أقسام آداب اللغة العربية

والعلوم أو الآداب التي سننظر في تاريخها تدخل في أربعة أبواب:
  • الأول: العلوم العربية الأصلية التي كانت قبل الإسلام، وأهمها اللغة والشعر والخطابة.
  • الثاني: العلوم الإسلامية وهي قسمان:
    • (١) العلوم الشرعية الإسلامية التي اقتضاها الشرع الإسلامي.
    • (٢) العلوم اللسانية، نعني علوم اللغة التي اقتضتها العلوم الإسلامية، وبعثت على ظهورها.
  • الثالث: العلوم الدخيلة التي نقلت عن الأمم الأخرى.

ولنبدأ بالعلوم الدخيلة ليظهر تأثيرها في سائر العلوم.

(١) العلوم الدخيلة

لو أردنا بسط الكلام في هذه العلوم وأصولها ومواضيعها، وما نقل منها إلى لساننا لضاق بنا المقام وبعدنا عن المراد من هذا الكتاب — نعني الكلام في ما يمكن الرجوع إليه والانتفاع به من الكتب. والعلوم الدخيلة التي نقلت يومئذ أصبح معظمها في زوايا الإهمال بظهور العلم الطبيعي الحديث، وقد فصلنا خبرها في الجزء الثالث من تاريخ التمدن الإسلامي فنكتفي هنا بفذلكة إجمالية.

(١-١) امتياز العرب على سواهم من الفاتحين

ومما يحسن إيراده لبيان امتياز أصحاب التمدن الإسلامي على سواهم من الأمم الفاتحة من هذا القبيل أن القوط أو قبائل الجرمان سطوا على مملكة الروم من الشمال كما سطا عليها العرب من الجنوب، وكلاهما أهل بادية وحرب، امتلك القوط إيطاليا في القرن الخامس، فتركوا أهلها الروم على ما كانوا عليه من آدابهم وعلومهم وظلوا هم على بداوتهم وحبهم الحرب، واستخدموا الوطنيين في تدبير حكومتهم — كما فعل العرب في أوائل دولتهم — لكن القوط لما تحضروا حملوا علماء الرومان على التأليف، فألفوا لهم الكتب باللاتينية وليس بالقوطية، فذهبت هذه اللغة وبقيت لغة الروم بما صارت إليه من الفروع، أما العرب فإنهم حالما استتبت لهم السيادة جعلوا الدواوين في العربية، وحملوا رعاياهم على مكاتبتهم بالعربية. ولما أرادوا نشر العلم كلفوا رعاياهم نقل تلك العلوم إلى العربية، فذهبت لغات الأمم التي كانت تحت سلطانهم وبقيت العربية.

(١-٢) ما هي العلوم الدخيلة؟

نريد بها العلوم القديمة التي كانت شائعة عند ظهور الإسلام في الممالك التي عرفها المسلمون، وهي عبارة عن خلاصة أبحاث رجال العلم والفلسفة والأدب في ممالك التمدن القديم على اختلاف الأمم والدول والأماكن والأطوار في القرون المتوالية من أقدم أزمنة التاريخ إلى أيامهم، وفيها زبدة علوم الأشوريين والبابليين والفينيقيين والمصريين والهنود والفرس واليونان والرومان — ولا يراد بذلك أن العرب أخذوا علم كل أمة عن أهله رأسًا، ولكنهم جاءوا والعلوم قد تحلَّبت بتوالي الأدهار وتفاعل العناصر واجتمع معظمها لليونان فبوَّبوها ورقوها وظهرت النصرانية فأثرت فيها، وبقي بعضها في بقايا الدول القديمة كالفرس والكلدان والهنود وغيرهم ممن دانوا للمسلمين وانتظموا في خدمتهم، فأخذوا من هؤلاء جميعًا؛ ولذلك كان من جملة أفضال التمدن الإسلامي على العلم أنه جمع شتات تلك العلوم من اليونانية والفارسية والهندية والكلدانية إلى العربية وزاد فيها ورقاها.

فلنبحث أولًا في حال العلم والأدب في البلاد التي عرفها المسلمون، وهو يتناول النظر في آداب اليونان والفرس والهنود والكلدان على ما يأذن به المقام، ثم نتقدم إلى الكلام في ما نقله العرب من ذلك.

(١-٣) آداب اللغة اليونانية

الفلسفة والفلاسفة

بيَّنَّا في الجزء الأول من هذا الكتاب أقسام الآداب اليونانية، وعصورها إلى عصر الفلسفة، فنكتفي بخلاصة تاريخية عنها:

أخذ اليونان بأهداب الفلسفة والعلم على أثر الحروب المورية فإنها توالت ٢٧ سنة، وفي نهايتها دخلت أثينا في حوزة اللقديمونيين، وأصبح الأثينيون بعد العز أذلاء فساقتهم العبرة والمذلة إلى النظر في الوجود، فنهضوا نهضة فلسفية زعيمها وواضع أساسها سقراط، والحروب يغلب أن يعقبها نهضة أدبية أو علمية أو سياسية على ما قررناه في غير هذا المكان — وإن كانوا قد تنبهوا إلى شيء من ذلك قبلًا.

فلما أصيبت أثينا بالذل بعد تلك العظمة أصاب أهلها اضطراب وانكسار — والإنسان إذا أصيب بنكبة لا حيلة له في دفعها اشتغل عنها بالتعليلات الفلسفية عن الوجود وأصله؛ ليخفف وطأة تلك المصيبة عليه، وخصوصًا في مثل ما أصيبت به أثينا بعد عزها ورفعة شأنها، وأصبح أهلها بعد سقوطها يتلفتون إلى الوراء آسفين، وينظرون إلى الأمام خائفين وقد ذهبت أسباب مفاخرتهم القديمة، ولم تنتظم حكومتهم الجديدة، فتنبَّهت أذهانهم وانصرفت قرائحهم إلى النظر في شئون الإنسان على الجملة وشئونهم على الخصوص، فكانت وجهة تلك النهضة الأدب والفلسفة، فدخل القرن الرابع قبل الميلاد والناس يتناقلون آراء بعض المتقدمين من العلماء على ما يوافق أحوالهم، ونفوسهم تشتاق إلى الزيادة.

  • سقراط: وكان الناس في ذلك إذ نبغ سقراط الحكيم، ورأى النظر في الفلسفة الطبيعية لا يجدي نفعًا في تلك الأحوال، فانصرفت عنايته إلى الفلسفة الأدبية فدرسها جيدًا، وخلَّصها مما كان يعتورها من الرموز والغوامض وطبَّقها على حاجات الأثينيين يومئذ، وقسم شرائعه إلى ما يتعلق بالإنسان من حيث هو إنسان، وإلى ما يتعلق به من حيث هو أب ومدبر، وإلى ما يتعلق به من حيث هو أحد الجماعة. وذهب إلى خلود النفس، ويعتبره اليونانيون واضع الفلسفة الأدبية العملية أو هو محول الفلسفة القديمة من الخيال إلى العمل — قال شيشرون: «إن سقراط أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض.»
    fig2
    شكل ١: سقراط.

    ويندر أن ينجو النوابغ وأصحاب الآراء الجديدة من حساد يتمنون أذيتهم أو يسعون فيها، وقد كان في تعاليم سقراط ما يخالف اعتقاد الأثينيين يومئذ فقاموا عليه وقتلوه.

  • أفلاطون: مات سقراط ولم يدوِّن شيئًا من تعاليمه فدوَّنها تلامذته من بعده، ولكنهم اختلفوا في تفسير أقواله، فانقسموا إلى ثلاث فرق تعرف بالكرينية والكلبية والأشرافية، وهذه الأخيرة أشهرها، وتسمى أيضًا الأفلاطونية نسبة إلى صاحبها أفلاطون المولود سنة ٤٢٨ قبل الميلاد، ومذهبه مقتبس من ثلاثة مذاهب قديمة فإنه تبع هيرقليطس في الطبيعيات وفيثاغورث في ما وراء الطبيعة والنقليات، وتبع سقراط في الفلسفة الأدبية والأخلاق، وقال بثلاثة أصول: الإله، والمادة، والإدراك، والآلهة عنده ثلاث طبقات: عليون، ومتوسطون، وسفليون، وعلَّم بتناسخ الأرواح، وكتب أفلاطون على أسلوب المحاورات.
    fig3
    شكل ٢: أفلاطون.
  • أرسطو: وانقسم تلامذة أفلاطون أيضًا إلى فرق، أهمها فرقة المشائين وصاحبها أرسطو أو أرسطوطالس الذي أجمع العلماء على أنه أقدر الفلاسفة القدماء، ويسميه العرب المعلم الأول، ولد سنة ٣٨٤ وتوفي سنة ٣٢٢ق.م، وعنه نقل العرب أكثر كتب الفلسفة والمنطق. جمع أرسطو في كتبه زبدة ما بلغ إليه العلماء في عصره ببلاد اليونان من الفلسفة والعلم. أما الفلسفة فأخذها عن أستاذه أفلاطون، ويدخل فيها الأبحاث المنطقية والعقلية والنفسية والسياسية. وأما العلم — ويراد به الحقائق المبنية على المشاهدة والاختبار كالرياضيات والطبيعيات ونحوها — فقد كانت من جملة ما طالعه من علوم القدماء وما اختبره بنفسه، وكان غرض أرسطو إيضاح الفلسفة بالعلم وإخضاع كل بحث عقلي أو نظري إلى النواميس الطبيعية، ولم يكن يهمه تزويق العبارة أو برقشة الألفاظ إنما كان يهمه الغرض الأصلي من الموضوع، فكان يبذل جهده في تجريد عبارته من الخيالات الشعرية التي مازجت فلسفة أفلاطون.
    fig4
    شكل ٣: أرسطو.

    والكتب التي ثبتت نسبتها إلى أرسطو ١٩ كتابًا نقل معظمها إلى اللغة العربية، وقد ذكرناها مع كتب أفلاطون في الصفحة ١٥١، وما بعدها من تاريخ التمدن الإسلامي ج٣.

الطب والنجوم

والطب أيضًا من ثمار تلك النهضة على أثر الحرب المورية، وكان اليونان قبل ذلك يعالجون مرضاهم بالكهانة، وينسبون الأمراض إلى أعمال الشياطين، والعلاجات إلى أعمال الآلهة، وكان الفلاسفة يتكلَّمون في الطب باعتبار أنه فرع من الطب الطبيعي، ولم يستقلَّ أحد منهم بالبحث فيه، وأول من رتب الطب وبوَّبه وبناه على أسس صحيحة أبقراط المتوفى سنة ٣٥٧ق.م؛ ولذلك سموه أبا الطب، وهو من نتاج الحرب المورية، نشأ في أثنائها، ونبغ بعد انقضائها، وسافر إلى سوريا، ولعله اطلع على طب البابليين والمصريين فأضافهما إلى طب اليونان، وألف فيه الكتب، وأساس معالجته الاعتماد على الطبيعة، وكان يفصد ويحجم ويكوي ويحقن ويشخص الأمراض بالسماعة، ويصف المسهلات النباتية والمعدنية. وله كتب في الطب كثيرة ذكروا منها ٨٧ كتابًا ولم يثبت له منها إلا نحو العشرين، ونقلت في جملة ما نقله المسلمون من كتب الطب إلى العربية، وما زالت كتب أبقراط معول الأطباء إلى العصر الجديد، وفيهم مَنْ شَرَحَها أو فسرها أو ترجمها أو علق عليها.
fig5
شكل ٤: أبقراط.
وممن اشتغل من اليونانيين في ترقية العلوم الطبية بعد أبقراط أرسطو وغيره من الفلاسفة العظام، فلما أنشئت مدرسة الإسكندرية على عهد البطالسة كان للطب شأن كبير فيها.
fig6
شكل ٥: أوقليدس.

والنجوم أو علم الفلك قديم عند سائر الأمم كما قد رأيت في كلامنا عن علوم العرب قبل الإسلام، أخذ اليونان مبادئ هذا العلم عمن سبقهم من أمم التمدن القديم على يد الفينيقيين، وتوسعوا فيه من عند أنفسهم، وكان النظر فيه من جملة أبحاث الفلاسفة وأقدمهم طاليس، وقلَّ من جاء بعده من فلاسفة اليونان ولم يتعرض لهذا الفن، وأشهرهم فيه أنكسيندر وأنكسيمينس وأنكساغوراس، وكان للقسم الإيطالي من بلاد اليونان عناية كبرى في النجوم ومقدام فلاسفتهم فيه فيثاغورس الشهير المتوفى سنة ٥٠٠ق.م، أخذ بعض هذا العلم من مصر وتوسع فيه وتبعه في ذلك كثيرون، ويكاد لا يخلو فيلسوف يوناني من النظر في النجوم وأحكامها مما يطول شرحه، على أن هذا العلم بلغ قمة مجده في مدرسة الإسكندرية.

ويقال نحو ذلك في سائر العلوم الرياضية كالحساب والهندسة، فقد اشتغل فيها الفلاسفة لكنها لم تنضج إلا في مدرسة الإسكندرية على يد أوقليدس.

وقد عقدنا فصلًا عن تاريخ مكتبة الإسكندرية وهل أحرقها العرب في الجزء الثالث من تاريخ التمدن الإسلامي صفحة ٤٠ و١٢٣، وفصلًا في الهلال الأول من السنة العشرين، وقد زهت الإسكندرية بالرياضيات والطب والفلسفة، ونبغ فيها الرياضيون ومنهم أوقليدس وأرخميدس وأبولونيوس من أهل القرن الثالث قبل الميلاد، وهيبارخس من أهل القرن الثاني، وفيها ظهر بطليموس القلوذي الجغرافي والرياضي في أواسط القرن الثاني بعد الميلاد، فوضع كتاب المجسطي، وكان عليه المعول في مدارس العالم إلى عهد غير بعيد، وألَّف أيضًا كتاب الجغرافية الشهير، واشتغل علماء الإسكندرية خصوصًا برصد الأفلاك واستخراج الأزياج، وظل مرصدهم وحيدًا في العالم إلى أيام الإسلام.
fig7
شكل ٦: أرخميدس.
أما الطب فكان يعلم في مدرسة برغامس، فلما زهت مدرسة الإسكندرية توجهت الأنظار إليها، وعمدة التدريس فيها على مؤلفات أبقراط، لكنهم اشتغلوا أيضًا في التشريح وفاقوا به سواهم.
fig8
شكل ٧: جالينوس.

وانقسم أطباء الإسكندرية في الطب إلى حزبين حتى ظهر جالينوس في أواخر القرن الثاني للميلاد، فانتهى الطب إليه، وأصبحت كتبه معوَّل الناس فيه، وللطب والفلسفة في مدرسة الإسكندرية تاريخ طويل لخَّصناه في الجزء الثالث من تاريخ التمدن الإسلامي.

(١-٤) آداب اللغة الفارسية

الفرس من الشعوب الآرية إخوان الهنود واليونان، وهم أمة قديمة حاربت اليونان قبل المسيح ببضعة قرون، فجردت على بلادهم جيشًا قد يمتنع على أعظم دول الأرض اليوم حشده ونقله بمهماته ومئونته من أوسط آسيا إلى البحر الأبيض، فكيف منذ بضعة وعشرين قرنًا، فالدولة التي هي مبلغ قوتها لا تخلو من أدب وعلم، والفرس أهل ذكاء وتعقل، وفيهم استعداد فطري لأسباب التمدن، فلا بد من إجادتهم من نظم الشعر على نحو ما فعل إخوانهم الهنود في المهابهاراتة ونحوها، وإن كان ما وصل منه إلينا قليلًا، ناهيك بالعلوم القديمة التي هي من قبيل الطبيعيات والرياضيات كالنجوم والأنواء، فقد أحرزا شيئًا منها؛ وخصوصًا لأنهم ورثوا البابليين والأشوريين، واحتكُّوا باليونان وهم في إبَّان تمدُّنهم، واختلطوا بجيرانهم الهنود، وكانوا يعرفون الكتابة وينقشونها على الأحجار باللغة الفهلوية، ويؤيد ذلك ما جاء في كتب الأخبار عن فتوح الإسكندر بلاد فارس وما عثر عليه في عاصمتهم إصطخر من خزائن الكتب، وفيها ما كان قد جمعه الفرس من علوم الهند والصين إلى تلك الإيام.

والمشهور أن علوم الفرس لم تأخذ في الظهور إلا في أيام سابور بن أزدشير، فبعث إلى بلاد اليونان استجلَبَ كتب الفلسفة وأمر بنقلها إلى الفارسية،١ واختزنها في مدينته وأخذ الناس في نسخها وتدارسها.
فلما تولى كسرى أنوشروان العادل (من سنة ٥٣١–٥٧٨م) فُتح للفرس مورد جديد للعلم والفلسفة بما كان من اضطهاد يوستنيان قيصر الروم للفلاسفة الوثنيين على أثر إقفاله الهياكل والمدارس الوثنية. وكانت الفلسفة الأفلاطونية الجديدة قد نضجت ففرَّ بعض أصحابها من وجه الاضطهاد، وتفرَّقوا في العالم، وجاء منهم سبعة إلى أنوشروان فأكرم وفادتهم، وأمرهم بتأليف كتب الفلسفة أو نقلها إلى الفارسية فنقلوا المنطق والطب،٢ وألفوا فيهما الكتب فطالعها هو ورغب الناس فيها، وعقد المجالس للبحث والمناظرة كما فعل المأمون بعده بقرنين وبعض القرن، حتى خيل لليونان الذين جالسوا أنوشروان أنه من تلامذة أفلاطون، والمظنون أن تلك الفلسفة كانت أساسًا لتعاليم الصوفية التي نشأت بعد ذلك.
ولم يقتصر أنوشروان على نقل علوم اليونان إلى لسانه، ولكنه نقل علوم الهنود أيضًا من السنسكريتية إلى الفارسية،٣ وأنشأ في جند بسابور مارستانًا (مستشفى) لمعالجة المرضى وتعليم صناعة الطب استقدم إليه الأطباء من الهند وبلاد اليونان، وكانوا يعلمون فيه الطبين الهندي والأبقراطي فجمع بين الحسنين.

(١-٥) آداب اللغة السريانية

كان للسريان تمدن قديم، وإنما يهمنا في هذا المقام ما كان عندهم من علوم الفلسفة التي اشتغلوا بنقلها، وهم في ذلك تلامذة اليونان؛ لأنهم تعلموا فلسفتهم وطبهم وسائر علومهم كما تعلمها الرومان قبلهم واقتبسها الفرس معهم، وكما تعلمها المسلمون بعدهم. والسريان أهل ذكاء ونشاط، فكانوا كلما اطمأنت خواطرهم من مظالم الحكام وتشويش الفاتحين انصرفوا إلى الاشتغال في العلم؛ فأنشئوا المدارس للاهوت والفلسفة واللغة، ونقلوا علوم اليونان إلى لسانهم، وشرحوا بعضها ولخصوا بعضها. ومنهم خرج أكثر الذين ترجموا العلم للعباسيين وأكثرهم من النساطرة، ونقتصر هنا على ذكر اشتغالهم في العلم لأنفسهم.

كان للسريان في ما بين النهرين نحو خمسين مدرسة تعلَّم فيها العلوم بالسريانية واليونانية أشهرها مدرسة الرها، وفيها ابتدأ السريان يشتغلون بفلسفة أرسطو في القرن الخامس للميلاد، وبعد أن تعلموها أخذوا في نقلها إلى لسانهم، فنقلوا المنطق في أواسط القرن المذكور، ثم أتم دراسة المنطق سرجيس الراس عيني الطبيب المشهور، وفي المتحف البريطاني بلندرا نسخ خطية من ترجمته الإيساغوجي إلى السريانية، وكذلك مقولات أرسطو لفرفوريوس وكتاب النفس وغيرها، وقد نشر بعضها من عهد قريب.

في أوائل القرن السابع للميلاد اشتهرت مدرسة قنسرين على الفرات بتعليم فلسفة اليونان باللغة اليونانية، وتخرَّج فيها جماعة كبيرة من السريان وفي جملتهم الأسقف سويرس، فقد انقطع فيها لدرس الفلسفة والرياضيات واللاهوت، ولما تمكَّن من تلك العلوم نقل بعضها إلى السريانية، ولا تزال بعض ترجماته في الفلسفة محفوظة في المتحف البريطاني، وقد أتمها بعده تلميذه يعقوب الرهاوي واضع علم النحو السرياني وأثناسيوس بلد، ومن تلامذته أثناسيوس جورجيوس المعروف بأسقف العرب (٦٨٦م)، فقد ترجم بعض كتب أرسطو، واشتغل جماعة آخرون في ترجمة كتب أفلاطون وفيثاغورس وغيرهما مما يطول شرحه، واشتهرت هناك مدارس أخرى كمدرسة نصيبين التي كان عدد تلامذتها نحو ثمانمائة، وكانت تعلِّم كل العلوم العقلية والنقلية.

أما الطب فقد كان لهم فيه حظ وافر على أثر إنشاء مارستان جنديسابور، واشتهر فيهم من أهل هذه الصناعة كثيرون منهم سرجيس الراس عيني المتقدم ذكره، وأتانوس الآمدي، وسمعان الطيبوتي، والأسقف غريغوريوس، والبطريرك ثيودوسيوس، وغيرهم من الأطباء الذين أدركوا الدولة العباسية وخدموها.

وقد نقل أطباء السريان كثيرًا من كتب الطب من اليوناني إلى السرياني حتى في أثناء اشتغالهم بنقلها إلى العربية؛ لأنهم كانوا كثيرًا ما ينقلونها إلى السرياني فقط أو إلى السريانية والعربية معًا.

(١-٦) آداب اللغة الهندية

الهنود أمة قديمة والطبقة العليا منهم إخوان الفرس واليونان، وقد نظموا الملاحم ودونوا الأخبار شعرًا من قديم الزمان، ولهم آداب خاصة وتواريخ خاصة تولدت عندهم بتوالي القرون كما يستدل من مراجعة تواريخهم ودرس أحوالهم، حتى كثيرًا ما كان ملوك الفرس يستغيثون بأطبائهم كما فعل أنو شروان في مارستان جنديسابور، وكما وقع للخلفاء العباسيين في أوائل نهضتهم، فإنهم كانوا يستقدمون الأطباء من الهند، ويستشيرونهم في أمراضهم بعد أن تفرغ حيل أطباء الفرس والسريان في معالجتهم؛ لأن للطب الهندي طرقًا غير ما للطب اليوناني أو الفارسي، وقد اشتهر منهم عدة أطباء ألفوا في الهندية، ونقل المسلمون بعض كتبهم إلى العربية ومنهم منكه وصنجهل وشاناق وغيرهم.

وكانت لهم معرفة حسنة بالنجوم ومواقعها وأبراجها، ولها أسماء خاصة بلسانهم، وكان لهم فيها ثلاثة مذاهب: مذهب الأرجهير، ومذهب الأركند، ومذهب ثالث يقال له بالسنسكريتية: سدهنتا Siddhânta، هو عبارة عن زيج ذكروا فيه آراءهم في حركات الكواكب، وهو الذي وصل إلى العرب ونقلوه إلى لسانهم وسموه السند هند، والهنود هم الذين اخترعوا الأرقام وعنهم أخذها العرب، ولهم طرق خاصة في الحساب اكتسبها العرب عنهم، وكان لهم معرفة بفن الموسيقى ولهم فيها كتب ترجم المسلمون بعضها إلى العربية.

(١-٧) نقل الكتب ونقلتها

تلك حال العلوم والآداب عند الأمم المتمدنة لما أخذ المترجمون في نقلها إلى اللغة العربية في العصر العباسي الأول، أما الخلفاء الذين اهتموا بذلك النقل فهم المنصور كان أكثر اهتمامه بالنجوم والطب، والمهدي قلما اشتغل بذلك، وكذلك الرشيد لم ينقل في أيامه إلا كتاب المجسطي، ثم المأمون وهو الذي اهتم بنقل كتب الفلسفة والمنطق على الخصوص وسائر العلوم على العموم.٤

أما نقلة العلم في العصر العباسي فهم من أهل العراق والشام وفارس والهند، رغبهم الخلفاء في ذلك بالبذل الكثير وجعلوا لبعضهم رواتب وجواري وبالغوا في إكرامهم ومحاسنتهم، وأكثرهم من السريان النساطرة؛ لأنهم أقدر على الترجمة من اليونانية وأكثر اطلاعًا على كتب الفلسفة والعلم اليوناني، أشهرهم: آل بختيشوع سلالة جورجيس بن بختيشوع السرياني النسطوري طبيب المنصور، وآل حنين سلالة بن إسحاق العيادي شيخ المترجمين أحد نصارى الحيرة وله تاريخ طويل، وحبيش الأعسم الدمشقي ابن أخت حنين، وقسطا بن لوقا البعلبكي من نصارى الشام، وآل ماسرجويه اليهودي السرياني وآل الكرخي، وآل ثابت الحراني من الصابئة، والحجاج بن مطر، وابن ناعمة الحمصي، ويوحنا بن ماسويه، وإسطفان بن باسيل، وموسى بن خالد، وسرجيس الراسي، ويوحنا بن بختيشوع من غير آل بختيشوع المتقدم ذكرهم، والبطريق، ويحيى بن البطريق، وأبو عثمان الدمشقي، وأبو بشر متَّى بن يونس، ويحيى بن عدي، هؤلاء أشهر نقلة العلم من اليوناني أو السرياني إلى العربي، وبعضهم تجاوز العصر العباسي الأول.

وأما النقلة من الألسنة الأخرى، فمنهم من نقل من الفارسية إلى العربية كابن المقفع، وآل نوبخت كبيرهم نوبخت، ولابنه الفضل بن نوبخت نقل من الفارسي إلى العربي في النجوم وغيرها، ومنهم موسى ويوسف ابنا خالد، وكانا يخدمان داود بن عبد الله بن حميد بن قحطبة، وينقلان له من الفارسية إلى العربية، وعلي بن زياد التميمي، ويكنى أبا الحسن نقل من الفارسي إلى العربي كتاب زيج الشهريار، والحسن بن سهل وكان من المنجمين، والبلاذري أحمد بن يحيى، وجبلة بن سالم كاتب هشام، وإسحاق بن يزيد نقل سيرة الفرس المعروفة باختيار نامه، ومنهم محمد بن الجهم البرمكي، وهشام بن القاسم، وموسى بن عيسى الكردي، وعمر بن الفرخان وغيرهم.
fig9
شكل ٨: يوحنا بن ماسويه.
ومن الذين نقلوا عن اللغة السنسكريتية (الهندية) منكه الهندي، كان في جملة إسحاق بن سليمان بن علي الهاشمي ينقل من اللغة الهندية إلى العربية، وابن دهن الهندي، وكان إليه مارستان البرامكة نقل من الهندي إلى العربي.٥

ومن الذين نقلوا عن اللغة النبطية (الكلدانية) إلى العربية ابن وحشية نقل كتبًا كثيرة أهمها كتاب الفلاحة النبطية.

وهناك طبقة من النقلة اشتغلوا بنقل العلم من عند أنفسهم أشهرهم بنو شاكر أو بنو موسى؛ لأنهم أولاد موسى بن شاكر، وهم محمد وأحمد والحسن، وعرف أولادهم بعدهم ببني المنجم. كان موسى يصحب المأمون والمأمون يرعى حقه في أولاده هؤلاء، واشتغلوا في الهندسة والنجوم والطبيعيات والميكانيكيات وغيرها، وأتعبوا أنفسهم في جمع الكتب القديمة من بلاد الروم، وأحضروا النقلة بالبذل لنقلها. وممن بذلوا في نقل العلم غير الخلفاء محمد بن عبد الملك الزيات، وعلي بن يحيى المعروف بابن المنجم، ومحمد بن موسى بن عبد الملك، وإبراهيم بن محمد بن موسى الكاتب، وغيرهم.

الكتب التي نقلت

أما الكتب التي نقلت في ذلك العصر، فعددها بضع مئات أكثرها من اليونانية منها ٨ في الفلسفة والأدب لأفلاطون، و١٩ كتابًا في الفلسفة والمنطق والأدب لأرسطو، و١٠ في الطب لأبقراط، و٤٨ في الطب لجالينوس، وبضعة وعشرون كتابًا في الرياضيات والنجوم لأوقليدس وأرخميدس وأبلونيوس ومنالاوس وبطليموس وأبرخس وذيوفنطس وغيرهم.

وأما منقولات اللغات الأخرى فمنها نحو عشرين كتابًا نقلت عن الفارسية في التاريخ والأدب، ونحو ٣٠ كتابًا من اللغة السنسكريتية، وأكثرها في الرياضيات والطب والنجوم والأدب، ونحو عشرين كتابًا عن اللغة السريانية أو النبطية أكثرها في السحر والطلسمات إلا كتاب الفلاحة النبطية في الزراعة، وهناك بضعة كتب نقلت عن اللاتينية والعبرانية.

(٢) الخلاصة

وجملة القول: إن المسلمين نقلوا إلى لسانهم معظم ما كان معروفًا من العلم والفلسفة والطب والنجوم والرياضيات والأدبيات عند سائر الأمم المتمدنة في ذلك العهد، ولم يغادروا لسانًا من ألسن الأمم المعروفة إذ ذاك لم ينقلوا منه شيئًا، وإن كان أكثر نقلهم عن اليونانية والفارسية والهندية، فأخذوا من كل أمة أحسن ما عندها، فكان اعتمادهم في الفلسفة والطب والهندسة والموسيقى والمنطق والنجوم على اليونان، وفي النجوم والسير والآداب والحكم والتاريخ والموسيقى على الفرس، وفي الطب (الهندي) والعقاقير والحساب والنجوم والموسيقى والأقاصيص على الهنود، وفي الفلاحة والزراعة والتنجيم والسحر والطلاسم على الأنباط أو الكلدان، وفي الكيمياء والتشريح على المصريين، فكأنهم ورثوا أهم علوم الأشوريين والبابليين والمصريين والفرس والهنود واليونان، وقد مزجوا ذلك كله وعجنوه واستخرجوا منه علوم التمدن الإسلامي (الدخيلة).

ومما نلاحظه من أمر ذلك النقل أن العرب مع كثرة ما نقلوه عن اليونان لم يتعرضوا لشيء من كتبهم التاريخية أو الأدبية أو الشعر، مع أنهم نقلوا ما يقابلها عند الفرس والهنود، فقد نقلوا جملة صالحة من تواريخ الفرس وأخبار ملوكهم، وترجموا الشاهنامة، ولكنهم لم ينقلوا تاريخ هيرودوتس ولا جغرافية استرابون ولا إلياذة هوميروس ولا أوديسته، والسبب في ذلك أن أكثر ما بعث المسلمين على النقل رغبتهم في الفلسفة والطب والنجوم والمنطق. وأما التواريخ والآداب فقد كان التراجمة ينقلونها غالبًا من عند أنفسهم حبًّا في إظهار مآثر أسلافهم أو جيرانهم، فالمترجمون الفرس نقلوا شيئًا من تواريخ الفرس وآدابهم، وكذلك فعل التراجمة السريان بآداب أجدادهم، وكذلك التراجمة الهنود، فلو كان في أولئك المترجمين واحد أو غير واحد من اليونان لنقلوا كثيرًا من تواريخ أمتهم وأشعارها، ولا ريب أن من جملة ما منعهم من نقل الإلياذة إلى العربية ذكر الآلهة والأصنام فيها، ولكنَّ في الشاهنامة أيضًا كثيرًا من ذلك فلم يمنعهم من نقلها، لكن الترجمة ضاعت.

ويلاحظ أيضًا أن العرب نقلوا من علوم تلك الأمم في قرن وبعض القرن ما لم يستطع الرومان بعضه في عدة قرون، وذلك شأن المسلمين في أكثر أسباب تمدُّنهم العجيب.

ولا يستخف بما اقتضاه ذلك النقل عن أشهر أمم الأرض في ذلك العصر من التأثير في الآداب الاجتماعية والآراء العمومية، وخصوصًا مما نقل عن الفارسية؛ لأن معظمه في الأدب والتاريخ، كما أثر في آدابنا الاجتماعية ما نقلناه في نهضتنا هذه عن الإفرنج، فضلًا عن دخول الفرس في كل باب من أبواب الدولة، فدخل الآداب العربية والأفكار العربية كثيرٌ من آداب الفرس الساسانيين وأفكارهم اقتبسها العرب من الكتب التي نقلت عنهم، ولم يبقَ منها إلا ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة ونتف متفرقة في بعض الكتب، وقد درس هذا الموضوع المستشرق أينوسترانسيف الروسي، ووضع فيه كتابًا طبع في بطرسبرج سنة ١٩٠٩.٦

وعلى هذه المنقولات بنى المسلمون ما ألَّفوه في هذه العلوم في أثناء تمدنهم غير ما اختبروه وأضافوه إليها من عند أنفسهم، وأكثر منقولاتهم ومؤلفاتهم ضاعت ولم يبقَ منها إلا بعضها، وعلى هذا البعض كان معول الأوروبيين في نهضتهم الأخيرة لإنشاء تمدنهم الحديث بما نقلوه منها إلى ألسنتهم كما سنبيِّنه في مكانه.

(٢-١) الباقي من المنقولات إلى الآن

أما الباقي من الترجمات المتقدم ذكرها إلى الآن، فلا يتجاوز بضع عشرات مشتتة في مكاتب أوروبا — إليك بعضها على سبيل المثال:

كتاب المجسطي لبطليموس ترجمة الحجاج بن يوسف بن مطر، منه نسخة خطية في مكتبة ليدن.

كتاب السياسة في تدبير الرياسة ترجمة يوحنا بن البطريق، منه نسخ في مكاتب برلين ومنشن وغيرهما.

ولقسطا بن لوقا البعلبكي عدة آثار من نقله وتأليفه، منها رسائل في الطب والأخبار ذكرها بروكلمن في كتابه آداب اللغة العربية، وأشار إلى أماكن وجودها (صفحة ٢٠٤ ج١).

ولحنين بن إسحاق بقايا حسنة من منقولاته، أشهرها المدخل في الطب في مكتبة الأسكوريال ومسائل في الطب للمتعلمين في مكتبة برلين، واجتماعات الفلاسفة في بيوت الحكماء في مكتبة منشن، وكتاب النواميس وغيرها.

ولابنه إسحاق بن حنين كتاب في منطق أرسطو.

وليعقوب بن إسحاق الكندي — فيلسوف العرب — بقايا من مؤلفاته سيأتي ذكرها في ترجمته في الدور العباسي الثاني.

وسنأتي على مشاهير النابغين في العلوم الدخيلة فيما يلي من هذا الكتاب، ولا سيما الذين اشتغلوا بغيرها، وإنما أجملنا الكلام هنا وتجاوزنا في إجماله العصر العباسي الأول رغبةً في الاختصار؛ للسبب الذي قدَّمْناه من صرف العناية فيما نرجو نفعه للقراء فعلًا، ولنعد إلى الكلام في العلوم العربية الأصلية.

(٣) العلوم العربية الأصلية

(٣-١) اللغة

أصاب اللغة في هذا الدور تغيير كثير في ألفاظها بما نقل إليها من العلوم الدخيلة، وما اقتضاه التمدن من الألفاظ الإدارية، وما استلزمه التوسع في العلوم الإسلامية وغيرها من الأوضاع والمصطلحات العلمية والفلسفية والإدارية؛ لتأدية ما حدث من المعاني الجديدة مما لم يكن له مثيل في لسان العرب، كما هو شأننا اليوم في نقل العلم الحديث إلى لساننا، وكانوا يومئذ أحوج إلى اقتباس الألفاظ الأعجمية وتنويع المعاني العربية، ولم تقتصر تلك النهضة على اقتباس الألفاظ الأعجمية وتبديلها، ولكنها أحدثت تنويعًا في معاني الألفاظ العربية، وإليك أمثلة من ذلك:

الألفاظ العلمية العربية

أهمها الألفاظ الطبية، ولم يكن منها في الجاهلية إلا مفردات كالحجامة والكي ونحوها، فحدث منها ما يدل على فنون الطب كالكحالة والصيدلة والتشريح والجراحة والتوليد، ومنها ما يختص باصطلاحات كل فن كأسماء الرطوبات والأمزجة والأخلاط من الحار والبارد والجافِّ واليابس والسوداء والصفراء والبلغم والنبض والتخمة والإنذار والهضم والبحران والمشاركات.

وأسماء الأدوية كالمسخنات والمبردات والمرطبات والمجففات والمسهلات والنطولات والمخدرات والاستفراغات والسعوطات والأدهان والمراهم والأطلية.

وأفعال تلك الأدوية مثل ملطف ومحلل ومنضج ومخشن وهاضم وكاسر الرياح ومخمر ومحكك، ومقرح وأكَّال ولاذع ومفتت ومعفن وكاوٍ ومبرد ومقوٍّ ومخدر ومرطب وعاصر وقابض ومسهل، ومدرٍّ ومعرق ومزلق ومملس وترياقي وغير ذلك.

ومن الألفاظ الجراحية الفسخ والهتك والوتي والرض والخلع والفتق، وتفرق الاتصال ومفارقة الوضع والجبار وغيره.

ناهيك بأسماء الأمراض أو أعراضها كالصداع والكابوس والصرع والتشنج واللقوة والرعشة والاختلاج والسرطان والسلاق والشترة والشرناق والحانوق والذبحة والربو وذات الجنب وذات الرئة، والجهر والضمور والخفقان والغشيان واليرقان والاستسقاء، والدبيلة والإسهال والزحير والسحج والسدد والهيضة والبواسير، ونحو ذلك مما لا يمكن حصره.

ومن أوصاف الأمراض أنواع الحميات كالمزمنة والحادة والمختلطة والغب والمطبقة والربع والدق وغيرها، غير الألفاظ التشريحية كأسماء الأوعية الدموية ورطوبات العين وسائر الأعضاء الباطنية التي لم يكن العرب يعرفونها.

ويليها الألفاظ الفلسفية ونحوها من مصطلحات الفلسفة والمنطق، وما تفرَّع منها كعلم الكلام والتصوف والفقه ونحوه، وهي كثيرة تفوق الحصر كقولهم: الكون والظهور والقدم والحدوث والإثبات والنفي والحركة والسكون والمماسة والمباينة والوجود والعدم والطفرة والأجسام والأعراض والتعديل والتحرير، والمصاف من اصطلاحات علم الكلام، والهاجس والمريد والسالك والمسافر والسطح والقطب والهيبة والأنس والبقاء والعناء والشاهد والفترة والمجاهدة من اصطلاحات التصوف.

وقد تكاثرت الاصطلاحات الكلامية والصوفية والفقهية والأصولية، حتى صارت تعد بالألوف؛ فاضطروا إلى وضع المعجمات الخصوصية لتفسيرها وشرح ما اكتسبته من المعاني المختلفة باختلاف تلك العلوم، ومن أشهر تلك المعجمات كتاب «التعريفات» للجرجاني في نيف ومائة صفحة، و«كشاف اصطلاحات الفنون» للتهانوي في نحو ألفي صفحة كبيرة، و«كليات أبي البقاء» في أربعمائة صفحة، و«اصطلاحات الصوفية» الواردة في الفتوحات المكية وغيرها، فإذا ذكروا لفظًا أوردوا معناه اللغوي ثم معناه الاصطلاحي في الفقه أو الكلام أو التصوف أو الأصول مع ما يناسب ذلك من المعاني الرياضية أو الطبيعية أو النحوية، وقد يغفلون المعنى اللغوي على الإطلاق.

الألفاظ العلمية الأعجمية

ونريد بها ما اضطر المترجمون إلى نقله من لغته بلفظه ومعناه، وأكثر ما يكون ذلك في أسماء العقاقير والأمراض والأدوات والمصنوعات، مما لم يكن له نظير في بلادهم كالأفسنتين والبقدونس والزيزفون والسقمونيا والقنطاريون والمصطكي من اللغة اليونانية، والبابونج والبورق والبنج وخيار شمبر والزاتينج والررجون والزرنيخ والزاج والسرقين والأسفيداج والشاهترج والشيرج والمرداسنج من اللغة الفارسية.

ومن أسماء الأمراض ونحوها من الاستعمالات الطبية القولنج والترياق والكيموس والكيلوس وقيفال ولومان وملنخوليا من اليونانية، وسرسام ومارستان من الفارسية.

ومن المصنوعات والأدوات الإصطرلاب والقيراط والأنبيق والصابون من اليونانية، والبركار والبوتقة والجنزار والدسكرة والأسطوانة من الفارسية.

ومن الاصطلاحات الفلسفية ونحوها الهيولي والأسطقس والفلسفة والطلسم والمغنطيس والإقليم والقاموس والقانون من اليونانية — غير ما اقتبسوه من اللغة الهندية، وأكثره من أسماء العقاقير ونحوها.

فترى مما تقدم أن أهل تلك النهضة لم يكونوا يستنكفون من اقتباس الألفاظ الأعجمية، ولم يتعبوا أنفسهم في وضع ألفاظ عربية لتأدية المعاني التي نقلوها عن الأعاجم، بل كانوا كثيرًا ما يستخدمون للمعنى الواحد لفظين من لغتين أعجميتين، فالسرسام مثلًا اسم فارسي لورم حجاب الدماغ استعمله العرب للدلالة على هذا المرض، ولما ترجموا الطب من لغة اليونان استخدموا اسمه اليوناني، وهو «قرانيطس»، ولو استنكفوا من استخدام الألفاظ الأعجمية لاستغنوا عن اللفظين جميعًا.

التراكيب الأعجمية في اللغة العربية

قياسًا على ما نشاهده من تطرق العجمة إلى أسلوب كتبة أهل هذا العصر فيما ينقلونه من الأفكار الأعجمية، نعتقد أن أسلافنا في النهضة العباسية دخل أسلوبَهم شيء من ذلك، وإن كنا لا نستطيع تتبُّعه إلى أصوله تمامًا لتباعد عهده واختلاطه. على أننا إذا فحصنا لغة ذلك العصر وقابلنا بين عبارة كتب الطب والفلسفة وعبارة كتب الأدب، رأينا الفرق بينهما واضحًا، وإذا دقَّقْنا النظر في سبب ذلك رأينا عبارة أصحاب الفلسفة تمتاز بأمور هي سبب ضعفها وركاكتها أهمها:
  • (١)

    استخدام فعل الكون بكثرة على نحو ما يستعمله أهل اللغات الإفرنجية.

  • (٢)

    كثرة الجمل المعترضة الشائعة عندهم.

  • (٣)

    الإكثار من استعمال الفعل المجهول.

  • (٤)

    استعمال ضمير الغائب «هو» بين المبتدأ والخبر حيث يمكن الاستغناء عنه.

  • (٥)

    إدخال الألف والنون قبل ياء المتكلم في بعض الصفات كقولهم: روحاني ونفساني وباقلاني، ونحو ذلك مما هو مألوف في اللغات الآرية ولا يستحسن في اللسان العربي.

ومن التعبيرات التي اقتبسها العرب من اللغة اليونانية ما لم يكن لهم مندوحة عنها ولا بأس منها:
  • (١)

    تركيب الألفاظ مع لا النافية، وإدخال أل التعريف عليها كقولهم: اللانهائية واللاأدرية واللاضرورة.

  • (٢)

    صوغ الاسم من الحروف أو الضمير مثل قولهم: اللمية والكيفية والكمية والهوية والماهية.

  • (٣)

    نقل الألفاظ الوصفية إلى الاسمية كقولهم: المائية والمنضجة والخاصة.

ومن هذا القبيل اقتباسهم بعض التعبيرات الفارسية الإدارية مثل قولهم: «صاحب الشرطة»، و«صاحب الستار» وهو تعبير فارسي، غير ما أصاب اللغة من التغيير في ألفاظها على الإجمال على أثر نموها، وبما طرأ على الآداب الاجتماعية من التغيير فضلًا عن التجارة والصناعة، وما اقتضاه ذلك من تنوع الألفاظ العربية أو اقتباس الألفاظ الأعجمية غير العادات والأخلاق ونحوها، وغير ما اقتضاه ناموس الارتقاء من النمو والتجدد والتنوع والتفرع. وقد عقدنا فصلًا إضافيًّا في هذا الباب في كتابنا تاريخ اللغة العربية تجاوزنا فيه هذا الدور إلى ما يليه من الأدوار العباسية، وفصلًا في الألفاظ النصرانية واليهودية والتراكيب السريانية والعبرانية، التي دخلت هذه اللغة في أثناء التمدن الإسلامي فلتراجَع هناك.

مآخذ لهذا الموضوع

ومن الكتب التي يمكن الرجوع إليها في هذا الموضوع غير كتاب تاريخ اللغة العربية المتقدم ذكره: «كتاب التعريفات» للجرجاني المتوفى سنة ٨١٦ﻫ، ويشتمل على المصطلحات الفقهية والنحوية وغيرها مرتَّبة على حروف المعجم، وهو مطبوع في باريس سنة ١٨٤٥ وفي مصر، و«درة الغواص» للحريري طبع في مصر وغيرها، و«شفاء العليل فيما في كلام العرب من الدخيل» لشهاب الدين الخفاجي المتوفى سنة ١٠٦٩ﻫ، طبع بمصر سنة ١٢٨٢، و«كشاف اصطلاحات الفنون» للتهانوي سنة ١١٥٨ﻫ طبع في كلكتة سنة ١٨٦١، و«المعرب من الكلام الأعجمي» لأبي منصور الجواليقي المتوفى سنة ٥٣٩ﻫ طبع في ليبسك سنة ١٨٦٧، وكتاب «المعرب والدخيل» لأحد أبناء القرن الحادي عشر للهجرة، منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية، و«المغرب في ترتيب المعرب» لأبي الفتح المطرزي منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية، غير المعاجم اللغوية وكتب اللغة.

هوامش

(١) أبو الفداء ٥٠ ج١.
(٢) الفهرست ٢٤٢.
(٣) E. Browne’s Lit, Hist. of Persia, 167.
(٤) تاريخ التمدن الإسلامي ١٤٠ ج٣.
(٥) الفهرست ٢٤٥.
(٦) المشرق ٣٩٢ سنة ١٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤