣) ١٢٩ ج١١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤