العلوم الدخيلة

(١) أولًا: الفلسفة والرياضيات

قد رأيت أن المشتغلين في نقل العلم بالعصر العباسي الأول كان أكثرهم من غير المسلمين، فلما صارت تلك العلوم في العربية اشتغل بها المسلمون، ونبغ منهم الفلاسفة والأطباء والرياضيون وغيرهم، وأقدم من اشتهر من الفلاسفة المسلمين في هذا العصر وأكبرهم وأسبقهم يعقوب بن إسحاق الكندي يليه الفارابي:

(١-١) يعقوب الكندي (في أواسط القرن الثالث)

هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي، ويتصل نسبه بملوك كندة، فهو عربي بحت؛ ولذلك سموه فيلسوف العرب، وكان معاصرًا للمأمون والمعتصم إلى المتوكل، وله عندهم منزلة سامية. وقد برع في الطب والفلسفة والحساب والمنطق والألحان والهندسة وطبائع الأعداد وعلم النجوم. نبغ وليس في المسلمين فيلسوف غيره، وحذا في تآليفه حذو أرسطو، وله ترجمات عديدة نقلها لنفسه، وكان يعد من حُذَّاق التراجمة، ولم يذكر بينهم؛ لأنه لم يرتزق بالترجمة، وقد ألَّف الكندي في معظم العلوم الدخيلة كتبًا كثيرة ذكرها صاحب الفهرست، وإليك عددها باعتبار العلوم:
المجموع كله ٢٣١ كتابًا
في الفلسفة ٢٢ كتابًا
في الحساب ١١ كتابًا
في النجوم ١٩ كتابًا
في الهندسة ٢٣ كتابًا
في الفلكيات ١٦ كتابًا
في الطب ٢٢ كتابًا
في الجدل ١٧ كتابًا
في السياسة ١٢ كتابًا
في الأحداث ١٤ كتابًا
في الطبيعيات إلخ ٣٣ كتابًا
في الكريات ٨ كتب
في المنطق ٩ كتب
في الموسيقى ٧ كتب
في الأحكام ١٠ كتب
في النفس ٥ كتب
في الأبعاد ٨ كتب
في تقدمة المعرفة ٥ كتب

ويؤخذ من مراجعة أسماء هذه الكتب أن الرجل كان كثير التضلُّع في العلوم حتى انتقد أصحابها، وأكثر هذه الكتب ضاع ولم يبقَ منها إلا: (١) كتاب في إلهيات أرسطو، (٢) رسالة في الموسيقى. وكلاهما موجودان في مكتبة برلين، (٣) رسالة في معرفة قوى الأدوية المركبة في مكتبة منشن، ولها ترجمة لاتينية مطبوعة، (٤) في المد والجزر، (٥) علة اللون اللازوردي الذي يرى في الجو في جهة السماء، وكلاهما في أكسفورد، (٦) ذات الشعبتين آلة فلكية في ليدن، (٧) اختيارات الأيام في ليدن، (٨) مقالة تحاويل السنين في الإسكوريال، وغيرها.

وترجمة الكندي في الفهرست ٢٥٥، وأخبار الحكماء لابن القفطي ٢٤٠، وطبقات الأطباء ٢٠٦ ج١.

(١-٢) أبو النصر الفارابي (توفي سنة ٣٣٩ﻫ)

ويلي الكندي أبو النصر الفارابي، واسمه محمد بن طرخان، أصله من فاراب، لكنه فارسي المنتسب، نشأ في الشام واشتغل فيها، وكان فيلسوفًا كاملًا، درس كل ما درسه الكندي من العلوم، وفاقه في كثير منها، وخصوصًا في المنطق، وتعمَّق في الفلسفة والتحليل وأنحاء التعاليم، وأفاد وجوه الانتفاع بها، وألف كتبًا في مواضيع لم يسبقه أحد إليها ككتابه في إحصاء العلوم الآتي ذكره وكتاب «السياسة المدنية»، وهو من قبيل الاقتصاد السياسي الذي يزعم أهل التمدن الحديث أنه من مخترعاتهم، وقد كتب فيه الفارابي منذ ألف سنة، ثم كتب فيه غيرهما كما ستراه مفصلًا في ما يلي. وبرع الفارابي خصوصًا في فن الموسيقى حتى أصبح لا يضاهيه فيه أحد، واخترع القانون كما سيأتي في باب الموسيقى، وأصلح ما بقي من الترجمات غير مصلح ولخصها، أوعز إليه بذلك منصور بن نوح الساماني، فأجاب وسمى كتابه «التعليم الثاني»؛ ولذلك سموه «المعلم الثاني».١
ومن مؤلفاته الباقية إلى الآن نحو ١٢ كتابًا في المنطق متفرقة في مكاتب أوروبا بعضها منقول إلى اللاتينية أو العبرانية، أكثرها في الإسكوريال. وبعض الترجمات اللاتينية مطبوع في البندقية وغيرها، وثمانية مؤلفات في السياسة والأدب، منها:
  • (١)

    كتاب مبادئ آراء أهل المدينة الفاضلة، طبعها ديتريشي في ليدن سنة ١٨٩٥.

  • (٢)

    كتاب إحصاء العلوم والتعريف بأغراضها، المتقدم ذكره، وهو من قبيل موسوعات العلم؛ لأنه يشتمل على عدة علوم، منه نسخة خطية في الإسكوريال، وله ترجمة عبرانية وأخرى لاتينية، وبهذا الكتاب عُدَّ الفارابي من مؤسِّسي الموسوعات العربية، وسنعود إلى ذلك. وكتاب السياسة المدنية نشره الأب شيخو في بيروت سنة ١٩٠٢.

وله ٩ كتب في الرياضيات والنجوم والكيمياء والموسيقى متفرقة في مكاتب أوروبا والآستانة مع ترجماتها العبرانية أو اللاتينية.

و٩ كتب أخرى في مواضيع مختلفة، ومثلها على أرسطو في أبحاث مفيدة. وقد وصف هذه البقايا وذكر أماكن وجودها بروكلمن في كتابه،٢ فليراجعها من شاء. وترجمته في ابن خلكان ٧٦ ج٢، وطبقات الأطباء ١٣٤ ج٢، وأخبار الحكماء ١٨٢.

(١-٣) ابن أبي الربيع وسلوك المالك

واطلعنا على كتاب في السياسة اسمه سلوك المالك في تدبير الممالك، تأليف «شهاب الدين أحمد بن محمد بن أبي الربيع»، وقد جاء في أوله أنه أُلِّف للخليفة المعتصم بالله العباسي المتوفى (سنة ٢٢٧)، فإذا صحَّ ذلك كان مؤلف هذا الكتاب أقدم من الكندي والفارابي، ولكن موضوع الكتاب وأسلوبه يدلان على أنه وضع بعد ذلك التاريخ؛ لأنه مرتب على شكل المشجر في أسلوب يدل على وضوح الأفكار في ذهن مؤلفه مما لا يتأتَّى إلا بعد نضج العلم نضجًا تامًّا. وزد على ذلك أن اسم شهاب الدين من الأسماء التي لم تكن معروفة في زمن المعتصم، وإنما هو مما طرأ على الإسلام بعد رسوخ الأتراك في الدولة، وفي كتاب الفهرست مئات من أسماء المؤلِّفين ليس فيهم واحد اسمه شهاب الدين، والفهرست كتب سنة ٣٧٧؛ أي بعد وفاة المعتصم بقرن ونصف، وهذا تاريخ ابن الأثير لم يرد فيه اسم شهاب الدين قبل انقضاء القرن الخامس للهجرة، فلا يُعقل أن ينفرد رجل بهذا الاسم في أول القرن الثالث، ولكل عصر أسماء وألقاب تابعة لأحوال اجتماعية خاصة به. ولعل الخطأ وقع في تحريف اسم الخليفة الذي وضع الكتاب له، فكان «المستعصم»، توفي (سنة ٦٥٦ﻫ)، فقرئ «المعتصم»، وكثيرًا ما يتفق ذلك في قراءة الخطوط. ثم إن الفهرست لم يذكر هذا الكتاب ولا مؤلفه، وإنما ذكره كشف الظنون بدون اسم المؤلف.

أما الكتاب فإنه جزيل الفائدة؛ يبحث في السياسة والاجتماع والفلسفة والطبيعيات والرياضيات والموسيقى، وهو مقسوم إلى أربعة فصول: (١) مقدمة الكتاب، (٢) أحكام الأخلاق وأقسامها، (٣) أصناف السيرة العقلية وانتظامها، (٤) أقسام السياسات وأحكامها. وكل من هذه الفصول مقسوم إلى أبواب ترتبت فيها الأفكار أو الأحكام بشكل جداول أو مشجرات بغاية الدقة. وقد طبع هذا الكتاب في القاهرة سنة ١٢٨٦ على الحجر في ١٥٢ صفحة كبيرة ليمكن تصوير تلك المشجرات. وهذا مثال منه.
fig12
شكل ١: صفحة من كتاب سلوك المالك.

(٢) ثانيًا: الطب والأطباء

ونبغ في هذا العصر أيضًا طائفة من الأطباء المسلمين وغيرهم، هاك أشهرهم حسب سني الوفاة:

(٢-١) ابن ماسويه (توفي سنة ٢٤٣ﻫ)

هو أبو زكريا يوحنا بن ماسويه. كان أبوه صيدليًّا في مارستان جندي سابور. وتثقَّف في بغداد بعناية جبرائيل بن بختيشوع، وترقى في زمن المأمون والواثق. وله مترجمات حسنة ومؤلفات لم يبق منها إلا: (١) كتاب نوادر الطب في ليدن والإسكوريال وغوطا، وله ترجمة لاتينية وشروح، (٢) جواهر الطب، (٣) كتاب ماء الشعير في مكتبة جزائر الغرب، (٤) الأدوية السهلة في أكسفورد وغيرها. وقد نشرنا رسمه مع المترجمين.

وترجمة ابن ماسويه في أخبار الحكماء ٢٤٨، والفهرست ٢٩٥، وطبقات الأطباء ١٧٥ ج١.

(٢-٢) ابن سهل

هو سابور بن سهل صاحب مارستان جندي سابور. توفي سنة ٢٥٥ﻫ، وله كتاب الأقراباذين الكبير، كان معول الصيادلة في أثناء التمدن الإسلامي، منه نسخة خطية في منشن.

وترجمته في طبقات الأطباء ١٦١ ج١، وتراجم الحكماء ١٤١.

(٢-٣) أبو بكر الرازي (توفي سنة ٣٢٠ﻫ)

هو أشهر من نبغ من الأطباء في هذا العصر على الإطلاق، واسمه أبو بكر محمد بن زكريا الرازي، ويسميه الإفرنج Razès، كان في صغره يضرب على العود، وتلقى العلم على كبر، وأفلح واشتهر حتى تولى رئاسة أطباء مارستان بغداد. وظهرت مواهبه بما كان يعقده من مجالس العلم أو يؤلِّفه من الكتب، وجمع في مؤلفاته كل ما كان معروفًا من العلوم الطبية في عصره، ومن أمثالهم: «إن الطب كان معدومًا فأحياه جالينوس، وكان متفرقًا فجمعه الرازي، وكان ناقصًا فكمَّله ابن سينا.»

وكان الرازي يجلس في مجلسه ودونه التلاميذ دونهم تلاميذهم ودونهم تلاميذ آخرون، فكان يجيء الرجل فيصف ما يجد لأول من يلقاه، فإن كان عندهم علم وإلا تعدَّاهم إلى غيرهم، فإن أصابوا وإلا تكلم الرازي، وكان كبير الرأس مسفطه جليل الطلعة يتهيب الناسُ مجلسه لولا رطوبة كانت في عينيه، وكان كريمًا متفضلًا رءوفًا بالمرضى دقيق الملاحظة صحيح النظر، ويروون عن ذكائه وإصابته نوادر كثيرة لا محل لها هنا.

وكان أكثر مقام الرازي في الري وغيرها من بلاد العجم، وخدم بصناعته الأكابر ملوكها وأمراءها، وصنَّف بعض كتبه لهم ككتاب المنصوري ألَّفه للأمير منصور من آل سامان، وكتاب الملوكي لعلي ابن صاحب طبرستان، وسنعود إليها.
fig13
شكل ٢: أبو بكر الرازي في معمله يشتغل بالكيمياء.

وكان الرازي مولعًا بالعلوم الحكمية، وله فيها مصنَّفات نفيسة، وخصوصًا علم الكيمياء وما يتعلق بها، وله اكتشافات كيماوية أهمها زيت الزاج (الحامض الكبريتيك) والكحول، استحضر الأول باستقطار كبريتات الحديد، واسمها في العربية الزاج الأخضر، فلما استقطرها خرج منها سائل سماه زيت الزاج، ولا تزال طريقة الرازي من طرق استحضار هذا الحامض إلى اليوم. أما الكحول فاستحضره باستقطار مواد نشوية وسكرية مختمرة، وألَّف الرازي في الكيمياء كتبًا كثيرة، ولم يكن يعتقد ما يعتقده أهل زمانه من إمكان تحويل المعادن إلى ذهب، وإنما كان يؤلِّف في هذا الفن على اعتقاد أهله التماسًا للمال، لكن ذلك ألحق به الأذى؛ لأن منصور الساماني المذكور طالبه باستخراج الذهب على الصفة التي ذكرها في كتابه فلم يستطع؛ فغضب عليه وأمر أن يضرب بالكتاب على رأسه حتى يتقطَّع، ثم جهزه وسيَّره إلى بغداد، فكان ذلك الضرب سببًا في نزول الماء على عينيه. وجاءه قداح يقدحهما، وهي عملية الكتركتا الآن، فسأله الرازي: «كم طبقة للعين؟» فقال: «لا أعلم!» فقال: «لا يقدح عينيَّ من لا يعلم ذلك.» ثم قال: «قد نظرت الدنيا حتى مللت منها فلا حاجة بي إلى عينين.»

توفي سنة ٣٢٠، وقيل: ٣١٠، وقيل: ٣٦٤ﻫ.
fig14
شكل ٣: آلات خلع الأسنان في ذلك العصر.
وخلَّف الرازي أكثر من مائتي مؤلَّف لا يزال باقيًا منها إلى الآن بضعة وعشرون مؤلفًا يطول بنا وصفها، وإنما نذكر أهمها وهي:
  • (١)

    كتاب الحاوي: وهو أجلُّ كتبه وأعظمها في صناعة الطب، جمع فيه ما وجده متفرِّقًا من ذكر الأمراض ومداواتها في كتب الطب للمتقدمين ومن أتى بعدهم إلى زمانه، ونسب كل قول إلى قائله، ومن هذا الكتاب نسخة خطية في المتحف البريطاني، وأخرى في مكتبة مونيخ، وفي مكاتب أكسفورد والإسكوريال، وقد نقل إلى اللاتينية، نقله فراغوت، وطبع مرتين، وقد اختصره غير واحد.

  • (٢)

    كتاب الطب المنصوري: وقد ذكرنا سبب تأليفه، ومنه نسخة في المكتبة الأهلية بباريس وفي مكاتب أكسفورد ودرسدن وإسكوريال وغيرها، وقد نقله إلى اللغة اللاتينية الكريموني، وطبع فيها.

  • (٣)

    كتاب الجدري والحصبة: وهو أول من وصف هذين الداءين حق الوصف، وقد ترجم كتابه إلى اللاتينية وغيرها، ونشر فيها كلها.

  • (٤)

    كتاب الفصول في الطب: ويقال له المرشد، نقل إلى العبرانية، ويوجد في ليدن، ونقل إلى اللاتينية، وطبع فيها، وقد وصفه المشرق صفحة ٥٤٢ سنة ٤.

  • (٥)

    كتاب الكافي: ترجم إلى العبرانية، وهو موجود في مكتبة أكسفورد.

  • (٦)

    كتاب برء الساعة: يوجد في برلين وغيرها، ونشره الدكتور كيك في مجلة المشرق صفحة ٣٩٥ سنة ٦.

  • (٧)

    كتاب الطب الملوكي: يوجد خطًّا في مكتبة ليدن.

وقد ترجمنا الرازي ووصفنا كتبه الباقية في الهلال ٣٩٧ سنة ١٨، وتجد ترجمته أيضًا في ابن خلكان ٧٨ ج٢، وطبقات الأطباء ٣٠٩ ج١، والفهرست ٢٩٩، وأخبار الحكماء لابن القفطي ١٧٨.

(٣) ثالثًا: الزراعة

ومن العلوم التي نضجت في هذا العصر وبقيت كتبها إلى اليوم، واستفاد منها أهل الأجيال المتأخرة: علم الزراعة أو الفلاحة. وهو في الأصل منقول عن الكلدانية، نقله أحمد بن علي بن قيس الكلداني المعروف بابن وحشية سنة ٢٩١ﻫ في كتاب سمَّاه «الفلاحة النبطية»، أملاه سنة ٣١٨ﻫ على علي بن محمد بن الزيات، وجعله في خمسة أجزاء، منها نسخ خطية في برلين وليدن وأكسفورد والمتحف البريطاني وباريس والجزائر والمكتبة الخديوية، ومنه مختصر الفلاحة للزيتوني، وطبعت في بطرسبورج سنة ١٨٥٩، وله كتب في النجامة منها نسخ في مكاتب أوروبا لا فائدة من ذكرها.

ولقسطا بن لوقا الطبيب النصراني البعلبكي المتوفى سنة ٣١١ﻫ كتاب الفلاحة اليونانية، نقله عن السريانية، وقد طبع في مصر سنة ١٢٩٣.

هوامش

(١) كشف الظنون ٤٤٨ ج١.
(٢) Gesch. des Ar. Lit. I. 211.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤