العلوم الدخيلة

علمت من كلامنا عن هذه العلوم في العصر العباسي الأول أنها تتألف من فروع كثيرة ترجع إلى أربعة: الطب والفلسفة والنجوم والرياضيات. وكان المشتغلون في نقلها أكثرهم من غير المسلمين، ثم اشتغل بها المسلمون في العصر العباسي الثاني، وذكرنا من نبغ فيها، وزاد اشتغالهم بها في هذا العصر، ونبغ فيها علماء لا يشق لهم غبار، فنذكر أصحاب كل فرع على حدة وإن كان أكثرهم اشتغلوا بعلمين فأكثر من تلك العلوم، فنضع كلًّا منهم في العلم الذي غلب عليه.

(١) الطب

يدخل في الطب فروعه الطبيعية كالكيمياء والصيدلة والنبات، لكننا سنفرد لها فصلًا خاصًّا، أما الطب فقد اشتغل المسلمون فيه وخدموه وتكاثر الأطباء على الخصوص في هذا العصر وإمامهم ابن سينا، ويستدل من بعض القرائن أنهم كانوا كثيرين، فقد أحصوا أطباء بغداد وحدها في زمن المقتدر بالله في أول القرن الرابع للهجرة فبلغ عددهم ٨٦٠ طبيبًا امتحنوا لنيل الإذن في التطبيب سوى من استغنى عن الامتحان لشهرته، وسوى من كان في خدمة الخليفة، فلا يمكن أن يكون مجموع ذلك كله أقل من ألف طبيب متعاصرين في مدينة واحدة، وبلغ عدد أطباء النصارى فقط في خدمة المتوكل بأواسط القرن الثالث للهجرة ٥٦ طبيبًا، وكان سيف الدولة إذا جلس على المائدة حضر معه ٢٤ طبيبًا، منهم من يأخذ رزقين لتعاطيه علمين، ومن يأخذ ثلاثة أرزاق لتعاطيه ثلاثة علوم.

وكان للأطباء عندهم نظام وعليهم رئيس يمتحنهم ويجيز من يرى فيه الكفاءة للتطبيب، وأشهر هؤلاء الرؤساء سنان بن ثابت في بغداد ومهذب الدين الدخوار في مصر، وفعلوا نحو ذلك في الصيادلة وكانوا كثارًا، وتفشَّى الغش في الأدوية حتى اضطر ولي الأمر إلى امتحانهم وإعطاء الإجازات أو المنشورات إلى الذين يحسنون الصناعة ونفي الآخرين، وأول من فعل ذلك الأفشين في بغداد، ووكل زكريا بن الطيفوري به في حديث يطول ذكره، وكان من الأطباء أو الصيادلة من هو خاص بالجند يرافقه في أسفاره ومنهم من هو خاص بالخلفاء والأمراء، ولهؤلاء رواتب خاصة ويعرفون بالمرتزقين، ومنهم من يطببون العامة وهم غير مرتزقين، وأشهر أطباء هذا العصر ابن سينا.

(١-١) ابن سينا (توفي سنة ٤٢٨ﻫ)

هو الشيخ الفيلسوف الطبيب أرسطو الإسلام وأبقراطه، واسمه أبو علي الحسين بن عبد الله، ويلقب بالشيخ الرئيس، ويسميه الإفرنج (Avicenna)، كان أبوه من بلخ في شمالي أفغانستان، وسكن مملكة بخارا في زمن نوح بن منصور من الدولة السامانية، وتولى التصرف بقرية من قراها اسمها خرميثن، وفيها ولد له ابنه الحسين سنة ٣٧٠ﻫ، وكان من صغره نادرة عصره في الذكاء والفطنة، ثم انتقل والده به إلى مدينة بخارا وهي يومئذ حافلة بالعلماء، وحفظ القرآن وأخذ يقرأ الفقه قبل أن يتجاوز العاشرة، ولم يدرك السادسة عشرة حتى تعلَّم المنطق والهندسة والطبيعة والفلسفة والطب، ثم تفرغ للتوسع بهذه العلوم، وكان يحيي الليل في الدرس والبحث.
واتفق أن نوحًا المذكور مرض فذكر له ابن سينا، فاستقدمه فبرئ على يده؛ فقربه إليه، وكان عند نوح مكتبة نادرة المثال فاستأذنه في دخولها، فأذن له فدرسها درسًا ثم احترقت بعد أن وعى زبدتها، وأخذ في التأليف وهو في الحادية والعشرين من عمره، وارتفعت منزلته وتولَّى بعض مناصب الدولة، وتنقَّل في بلاد خراسان وهو موضع الإعجاب ومصدر الاستفادة بالتطبيب والتأليف، ولم يتمكَّن من اللغة العربية كما ينبغي إلا بعد حين، ومرت به طوارئ مختلفة، وقاسى ما يقاسيه طالب العلى من العذاب والملوك مناظروه أو مريدوه، وكان قوي القوى كلها جسدًا وعقلًا، لكن شهواته البدنية كانت غالبة عليه، فأثرت في مزاجه حتى أماتته بهمذان سنة ٤٢٨ﻫ وهو في الثامنة والخمسين من عمره.
fig22
شكل ١: الشيخ الرئيس ابن سينا.

وكان من المتفردين بسعة العلم وقوة العقل، وقد ألف في كل فن من العلم والأدب، وتزيد مؤلفاته على مائة، وكان لها تأثير كبير في نهضة أوروبا الأخيرة؛ لأنهم نقلوا أهمها إلى لغة العلم عندهم يومئذ (اللاتينية).

أما في الأصل العربي فكثير من مؤلفاته لا يزال باقيًا، ومنها جانب كبير في المكتبة الخديوية يمكن الاطلاع عليها لمن أراد؛ فمن كتبه الطبية الموجودة هناك:
  • (١)

    القانون: في ١٤ جزءًا مطبوع في رومية ومصر وهو من أهم كتبه، حوى أهم ما عرف من علوم الطب وخصائص العقاقير والتشريح وغيرها، وعليه وعلى كتاب الحاوي لأبي بكر الرازي كان أكثر معول العالم الطبي في التمدن الإسلامي، وفي نهضة أوروبا قبيل التمدن الحديث.

  • (٢)

    الشفاء: وهو ١٨ جزءًا بعضها في الطب والبعض الآخر في العلوم الأخرى، منه جزآن مطبوعان على الحجر ببلاد فارس، والكتاب موجود برمته في المكتبة الخديوية.

  • (٣)

    الألفية في الطب.

  • (٤)

    منظومة في الطب.

ومن كتبه الفلسفية: (١) الإشارات: ولها شرح للطوسي مطبوع في الآستانة، وعلى هامشه شرح للفخر الرازي. (٢) النجاة: ثلاث مجلدات مطبوع. (٣) رسائل في الإنصاف والمسائل العشرين والمباحثات والجوهر الذي لا يتحرك وتقسيم العلوم الفلسفية وحد الجسم، وشرح كتاب النفس لأرسطو وما بعد الطبيعة، وكلها توجد خطًّا في المكتبة الخديوية.

ومن كتبه في الفقه والتوحيد: (١) القصيدة العينية في النفس. (٢) كتاب المبدأ والمعاد. (٣) الإلهيات، (٤) الجمانة الإلهية.

وفي المنطق: (١) كتاب الإشارة. (٢) كتاب الشرقيين. (٣) رسالة العروس، غير ثمانية مؤلفات في المنطق يوجد بعضها في مكاتب أوروبا.

وفي العلوم الطبيعية والرياضية خمسة عشر مؤلفًا لا يوجد منها في المكتبة الخديوية شيء، ولكن أكثرها موجود في مكاتب أوروبا ولا محل هنا لتفصيل ذلك، وله مؤلفات في الآداب السياسية والموسيقى وفي اللغة العربية وعلومها ضاع معظمها.

ولابن سينا آراء خصوصية في العلم الطبيعي، وقد أوضح كثيرًا من غوامضه، وكذلك الإلهيات مما يستغرق شرحه صفحات عديدة.

وترجمة ابن سينا في ابن خلكان ١٥٢ ج١، وطبقات الأطباء ٢ ج٢، وتراجم الحكماء ٢٦٨، وفي سنة ١٨ من الهلال، وللإفرنج مقالات عديدة في ابن سينا وفلسفته وكتبه في الفرنساوية والإنكليزية والألمانية وغيرها.

(٢) الصيدلة والكيمياء والنبات

وللمسلمين فضل كبير على الصيدلة والكيمياء والنبات وهي من فروع الطب، بدءوا بذلك في صدر الدولة العباسية، وسنلخص تاريخها عندهم وإن تجاوزنا هذا العصر لجمع الموضوع في باب واحد، وقد عني الإفرنج بعد نهضتهم الأخيرة في درس تاريخ فن الصيدلة، فتحققوا أن العرب هم واضعو أسس هذا الفن، وهم أول من اشتغل في تحضير الأدوية أو العقاقير فضلًا عما استنبطوه من الأدوية الجديدة، وأنهم أول من ألف الأقرباذين على الصورة التي وصلت إلينا، وظل العرب في النهضة العباسية يعتمدون في المارستان ودكاكين الصيادلة على أقرباذين ألفه سابور بن سهل المتوفى سنة ٢٥٥ﻫ، حتى ظهر أقرباذين أمين الدولة ابن التلميذ المتوفى في بغداد سنة ٥٦٠ﻫ. وهم أول من أنشأ حوانيت الصيادلة على هذه الصورة، ومن أقرب الشواهد على ذلك أسماء العقاقير التي أخذها الإفرنج عن العرب، ولا تزال عندهم بأسمائها العربية أو الفارسية أو الهندية كما أخذوها عن العربية.
fig23
شكل ٢: العرب يستقطرون العقاقير.

على أن تقدمهم في الصيدلة تابع لتقدمهم في الكيمياء والنبات، ولا خلاف في أن العرب هم الذين أسسوا الكيمياء الحديثة بتجاربهم ومستحضراتهم — وأول من اشتغل في نقلها إلى العربية خالد بن يزيد نقلها عن مدرسة الإسكندرية، وعنه أخذ جعفر الصادق المتوفى سنة ١٤٠ﻫ، وبعده جابر بن حيان، ثم الكندي، فأبو بكر الرازي وغيرهم، فاكتشفوا كثيرًا من المركبات الكيمياوية التي بنيت عليها الكيمياء الحديثة، وقد ذكر محققو الإفرنج أن العرب هم الذين استحضروا ماء الفضة (الحامض النتريك)، وزيت الزاج (الحامض الكبريتيك)، وماء الذهب (الحامض النيتروهيدرو كلوريك)، واكتشفوا البوتاسا، وروح النشادر وملحه وحجر جهنم (نترات الفضة) والسليماني (كلوريد الزئبق)، والراسب الأحمر (أكسيد الزئبق)، وملح الطرطير وملح البارود (نترات البوتاسا)، والزاج الأخضر (كبريتات الحديد)، والكحول والقلي والزرنيخ والبورق، وغير ذلك من المركبات والمكتشفات التي لم يصل إلينا خبرها، على أننا نستدل على وجود بعض المركبات الكيماوية في أيامهم مما لم نسمع له بمثيل في تاريخ الكيمياء قبل أواخر القرن الماضي؛ فقد أشار ابن الأثير إلى أدوية استخدمها العرب في واقعة الزنج سنة ٢٦٩ﻫ إذا طُلي بها الخشب امتنع احتراقه ولم يذكر ما هي، ومما يعد من قبيل الكيمياء أيضًا البارود؛ فقد ترجح لنا بالبحث أنهم هم الذين ركبوه، وهم أول من وصف التقطير والترشيح والتصعيد والتبلور والتذويب. وقد ألفوا في إبطال الكيمياء القديمة. أول من ألف ذلك منهم حكيمهم وفيلسوفهم يعقوب الكندي في أواسط القرن الثالث للهجرة.

وأما النبات فللعرب القدح المعلى في درسه والتأليف فيه، وقد أخذوا هذا العلم في النهضة العباسية عن مؤلفات ديسقوريدس وجالينوس ومن كتب الهند. ونقل كتاب ديسقوريدس في أيام المتوكل، نقله اصطفان بن باسيل من اليونانية إلى العربية. والعقاقير التي لم يعرف لها أسماء في العربية تركها على لفظها اليوناني، اتكالًا على أن يبعث الله بعده من يعرف ذلك ويفسره. وحمل هذا الكتاب إلى الأندلس على هذه الصورة، فانتفع به الناس إلى أيام الناصر صاحب الأندلس في أوائل القرن الرابع للهجرة. إذ كاتبه ملك قسطنطينية سنة ٣٣٧ﻫ، وهاداه بكتب من جملتها كتاب ديسقوريدس باليونانية مصور الحشائش بالتصوير الرومي العجيب، ولم يكن في الأندلس من يحسن اليونانية، فبعث الناصر إلى الملك يطلب إليه رجلًا يعرف اليونانية واللاتينية لينقله إلى اللاتينية وعارفو هذه اللغة في الأندلس كثيرون، فبعث إليه راهبًا اسمه نقولا وصل قرطبة سنة ٣٤٠ﻫ، فتعاونوا على استخراج ما فات ديسقوريدس ذكره من أسماء العقاقير والأدوية وجعله ذيلًا على ذلك الكتاب.

(٢-١) ابن البيطار

حتى نبغ ابن البيطار المالقي النباتي في أواسط القرن السابع للهجرة، فتناول الكتاب المذكور فدرسه وتفهَّمه ثم سافر إلى بلاد اليونان وإلى أقصى بلاد الروم، ولقي جماعة يعانون هذا الفن وأخذ عنهم معرفة نبات كثير عاينه في مواضعه، واجتمع أيضًا في المغرب وغيره بكثير من علماء النبات وعاين منابته بنفسه. وذهب إلى الشام ودرس نباتها وجاء الديار المصرية في خدمة الملك الكامل الأيوبي، وكان يعتمد عليه في الأدوية المفردة والحشائش حتى جعله رئيسًا على العشَّابين وأصحاب البسطات. وبعد طول ذلك الاختبار ألَّف كتابًا في النبات هو فريد في بابه، وكان عليه معول أهل أوروبا في نهضتهم الأخيرة في علم النباتات. ومؤلفاته الباقية:
  • (١)

    كتاب المغني في الأدوية المفردة: ألفه للملك الصالح الأيوبي. منه نسخ خطية في غوطا وليدن والمتحف البريطاني وأكسفورد وباريس.

  • (٢)

    جامع مفردات الأدوية والأغذية: طبع بمصر سنة ١٢٩١، وترجم إلى الألمانية في مجلدين، وطبع في ستتجارت سنة ١٧٨٠، وترجم بعضه إلى الفرنسية بقلم لاكلارك وغيره.

  • (٣)

    ميزان الطبيب: في أوبسالا.

وترجمة ابن البيطار في طبقات الأطباء ١٣٣ ج٢، وفوات الوفيات ٢٠٤ ج١.

(٢-٢) رشيد الدين ابن الصوري

ومن المبرزين في علم النبات رشيد الدين بن الصوري المتوفى سنة ٦٣٩ﻫ صاحب كتاب الأدوية المفردة، وكان كثير البحث والتدقيق يخرج لدرس الحشائش في منابتها ويستصحب مصورًا معه الأصباغ والليق على اختلافها وتنوعها، ويتوجه إلى المواضع التي بها النبات في لبنان وسوريا فيشاهد النبات ويحققه ويريه للمصور فيعتبر لونه ومقدار ورقه وأعضائه وأصوله ويصور بحسبها بالدقة. وذلك غاية ما يفعله الباحثون في هذا العلم اليوم. وفي مجلة المقتطف مقالة عن كيمائيي العرب صفحة ٢٢ سنة ٧.

(٣) الفلسفة

كان للفلسفة شأن آخر في هذا العصر، واشتغل فيها أكثر الذين عنوا بعلوم القدماء ولا سيما الأطباء … وفي مقدمتهم ابن سينا الشيخ الرئيس وقد ذكرناه. وكان بعض الفلاسفة في هذا العصر يتهمون بالكفر، وكان الانتساب إلى الفلسفة مرادفًا عند بعض المتشددين للانتساب إلى التعطيل. وشاعت النقمة على المأمون لأنه كان السبب في نقل الفلسفة إلى اللغة العربية حتى قال ابن تيمية بعد ذلك: «ما أظن الله يغفل عن المأمون، ولا بد أن يعاقبه بما أدخله على هذه الأمة.»

فاضطر أصحابها إلى التستر فألفوا الجمعيات السرية لهذا الغرض وأشهرها جمعية «إخوان الصفا» تألفت في بغداد في أواسط القرن الرابع للهجرة. وذكروا من أعضائها خمسة هم: أبو سليمان محمد بن معشر البستي ويعرف بالمقدسي، وأبو الحسن علي بن هارون الزنجابي، وأبو أحمد المهرجاني، والعوفي، وزيد بن رفاعة. وكانوا يجتمعون سرًّا ويتباحثون في الفلسفة على أنواعها حتى صار لهم فيها مذهب خاص هو خلاصة أبحاث الفلاسفة المسلمين بعد اطلاعهم على آراء اليونان والفرس والهند وتعديلها على ما يقتضيه الإسلام. وأساس مذهبهم أن الشريعة الإسلامية تدنست بالجهالات واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة؛ لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهادية، وأنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال.

(٣-١) رسائل إخوان الصفا

وقد دونوا فلسفتهم هذه في خمسين رسالة سموها رسائل إخوان الصفا وكتموا أسماءهم، وهي تمثل الفلسفة الإسلامية على ما كانت عليه في إبان نضجها، وتشمل النظر في مبادئ الموجودات وأصول الكائنات إلى نضد العالم فالهيولي والصورة، وماهية الطبيعة والأرض والسماء ووجه الأرض وتغيراته والكون والفساد والآثار العلوية والسماء والعالم وعلم النجوم، وتكوين المعادن وعلم النبات وأوصاف الحيوانات ومسقط النطفة وكيفية رباط الناس بها، وتركيب الجسد والحاس والمحسوس والعقل والمعقول والصنائع العلمية والعملية والعدد وخواصه والهندسة والموسيقى والمنطق وفروعه واختلاف الأخلاق وطبيعة العدد، وأن العالم إنسان كبير والإنسان عالم صغير والأكوار والأدوار وماهية العشق والبعث والنشور وأجناس الحركات والعلل والمعلولات والحدود والرسوم، وبالجملة فقد ضمنوها كل علم طبيعي أو رياضي أو فلسفي أو إلهي أو عقلي.

ويظهر من إمعان النظر فيها أن أصحابها كتبوها بعد البحث الدقيق والنظر الطويل، وفي جملة ذلك آراء لم يتصل أهل هذا الزمان إلى أحسن منها، وفيها بحث من قبيل النشوء والارتقاء، وفي ذيل الكتاب فصل في كيفية عشرة إخوان الصفا، وتعاونهم بصدق المودة والشفقة وأن الغرض منها التعاضد في الدين، وذكروا شروط قبول الإخوان فيها وغير ذلك.

وكان المعتزلة ومن جرى مجراهم يتناقلون هذه الرسائل ويتدارسونها ويحملونها معهم سرًّا إلى بلاد الإسلام، ولم تمضِ مائة سنة على كتابتها حتى دخلت الأندلس على يد أبي الحكم عمرو بن عبد الرحمن الكرماني، وهو من أهل قرطبة رحل إلى المشرق للتبحر في العلم على جاري عادة الأندلسيين، فلما عاد إلى بلاده حمل معه الرسائل المذكورة، وهو أول من أدخلها الأندلس فما لبثت أن انتشرت هناك حتى تناولها أصحاب العقول الباحثة وأخذوا في درسها وتدبرها.

وقد طبعت رسائل إخوان الصفا غير مرة، أتقنها طبعة ديتريشي في ليبسك سنة ١٨٨٣، وطبعت في بومباي سنة ١٣٠٣، وفي مصر سنة ١٣٠٦، ومنها نسخة خطية في المكتبة الخديوية، وقد ترجمت إلى اللغة الهندستانية وطبعت في لندن سنة ١٨٦١.

وهي غير رسائل إخوان الصفا للحكيم المجريطي المتوفى سنة ٣٩٥، ومنها نسخة خطية في المكتبة الخديوية في ١٨٠ صفحة، وهي تشبه تلك لكن صاحب هذه يريد أن يفسر الفلسفة بالدين.

(٣-٢) مآخذ لطلاب فلسفة الإسلام

ومن الكتب الإفرنجية التي يستعان بها في درس تاريخ الفلسفة والفلاسفة في الإسلام:
  • (1)
    Boer, The history of philosophy in Islam, London, 1903.
  • (2)
    Dietrici, Die Philosophie der Araber in X Jahrhundert n, chr, Leipzig, 1897.
  • (3)
    Dugat, Histoire de philosophes et des théologiens musulmans, Paris, 1878.
  • (4)
    Leclerc, Histoire de la médecine arabe 2 vol, Paris 1876.
  • (5)
    Wuestenfeld, Geschichte der arabischen Aerzte und Naturforscher, Gottengen, 1840.
غير مقالات عديدة في المجلات الآسيوية والشرقية والفرنساوية والإنكليزية والألمانية، وفي دائرة المعارف البريطانية مادة Arabian Philosophy، ومثلها في دوائر اللغات الأخرى، وفي المقتطف مقالة في الفلسفة الإسلامية، وابن رشد صفحة ٤٦٩ سنة ١٠، ومقالة أخرى في فلسفة العرب لحسين بيهم صفحة ١٣ سنة ٧.

ومن الكتب العربية التي يستعان بها في درس تراجم الفلاسفة والأطباء وسائر علماء الطبيعة والرياضيين «طبقات الأطباء» لابن أبي أصيبعة، و«تراجم الحكماء» لابن القفطي، وكلاهما مطبوعان.

ولم تظهر ثمار الطب والفلسفة وفروعهما في الأندلس إلا في العصر الآتي، فنبغ الزهراوي وابن جزلة وابن رشد وغيرهم كما سيجيء.

(٤) النجوم

كان للمسلمين حظٌّ وافرٌ من علم النجوم وفضل كبير عليه يكفيك أنهم جمعوا فيه مذاهب اليونان والهند والفرس والكلدان والعرب الجاهلية، شأنهم في أكثر العلوم الدخيلة، وقد أتينا على تفصيل ذلك في الجزء الثالث من تاريخ التمدن الإسلامي من صفحة ١٨٩، وقد اشتهر في العصرين الماضيين جماعة لم يخلِّفوا آثارًا وصلت إلينا وإن كان لهم فضل كبير على هذا العلم أشهرهم بنو شاكر، وأبو معشر البلخي المتوفى سنة ٢٧٢، وحنين بن إسحاق سنة ٢٨٨، وأحمد بن كثير الفرغاني، وسهل بن بشر، ومحمد بن عيسى الماهاني، ومحمد بن جابر الحراني المعروف بالبتاني المتوفى سنة ٣١٧، وكان أوحد عصره في فنه، وقد استعان الإفرنج بكتبه في نهضتهم الأخيرة، أما في العصر الثالث الذي نحن في صدده، فأكثر فلكيي المسلمين آثارًا البيروني، وقد بقي منها شيء كثير، وسنأتي على ترجمته وأعماله.
fig24
شكل ٣: مرصد فلكي وفيه آلات الرصد في الأجيال الوسطى.
وأول ما يستلفت انتباهنا من هذا القبيل أن العرب (أو المسلمين) قالوا بإبطال صناعة التنجيم المبنية على الوهم، ولعلهم أول من فعل ذلك وإن كانوا لم يستطيعوا إبطالها، ولكنهم مالوا بعلم النجوم نحو الحقائق المبنية على المشاهدة والاختبار كما فعلوا بعلم الكيمياء، وكانوا كثيري العناية بعلم الفلك يرصدون الأفلاك، ويؤلفون الأزياج ويقيسون العروض ويراقبون السيارات ويرتحلون في طلب ذلك العلم إلى الهند وفارس، ويتبحَّرون في كتب الأوائل، ويتممون ما نقص منها أو يجمعون بين مذاهبها.
fig25
شكل ٤: ذات السموت من آلات الرصد العربية.

ولعلم النجوم تاريخ طويل عند العرب لا محل له هنا، وقد ذكرنا تاريخ المراصد وآلاتها، وما أدخله العرب من الإصلاح في هذا العلم في تاريخ التمدن الإسلامي ج٣ صفحة ١٩١، وإليك ترجمة نابغة علم النجوم في هذا العصر:

(٤-١) أبو الريحان البيروني (المتوفى سنة ٤٣٠ﻫ)

هو أشهر علماء النجوم والرياضيات من المسلمين في العصر الثالث، واسمه محمد بن أحمد البيروني نسبة إلى بيرون بلد في السند، سافر في بلاد الهند أربعين سنة اطلع فيها على علوم الهنود، فضلًا عن مطالعة الكتب العلمية المنقولة أو المؤلفة في هذه الفنون وأقام مدة في خوارزم، وأكثر اشتغاله في النجوم والرياضيات والتاريخ، وخلَّف مؤلفات نفيسة إليك ما بقي منها مما وصل خبره إلينا:
  • (١)

    الآثار الباقية عن القرون الخالية: ألفه للأمير شمس المعالي، وهو يبحث في التواريخ التي كانت تستعملها الأمم في زمانه والاختلاف الواقع في الأصول التي هي مبادئها، والفروع التي هي شهورها وسنوها، والأسباب الداعية لذلك، وفي الأعياد المشهورة والأيام المذكورة للأوقات والأعمال وغيرها مما يعمل به بعض الأمم دون البعض الآخر، فهو من قبيل التوقيت أو ما يسميه الإفرنج علم الكرونولوجيا، ويدخل فيه النظر في ما هو اليوم والشهر والسنة على اختلاف الاصطلاح عند الأمم القديمة وتاريخ ذلك عند الآشوريين واليونانيين إلى الإسلام وما بعده إلى أيامه، وما أصاب التقاويم في أثناء ذلك الزمن من التعديل والتبديل، وجداول للأشهر الفارسية القديمة على اختلاف الأعصر والبلاد، ومثل ذلك عند العبرانيين وعند العرب في الجاهلية والإسلام، وعند الروم والهند والترك بالتفصيل والمقابلة، وفي استخراج التواريخ بعضها من بعض وتواريخ الملوك، ومدد حكمهم على اختلاف الأقاويل من آدم فما بعده من رجال التوراة، ويحلق ذلك جداول عن ملوك آشور وبابل والكلدان والقبط واليونان والرومان قبل النصرانية وبعدها وملوك الفرس قبل الإسلام على اختلاف طبقاتها، وبإزاء كل ملك مدة حكمه إلى يزدجرد الذي توفي بعد الإسلام، وفضول في مواليد السنين وكيفياتها وكبائسها عند اليهود وغيرهم وتواريخ المتنبئين وأممهم من أهل الأوثان أو أهل البدع في الإسلام وأعياد الفرس، ومذاهب أهل خوارزم وحساب قبط مصر في السنين والكبس والأعياد عندهم وعند الملكية، وأعياد النصارى وأحوالهم على اختلاف الطوائف، ومثل ذلك عن المجوس والصابئة وما كانت العرب تستعمله من هذا القبيل في أيام الجاهلية، وما فعله الإسلام فيها، وغير ذلك مما تقف عليه في كتاب آخر؛ ولذلك فقد عني المستشرق سخاو الألماني بترجمته إلى الإنكليزية، وقد طبع الأصل في ليبسك سنة ١٨٧٨، والترجمة في لندن سنة ١٨٧٩.

  • (٢)

    تاريخ الهند: وهو من الكتب النادرة في هذا الموضوع بالعربية، ترجمه سخاو أيضًا إلى الإنكليزية، وطبع الأصل في لندن سنة ١٨٨٧، والترجمة فيها ١٨٨٨.

  • (٣)

    التفهيم لأوائل صناعة التنجيم: هو مختصر في الهندسة والفلك والنجامة، منه نسخ في برلين وأكسفورد والمتحف البريطاني وفي كتب زكي باشا بمصر.

  • (٤)

    القانون المسعودي: في الهيئة والنجوم قدمه للسلطان مسعود بن محمود الغزنوي ومنه اسمه، موجود في برلين والمتحف البريطاني وأكسفورد.

  • (٥)

    رسالة في الأسطرلاب، في برلين وباريس.

  • (٦)

    استيعاب الوجوه الممكنة في صنعة الأسطرلاب، في برلين وليدن وباريس.

  • (٧)

    استخراج الأوتاد في الدائرة بخواص الخط المنحني فيها، هي مسائل هندسية وله فيها طرق خصوصية، موجودة في ليدن.

  • (٨)

    رسالة في راسيكات الهند: في التناسب، منه نسخة في المكتب الهندي بلندن.

  • (٩)

    مبحث في مبادئ العلوم ألفه بالفارسية، وتوجد ترجمته العربية في باريس.

  • (١٠)

    رسالة في سير سهمي السعادة والغيب: في أكسفورد.

  • (١١)

    كتاب الجماهر في معرفة الجواهر: ألَّفه للملك المعظم أبي الفتح مودود، موجود في الأسكوريال وفي كتب زكي باشا.

وترجمة البيروني في طبقات الأطباء ٢٠ ج٢، وفي مقدمة الطبعة العربية للآثار الباقية.
fig26
شكل ٥: الأسطرلاب.

ونبغ غير واحد من علماء الفلك في هذا العصر كالبوزجاني المتوفى سنة ٣٨١، وابن رستم الكوهي، والمنجم القمي، وأبي الحسين الصوفي، وابن اللبان الجبلي، وعبد الأعلى الصدفي وغيرهم يضيق المقام عن ذكرهم، وقد أردنا الاختصار في هذا الباب؛ لأن التطويل فيه لا يفيد المطالعين بعد تغيير تلك العلوم وانقلابها في هذا العصر، فمن أراد التوسع في هذا الشأن فليطالع تراجم أولئك العلماء في أماكنها.

(٥) الرياضيات

نريد بالرياضيات هنا الحساب والجبر والهندسة، وكان للعرب فيها شأن عظيم، ومن أكبر مآثرهم فيها نقلهم الحساب الهندي والأرقام الهندية من الهند وسائر أقطار العالم، فالعرب يسمونها أرقامًا هندية؛ لأنهم نقلوها عن الهنود، والإفرنج يسمونها عربية؛ لأنهم أخذوها عن العرب، وأول من تناول تلك الأرقام من الهنود أبو جعفر محمد موسى الخوارزمي.

وأما الجبر فللعرب فضل كبير في وضعه أو تأليفه، ولما أخذ العرب في نقل العلوم اليونانية نقلوا كتابين في الجبر أحدهما لذيوفانتوس والآخر لأبرخس، وقد وجد الباحثون بعد نهضة التمدن الحديث أن ما كتبه هذان ليس من الجبر في شيء، أو هي أصول ضعيفة لا يعتد بها، وهم يعتقدون أن الجبر من موضوعات العرب، والحقيقة على ما نرى أن العرب بعد أن اطلعوا على حساب الهنود أضافوه إلى ما نقلوه عن اليونان، وبنوا على ذلك علم الجبر، ومن أشهر كتب المسلمين في الجبر كتاب الجبر والمقابلة للخوارزمي المذكور، فالظاهر أن الخوارزمي جمع بين ما عثر عليه من الأصول الجبرية عند اليونان والهنود والفرس فاستخرج منه الجبر العربي، كما جمع في زيجه بين آراء الهند والفرس واليونان، وقد عني العرب بشرح كتاب الخوارزمي مرارًا. وألف أيضًا في الجبر أبو كامل شجاع بن أسلم، وأبو الوفاء البوزجاني وأكثر مؤلفاته في الحساب، وأبو حنيفة الدينوري المتوفى سنة ٢٨١ﻫ، وأبو العباس السرخسي المتوفى سنة ٢٨٦ﻫ وغيرهم، ولما نهض الإفرنج في تمدنهم الحديث أخذوا الجبر عن العرب.

ومما أحدثه المسلمون في الهندسة أنهم طبقوها على المنطق، وقد فعل ذلك ابن الهيثم المصري في أوائل القرن الخامس للهجرة، فإنه ألف كتابًا جمع فيه الأصول الهندسية والعددية من إقليدس وأبلنيوس ونوَّع فيها الأصول وقسمها وبرهن عليها ببراهين نظمها من الأمور التعليمية والحسية والمنطقية حتى انتظم ذلك مع انتقاص توالي إقليدس وأبلونيوس، وأدخل في الجبر والحساب أساليب جديدة في استخراج المسائل الحسابية من جهتي التحليل الهندسي والتقدير العددي، وعدل في أوضاع الجبريين وألفاظهم.

وبنو موسى بن شاكر اشتغلوا في استخراج مسائل هندسية لم يستخرجها أحد من الأولين كقسمة الزاوية إلى ثلاثة أقسام متساوية.

واشتغل العرب في أعوص المسائل المشكلة في الهندسة كقسمة الدائرة إلى سبعة أقسام، ووضعوا فيها الرسائل والكتب.

(٦) الفنون الجميلة

ذكرنا تاريخ نشوء الموسيقى العربية في هذا الكتاب، وقد ارتقت بعد ذلك ونبغ فيها كثيرون وإن لم يخلفوا كتبًا مستقلة في هذا الفن، ولكن ورد كثير من قواعده في كتاب الأغاني وأمثاله، وكان لهم شأن في اختراع الآلات الموسيقية وتحسين الآلات التي أخذوها عن سواهم.

ومن مخترعاتهم الموسيقية القانون، والمشهور أنه من اختراع الفارابي الفيلسوف المتقدم ذكره، فقد ذكروا أنه اصطنع آلة مؤلفة من عيدان يركبها ويضرب عليها وتختلف أنغامها باختلاف تركيبها ولكنها في كل حال غريبة في بابها.

ذكروا أن الفارابي حضر مجلس غناء لسيف الدولة ولم يكن أحد من الحضور يعرفه، فعاب المغنين، فسأله سيف الدولة هل يحسن الغناء؛ ففتح خريطة كانت معه واستخرج تلك الآلة وركبها ثم لعب بها، فضحك منها كل من كان في المجلس، ثم فكها وركبها تركيبًا آخر وضرب عليها فبكى من كان في المجلس، ثم فكها وغير تركيبها وضرب ضربًا آخر فنام كل من كان في المجلس حتى البواب؛ فتركهم نيامًا وخرج.

(٦-١) زرياب وابن فرناس

وزاد المسلمون في العود وترًا خامسًا زاده زرياب بالأندلس. كان للعود أربعة أوتار على الصنعة القديمة التي قوبلت بها الطبائع الأربع، فزاد عليها وترًا خامسًا أحمر متوسطًا، ولون الأوتار وطبقها على الطبائع، وهو الذي اخترع مضراب العود من قوادم النسر، وكانوا قبله يضربون بالخشب.

وعباس بن فرناس في الأندلس اصطنع الآلة المعروفة بالمثقال، يعرف بها الأوقات على غير رسم ومثال.

(٧) نظرة

انقضى العصر العباسي الثالث، وبانقضائه تم الجزء الثاني من هذا الكتاب، وقد رأيت أن العصر العباسي الثالث المذكور من أهم عصور آداب اللغة، والباقي لنا من ثمار قرائح أصحابه أكثر من بقايا سائر العصور التي تقدمته، وفيها نخبة من الكتب الهامة المعول عليها في اللغة والأدب والشعر والتاريخ والجغرافية وغيرها، لكنها مع ذلك أقل من بقايا العصر الرابع الآتي ذكره في الجزء الثالث من هذا الكتاب، فإن أكثر ما يتداوله القراء من كتب الموسوعات التاريخية والجغرافية والكتب المطولة في الأدب واللغة، إنما هي من بقايا العصر الرابع المذكور والذي يليه، كما ستراه مفصلًا في الجزء الثالث إن شاء الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤