العلوم اللسانية

(١) الأدب والأدباء وعلم الأدب

اختلف العلماء في تعريف الأدب وتحديده، أما علم الأدب فيشتمل في اصطلاحهم على أكثر علوم العربية كالنحو واللغة والتصريف والعروض والقوافي وصنعة الشعر وأخبار العرب وأنسابهم، وصاحب هذه العلوم أو أحدها كانوا يسمونه «أديب»،١ وقالوا: الفرق بين الأديب والعالم أن الأديب يأخذ من كل شيء أحسنه فيألفه والعالم من يقصد لفن من العلم فيتقنه.٢ ولكن التعريف الأول أقرب إلى المراد؛ ولذلك جعلوا الغاية من علم الأدب الإجادة في فني المنثور والمنظوم — وقد شاعت هذه التسمية قبل أن تتميز هذه العلوم ويستقل بعضها عن بعض، وكانت في أول أمرها مختلطة متشابهة، ثم استقلت بالتدريج وتفرعت وصار كل منها علمًا له أحكام مستقلة جريًا على سنة النشوء والارتقاء.
فكان المراد بالأدب في أول الإسلام جمع أقوال العرب وأشعارهم وأخبارهم وأمثالهم؛ للاستعانة بها على تفسير القرآن وضبط ألفاظه وتفهُّم أساليبه — أخذوا بذلك من القرن الأول للهجرة — وكان ابن عباس يقول: «إذا قرأتم شيئًا من كتاب الله لم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب؛ لأن الشعر ديوان العرب.»٣

ثم وضع أبو الأسود الدؤلي النحو لضبط المعاني كما تقدم، فزادت الحاجة إلى جمع أقوال العرب وأشعارهم للاستشهاد بها في الإعراب والتصريف، واهتمت الدولة الأموية في إحياء لغة العرب وآدابها، وأخذ خلفاؤها في حفظ الآداب الجاهلية، فجعلوا يقربون الذين يحفظونها أو ينقلونها أو يروونها ويبذلون لهم الأعطية.

(١-١) الأدباء في الدولة العباسية

وظلت الرغبة في اللغة وأدبها متصلة بالدولة العباسية، ولا سيما في عصرها الأول؛ لرغبة خلفائها الأولين ووزرائها البرامكة في العلم والأدب والشعر، ولم تكن رغبتهم قاصرة على الشعر، ولكنهم نشطوا الأدب على الإجمال واستقدموا الأدباء من الكوفة والبصرة للسماع منهم أو لتعليم أبنائهم اللغة والنحو والشعر. فالمنصور استقدم شرقيَّ القطامي ليعلم ابنه المهدي الأدب والنسب،٤ فشبَّ المهدي على حب الأدب والأدباء، فألف له المفضل الضبي المفضليات، وكثيرًا ما كان يعقد المجالس للمناظرة بين الأدباء في النحو أو اللغة، يحضرها الكسائي واليزيدي وغيرهما،٥ ثم عهد إلى الكسائي بتعليم ابنه هارون (الرشيد) في حديث لطيف يدل على عناية المهدي في اللغة.٦
فلما صارت الخلافة إلى الرشيد نشأ على احترام أستاذه حتى كان يجلسه على كرسي في حضرته، ويأمره أن لا ينزعج لنهضته،٧ وعهد إليه بتعليم ابنه الأمين، وكان الرشيد شديد الرغبة في سماع مناظرات الأدباء، فكان يعقد المجالس للمناظرة بين الأصمعي وأبي عبيدة،٨ أو يدعو أحد الرواة إذا أرق أو ضجر ليقص عليه أخبار العرب، فإذا سرَّه حديثه أجزل عطاءه إلى مائة ألف درهم أو حواليها، فضلًا عن الهدايا وغيرها،٩ وقد يجادله أو ينتقده مما يشف عن علم ومعرفة.١٠ وكان الرشيد يحب أن يكون محاطًا بالأدباء والشعراء حتى في دار النساء، فكان يؤثر الجواري المتعلمات ويعرضهن على الأصمعي أو غيره ليمتحنهن ويعلم درجة معارفهن،١١ واعتبر ذلك أيضًا في الوزراء والأمراء، فالبرامكة تنشيطهم للأدب أشهر من أن يذكر، والفضل بن الربيع فاضل بين الأصمعي وأبي عبيدة،١٢ أما الأمراء فكانوا يقتدون بالخلفاء في تقريب أهل الأدب.

(١-٢) رواة الأدب من غير العرب

وكان العرب في الصدر الأول مشتغلين عن الأدب بالسياسة أو الشعر أو الخطابة، وهم في غنى عن الاستشهاد في ضبط كلامهم أو قراءتهم لاستغنائهم بملكتهم الفطرية عن تعلم القواعد وحفظ الألفاظ، وكان الأعاجم الذين دخلوا الإسلام من أهل فارس والعراق وخراسان بالولاء أو بالخدمة يفتقرون في تعلم العربية إلى قواعد وشواهد؛ لأنها ليست لغتهم، وأكثرهم مع ذلك أهل فاقة يلتمسون الرزق، فتوافدوا للاشتغال بالأدب إلى البصرة والكوفة؛ لأنهما على حدود البادية أو هما واسطة الاتصال بين الحضارة والبداوة، وزاد توافدهم في الدولة العباسية؛ لأنها جعلت قصبتها في العراق على مقربة من هذين البلدين وفيهما جماعة كبيرة من قبائل العرب نزلوهما في صدر الإسلام، وأنزلوا مواليهم معهم، فنبغ من هؤلاء الموالي طائفة من الأدباء كان لهم فضل كبير على آداب اللغة وأكثرهم من موالي بني أسد النازلين بجوار الكوفة وغيرهم بجوار البصرة.

فمن أولئك الأدباء جماعة اشتغلوا بجمع الأشعار والأخبار والأمثال ونحوها وسموا بالرواة؛ لأنهم يروون ما سمعوه، وكانوا يأخذون ذلك عن عرب البادية الذين لم يخالط لسانهم العجمة ممن كانت قريش تتخير ألفاظهم وأساليبهم، وأكثر ما نقلوه عن قبائل قيس وتميم وأسد وعمدة الثقات من الرواة، ثم قبيلة هذيل وبعض كنانة وبعض طي، ولم يأخذوا شيئًا عن الحضر ولا من البدو المجاورين؛ فلم يأخذوا من لخم وجذام لمجاورتهما أهل مصر، ولا من قضاعة وغسان وإياد لمجاورتهم أهل الشام وأكثرهم نصارى يقرءون العبرانية والسريانية، ولا من بكر لمجاورتهم النبط والفرس، ولا من عبد القيس والأزد وعمان؛ لأنهم كانوا بالبحرين يخالطون الهند والفرس، ولا من أهل اليمن لمخالطتهم الهند والحبشة، ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة، ولا من ثقيف وأهل الطائف لمخالطتهم تجار اليمن، ولا من حاضرة الحجاز؛ لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدءوا ينقلون لغة العرب، وقد خالطوا غيرهم من الأمم وفسدت ألسنتهم.

فأهل البصرة والكوفة هم رواة اللغة وواضعو أساس آدابها وعلومها، وكانوا يركبون في طلب ذلك إلى البادية يحادثون العرب ويستطلعون أخبارهم وأشعارهم ويعودون بها إلى البصرة، وكان أولئك العرب في أول الأمر لا يرون بأسًا من إملاء ما يعرفونه ولا يطلبون عن ذلك أجرًا، ثم علموا أن الرواة يرتزقون بما يأخذونه عنهم فصاروا يطلبون به مالًا، ثم صار الفصحاء من العرب يتوافدون هم أنفسهم إلى البصرة يقيمون فيها أو في ضواحيها تخفيفًا لمشاق الرحلة على الرواة وتسابقًا إلى التكسب من إملاء ما يعرفونه من اللغة أو الشعر، وربما كان الراوي لا يكتفي بالأخذ عن الوافدين فيرحل إلى البادية ليأخذ عن أهلها — بدءوا بذلك في أواخر العصر الأموي، وتكاثر الرواة والوافدون في الدولة العباسية إلى البصرة وبغداد، وكان أكثر وفودهم في العصر العباسي الأول أولًا إلى البصرة، فأصبحت غاصَّةً بالأدباء والرواة والشعراء والفصحاء وغيرهم.

(١-٣) الفصحاء الذين نقل الرواة عنهم

فمن الفصحاء الذين أخذ عنهم الرواة في ذلك العصر أو حواليه:
  • (١)

    أبو البيداء الرباحي: أعرابي نزل البصرة وكان يعلِّم الصبيان بأجرة، وأقام بها عمره يؤخذ عنه العلم.

  • (٢)

    أبو مالك عمرو بن كركرة: أعرابي كان يعلِّم في البادية ويورق في الحضر، وكان يحفظ اللغة كلها على مذهب أهل البصرة.

  • (٣)

    أبو عرار: أعرابي من بني عجل فصيح يقرب من أبي مالك في معرفة اللغة.

  • (٤)

    أبو زياد الكلابي: أعرابي بدوي قدم بغداد أيام المهدي.

  • (٥)

    أبو سوَّار الغنوي: كان فصيحًا وأخذ عنه أبو عبيدة.

  • (٦)

    أبو الجاموس ثور بن يزيد: أعرابي كان يفد على آل سليمان بن علي وعنه أخذ ابن المقفع الفصاحة.

  • (٧)

    أبو الشمخ: أعرابي بدوي نزل الحيرة.

  • (٨)

    شبيل بن عرعرة الضبعي: من خطباء الخوارج وعلمائهم، مات بالبصرة.

  • (٩)

    أبو عدنان: وهو أبو عبد الرحمن عبد الأعلى، كان راوية أبي البيداء الرباحي.

  • (١٠)

    أبو ثوابة الأسدي: أعرابي روى عنه الأموي.

  • (١١)

    أبو خيرة نهشل بن زيد: أعرابي بدوي من بني عدي نزل الحيرة.

  • (١٢)

    أبو شبل العقيلي: أعرابي فصيح، وفد على الرشيد واتصل بالبرامكة.

  • (١٣)

    نصر بن مضر: من بني أسد.

  • (١٤)

    أبو محلم الشيباني: أعرابي من أعلم الناس بالشعر واللغة، كان يغلظ طبعه ويفخم كلامه ويعرب منطقه.

  • (١٥)

    أبو مهدية: أعرابي صاحب غريب، يروي عنه البصريون.

  • (١٦)

    أبو مسحل: أعرابي حضر بغداد وافدًا على الحسن بن سهل.

  • (١٧)

    الوحشي العكلي: أعرابي فصيح كان يعلِّم في البادية.

  • (١٨)

    أبو ضمضم الكلابي: وفد على الحسن بن سهل.

  • (١٩)

    البهدلي: كان راجزًا فصيحًا راوية وعنه أخذ الأصمعي.

  • (٢٠)

    جهم بن خلف المازني: عاصر خلف والأصمعي.

  • (٢١)

    الحرمازي: أعرابي بدوي قدم البصرة.

  • (٢٢)

    أبو العميثل: أعرابي كان يؤدب ولد عبد الله بن طاهر في خراسان.

  • (٢٣)

    الفقعسي: راوية بني أسد وصاحب مآثرها وأخبارها، أدرك المنصور ومن بعده، وعنه أخذ العلماء مآثر بني أسد.

  • (٢٤)

    ابن أبي صبح: أعرابي بدوي نزل بغداد وبها مات، أخذ عنه العلماء.

  • (٢٥)

    ربيعة البصري: بدوي تحضَّر، وكان راوية.

وقد ذكر صاحب الفهرست عشرات من الفصحاء لا فائدة من إيراد أسمائهم،١٣ ولبعض من تحضر من هؤلاء الأعرابيين كتب ألفوها في اللغة أكثرها في النوادر والغريب والفروق، وكتب الخيل والإبل والحشرات وخلق الإنسان لم يصلنا منها شيء.

(١-٤) الرواة الذين نقلوا عنهم

أما الرواة الذين أخذوا عن أولئك الفصحاء بالبصرة، أو رحلوا في طلب اللغة إلى البادية فأكثرهم من الموالي منهم:
  • (١)

    اللحياني غلام الكسائي: لقي العلماء الفصحاء من الأعراب، وعنه أخذ أبو عبيد القاسم بن سلَّام.

  • (٢)

    الأموي: هو عبد الله بن سعيد، ليس من الأعراب، لقي العلماء ودخل البادية، وأخذ عن الفصحاء من الأعراب.

  • (٣)

    أبو المنهال: أحد الرواة.

  • (٤)

    خلف الأحمر: مولى أبي موسى الأشعري، وسنعود إليه.

  • (٥)

    اليزيديون: هم أسرة تنسب إلى كبير منها سمي اليزيدي؛ لأنه صحب يزيد بن منصور خال المهدي، ولهم مؤلفات كثيرة في اللغة والشعر لم يصل إلينا منها شيء، ولكن استفاد منها الرواة الذين وصلتنا كتبهم أو أخبارهم، ولم يصلنا إلا أخبار الرواة المقربين من الخلفاء أو الوزراء في بغداد؛ كالأصمعي وأبي عبيدة وغيرهما، وربما كان بين الذين ضاعت أخبارهم جماعة أولى بالبقاء.

(١-٥) عمدة الرواة أو مرجع الناس في علوم العرب

قد رأيت كثرة المشتغلين في علوم العرب وأخبارها بين قادم من البادية، ونازل من العراق وفارس وخراسان يلتقون في البصرة أو الكوفة أو الحيرة فيتبادلون أخبار العرب وآدابهم وأشعارهم على غير نظام، وقد انتهى ذلك في العصر العباسي الأول إلى ثلاثة هم عمدة الرواة وأئمة الناس في تلك العلوم، وعنهم روى الرواة وأخذ الآخذون، وهم: أبو زيد الأنصاري، وأبو عبيدة، والأصمعي، وكلهم أخذوا عن أبي عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة اللغة والنحو والشعر، ورووا عنه القراءة، واشتهر بصدق الرواية قبل هؤلاء قتادة السدوسي، وجاء بعدهم القاسم بن سلام — وإليك تراجمهم حسب سني الوفاة:

قَتَادة بن دِعامة (توفي سنة ١١٧ﻫ)

قتادة بن دعامة السدوسي الأكمه من أهل البصرة، كان عالمًا كبيرًا مقصدًا للطلاب والباحثين، لم يكن يمر يوم لا تأتيه راحلة من بني أمية تنيخ ببابه لسؤال عن خبر أو نسب أو شعر، وكان يدور البصرة أعلاها وأسفلها بغير قائد، وبلغ من اشتهاره بالعلم وصحة الرواية حتى قالوا: لم يأتنا من علم العرب أصح من شيء أتانا من قتادة،١٤ لكنه لم يخلف أثرًا، وهو من أهل العصر الأموي، لكننا وضعناه هنا لمواصلة سياق الموضوع، وترجمته في ابن خلكان ٤٢٧ ج١.

ابو عَمرو بن العَلَاء (توفي سنة ١٥٤ﻫ)

هو زبان بن العلاء بن عمار بن عبد الله بن الحصين التميمي المازني، أحد القراء السبعة، وكان من أشراف العرب ووجوهها، مدحه الفرزدق وغيره، وكان أعلم الناس بالقراءات والعربية وأيام العرب، وكانت دفاتره إلى السقف، ثم تنسَّك فأحرقها.١٥ وكان له شغف بالرواية وجمع علوم العرب وأشعارهم، وعامة أخباره عن أعراب أدركوا الجاهلية، ومع ذلك فقد قال: «ما انتهى إليكم مما قاله العرب إلا أقله.»١٦ وعنه أخذ أكثر نحاة ذلك العصر فضلًا عن رواته وأدبائه، لكنه لم يخلِّف أثرًا مكتوبًا، وتجد أخباره في ابن خلكان ٣٨٦ ج١، وطبقات الأدباء ٣١، وفوات الوفيات ١٦٤ ج١، والفهرست ٢٨.

أبو عُبَيدة مَعْمَر بن المُثَنَّى (توفي سنة ٢٠٩ﻫ)

هو معمر بن المثني التيمي مولى بني تيم من قريش، ولد سنة ١١٠، وهو أجمع سائر الرواة لعلوم العرب وأخبارهم وأنسابهم، كان في البصرة ويفد على الخلفاء في بغداد، وله حكايات في مجلس الرشيد مع الأصمعي للمناظرة والمناقشة. ثم انتقل إلى بغداد سنة ١٨٨، استقدمه إليها الفضل بين الربيع في خلافة الأمين، وأخذ عنه جماعة من علمائها أشهرهم أبو عبيد القاسم بن سلَّام، وأبو عثمان المازني، وأبو حاتم السجستاني. وكان أبو عبيدة يقول: ما التقى فرسان في جاهلية أو إسلام إلا عرفتهما وعرفت فارسيهما،١٧ وهو الذي روى أخبار أيام العرب التي يتناقلها المؤرخون إلى الآن،١٨ وروى أشعار كثيرين من الشعراء، وكان ابنه عبد الله يتكسب بإملاء الأشعار على الطلاب، فكان يملي شعر كثير بثلاثين دينارًا،١٩ وكان أبو عبيدة شعوبيًّا؛ أي متعصبًا على العرب، ويرى رأي الخوارج. ومع سعة معرفته في اللغة كان إذا أنشد بيتًا لم يُقِم إعرابه، وكان شديد الطعن حاد اللسان فلم يسلم شريف من طعنه وألف كتابًا في المثالب، وكان غليظ الشفة وسخًا مدخول الدين والنسب، ولكنه كان كثير الاشتغال بالتأليف، فذكر له صاحب الفهرست مائة وخمسة مؤلفات في مواضيع شتى في القرآن واللغة والأمثال والفتوح والأنساب والمثالب، وبيوتات العرب وأيامهم والتراجم وغيرها لم يصلنا منها إلا:
كتاب نقائض جرير والفرزدق: منها نسخة خطية في المكتبة الخديوية، وقد طبعت النقائض في ليدن سنة ١٩٠٥ رواية أبي عبد الله اليزيدي، المتوفى سنة ٣١٠ﻫ عن السكري عن محمد بن حبيب عن أبي عبيدة،٢٠ولم يذكره صاحب الفهرست بين كتبه.

كتاب طبقات الشعراء: منه نسخة خطية في مكتبة الآباء اليسوعيين في بيروت، ويسميه الفهرست الشعر والشعراء.

وتجد أخباره في ابن خلكان ١٠٥ ج٢، وطبقات الأدباء ١٣٧، والفهرست ٥٣.

الأَصْمعي (توفي سنة ٢١٤ﻫ)

هو عبد الملك بن قريب، من قيس، وقد اشتهر بكنيته «الأصمعي»، ولكثرة ما يروى عنه أصبحت هذه الكنية مرادفة للفظ «الراوي». وكان أتقن القوم وأعلمهم بالشعر وأحضرهم حفظًا، تعلم نقد الشعر من خلف الأحمر، وقد روى عنه كثيرون. وهو من أهل البصرة، وقدم بغداد في أيام الرشيد مع أبي عبيدة، فقيل لأبي نواس ذلك فقال: «أما أبو عبيدة فإذا أمكنوه قرأ عليهم أخبار الأوَّلين والآخرين، وأما الأصمعي فبلبل يطربهم بنغماته.» وكان الأصمعي شديد الحفظ يحفظ ١٢٠٠٠ أرجوزة، وإذا انتقل حمل كتبه في ١٨ صندوقًا.٢١ ولما تولى المأمون كان الأصمعي قد عاد إلى البصرة فاستقدمه فاعتذر بضعفه وشيخوخته، فكان يجمع المشكل من المسائل ويسيرها إليه فيجيب عنها، وأخباره كثيرة.
أما مؤلفاته فقد ذكر منها ابن النديم نيفًا وأربعين كتابًا في مواضيع مختلفة، ذهب معظمها، على أن حظه من البقاء خير من حظ أسلافه من الرواة، أما كتبه الباقية مما بلغ خبره إلينا فبعضها شعرية والبعض الآخر كتب لغوية لدلالات الألفاظ، أكثرها موضوع في مجاميع كل كتاب في باب خاص من الأسماء بعضها لأسماء الوحوش والآخر للإبل وغيرها، وهي:
  • (١)

    الأصمعيات: هي مجموع مختارات الأصمعي للشعراء طبعت في ليسبك سنة ١٩٠٢.

  • (٢)

    رجز العجاج: رواية الأصمعي منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية.

  • (٣)

    كتاب أسماء الوحوش طبع سنة ١٨٨٨.

  • (٤)

    كتاب الإبل طبع في بيروت سنة ١٣٢٢.

  • (٥)
    كتاب خلق الإنسان طبع في بيروت سنة ١٣٢٢.٢٢
  • (٦)

    كتاب الخيل طبع في فينا سنة ١٨٩٥ مع ترجمة نمساوية.

  • (٧)

    كتاب الشاء طبع سنة ١٨٩٦.

  • (٨)

    كتاب الدارات طبع في بيروت.

  • (٩)

    كتاب الفرق طبع في فينا.

  • (١٠)

    كتاب النبات والشجر طبع في بيروت.

  • (١١)

    كتاب النخل والكرم طبع في بيروت سنة ١٩٠٢.

  • (١٢)

    كتاب الغريب منه نسخة خطية في مكتبة الإسكوريال.

وتجد ترجمة الأصمعي في ابن خلكان ٢٨٨ ج١، وطبقات الأدباء ١٥٠، والفهرست ٥٥، والدميري ٣١٠ ج٢.

أبو زيد الأَنْصاري (توفي سنة ٢١٥ﻫ)

هو أبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري من أهل البصرة، أخذ عن أبي عمرو بن العلاء، وكان عالمًا ثقة بالنحو واللغة، وكان سيبويه إذا قال: «سمعت الثقة.» فإنه يريد أبا زيد الأنصاري، وعنه أخذ كثيرون من علماء البصرة، وكان لفرط رغبته في استيعاب العلم يأخذ عن أهل الكوفة أيضًا، ولم يرو من البصريين عن أهل الكوفة إلا أبو زيد،٢٣ فقد روى عن المفضل الضبي أكثر كتابه «النوادر في اللغة» على أن أكثر رواياته عن العرب البحت،٢٤ وقد غلب عليه اللغة والنوادر والغريب، وكان يمتاز عن رفيقيه أبي عبيدة والأصمعي بالثقة، فإنه كان أوثقهم كما كان الأصمعي أحفظهم وأبو عبيدة أجمعهم،٢٥ وجاء أبو زيد بغداد حين قيام المهدي.٢٦
وقد ألف كتبًا كثيرة في علوم الأدب لم يصلنا منها إلا:
  • (١)

    كتاب النوادر في اللغة: طبع في بيروت سنة ١٨٩٤.

  • (٢)

    كتاب المطر: منه نسخة خطية في المكتبة الأهلية بباريس، وطبع في بيروت.

  • (٣)

    كتاب اللبن: منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية.

وتجد أخباره في ابن خلكان ٢٠٧ ج١، وطبقات الأدباء ١٧٣، والفهرست ٥٤.

أبو عُبَيد القاسم بن سلَّام (توفي سنة ٢٢٣ﻫ)

كان أبوه عبدًا روميًّا لرجل من أهل هراة، اشتغل أبو عبيد بالحديث والأدب والفقه، وكان دَيِّنًا ورعًا متفنِّنًا في أصناف علوم الإسلام والقراءات والفقه والعربية والأخبار، حسن الرواية صحيح النقل لم يطعن أحد في شيء من دينه، وهو يصح أن يعد من رجال الحديث لولا أن كتبه كان لها شأن لغوي، تولى القضاء في طرسوس ١٨ سنة، وروى عن أبي زيد، والأصمعي، وأبي عبيدة، وابن الأعرابي، والكسائي، والفراء، وغيرهم، وألَّف بضعة وعشرين كتابًا في القرآن والحديث وغريبه والفقه، وهو أول من ألف غريب الحديث، وانقطع إلى عبد الله بن طاهر، وكان كلما ألف كتابًا أهداه إليه فيحمل له مالًا كثيرًا، فلما عمل كتاب غريب الحديث استحسنه ابن طاهر وقال: «إن عقلًا بعث صاحبه على عمل مثل هذا الكتاب لحقيق أن لا يخرج عنا إلى طلب المعاش.» فأجرى له عشرة آلاف درهم في كل شهر، وذكر له صاحب الفهرست بضعة وعشرين كتابًا في غريب الحديث، ومعاني القرآن، وفي الأدب والشعر واللغة والنحو ونحوها، لم يصلنا منها إلا ما يأتي:
  • (١)

    كتاب غريب الحديث: منه نسخة خطية في مكتبة كوبرلي بالآستانة.

  • (٢)

    غريب المصنف: تكلم به على نعوت الإنسان، والطعام، والشراب، والأبنية، والمراكب، والسلاح، والطير، والحشرات، والنار، والشمس، والقمر، وغير ذلك. اشتغل في تأليفه ٤٠ سنة، وفيه ألف فصل و١٢٠٠٠ شاهد، منه نسخة خطية في مكتبة أيا صوفيا بالآستانة وفي المكتبة الخديوية.

  • (٣)

    كتاب الأمثال: منه نسخة خطية في مكتبة باريس، وكوبرلي بالآستانة، وطبع مع ترجمة لاتينية في غوتنجن سنة ١٨٣٦، وقد شرحه البكري.

  • (٤)

    كتاب فضائل القرآن وأدبه: في مكتبة برلين.

  • (٥)

    كتاب المواعظ: منه نسخة خطية في مكتبة ليبسك.

وتجد أخباره في ابن خلكان ٤١٨ ج١، وطبقات الأدباء ١٨٨، والفهرست ٧١.

(١-٦) رواة الشعر

وهناك طبقة من الرواة غلبت عليهم رواية الشعر على سواه من علوم العربية، فاستغلوا بجمع شعر عرب الجاهلية وغيرهم ودوَّنوه أو حفظوه — وهم غير الذين يختص كل راوٍ منهم بشاعر فيكون راويته — وقد علمت من كلامنا عن شعراء الجاهلية أنهم كانوا كثارًا، عددنا منهم مائة وبعض المائة، وهم أكثر من ذلك لضياع أخبار الباقين منهم في أثناء ظهور الإسلام؛ لكثرة من قتل منهم ومن رواتهم في الحرب والغزو على عهد النبي والراشدين.

فلما احتاج المسلمون في صدر الإسلام إلى معرفة معاني الألفاظ في التفسير والقراءة، عمدوا إلى جمع أشعار العرب وأمثالهم وأقوالهم بلا تخصيص، ثم غلب على بعضهم جمع الشعر، وعلى البعض الآخر شواهد النحو، وعلى غيرهم الأمثال، وغيرهم اللغة، فأخذوا يطلبونها في أماكنها وينقلونها عن أصحابها أو من سمع عنهم. والمشهور أن أخبار الجاهلية لم يدون منها شيء قبل الإسلام، ثم ظهر أن بعض ذلك كان مدونًا في صحف عند عباد الحيرة من أيام المناذرة.

وأول من اشتغل بجمع الشعر بعد الإسلام ممن بلغ إلينا خبره حماد الراوية المتوفى سنة ١٥٦ﻫ، وقد عاصر الدولتين الأموية والعباسية، وعاصر أبا عمرو بن العلاء المتقدم ذكره، ثم ظهر خلف الأحمر والمفضل الضبي وغيرهما، وهذه تراجمهم:

حَمَّاد الرَّاوية (توفي سنة ١٥٦ﻫ)

هو حماد بن ميسرة، أصله ديلمي من موالي بني بكر بن وائل، نشأ في الكوفة، وكان في أول أمره يتشطر ويصحب الصعاليك واللصوص، فنقب ليلة على رجل فأخذ ماله، وكان فيه جزء من شعر الأنصار، فقرأه حماد؛ فاستحلاه وحفظه، ثم طلب الأدب والشعر وأيام الناس ولغات العرب بعد ذلك، وترك ما كان عليه؛ فبلغ في العلم ما بلغ حتى عرف بحماد الراوية تمييزًا له عن بضعة آخرين بهذا الاسم.

وكان قوي الحافظة بما يفوق المألوف، ومن أعلم الناس بأيام العرب وأشعارها وأخبارها، لكنه اختص بجمع الشعر، وكان ضعيفًا بالعربية يلحن بكلامه، وكان بنو أمية يقدِّمونه ويستزيرونه على البريد وينال منهم الجوائز، ويسألونه عن أيام العرب وأشعارها وعلومها. وسأله الوليد بن يزيد يومًا: «بمَ استحققت أن تدعى الراوية؟» فقال: «بأني أروي لكل شاعر تعرفه يا أمير المؤمنين أو سمعت به، ثم أروي لأكثر منهم ممن تعترف أنك لا تعرفه ولا سمعت به، ثم لا ينشدني أحد شعرًا قديمًا ولا محدثًا إلا ميزت القديم من المحدث.» فقال له: «فكم مقدار ما تحفظ من الشعر؟» قال: «كثير، ولكنني أنشدك على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة سوى المقطعات من شعر الجاهلية دون شعر الإسلام.» قال: «سأمتحنك في هذا.» ثم أمره بالإنشاد؛ فأنشده حتى ضجر الوليد، فوكل به من استحلفه أن يصدقه عنه ويستوفي عليه، فأنشده ألفين وتسعمائة قصيدة للجاهلية وأخبر الوليد بذلك؛ فأمر له بمائة ألف درهم.

وكان حماد هذا، وحماد عجرد الشاعر المتقدم ذكره، وحماد بن الزبرقان، يتنادمون على الشراب في الكوفة، وكانوا متهمين بالزندقة جميعًا، فلما آل الأمر إلى بني العباس كان حماد هذا قد اشتهر بالرواية فسمع به المنصور وكان حزينًا على موت أخيه أبي العباس، وأراد أن يرثيه بأبيات كان يعلم أن هفان بن همام قالها في رثاء أبيه، وقد ذهبت عن خاطر المنصور، فبعث في طلب حماد ليرويها له، فجاءه وأنشده إياها؛ فبكى وقال: «هكذا كان أخي رضي الله عنه.»٢٧ وظل حماد حيًّا إلى أيام المهدي، وكان يستدعيه إليه ويستنشده، كما يستنشد المفضل الضبي، وكان يؤثر المفضل عليه؛ لأنه أصدق منه فيما يرويه. وكان حماد يزيد في أشعار الناس ما ليس منها وينسبه إليهم، وسيأتي خبر ذلك.
وهو الذي جمع المعلقات التي بين أيدينا، وجمع أشعار أكثر القبائل وأكثر شعراء بني أمية، وجعل شعر كل قبيلة أو شاعر في كتاب — فكان عنده كتاب لشعر قريش وآخر لشعر ثقيف وآخر لغيرهم،٢٨ لكنها ضاعت كلها ولم يذكر منها صاحب الفهرست شيئًا، وإنما روى الناس عنه، وصنفت الكتب بعده.

وتجد أخباره في الأغاني ١٦٤ ج٥، وابن خلكان ١٦٤ ج١، وطبقات الأدباء ٤٣.

المفضَّل الضبي (توفي سنة ١٦٨ﻫ)

هو المفضل بن محمد الضبي، كان ثقة من أكابر الكوفيين، أخذ عنه أبو زيد الأنصاري من البصريين لثقته، وقد أدرك المهدي العباسي فقرَّبه وأدناه، فجمع له الأشعار المختارة التي سماها المفضليات كما جمع أبو تمام ديوان الحماسة، لكن هذا جمع الحماسة من كتب مدونة، وأما المفضل فأخذ أكثرها عن الألسنة — وهو غير المفضل بن سلمة اللغوي الآتي ذكره، وهذه مؤلفاته الباقية:
  • (١)

    المفضليات وتسمى الاختيارات: وهي عبارة عن مائة وعشرين قصيدة، وقد تزيد أو تنقص حسب الروايات، طبعت في ليبسك سنة ١٨٨٥ وفي مصر، ولها شرح خطي في المكتبة الخديوية لأبي بكر بن الأنباري.

  • (٢)

    كتاب الأمثال: طبع في الآستانة سنة ١٨٨٢.

وتجد أخباره في طبقات الأدباء ٦٧، والفهرست ٦٨، والعقد الفريد ١٣١ ج٣.

خلَف الأَحْمر (توفي سنة ١٨٠ﻫ)

هو خلف بن حيان، كان مولى أبي بردة، وأصله من فرغانة، لكنه حفَّظه كلام عرب الجاهلية وأشعارهم، حتى صار يقول الشعر فيجيده وينحله الشعراء المتقدمين فلا يتميز من شعرهم؛ لمشاكلة كلامه كلامهم. وكان من أهل البصرة، وقد أخذ الأصمعي وسائر أهل البصرة عنه، وله قوة عجيبة على تمييز الأشعار وتعيين أصحابها، وهو أول من أحدث السماع بالبصرة، وذلك أنه جاء إلى حماد الراوية فسمع منه.٢٩ وكان ضنينًا بأدبه، وهو معدود أيضًا بين الشعراء، وذكر له صاحب الفهرست كتابًا واحدًا عن العرب وما قيل فيها من الشعر.

وتجد أخباره في طبقات الأدباء ٦٩، والفهرست ٥٠، والشعر والشعراء ٤٩٦، والعقد الفريد ١٠٧ ج٣.

أبو عمرو الشيباني (توفي سنة ٢٠٦ﻫ)

هو من الموالي، واسمه إسحاق بن مرار، كان يؤدب في أحياء بني شيبان بالكوفة فنسب إليهم، وكان راوية واسع العلم باللغة ثقة بالحديث كثير السماع، وقد جمع دواوين أشعار القبائل وعنه أخذت، وكان له بنون وبنو بنين يروون عنه كتبه، وذكر أحد أولاده أن أباه جمع أشعار نيف وثمانين قبيلة، وكان كلما جمع أشعار قبيلة وأخرجها للناس كتب مصحفًا وجعله في مسجد الكوفة، وعاش أكثر من مائة سنة، وكان يكتب بيده إلى أن مات، وخلف بضعة مؤلفات في الخيل والحديث والنوادر وخلق الإنسان والحروف، ذكرها صاحب الفهرست ولم يصلنا منها إلا: كتاب الجيم في اللغة منه نسخة خطية في مكتبة الإسكوريال في عشرة أجزاء.

وتجد أخباره في ابن خلكان ٦٥ ج١، ومعجم الأدباء ٢٣٣ ج٢، والفهرست ٦٨.

هؤلاء هم عمدة رواة الأشعار في ذلك العصر — وإن لم يقتصروا عليها. وعنهم أخذ من ألف في طبقات الشعراء أو دوَّن أشعار الأفراد أو القبائل، فضلًا عن أبي عبيدة والأصمعي وأبي عمرو بن العلاء المتقدم ذكرهم، وغير من اشتغل برواية الشعر بعدهم من النحاة واللغويين، كمحمد بن حبيب وخالد بن كلثوم وابن الأعرابي وغيرهم، وقد يجمع أشعار الشاعر أو القبيلة غير واحد ويختلفون في الرواية أو الأشعار أو الأخبار، فيأتي من يجمع بين الروايات وينقح ويضبط، كما حدث في شعر امرئ القيس؛ فقد رواه أبو عمرو بن العلاء والأصمعي وخالد بن كلثوم ومحمد بن حبيب، ثم صنعه من جميع هذه الروايات أبو سعيد السكري، وصنعه أيضًا أبو العباس الأحول وابن السكيت.

فظهر بعد هذه الطبقة من الرواة طبقة من الجامعين الذين ينظرون في الروايات ويجمعون بينها ويعدلونها، نخص منهم بالذكر اثنين من أهل العصر العباسي الأول هما: محمد بن سلام، وابن أبي الخطاب القرشي.

محمد بن سلَّام (توفي سنة ٢٣٢ﻫ)

هو أبو عبد الله محمد بن سلَّام الجمحي البصري. كان عالمًا بالشعر والأخبار، فألف كتابًا في طبقات الشعراء الجاهليين وطبقات الشعراء الإسلاميين هو أقدم ما وصل إلينا من كتب الطبقات، وظل مرجع طلاب الشعر إلى عهد غير بعيد، وقد ذكره صاحب الفهرست فجعله كتابين أحدهما في الشعراء الجاهليين والآخر في الإسلاميين، وذكره صاحب الأغاني مرارًا كثيرة، واستشهد بأقواله ورجع إليه في تعيين طبقات كثيرين من الشعراء، وكذلك فعل القالي والزجَّاج فقد ذكراه في أماليهما مرارًا، وعوَّل عليه السيوطي في كتابه «المزهر»، ونقل عنه أقوالًا تدخل في بضع صفحات، وذكره صاحب كشف الظنون في مقدمة الذين ألفوا في طبقات الشعراء، وهو أول من فعل ذلك ثم قلده غيره، وقد ذكرنا في الجزء الأول من هذا الكتاب أنه ضاع؛ لأننا لم نجده في مكاتب أوروبا ولا الآستانة ولا المكتبة الخديوية ولا غيرها من المكاتب الكبرى التي تيسَّر لنا الوقوف على فهارسها، ثم علمنا بوجود نسخة خطية منه بين كتب وقفها المرحوم الشيخ الشنقيطي للمكتبة الخديوية ولها فهرس خاص،٣٠ وتصفحناها فإذا هي منقولة بخط جميل عن نسخة في مكتبة شيخ الإسلام في المدينة وتدخل في ٢١٠ صفحات، تبدأ بنقد الشعر ثم في أول من وضع النحو في البصرة وتاريخ ذلك، ثم قسم المؤلف الشعراء إلى الجاهليين والإسلاميين، وقسم كل طائفة منهما إلى عشر طبقات في كل طبقة أربعة من الفحول يشتركون في بعض الأحوال، وقدم الكلام في الشعر وتاريخه، وأشار إلى ما أدخله الرواة من الشعر المصنوع، ثم ذكر طبقات الشعراء الجاهليين، وهي:
  • الطبقة الأولى: امرؤ القيس والنابغة الذبياني وزهير والأعشى.
  • الثانية: سقط بعضها في النسخ، ولعل من شعرائها كعب بن زهير والحطيئة.
  • الثالثة: نابغة بني جعدة وأبو ذؤيب الهذلي والشماخ بن ضرار ولبيد بن ربيعة.
  • الرابعة: طرفة بن العبد وعبيد بن الأبرص وعلقمة بن عبدة وعدي بن زيد.
  • الخامسة: خداش بن زهير والأسود بن يعفر وأبو زيد المخبل وتميم بن مقبل.
  • السادسة: عمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة وسويد بن أبي كاهل (وسقط الرابع).
  • السابعة: سلامة بن جندل وحصين بن الحمام والمتلمس والمسيب بن علس.
  • الثامنة: عمرو بن قميئة والنمر بن تولب وأوس بن … وعوف بن عطية.
  • التاسعة: ضابئ بن الحارث وسويد بن كراع والخويدرة الذبياني، وسحيم عبد بني الحسحاس.
  • العاشرة: أمية بن حرثان وحريث بن محفص والكميت بن معروف وعمرو بن شاس.

وأضاف إلى ذلك أصحاب المراثي، وجعلهم طبقة حادية عشرة، وهم متمم بن نويرة والخنساء وأعشى باهلة وكعب بن سهل، ثم تكلَّم عن شعراء القرى، وهي المدينة ومكة والطائف واليمامة والبحرين، وذكر فحول كل قرية.

وتقدم إلى الشعراء الإسلاميين في عشر طبقات:
  • الأولى: جرير والفرزدق والراعي والأخطل وغيرهم.
  • الثانية: البعيث والقطامي وكثير وذو الرمة.
  • الثالثة: كعب بن جعيل وعمر بن أحمد وسحيم بن وثيل وأوس بن مغراء.
  • الرابعة: نهشل وحميد بن ثور والأشهب وعمرو بن لجاء.
  • الخامسة: أبو زبيد الطائي والعجير السلولي وعبد الله بن همام ونفيع بن لقيط.
  • السادسة: ابن قيس الرقيات والأحوص وجميل ونصيب.
  • السابعة: المتوكل الليثي ويزيد بن ربيعة وزياد الأعجم وعدي بن الرقاع.
  • الثامنة: عقيل بن علفة المري وبشامة بن العذير وشبيب بن البرصاء وقراد بن حنش.
  • التاسعة: كلهم رجاز وهم الأغلب العجلي وأبو النجم والعجاج ورؤبة ابنه.
  • العاشرة: مزاحم بن الحارث ويزيد بن الطثرية وأبو داود الرواسي، والقحيف، وقد قابل في كل طبقة بين شعرائها وفاضل بينهم.

وذكر صاحب الفهرست لابن سلام كتابًا في بيوتات العرب وآخر في ملح الأشعار، وتجد أخباره في طبقات الأدباء ٢١٦، والفهرست ١١٣.

ابن أبي الخطَّاب صاحب جمهرة أشعار العرب

اسمه أبو زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي، لم نقف على ترجمته، ولكن يظهر أنه نبغ في أواسط القرن الثالث للهجرة، وإنما عمدنا إلى ذكره؛ لأنه جمع خيرة أشعار الجاهلية وصدر الإسلام في كتاب سماه «جمهرة أشعار العرب» في سبعة مجاميع، فصلناها في كلامنا عن طبقات الشعراء في الجزء الأول، والكتاب مطبوع بمصر سنة ١٣٠٨، وفي صدره مقدمة انتقادية في الشعر واللغة والمقابلة بين لغة القرآن وأقوال الشعراء وفي الشعر والشعراء وأقدمهم وغير ذلك في ٣٩ صفحة كبيرة.

(١-٧) ما هو مبلغ صدق الرواة واصطناع الأشعار؟

إن ما بين أيدينا من أخبار العرب وأشعارهم في الجاهلية، إنما وصل إلينا على أيدي الرواة الذين ذكرناهم، فهم رووا تلك الأشعار والأخبار وروتها الناس عنهم — فهل نقلوها عن ثقة؟ وهل هم صادقون في روايتها؟

والجواب على ذلك أن رواياتهم على إجمالها صادقة وإن كان ما وصل إلينا من أشعار الجاهلية لا يخلو من المنسوب لغير أصحابه؛ ولذلك سببان يتصل أحدهما بالعرب الذين تلوا الأشعار على الرواة، والثاني يتصل بالرواة أنفسهم، فالعرب لما قام الإسلام شغلوا به عن مفاخراتهم ومناشداتهم، فلما انقضت دولة الراشدين وقام الأمويون، واقتضت سياستهم إحياء عصبية الجاهلية عادت القبائل إلى مفاخراتهم كل قبيلة تفاخر سواها بمن نبغ فيها من الشعراء وما قالوه، وكان قد ذهب معظمه، فأخذ أبناء الشعراء أو بعض أهلهم يزيدون في الأشعار التي قيلت، ولم يكن يخفى ذلك على أهل العلم، كما اتفق لابن داود بن متمم بن نويرة وقد قدم البصرة لما يقدم له البدوي من الجلب والميرة، فأتاه بعض الرواة وسألوه عن شعر أبيه فلم يرو بعضه حتى أدركوا المصنوع منه.٣١

لكن كثيرًا من الأشعار تنسب لغير أصحابها اعتباطًا لتشابه القافية والوزن والمعنى، فكثير من أشعار كُثَيِّر تنسب لمجنون ليلى، وكذلك سائر العشاق تتشابه أشعارهم لتشابه معانيها، فإذا اتحدت قوافيها وأوزانها اختلطت وصعب تفريقها كقصيدة ابن الحدادية اليائية التي مطلعها:

سقى الله أطلالًا بنعم ترادفت
بهنَّ النوى حتى حللنا المطاليا
فإن بعضهم يدخل أبياتًا منها في قصيدة مجنون ليلى٣٢ التي مطلعها:
تذكرت ليلى والسنين الخواليا
وأيام لا أعدي على الدهر عاديا

وقس على ذلك أمثاله وهو كثير، وقد ينسبون القصيدة إلى غير واحد، وبعض القصائد تنسب إلى عشرين شاعرًا أو أربعين.

(١-٨) تعمد التزوير

والرواة يتفاوتون ثقة؛ فمنهم الثقة المحقق، ومنهم من يتعجل في التصديق، وبعضهم يتقلب في رواياته مع الأهواء فينظم الأبيات على لسان بعض الجاهليين وينسبها إليهم لمطمع مالي أو غرض آخر. وأشهر من فعل ذلك حماد وخلف المتقدم ذكرهما، وهما مرجع رواة الأشعار كما رأيت، فكان حماد كثيرًا ما يصنع الأبيات أو القصيدة ينسبها إلى شاعر من قوم يريد أن يتزلف إلى رجل منهم صاحب نفوذ أو سيادة في عصره، كما فعل في ولاية خالد بن عبد الله القسري، وكان خالد شديد العصبية لقومه اليمنية على القيسية، فنظم حماد أبياتًا نسبها إلى ابن الحدادية يمدح بها أسد بن كرز من بجيلة قبيلة خالد القسري المذكور، وأسد بن كرز أبو جده، فأورد حماد حكاية جرت لابن الحدادية مع ناس من قومه أصابوا دمًا في قوم من خزاعة، فهربوا حتى نزلوا في بجيلة على أسد بن كرز فآواهم وأحسن إليهم، وأن ابن الحدادية نظم فيه قصيدة يمدحه بها — إلى آخر الحديث،٣٣ ولكن الرواة المحققين يقولون: إنها من نظم حماد للغرض الذي تقدم، وكذلك كانوا يفعلون في وضع الأنساب طمعًا بالمال — قال ابن الكلبي: «أول كذبة كذبتها في النسب أن خالد بن عبد الله سألني عن جدته أم كريز وكانت أمة بغيًّا لبني أسد يقال لها: زينب، فقلت له: هي زينب بنت عرعرة بن خذيمة بن نصر بن قعين فسُرَّ بذلك ووصلني.»٣٤

وقد شهد المفضل الضبي وهو معاصر لحماد أيضًا قال: «قد سلط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده فلا يصلح أبدًا.» فقيل له: «وكيف ذلك؟ أيخطئ في روايته أم يلحن؟» قال: «ليته كان كذلك؛ فإن أهل العلم يردون من أخطأ إلى الصواب، ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل، ويدخله في شعره ويحمل ذلك عنه في الآفاق فتختلط أشعار القدماء، ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد، وأين ذلك؟»

وقد بلغ قول الضبي إلى الخليفة المهدي فأكده له بالامتحان بين يديه، فاعترف حماد بأبيات زادها في أشعار زهير بن أبي سلمى، فأمر المهدي بإبطال روايته؛ لأنه يُدخل بأشعار الناس ما ليس منها، ووصل المفضل لصدقه وصحة روايته.٣٥

وخلف الأحمر كان يفعل فعلَ حماد، وقد قال عن نفسه: إنه كان ينظم الأشعار وينحلها لغير أصحابها، وإنه كان يأخذ من حماد الصحيح من أشعار العرب، ويعطيه المنحول فيقبله. وكان خلف شاعرًا مجيدًا فينظم القصائد الغر ويدخلها في دواوين الشعراء. ويقال: إن القصيدة المنسوبة للشنفرى التي أولها:

أقيموا بني أمي صدور مطيكم
فإني إلى أهل سواكم لأميلُ
هي له. وقال أبو حاتم: كان خلف الأحمر شاعرًا، وقد وضع على عبد القيس شعرًا مصنوعًا عبثًا منه، وأدخل أيضًا على غيرهم من القبائل أبياتًا وقصائد، وكان أهل البصرة والكوفة يأخذون ذلك عنه؛ لأنه كان لتمكُّنه من الشعر والشعراء إذا نظم على ألسنة الناس أشبه كل شعر يقوله بشعر الذي يضعه له. وتنسَّك في أواخر أيامه وندم على ذلك وكف عن النظم، ثم خرج يومًا إلى أهل الكوفة واعترف لهم بما كان يعمله وعرَّفهم الأشعار التي قد أدخلها في أشعار الناس، فقالوا: «أنت كنت عندنا في ذلك الوقت أوثق منك الساعة.» ولم يستطيعوا إخراج ذلك من دواوينهم.٣٦
وممن كان يفعل فعل حماد وخلف ابن دأب والشرقي بن القطامي. سئل القطامي: «ما كانت العرب تقول في صلاتها على موتاها؟» فقال: «لا أدري!» فقيل له: «اكذب!» فقال: «كانوا يقولون: رويدك حتى تبعث الخلق باعثة.» فشاع ذلك وتحدثوا به.٣٧ حتى الرواة الثقات كالأصمعي وأبي عبيدة وأبي زيد فقد كانوا يتطاعنون ويضعف كل منهم رواية الآخرين، ولكن المحققين ينزهون هؤلاء عن الكذب. وقد قال محمد بن سلام الجمحي: «في الشعر موضوع مفتعل مصنوع لا خير فيه ولا حجة بإعرابه.»٣٨
على أن المحققين في العصر العباسي الثاني كأبي الفرج الأصبهاني وابن قتيبة وابن عبد ربه وغيرهم ممن عانى الأدب وانتقد الشعر بيَّنوا أماكن الضعف في كثير من المواضع وجعلوا للرواية شروطًا٣٩ في الإسناد والأخذ والتحقيق لا محل لها هنا. وانتقد محمد بن سلَّام شيئًا من ذلك في مقدمة طبقاته.

ولأبي القاسم عمر بن حمزة البصري المتوفى سنة (٣٧٥ﻫ) كتاب في انتقاد الرواة سماه «التنبيهات على أغاليط الرواة»، ضمَّنه التنبيه على الأغاليط التي وقعت في نوادر أبي زياد الكلابي، ونوادر أبي عمرو الشيباني، وكتاب النبات لأبي حنيفة الدينوري، والكامل للمبرد، والفصيح لثعلب، والغريب للقاسم بن سلام، وإصلاح المنطق لابن السكيت، وغيرهم. وفي المكتبة الخديوية نسخة خطية من هذا الكتاب.

وإذ فرغنا من الكلام على الرواية بأنواعها وهي أصل علم الأدب، فلنأت إلى ما يتفرع إليه الأدب من العلوم، وأهمها النحو واللغة؛ فإن أصحابهما كانوا في الأصل من جملة الرواة، ثم اختص بعضهم بهذا العلم والبعض الآخر بذاك.

(٢) النحو

(٢-١) البصريون والكوفيون

النحو باعتبار ما تقدم فرع من الأدب، لكنه ولد قبله لاحتياج المسلمين إلى ضبط القراءة، فوضعه أبو الأسود الدؤلي كما تقدم في العصر الأموي، وقد نضج وصار علمًا في أيام العباسيين على أيدي أدباء البصرة والكوفة، وأهل البصرة أسبق إلى ذلك، وهم الذين ضبطوا النحو وألفوا فيه، ومنهم أبو الأسود واضعه، وابن أبي إسحاق الحضرمي أول من علله، وعيسى بن عمر الثقفي أول من ألَّف فيه، وهارون بن موسى أول من ضبطه، وسيبويه أول من أجاد في تأليفه، ثم قلدهم الكوفيون وخالفوهم ببعض قوانينه، وقامت المناظرة بين البلدين، وصار لكل منهم مذهب في النحو كما هو مشهور، وأهل البصرة أرسخ قدمًا وأوسع علمًا وأولى بالثقة، ولكن السياسة اقتضت ظهور الكوفيين بعد قيام الدولة العباسية فقدمهم خلفاؤها؛ لأنهم كانوا من أنصارهم. فكانوا يقربونهم دون نحويي البصرة ويختارون منهم أساتذة لأولادهم — فالكسائي والفراء والمفضل الضبي والشرقي بن القطامي كلهم من أهل الكوفة، وقد علموا أبناء الخلفاء، ولولا الغرض السياسي لم يكن لهم ذكر، وتحامل الأمين على سيبويه في المناظرة التي عقدها بينه وبين الكسائي بشأن النحلة والزنبور، وهي أشهر من أن تذكر.٤٠

(٢-٢) أول من علله

فالبصريون أصحاب الفضل في وضع النحو وترقيته وتنسيقه، بدأ بذلك أبو الأسود فوضع بعض قواعده وأخذ يلقيها ويعلمها لمن شاء من الأدباء أو القراء، فكان أبرع تلامذته عنبسة بن معدان المهري فتكاتف الناس يطلبون النحو على يده فتفقه عليه جماعة كان أبرعهم ميمون الأقرن،٤١ فجعل الناس يأخذون النحو عنه تلقينًا بلا تعليل ولا ضبط، ويقال: إن أول من علله — أي ذكر أسباب إعرابه — عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي المتوفى سنة ١١٧ﻫ، والغالب في اعتقادنا أن تعليل الإعراب لم ينضج إلا بعد نقل كتب الفلسفة اليونانية إلى العربية في العصر العباسي الذي نحن في صدده.

(٢-٣) أول من ضبط قواعده وألف فيه

أما ضبط قواعده فأول من أقدم عليه هارون بن موسى، وهو يهودي من أهل البصرة، أسلم واشتغل بالأدب وضبط النحو، لكنه لم يؤلف فيه، وأول من ألف فيه عيسى بن عمر الثقفي المتوفى سنة ١٤٩ﻫ، وكان فصيحًا يتقعَّر في كلامه فيقال: إنه ألَّف كتابين أحدهما الجامع والآخر الإكمال ذكرهما الخليل في شعره ولم يرهما أحد.٤٢

وقد عانى النحو وقواعده كل من ظهر في البصرة من الأدباء في ذلك العصر؛ لأنه من علم الأدب، إلا أن بعضهم كان يميل إلى النحو أكثر من سواه وربما دخل في جملة ما يكتبه في الأدب أو اللغة كما فعل الخليل بن أحمد واضع علم العروض، فقد أتى على أشياء من قبيل النحو في كتاب العين الآتي ذكره، وهكذا يقال في أمثاله الذين اشتغلوا بفنون الأدب كأبي عمرو بن العلاء، ومنهم من اختص بالنحو ونصب نفسه للإفادة وإن لم يؤلف فيه كيونس بن حبيب المتوفى سنة ١٨٣، وكان معاصرًا لهؤلاء جميعًا، وأخذ عن أبي عمرو بن العلاء، وتمكَّن من النحو حتى صار له فيه مذاهب وأقيسة تفرد بها، وعقد لنفسه حلقة في البصرة يلقي فيها هذا العلم، وكان يقصده طلبة العربية وفصحاء الأعراب، فكان يعلم النحو واللغة وهما لم يفترقا بعد، ولم يستقل النحو بنفسه استقلالًا تامًّا حتى ألف فيه سيبويه كتابه المشهور — وهاك أشهر نحاة هذا العصر حسب سني الوفاة:

(٢-٤) علماء النحو

سيبويهِ (توفي سنة ١٨٣ﻫ)

هو من الموالي، واسمه أبو بشر عمرو بن عثمان مولى بني الحارث بن كعب، ولقب سيبويه بالفارسية، ومعناها رائحة التفاح، نشأ في البصرة وطلب الآثار والفقه، ثم طلب النحو وأخذه عن الخليل ويونس وعيسى بن عمر حتى برع فيه، وألف كتابه الذي لم يسبقه أحد إلى مثله، ونسب فيه إلى كل من أساتذته أقواله، واعتمد على أبي زيد الأنصاري، وكان يسميه الثقة؛ فكان لذلك وقع جميل عند أهل البصرة، وصار كتابه تحفة يتسابق الفضلاء إلى مهاداتها. واشتهر حتى أصبح قائلهم إذا قال: «قرأ فلان الكتاب.» علم أنه يعني كتاب سيبويه، وكان أبو العباس المبرد إذا أراد أحد أن يقرأ عليه كتاب سيبويه يقول له: «هل ركبت البحر؟» تعظيمًا للكتاب واستصعابًا لما فيه، وقال أبو عثمان المازني: «من أراد أن يعمل كتابًا كبيرًا في النحو بعد كتاب سيبويه فليستحِ.» وأخذ العلم عنه جماعة من المشاهير أشهرهم أبو الحسن الأخفش — وكان أكبر سنًّا منه — وقطرب، وكانت له معهما ومع سواهما مناظرات.

وكان أهل الكوفة في أثناء ذلك قد هموا بالنحو، فأخذوه عن أهل البصرة واشتغلوا فيه، فنبغ معاذ الهراء المتوفى سنة ١٨٧، وأبو جعفر الرواسي ابن أخي معاذ، فوضع كتابًا في النحو، وهو أول من فعل ذلك من الكوفيين، والكتاب ضاع.

كتاب سيبويه

أما كتاب سيبويه فإنه باقٍ ومنه عدة نسخ خطية في المكتبة الخديوية وغيرها، وقد طبع في باريس سنة ١٨٨٣–١٨٨٩ بعناية المستشرق ديرنبورج في مجلدين كبيرين في ١٠٠٠ صفحة كبيرة عليها تعاليق مفيدة ومقدمة باللغة الفرنسوية عن مسودات هذا الكتاب ومظانها وما قيل فيها، وطبع بمصر سنة ١٨٩٦، وفي كلكته ١٨٨٧، وقد نقله إلى الألمانية الدكتور ياهن، وطبع في برلين سنة ١٨٩٤–١٨٩٨، وفي الكتاب ٧٢٠ فصلًا، يحتوي الجزء الأول منه على الكلم وأقسامه، والفاعل والمفعول، فالفعل وما يعمل عمله، وأحكام المصدر، والحال، والظرف، والجر، والبدل، والمعرفة والنكرة، والصفة، والمبتدأ والخبر، والأسماء التي بمنزلة الفعل، والأحرف المشبهة به، والنداء والترخيم، والنفي بلا والاستثناء، وباب لكل من أحرف الجر، وفي الجزء الثاني ما ينصرف وما لا ينصرف، والنسبة والإضافة، والتثنية، والتصغير، والمقصور، والممدود، والجمع، وفعلت وأفعلت وما يليها من المزيدات، وفي الوقف وشروطه وما يكون عليه الكلم، وما أبدل من الفارسية، وغير ذلك مما يطول شرحه، على غير الترتيب المألوف عندنا، لكنه جامع كل ما يحتاج إليه طالب النحو، وفيه ٣٠٠ مثال للأبنية، حتى قالوا: أصل الكتب المؤلفة في النحو كتاب سيبويه وكتاب العين للخليل؛ ولذلك تعرض جماعة لانتقاد كتاب سيبويه منهم المبرد.٤٣ وقد ألف أبو بكر الزبيدي كتابًا سماه كتاب الاستدراك على كتاب سيبويه، انتقد فيه مواد هامة طبع في رومية سنة ١٨٩٠ بعناية الأستاذ جويدي المستشرق الإيطالي. وقد شرح الكتاب سعيد بن المرزبان، ومن هذا الشرح بضع نسخ في المكتبة الخديوية إحداها بخط عبد اللطيف البغدادي الرحالة الشهير.

وأخبار سيبويه في ابن خلكان ٣٨٥ ج١، وطبقات الأدباء ٧١، والفهرست ٥١، والدميري ١٢٤ ج٢.

معاذ الهرَّاء (توفي سنة ١٨٧ﻫ)

هو أبو مسلم عم أبي جعفر الرواسي من أساتذة الكسائي الآتي ذكره، ولم يخلف مؤلفًا، وإنما ذكرناه لأنه أول من وضع التصريف.٤٤

وترجمته في ابن خلكان ٩٩ ج٢، وطبقات الأدباء ٦٤، والفهرست ٦٥.

الكسائي (توفي سنة ١٨٩ﻫ)

هو أشهر نحاة الكوفة، واسمه علي بن حمزة مولى بني أسد، وأصله من فارس. أخذ النحو عن أبي جعفر الرواسي ومعاذ الهرَّاء المتقدم ذكرهما، وخرج إلى البصرة ولقي الخليل بن أحمد، فأخذ عنه وعشق النحو، وهو من القراء السبعة، واستقدمه الخلفاء العباسيون إلى بغداد ليعلم أبناءهم، وقدمه البرامكة فارتفعت منزلته، وأخذ يعرِّض بسيبويه وكتابه حتى كانت مسألة الزنبور والنحلة، فتعصَّب الخليفة الأمين لمعلِّمه الكسائي، وجمع الرجلين فتناظرا في حضرته، وشهد بدويٌّ بصحة رأي سيبويه، لكن الأمين تعصَّب لمعلمه حتى اضطر سيبويه إلى الفرار في حديث طويل. وألف الكسائي عدة كتب في النحو والقراءات والأدب والنوادر وغيرها لم يصلنا منها إلا رسالة في لحن العامة منها نسخة خطية في مكتبة برلين، وقد طبعت في برسلاو.

وأخباره في ابن خلكان ٣٣٠ ج١، وطبقات الأدباء ٨١، والفهرست ٢٩ و٦٥.

واشتهر من النحاة في العصر العباسي الأول آل اليزيدي، وهم كثار وأبو الحسن الأخفش وأبو عمر الجرمي وغيرهم من أهل البصرة، وجماعة كبيرة من أهل الكوفة نبغوا بعد فوز الكسائي؛ لأن انتصاره كان انتصارًا لبلده، واشتهر جماعة منهم في بغداد، كالفراء وابن الأعرابي، وهشام بن معاوية الضرير، وابن السكيت، وهاك أشهرهم.

الفرَّاء (المتوفى سنة ٢٠٧ﻫ)

هو أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء الديلمي من موالي بني أسد في الكوفة، وأخذ عن الكسائي، وكان إمامًا ثقة له شأن عظيم في اللغة ومذهب وأتباع ومريدون. قال أبو العباس ثعلب: «لولا الفراء لما كانت اللغة؛ لأنه حصَّلها وضبطها، ولولا الفراء لسقطت العربية؛ لأنها كانت تتنازع ويدَّعيها كل من أراد، ويتكلم الناس على مقادير عقولهم وقرائحهم فتذهب.» وقال أبو بكر بن الأنباري: «لو لم يكن لأهل بغداد والكوفة من علماء العربية إلا الكسائي والفراء لكان لهم بهما الافتخار على جميع الناس.»

ومما رفع قدره وجمع الأدباء حوله حظوته عند المأمون الخليفة، فإنه كان يقدمه وعهد إليه تعليم ابنيه النحو، واقترح عليه أن يؤلف ما يجمع به أصول النحو وما سمع من العربية، وأمر أن تفرد له حجرة من الدار ووكل بها جواري وخدمًا للقيام بما يحتاج إليه، وصير إليه الورَّاقين يكتبون ما يمليه حتى صنف كتاب «الحدود» في سنتين، ثم خرج للناس وأملى كتاب «المعاني»، فخزنه الوراقون عن الناس ليتكسبوا بنسخه كل خمس أوراق بدرهم، فشكاهم الناس إليه، فلما أبوا إخراج كتابه أخذ يملي كتابًا آخر في المعاني أطول وأوسع، فخاف الوراقون فرضوا أن ينسخوا كل عشر أوراق بدرهم.

وعظم قدر الفراء في الدولة حتى تسابق تلميذاه ابنا المأمون إلى تقديم نعله إليه لما نهض للخروج، ثم اصطلحا على أن يقدم كل منهما فردة، وبلغ المأمون ذلك فاستدعاه وقال له بذلك، فقال: «لقد أردت منعهما، ولكن خشيت أن أدفعهما عن مكرمة سبقا إليها أو أكسر نفوسهما عن شريفة حرصا عليها.»٤٥ ففرح المأمون وقال: «لو منعتهما عن ذلك لأوجعتك لومًا.»
ولم يكن الفراء مقتصرًا في معرفته على النحو، فإنه كان ماهرًا في النجوم والطب وأيام العرب وأخبارها، وله مؤلفات كثيرة تدخل في ثلاثة آلاف ورقة — أي ٦٠٠٠ صفحة — كان يمليها على تلامذته بدون كتاب؛ لأنه كان قوي الحافظة، وكأن أكثر مقامه في بغداد يجمع طوال دهره، فإذا كان آخر السنة خرج إلى الكوفة أقام بها ٤٠ يومًا يفرق ما جمعه حتى توفي سنة ٢٠٧ﻫ، وذكر له صاحب الفهرست عدة مؤلفات في النحو واللغة لم يصلنا منها إلا:
  • (١)

    كتاب معاني القرآن، منه نسخة في كتب الشنقيطي بالمكتبة الخديوية.

  • (٢)

    بلغنا أن في المكتبة الأحمدية بحلب نسخة من كتاب المذكر والمؤنث تنسب إليه.

وكان له أصحاب ومريدون أشهرهم أبو جعفر محمد بن قادم معلم المعتز، وسلمة بن عاصم أحد علماء الكوفة الثقات وغيرهما. وأكثرهم ألفوا في النحو وضاعت كتبهم.

وتجد أخبار الفراء في ابن خلكان ٢٢٨ ج٢، وطبقات الأدباء ١٢٦، والفهرست ٦٦.

ابن السِّكِّيت (توفي سنة ٢٤٤ﻫ)

هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق السكيت، آخر نحاة الكوفة في هذا العصر، أصله من الأهواز، وكان يؤدب ولد جعفر المتوكل. أخذ النحو عن أبي عمرو الشيباني والفراء وابن الأعرابي الآتي ذكره بين اللغويين، ولقي الأعراب وأخذ عنهم، وعلم عبد الله بن طاهر وغيره، وغضب عليه المتوكل في آخر أيامه لجرأته في الدفاع عن علي بن أبي طالب وآله، وذلك أن المتوكل سأله يومًا وهو يعلم ابنيه: «يا يعقوب، أيهما أحب إليك: ابناي هذان أم الحسن والحسين؟» فأجابه: «إن قنبرًا خادم علي خير منك ومن ابنيك.» فأمر المتوكل فسلوا لسانه من قفاه فمات، وقد خلَّف بضعة وعشرين مؤلفًا في النحو واللغة والمنطق والشعر، ذكرها صاحب الفهرست، وهاك ما بلغنا خبره منها:
  • (١)

    كتاب إصلاح المنطق: منه نسخ خطية في أكثر مكاتب أوروبا والآستانة، وفي المكتبة الخديوية، وقد طبع في بيروت سنة ١٨٩٨ بعناية الأب شيخو اليسوعي، وفي مصر سنة ١٩٠٧.

  • (٢)

    كتاب الألفاظ أو تهذيب الألفاظ: في اللغة وليس في النحو يبحث في أحوال الألفاظ ومعانيها، منه نسخة خطية في مكتبتي باريس وليدن. وقد طبع في بيروت بعناية الأب شيخو عن تينك النسختين سنة ١٨٩٦ مع شروح للتبريزي، وطبعوا منه طبعة مختصرة سنة ١٨٩٧ سموها مختصر تهذيب الألفاظ.

وتجد أخباره في ابن خلكان ٣٠٩ ج٢، وطبقات الأدباء ٢٣٨، والفهرست ٧٢.

فالنحو نضج في هذا العصر، ووضعت فيه الكتب الوافية بخلاف الأدب، فإنه كان لا يزال مشتتًا مضطربًا، وسينضج في الأعصر الآتية، وكذلك علم اللغة كما سنبيِّنه في مكانه.

(٣) علم اللغة

نريد بعلم اللغة الاشتغال بألفاظ اللغة من حيث معانيها وأصولها واشتقاقها، وهو ينتهي بتأليف المعاجم اللغوية، ولم يتم نضجها إلا في العصر العباسي الثالث كما سيجيء، لكن السبيل تمهَّدت لها في هذا العصر وما يليه بما ألفه الأدباء من الكتب في ألفاظ المواضيع الخاصة، وقد جاء ذكر بعضها في مؤلفات الأصمعي وغيرها من كتب الأدب، ككتاب الخيل، وأسماء الوحوش، وكتب الشاء، وخلق الإنسان. وقد يتبادر إلى الأذهان من قراءة أسمائها أنها كتب في علم الحيوان أو التشريح، ولكنها كتب لغوية يحوي كل منها أسماء الحيوانات وأعضائها، ومن الإنسان أسماء أعضائه وأحواله، وكانت للعرب همة عالية في استقصاء ذلك في صدر دولتهم يتبارون في التنقيب عنه من أماكنه، إما بالسفر إلى البادية أو بالسؤال ممن يفد على البصرة والكوفة من فصحاء العرب كما تقدم.

وكان الأمويون يستحثون الأدباء على ذلك بمناقشات يثيرونها بين أيديهم في هذه المواضيع، كما فعل عبد الملك في مجلس من مجالسه ضم جماعة من خواصه ومسامريه، فقال: «أيكم يأتيني بحروف المعجم في بدنه وله عليَّ ما يتمناه؟» فقام إليه سويد بن غفلة فقال: «أنا لها يا أمير المؤمنين.» فقال: «ما عندك؟» قال: «أنف، بطن، ترقوة، ثغر، جمجمة، حلق، خد، دماغ، ذكر، رقبة، زند، ساق، شفة، صدر، ضلع، طحال، ظهر، عين، غببة، فم، قفا، كتف، لسان، منخر، نغنغ، هامة، وجه، يد، فهذه آخر حروف المعجم، والسلام على أمير المؤمنين.»

فقام بعض أصحاب عبد الملك وقال: «يا أمير المؤمنين أنا أقولها في جسد الإنسان مرتين، فضحك عبد الملك وقال لسويد: «أما سمعت ما قال؟» قال: «نعم أنا أقولها ثلاثًا.» فقال له: «لك ما تتمنى.» فقال: «أنف، أسنان، أذن، بطن، بصر، بز، ترقوة، تمرة تينة، ثغر، ثنايا، ثدي، جمجمة، جنب، جبهة، حلق، حنك، حاجب، خد، خصر، خاصرة، دبر، دماغ، دردر، ذكر، ذقن، ذراع، رقبة، رأس، ركبة، زند، زردمة، زغب، ساق، سرة، سبابة، شفة، شعر، شارب، صدر، صدغ، صلعة، ضلع، ضفيرة، ضرس، طحال، طرة، طرف، ظهر، ظفر، ظلم، عين، عنق عاتق، غببة، غلصمة، غنة، فم، فك، فؤاد، قلب، قدم، قفا، كف، كتف، كعب، لسان، لحية، لوح، مرفق، منكب، منخر، نغنوغ، ناب، نن، هامة، هيف، هيئة، وجه، وجنة، ورك، يمين، يسار، يافوخ، ثم نهض مسرعًا وقبَّل الأرض بين يدي عبد الملك، فقال: «والله ما نزيد عليها أعطوه ما تمنى.» ثم أجازه وأنعم عليه وبالغ في الإحسان إليه.

(٣-١) أوليات كتب اللغة

فهذا وأمثاله بعث الناس على العناية بحفظ ألفاظ اللغة، وحمل الآخرين على التأليف فيها بشكل مجاميع كل مجموع في موضوع، فكتاب النخل والكرم مثلًا لا يبحث في طبائع النخل والكرم ومعالجتهما أو زراعتهما، وإنما هو يبحث في أسماء أنواعهما وأغصانهما وما يتعلق بها من اسم أو فعل، وهاك قطعة من أول هذا الكتاب على سبيل المثال:

من صغار النخل الخبيث وهو أول ما يطلع من أمه، وهو الودي والهراء والفسيل، وإذا كانت الفسيلة في الجذع ولم تكن مستأرضة فيه فهو من خسيس النخل والعرب تسميها الراكب، فإذا قلعت الودية من أمها بكربها قيل: ودية منعلة، فإذا غرسها حفر لها بئرًا فغرسها ثم كبس حولها بترنوق المسيل والدمن، فتلك البئر هي الفقير. يقال: فقَّرنا للودية تفقيرًا، والأشأ من صغار النخل.

ومن نعوت سعفها وكونها وقلبها يقال للفسيلة إذا أخرجت قلبها: قد أنسغت، ويقال للسعفات اللواتي يلين القلبة: «العواهن» في لغة أهل الحجاز. أما أهل نجد فيسمونها «الخوافي»، وأصول السعف الغلاظ الكرانيف؛ الواحدة كرنافة، والعريضة التي تيبس فتصير مثل الكتف هي الكربة وشحمة النخلة هي الجمار، فإذا صار للفسيلة جذع قيل: قد قعدت وفي أرض بني فلان من القاعد كذا وكذا، والسعف هو الجريد عند أهل الحجاز؛ واحدته جريدة، وهو الخرص وجمعه خرصان، والخلب الليف؛ واحدته خلبة …٤٦

وقس على ذلك كتب خلق الإنسان والإبل وغيرها، فكل منها يشتمل على أسماء وأفعال تجمعها صفة مشتركة بينها في المعنى، فهي من قبيل المعاجم المعنوية التي تجمع مفردات اللغة فيها حسب معانيها تمييزًا لها عن المعجمات اللفظية التي تجتمع بها الألفاظ بحسب هجائها على ترتيب الأبجدية، وأشهر المعجمات المعنوية فقه اللغة للثعالبي والمخصص لابن سيده، وهي أتم مما فعله الأصمعي وأترابه، ولكنها تشبهها من حيث المراد بها، وسيأتي ذكرها في مكانه، وعلى كتب الخيل والشاء والإبل والشجر والكرم وخلق الإنسان وأشباهها من كتب النوادر والأمثال والأضداد واللغات والفروق وغريب القرآن والحديث، وكتب المياه والجبال ونحوها عوَّل واضعو المعجمات في ضبط الألفاظ ومعانيها فضلًا عن تحريم المفردات عن فصحاء الأعراب.

(٣-٢) علماء اللغة

الخليل بن أحمد (توفي سنة ١٨٠ﻫ)

هو أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد البصري الفراهيدي الأزدي سيد أهل الأدب في تصحيح القياس، واستخراج مسائل النحو وتعليله، وكان من تلامذة أبي عمرو بن العلاء، وعنه أخذ سيبويه، وعامة الحكاية في كتاب سيبويه عن الخليل، وكلما قال سيبويه: «سألته.» أو «قال.» من غير أن يذكر قائله فهو يعني الخليل. وأخذ عنه أيضًا النضر بن شميل ومؤرج السدوسي وعلي بن نصر وغيرهم.

وقد علمت أنه أول من ضبط اللغة، وهو أيضًا أول من استخرج علم العروض إلى الوجود، وحصر أقسامه في خمس دوائر يستخرج منها ١٥ بحرًا، ثم زاد فيه الأخفش بحرًا سماه الخبب، وقد ضبط أوزان الشعر ووقعها على المقاطع والحركات، واستغرق في درس ذلك حتى كان يقضي الساعات في حجرته، وهو يوقع بأصابعه ويحركها — رووا أن ابنه دخل عليه مرة وهو في هذه الحال، فظنه جن، فقال له الخليل:

لو كنت تعلم ما أقول عذرتني
أو كنت تعلم ما تقول عذلتكا
لكن جهلت مقالتي فعذلتني
وعلمت أنك جاهل فعذرتكا

وكان الخليل في فاقة وزهد لا يبالي بالدنيا، وذكروا أن سليمان بن علي وجَّه إليه من الأهواز لتأديب ولده، فأخرج الخليل إلى رسول سليمان خبزًا يابسًا وقال: «كُلْ فما عندي غيره، وما دمت أجده فلا حاجة لي إلى سليمان.» فقال الرسول: «فما أبلغه؟» فقال:

أبلغ سليمان أني عنه في سعةٍ
وفي غنًى غير أني لست ذا مالِ
شحًّا بنفسي أني لا أرى أحدًا
يموت هزلًا ولا يبقى على حالِ
والفقر في النفس لا في المال تعرفه
ومثل ذاك الغنى في النفس لا المالِ
فالرزق عن قدر لا العجز ينقصه
ولا يزيدك فيه حول محتالِ

وأهم مؤلفاته كتاب العين.

كتاب العين

الخليل أسبق العرب إلى تدوين اللغة وترتيب ألفاظها على حروف المعجم قبل الأصمعي وسيبويه وسواهما من الأدباء والنحاة في كتاب سماه كتاب العين، جمع فيه ما كان معروفًا في أيامه من ألفاظ اللغة وأحكامها وقواعدها وشروطها، ورتب ذلك على أحرف الهجاء، لكنه رتب الحروف حسب مخارجها من الحلق، فاللسان، فالأسنان، فالشفتين، وبدأ بحرف العين، وجعل حروف العلة في الآخر، وهاك ترتيبه: ع ح ﻫ خ غ ق ك ج ش ص ض س ر ط د ت ظ ذ ث ز ل ن ف ب م و ا ي، فكأن الخليل حذا بذلك حذو الهنود في ترتيب حروف لغتهم السنسكريتية، فإنهم يبدءون بأحرف الحلق وينتهون بالأحرف الشفوية.٤٧
وكان من عادة العرب أن يسموا الكتاب بأول لفظ من ألفاظه ككتاب الجيم للهروي وهو كتاب رتبه على حروف المعجم بدأ به بحرف الجيم،٤٨ وكتاب الجيم لأبي عمرو الشيباني، ومثلهما كتاب الغين وكتاب الميم، ويستفاد من ترتيب الحروف في كتاب العين أن الجيم كانت تلفظ كالكاف الفارسية.

ومن أبحاث كتاب العين إحصاء ألفاظ اللغة في أيامه، فقد نقل عنه السيوطي أنه أحصى فيه عدد أبنية كلام العرب المستعمل والمهمل فبلغ ١٢٣٠٥٤١٢ كلمة، ولعله أراد ما يمكن تكوينه بتركيب أحرف الهجاء على كل شكل من الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي، ولم يذكر عدد الكلام المستعمل منها، على أن أبا بكر الزبيدي الذي اختصر كتاب العين وجَّه نظره إلى هذه المسألة ودرسها، فكانت نتيجة درسه أن عدد الألفاظ العربية ٦٦٩٩٤٠٠ لفظ لا يستعمل منها إلا ٥٦٢٠ لفظًا، والباقي — وهو ٦٦٥٣٧٨٠ لفظًا — مهمل، وقد قسمها من حيث عدد أحرفها على هذه الصورة:

عدد الألفاظ المستعمل منها المهمل
٦٦٩٩٤٠٠ ٥٦٢٠ ٦٦٩٣٧٨٠
٧٥٠ الثنائي ٤٨٩ ١٦١
١٩٦٥٠ الثلاثي ٤٢٦٩ ١٥٣٨١
٣٣٤٠٠ الرباعي ٨٢٠ ٣٠٢٥٨٠
٦٣٧٥٦٠٠ الخماسي ٤٢ ٦٣٧٥٥٥٨

ومن النظر إلى هذا الجدول، يتبيَّن لك أن الزبيدي عنى بعدد ألفاظ اللغة ما عناه الخليل، وإن كان قد جعل عددها نصف ما قاله ذاك فإنك تجد أكثرها مهملًا، فهو يريد بالمهمل الألفاظ التي يمكن أن تتركب من الأحرف الهجائية كما تقدم لا التي تركت واستخدمها الناس زمانًا ثم أهملت لسبب من الأسباب.

ولم يصل إلينا من كتاب العين إلا ما نقل عنه في كتب اللغة كالمزهر للسيوطي وكتاب النحو لسيبويه، ولم ينبغ نحوي ولا لغوي ولا أديب في عصر الخليل وما يليه إلا استفاد من كتابه، ولكن الثقات الباحثين مختلفون في حقيقة نسبته إليه، وفي صحة ما جاء فيه من الروايات والأقوال، من ذلك ما رواه ابن النديم في الفهرست عن ابن دريد قال: «وقع في البصرة كتاب العين سنة ثمانٍ وأربعين (ومائتين)، قدم به وراق من خراسان، وكان في ثمانية وأربعين جزءًا، فباعه بخمسين دينارًا، وكان قد سمع بهذا الكتاب أنه في خراسان بخزائن الطاهرية حتى قدم به هذا الوراق، وقيل: إن الخليل عمل كتاب العين وحج وخلف الكتاب بخراسان فوجه به إلى العراق من خزائن الطاهرية، ولم يرو هذا الكتاب عن الخليل ولا روي في شيء من الأخبار أنه عمل هذا البتة، وقيل: إن الليث من ولد نصر بن سيار صحب الخليل مدة يسيرة، وإن الخليل عمله له وأخذ طريقته، وعاجلت المنية الخليل فتممه الليث.»٤٩

وذكر السيوطي آراء القوم في أصله وحجج القادحين، فلتراجع في المزهر (٣٩ ج١ وما بعدها)، ولكن الغالب في سبب تلك الحملة على الخليل أنهم حسدوه لما أتاه من السبق إلى ذلك العمل الجليل — وكل سبَّاق محسود — فلا خلاف في فضله على الإطلاق، وهب أنه لم يتم الكتاب في حياته فله الفضل في تبويبه والشروع فيه.

وقد جاء في ذلك الكتاب على قواعد النحو وأكثرها على مذهب الكوفيين، مع أنه بصري، فخالف ما جاء في كتاب سيبويه مما رواه سيبويه عنه، وقد جعلوا هذا حجة للطعن في الكتاب، وإنه ليس للخليل، ويرى الأكثرون أنه له، وذلك لم يمنع انتقاده والاستدراك عليه، فألَّف في انتقاده جماعة منهم المفضل بن سلمة، وعبد الله بن محمد الكرماني، وابن دريد، وغيرهم، وقد اختصره أبو بكر الزبيدي المتوفى سنة ٣٧٩ﻫ اختصارًا لطيفًا وشاع مختصره، وأقبل عليه الناس وتحدثوا به فاستعملوه وفضلوه على الكتاب نفسه لكونه حذف ما أورده المؤلف من الشواهد المختلفة والحروف المصحفة والأبنية المختلة، وفضَّلوه أيضًا على سائر ما ألف على حروف المعجم من كتب اللغة يومئذ لأجل صغر حجمه، وألحق به بعضهم ما زاده أبو علي القالي في البارع على كتاب العين فكثرت الفائدة، على أن بعضهم انتقد على الزبيدي حذفه الشواهد.

وبالجملة فإن كتاب العين تحفة من تحف الأدب، وللخليل فضل كبير في وضعه، وللأسف أنه ضاع، وقد كان موجودًا إلى القرن الرابع عشر للميلاد، ولا يبعد أن يعثر الباحثون على نسخة منه في بعض المكاتب الخصوصية.

أما مختصره للزبيدي فمنه نسخة خطية في مكتبة برلين، وأخرى في الإسكوريال بإسبانيا، وكذلك في مدريد، وفي مكتبة كوبرلي بالآستانة.

وذكر له ابن النديم من المؤلفات أيضًا كتاب النغم، وكتاب العروض، وكتاب الشواهد، وكتاب النقط، والشكل وكتاب الإيقاع، وفي المكاتب الكبرى في أوروبا مما ينسب إلى الخليل:

(٢) كتاب في معنى الحروف في مكتبة ليدن ومكتبة برلين.

(٣) شرح حرف الخليل في مكتبة برلين قطعة منه.

(٤) جملة آلات العرب في مكتبة أيا صوفيا بالآستانة.

(٥) قطعة من كلام على أصل الفعل في مكتبة أكسفورد (بودليان).

وتجد ترجمته في ابن خلكان ١٧٢ ج١، وطبقات الأدباء ٥٤، والفهرست ٤٢، وابن خلدون ٤٨٢ ج١.

مُورَّج السَّدُوسي (توفي سنة ١٩٥ﻫ)

هو أبو فيد مؤرج بن عمرو السدوسي، كان من أكابر أهل اللغة، وأخذ عن أبي زيد الأنصاري، وصحب الخليل بن أحمد، وكان من كبار أصحابه، أصله من البادية قدم البصرة ولا معرفة له بالقياس في العربية، وأول ما تعلم ذلك في حلقة أبي زيد، وكان يحفظ ثلثي اللغة وكان شاعرًا، وصحب المأمون من العراق إلى خراسان، وسكن مرو مدة ثم قدم إلى نيسابور وأقام فيها وكتب عنه مشائخها.

وله من المؤلفات كتاب الأنواء، وكتاب غريب القرآن، وكتاب جماهير القبائل، وكتاب المعاني، وغيرها لم يصلنا منها شيء.

وتجد أخباره في ابن خلكان ١٣٠ ج٢، طبقات الأدباء ١٧٩.

النَّضْر بن شميل (توفي سنة ٣٠٢ﻫ)

هو أبو الحسن النضر بن شميل التميمي البصري، من تلامذة الخليل، أخذ عنه وعن فصحاء العرب كأبي خيرة الأعرابي، وأبي الدقيش، وأقام في البادية أربعين سنة في هذا السبيل، وعنه أخذ أبو عبيد القاسم بن سلام الآتي ذكره، وبعد أن أقام في البصرة مدة ضاق به الرزق فنزح عنها إلى خراسان، فأصاب بها مالًا عظيمًا، وكانت إقامته في مرور وله مع المأمون في أثناء إقامته هناك حكايات ونوادر؛ لأنه كان يجالسه، وله عدة كتب ذهب خبرها إلا كتاب غريب الحديث أخذ الثعالبي عنه.

وأخباره في ابن خلكان ١٦١ ج٢، وطبقات الأدباء ١١٠، وفهرست ٥٢.

قُطْرب (توفي سنة ٢٠٦ﻫ)

هو أبو علي محمد بن المستنير البصري من الموالي، كان من كبار علماء اللغة، أخذ عن سيبويه وجماعة من أهل البصرة، وكان يذهب مذهب المعتزلة، وله عدة مؤلفات منها:
  • (١)

    كتاب الأضداد: مرتب على الأبجدية، منه نسخة خطية في مكتبة برلين.

  • (٢)

    ما خالف فيه الإنسان البهيمية: منه نسخة في مكتبة فينا.

  • (٣)

    كتاب الأزمنة: في المتحف البريطاني.

  • (٤)

    مثلث قطرب: هو منظومة في بضعة وستين بيتًا تحتوي على الألفاظ التي يختلف معناها باختلاف حركاتها — مثل: سِهام وسَهام وسهام — ولكل منها معنى، وهو أول من فعل ذلك، ومنه نسخ في مكاتب ليدن وباريس والإسكوريال والمكتبة الخديوية، وقد طبع في مابرج سنة ١٨٥٧ مع ترجمة لاتينية، وله شروح منها شرح إبراهيم اللخمي وغيره، ومن هذه الشروح نسخ في أكثر مكاتب أوروبا الكبرى.

ابن الأعرابي (المتوفى سنة ٢٣١ﻫ)

هو أبو عبد الله محمد بن زياد من موالي بني هاشم، وكان من أكابر أئمة اللغة بالكوفة، ولم يكن في الكوفيين أشبه برواية البصريين من روايته، وكان ربيبًا للمفضل الضبي وسمع منه الدواوين وصحَّحها، وكان أحفظ الناس للغات والأنساب، وطريقته طريقة الفقهاء والعلماء، وله من الكتب الباقية إلى الآن:
  • (١)

    كتاب أسماء البئر وصفاتها: منه نسخة في المكتبة الخديوية، وقد نشرته مجلة المقتبس (مجلد ٦ ج١) في سبع صفحات بتصحيح السيد محمود شكري الألوسي.

  • (٢)

    كتاب أسماء الخيل وأنسابها: منه نسخة خطية بين كتب الشنقيطي بالمكتبة الخديوية.

وأخباره في ابن خلكان ٤٩٢ ج١، وطبقات الأدباء ٢٠٧، والفهرست ٦٩.

(٤) الإنشاء والمنشئون

(٤-١) الإنشاء

الإنشاء من فنون الأدب، وقد تقدم تاريخه في الجاهلية وعصر الراشدين والأمويين، ورأيت أنه اختلف في هذه العصور باختلاف أحوالها من المدنية أو الجاهلية ومن الحضارة أو البداوة، وللعرب اقتدار عليه مثل اقتدارهم على الشعر، واللغة أكبر مساعد على ذلك.

كان الإنشاء في صدر الإسلام مقصورًا على مكاتبة الخلفاء وأمرائهم وقوَّادهم أو مع سواهم في طلب حرب أو صلح أو حث أو تحريض، فلما صار الإسلام دولة تفرعت الكتابة إلى أقسام اقتضاها تعدد مصالح الدولة، وتفرُّع احتياجاتها، فصارت الكتابة خمسة أنواع ذكرناها في الجزء الأول من تاريخ التمدن الإسلامي — وأهمها بالنظر إلى الإنشاء والبلاغة كتابة الرسائل، وصاحبها يسمى كاتب السر، وهو يد الخليفة ومستودع أسراره. وقد نبغت طائفة من كتاب الرسائل في الدولة الأموية آخرهم وأبلغهم عبد الحميد كما تقدم.٥٠

فلما صارت الدولة إلى العباسيين على أثر ذلك الانقلاب الذي تبدلت فيه رجال الدولة، وانتقل كرسي الخلافة وتنوعت أغراض الخلفاء — كما بيَّنَّا ذلك في مكانه — أصاب الإنشاء تغيير يلائم ذلك الانقلاب، وأهم ظواهره الاستبحار في المدنية والإغراق في الحضارة بالنظر إلى الدولة الأموية، وظهر أثر ذلك على أقلام المنشئين كما ظهر في قرائح الشعراء.

(٤-٢) أول ثمار الرخاء

فالإنشاء في صدر الدولة العباسية أخذ في النزوع إلى ثمار الرخاء والترف، وأهمها التطويل والإطراء، وزادهم الاختلاط بالفرس وما ترجم من آدابهم تأنقًا في العبارة نزوعًا عن أسلوب البلغاء في صدر الإسلام وفي العصر الأموي من تحدي الإيجاز والإعجاز، وأخذوا يضمِّنون رسائلهم الأشعار والأمثال، وخالط ذلك في العصر العباسي الأول شيء من الإطراء والتفخيم، وخصوصًا في ما كانوا يكتبونه إلى الأمراء يستعطفونهم أو يستعطونهم، كما فعل إبراهيم بن سيابة في رسالة كتبها إلى يحيى بن خالد بن برمك توخى فيها التسجيع فضلًا عن الإطراء، فقال في مطلعها:

للأصيد الجواد، الواري الزناد، الماجد الأجداد، الوزير الفاضل، الأشم الباذل، اللباب الحلاحل من المستكين المستجير اليائس الضرير، فإني أحمد الله ذا العزة القدير إليك وإلى الصغير والكبير بالرحمة العامة والبركة التامة. أما بعد، فاغنم واسلم، واعلم إن كنت تعلم أنه من يرحم يُرحم ومن يَحِرْم يُحرم، ومن يحسن يغنم، ومن يصنع المعروف لا يعدم، وقد سبق إليَّ تغضبك عليَّ، واطِّراحك لي وغفلتك عني، بما لا أقوم له ولا أقعد، ولا أنتبه ولا أرقد، فلست بحي صحيح ولا بميت مستريح، فررت بعد الله منك إليك، وتحملت بك عليك …

إلى آخر الرسالة.
وهي كما ترى أشبه بما صار إليه الإنشاء في أواسط الدولة العباسية، ولولا ثقتنا بصدق راويها وهو الجاحظ،٥١ مع قرب عهده من ذلك العصر، لشككنا في صحتها، فالظاهر أن ابن شيابة بالغ في تنميق عبارته حتى خرج عن الأسلوب المألوف في عصره، فأعظم الناس اقتداره، وعملوا على حفظ أقواله. وذكر الجاحظ أن البغداديين حتى عامتهم كانوا يحفظون هذه الرسالة في تلك الأيام، ولا يصح أن تعد مثالًا لأسلوب ذلك العصر، وإنما إمام الإنشاء فيه ابن المقفع وأسلوبه مشهور، وسنعود إلى ذلك.

وتنوعت أساليب الإنشاء ومذاهب المنشئين في الدولة العباسية بتنوع العلوم، فأصبح للفقه أسلوب وألفاظ وتراكيب، ومثل ذلك للجندي أو المحدث أو الفيلسوف أو الطبيب لتعود كل منهم مصطلحات علمه وفنه كما هو شأننا لهذا العهد، فإن للصحافي أسلوبًا خاصًّا، ومثله للمؤلف والروائي والطبيعي والمحامي وغيرهم، تظهر فيه صبغة مهنته. ولكن هذه الأساليب كانت — ولا تزال — تتشابه وتتقارب لاضطرار أصحابها إلى تحدي أساليب القرآن وألفاظ العرب العرباء.

(٤-٣) التوقيعات

وظل الميل إلى الإيجاز والإعجاز متغلبًا في نفوس الأدباء، ولا سيما في التوقيع، ويراد به ما يعلقه الخليفة على القصص أو الرقاع (العرضحالات)، وكان الخلفاء في صدر الإسلام هم الذين يوقعون بأنفسهم أو يأمرون كتابهم بتدوينه، والغالب في توقيعهم أن يكون اقتباسًا من آية أو حديثًا أو حكمة مشهورة أو من الشعر الحكمي، ومن أمثلة ذلك أن سعد بن أبي وقاص عامل العراق كتب إلى عمر بن الخطاب كتابًا يستأذنه فيه ببناء دار، فوقع عمر في أسفل الكتاب: «ابنِ ما يكنُّك من الهواجر وأذى المطر.» ووقع أيضًا لعمرو بن العاص عامله على مصر جوابًا على كتاب كتبه إليه: «كن لرعيتك كما تحب أن يكون لك أميرك.» وتشكى قوم لعثمان بن عفان من مروان بن الحكم، وذكروا أنه أمر بوجء أعناقهم فوقع في ذلك الكتاب: «فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون.» وأرسله إليه.

وقس على ذلك توقيعات بني العباس؛ فقد وقع السفَّاح إلى قوم من أهل الأنبار شكوا إليه أن منازلهم أُخذت منهم، وأدخلت في بناء أمر به ولم يعطوا أثمانها فوقع: «هذا بناء أسس على غير تقوى.» وأمر بإعطائهم الأثمان، وشكا أهل الكوفة إلى أبي جعفر المنصور سوء معاملة عاملهم، فوقع على كتابهم: «كما تكونون يؤمَّر عليكم.» ووقع على قصة رجل شكا عيلة: «سل الله من رزقه.» وجاء من عامله على حمص كتاب فيه خطأ فوقع في أسفله: «استبدل بكتابك وإلا استبدل بك.» وكتب صاحب أرمينيا إلى المهدي يشكو سوء طاعة رعاياه فوقع في الكتاب: «خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين.» وشكا بعضهم إليه إهمال عامله على خراسان فوقع على شكواهم: «أنا ساهر وأنت نائم.» وأرسله إليه، ومن توقيعات هارون الرشيد إلى عامله في خراسان: «داو جرحك لا يتسع.» وإلى عامله على مصر: «احذر أن تخرب خزانتي وخزانة أخي يوسف، فيأتيك منه ما لا قبل لك به ومن الله أكثر منه.» وكتب ابن هشام إلى المأمون يتظلم من أمر فوقع على كتابه: «من علامة الشريف أن يظلم من فوقه ويظلمه من دونه، فأي الرجلين أنت؟»

ولم تكن التوقيعات خاصة بالخلفاء، فمن توقيعات الأمراء والوزراء توقيع جعفر البريكي لمحبوس: «ولكل أجل كتاب.» ووقع في كتاب جاءه في شكوى بعض عماله: «لقد كثر شاكوك وقل شاكروك فإما اعتدلت وإما اعتزلت.»

(٤-٤) الإنشاء المرسل أو أسلوب المؤلفين

هذا كله من إنشاء الرسائل في المخاطبات والمكاتبات، ولكن هناك ضربًا من الإنشاء نضج في العصر العباسي الأول، نعني الإنشاء المرسل في تأليف الكتب، أو كتابة المقالات الطويلة في الوصف أو الموعظة أو الفلسفة — وهو غير أسلوب المراسلات، فإن هذا أقرب إلى الخطابة أو الشعر منه إلى الأسلوب المتناسق الذي يقتضيه الاسترسال في وصف موضوع طويل متسلسل.

ولم ينضج الأسلوب المرسل إلا في العصر العباسي الأول؛ لاضطرار الناس إلى التأليف من عند أنفسهم بأن يدوِّنوا أفكارهم، أو ينقلوا أفكار سواهم من اللغات الأخرى، وأشهر من فعل ذلك في العصر المذكور عبد الله بن المقفع في نقل كتاب كليلة ودمنة وغيره من الفارسية القديمة (الفهلوية) إلى العربية.

وكان ابن المقفع عريقًا في الفارسية عالمًا بآدابها متمكِّنًا من أساليبها؛ لأنها لغته ولغة آبائه، وكان يعرف اللغة اليونانية جيِّدًا، وقد نشأ في البصرة في النصف الأول من القرن الثاني للهجرة، وهي حافلة بالأدباء والشعراء؛ فبرع في اللغة العربية وآدابها، وكان سليم الذوق ذا قريحة إنشائية. ولما نقل كتاب كليلة ودمنة من الفارسية إلى العربية جاءت عبارته شاملة للبلاغة والسهولة، وقد تحدَّاها من جاء بعده؛ لأنه أقدم من حُفِظ إنشاؤه في المواضيع الأدبية باللغة العربية.

وكتاب كليلة ودمنة أقدم ما وصل إلينا من الإنشاء المرسل من قلم رجل واحد هو من علماء الفرس، وقد نقل الكتاب عن لغة الفرس. ونظرًا لما يمتاز به الكتاب المذكور من السهولة والرشاقة عن سائر ما كتب في عصره أو ما بعده من كتب الأدب يغلب على ظننا أنه اكتسب ذلك من تأثير أساليب اللغات الأخرى، التي كان يعرفها ابن المقفع مع اقتدار خاص فيه على مثل ذلك الأسلوب، وقد قلَّ من جاء بمثله بعده، ولم يأت أحد بأحسن منه في بابه مع ما بلغ إليه العلم من الرقي في العصر العباسي، وما نبغ فيه من علية الكتَّاب المشاهير؛ مما يدلك على أن الإنشاء قريحة خاصة مثل قريحة الشعر.

ويقسم المنشئون في العصر العباسي الأول إلى طبقتين: الأولى منشئو الرسائل، والثانية مؤلفو الكتب.

منشئو الرسائل

والمنشئون للرسائل كثيرون مثل كثرة الشعراء للأسباب التي قدمناها، ومنهم طائفة حسنة من كبار الرجال حتى الخلفاء والأمراء والوزراء والشعراء، واشتهر بإنشاء الرسائل في هذا العصر من الأمراء والوزراء ونحوهم إبراهيم بن المهدي أخو الرشيد، وله رسائل وشعر جيد، ومنهم أبو دلف والفتح بن خاقان وآل طاهر، وخصوصًا طاهر بن الحسين.

طاهر بن الحسين

وهو رئيس هذه الأسرة، توفي سنة ٢٠٧ﻫ، وكان من نوابغ المنشئين، وله مجموع مراسلات، ضاع خبرها إلا رسالة بليغة كتبها لابنه عبد الله، لما ولاه المأمون الرقة ومصر وما بينهما، أوصاه فيها بجميع ما يحتاج إليه في دولته وسلطانه من الآداب الدينية والخلقية والسياسية ومكارم الأخلاق. وهي منشورة في مقدمة ابن خلدون بباب: «أن العمران لا بد له من سياسة ينتظم بها أمره» تدخل في ثماني صفحات.

وتجد ترجمة طاهر في ابن خلكان ٢٣٥ ج١.

عمرو بن مسعدة

ومنهم عمرو بن مسعدة بن سعد بن صول، المتوفى سنة ٢١٧ﻫ، وزير المأمون. كان كاتبًا بليغًا جزل العبارة وجيزها، سديد المقاصد والمعاني. وكان يوقع بين يدي جعفر بن يحيى البرمكي في أيام الرشيد. وقد أثرى في خدمة المأمون حتى قيل إنه خلف بعد موته ٨٠٠٠٠٠٠٠ درهم، فقيل ذلك للمأمون، فقال: «هذا قليل لمن اتصل بنا وطالت خدمته لنا، فبارك الله لولده فيما خلف، وأحسن لهم النظر فيما ترك.»

وتجد مثالًا من إنشائه في ترجمته في ابن خلكان ٣٩٠ ج١.

ومنهم ابن الليث كاتب يحيى بن خالد. وذكر ابن النديم أسماء جماعة خلفوا رسائل مجموعة في كتاب منهم: غيلان جمعت رسائله في ألف ورقة، وخالد بن ربيعة الأفريقي نشأ في الدواوين ورسائله ٢٠٠ ورقة. وغيرهم كثيرون لا فائدة من ذكرهم؛ لأن آثارهم ضاعت، ثم إن كتاب ديوان الرسائل أكثرهم في صدر الدولة العباسية من المنشئين البلغاء، كابن عبد الملك الزيات الوزير، وأبي علي البصير، وأحمد بن يوسف كاتب المأمون، وحميد بن مهران كاتب البرامكة، وابن يزداد وزير المأمون، وموسى بن عبد الملك، وميمون بن إبراهيم، وغيرهم.

الكتاب المؤلفون

عبد الله بن المقفع (توفي سنة ١٤٣ﻫ)

هو إمام هذه الطبقة، وقد تقدم ذكره، وكان في بدء الأمر مجوسيًّا؛ فأسلم على يد عيسى بن علي عم السفاح، ثم اختص بالمنصور، وكتب له حتى قتل وهو في مقتبل العمر لم يتجاوز ٣٦ سنة، لكنه خلف آثارًا حفظت ذكره قرونًا ولا تزال … أهمها:

كتاب كليلة ودمنة

هو كتاب في إصلاح الأخلاق وتهذيب النفوس، وضعه فيلسوف هندي اسمه بيدبا منذ نيف وعشرين قرنًا لملك من ملوك الهند اسمه دبشليم، ذكروا أنه تولى الهند بعد فتح الإسكندرية وطغى وبغى؛ فأراد بيدبا إصلاحه وتدريبه، فألف هذا الكتاب، وجعل النصح فيه على ألسنة البهائم والطيور على عادة الهنود البراهمة في عصورهم القديمة … فإنهم كانوا يروون الحكمة على ألسنة الحيوانات لاعتقادهم بتناسخ الأرواح. والمظنون أن معظم ما يتناقله الناس من أمثال هذه الأقاصيص أصله من الهند. وقد صنف في هذا الموضوع وعلى هذه الكيفية غير واحد من الحكماء. ويقال إن بيدبا أول فاتح لهذا الباب، وكل من صنف بعده في نوادر الحكايات مقتبس من ضيائه.

وترجع موضوعات النصح في هذا الكتاب إلى ما يحتاج الناس إليه في معاملاتهم، كوجوب الابتعاد عن سماع كلام الساعي والنمام ووخامة عاقبة الأشرار ومنافع الأصحاب، وعدم جواز الأمن من كيد العدو، ومضار الإهمال والغفلة، وآفة التعجيل، وفائدة الحزم وعدم الاعتماد على أرباب الحقد، ونحو ذلك مما يهذب النفوس ويرقي العواطف في حكايات، يتفرع بعضها عن بعض.

وقد كتب أولًا باللغة الهندية السنسكريتية في ١٢ بابًا، ونقل إلى لغة التيبت، فاللغة السريانية، ثم إلى الفهلوية؛ أي الفارسية القديمة، وعنها نقل ابن المقفع الترجمة العربية وصدرها بمقدمة سماها «عرض الكتاب»، وصف بها الكتاب، وأفاض في التحريض على مطالعته. فلما اطلع العرب على فوائده أعجبوا به، وأخذوا يتدارسونه ويتناقلونه، وكأن علماء اللغة وأدباءها حسدوا ابن المقفع على سبقه في ترجمته؛ فأقدم بعضهم على نقله ثانية، واشتغل غيره بنظمه شعرًا تسهيلًا لحفظه، وتصدى آخرون لمعارضته كما سيجيء.

على أن الترجمات ذهبت كلها إلا ترجمة ابن المقفع التي هي بين أيدينا، وقد تعدلت بتوالي الأزمان بين تنقيح وتصدير وتذييل، فبلغت أبوابها ٢١ بابًا بعضها هندي الأصل والآخر فارسي والآخر عربي.

فالأبواب الهندية ١٢، وهي: باب الأسد والثور، الحمامة المطوقة، البوم والغربان، القرد والغيلم، الناسك وابن عرس، الجرذ والسنور، الملك والطائر فنزة، الأسد وابن آوى، اللبؤة وبلاذ وأبرخت، السائح والصائغ، ابن الملك وأصحابه.

والفارسية ثلاثة: مقدمة بروزيه، وباب بعثة بروزيه، وباب ملك الجرذان. وهناك ستة أبواب لم تكن معروفة قبل الترجمة العربية نعني مقدمة الكتاب على لسان بهنود بن سحوان المعروف بعلي بن الشاه الفارسي، وباب عرض الكتاب لابن المقفع، وباب الفحص عن أمر دمنة، وباب الناسك والضيف، وباب مالك الحزين والبطة، وباب الحمامة والثعلب ومالك الحزين. وبعض هذه الفصول لا يوجد الآن في النسخ المطبوعة من الترجمة العربية.

ثم فقد الأصل الهندي والترجمة الفهلوية ولم يبقَ غير العربية، وعنها أخذت الأمم هذا الكتاب ونقلته إلى ألسنتها، فنقل إلى اللغة السريانية مرة ثانية وإلى اليونانية والإيطالية والفارسية الحديثة والتركية والعبرانية واللاتينية والإسبانية والملقية والإنكليزية والروسية، ونقل عن بعض هذه التراجم إلى لغات أخرى، وقد عقدنا لتاريخ هذا الكتاب فصلًا ضافيًا في الهلال سنة ١٤ ج٧.

طبع كتاب كليلة ودمنة في العربية مرارًا من أواخر القرن الثامن عشر إلى الآن، وبعض طبعاته مزدانة بالرسوم، وقد ضبطه بالشكل الكامل المرحوم الشيخ خليل اليازجي، وهو لا يزال إلى الآن من خيرة الكتب في الإنشاء، وقد شغف العرب بمعانيه فنقلوها إلى الشعر.

نظم كليلة ودمنة

أقدم من نظم هذا الكتاب في العربية أبو سهل الفضل بن نوبخت الفارسي من خدم المنصور العباسي وابنه المهدي في صدر الدولة العباسية. وكان له الفضل في خزانة الحكمة بأيام الرشيد، وله عدة كتب نقلها من الفارسية إلى العربية ذكرها صاحب الفهرست (صفحة ٢٧٤) ليس بينها نظم كليلة ودمنة، ولكن كشف الظنون ذكر ذلك في عرض كلامه عن هذا الكتاب فقال: «نقله أيضًا عبد الله بن هلال الأهوازي ليحي بن خالد البرمكي في خلافة المهدي سنة ١٦٥ﻫ، ونظمه أبو سهل بن نوبخت الحكيم ليحيى بن خالد وزير المهدي والرشيد، فلما وقف عليه أجازه بألف دينار.» وقد ذكرنا في ترجمة أبان اللاحقي الشاعر أنه نظم كليلة ودمنة شعرًا لم يبق منه إلا بيتان ذكرناهما سابقًا.

ثم نظمه علي بن داود كاتب زبيدة بنت جعفر زوج الرشيد، ونظم بعضه بشر بن المعتمد، وكل هذه المنظومات ضاعت.

ثم نظمه ابن الهبارية المتوفى سنة ٥٠٤ﻫ في كتاب سماه «كتاب نتائج الفطنة في نظلم كليلة ودمنة، كان منه نسخ مشتتة في الآستانة ولندن والهند، فنشرت نسخة الهند في بمباي سنة ١٣٠٤ﻫ على الحجر، ثم طبع الكتاب طبعة أخرى عن نسخة أخرى في بعبدا (لبنان) سنة ١٩٠١ بعناية الخوري نعمة الله الأسمر، وقد نقَّحها ونظم منها قطعًا لم ينظمها ابن الهبارية، منها باب الحمامة والثعلب ومالك الحزين.٥٢

ثم نظمه ابن مماتي المصري المتوفى سنة ٦٠٦ﻫ وضاع نظمه، وجاء بعده عبد المؤمن بن الحسن من أهل القرن السابع للهجرة فنظمه أو شيئًا منه أو كتابًا على مثاله سماه «درر الحكم في أمثال الهنود والعجم، منها نسخ خطية في فينا ومونيخ، ثم نظمه جلال الدين النقاش من أهل القرن التاسع، ومن نظمه نسخة في مكتبة الآباء اليسوعيين في بيروت وأخرى في المتحف البريطاني.

وعارض كليلة ودمنة سهل بن هارون الكاتب الآتي ذكره، فنظم كتابًا على مثاله سماه «كتاب ثعلة وعفرة»، وقد ضاع،٥٣ ومن مؤلفات ابن المقفع المنقولة عن الفارسية أيضًا:

سائر مؤلفاته

  • كتاب الأدب الصغير: في الأخلاق والمواعظ والفلسفة والاجتماع، طبعته جمعية العروة الوثقى في الإسكندرية سنة ١٩١١ مضبوطًا بالشكل الكامل بتحقيق أحمد زكي باشا كاتب أسرار مجلس النظار، وقد صدره بمقدمة انتقادية في أسلوب الكتاب ونسبته إلى كليلة ودمنة.
  • كتاب الدرة اليتيمة: ويسمى أيضًا كتاب الأدب الكبير: هي رسائل في النصح والإرشاد. قال ابن المقفع في الغرض منها يخاطب القارئ: «وأنا واعظك في أشياء من الأخلاق اللطيفة والأمور الغامضة التي لو حنكتك سن كنت خليقًا أن تعلمها وإن لم تخبر عنها، ولكن أحببت أن أقدم إليك فيها قولًا لتروض نفسك على محاسنها قبل أن تجري على عادة مساويها؛ فإن الإنسان قد تبتدر إليه شبيبته المساوي، وقد يغلب عليه ما يبدر إليه منها.»

    وقد طبعت الدرة اليتيمة مرارًا في نحو ٥٠ صفحة منها طبعة بيروت سنة ١٨٩٧ مع مقدمة وشروح للأمير شكيب أسلان، وهي تحت الطبع الآن مضبوطة بالشكل الكامل باسم «الأدب الكبير» بتحقيق زكي باشا، ولها تتمة لابن العربي سماها: «عظة الألباب وذخيرة الاكتساب» منها نسخة في مكتبة باريس.

  • رسالة في الأخلاق: منها نسخة خطية في مكتبة نور عثمانية بالآستانة.

وله كتب أخرى أدبية وأخلاقية نقلها عن الفارسية، منها كتاب التاج في سيرة أنوشروان، وكتاب سير ملوك العجم لم نقف عليها. لكن منها نتفًا نقلها ابن قتيبة في كتاب عيون الأخبار، وتجد أخبار ابن المقفع في ابن خلكان ١٤٩ ج١، وتراجم الحكماء لابن القفطي ١٤٨، والفهرست ١١٨.

سهل بن هارون

هو سهل بن هارون بن رامنوي الدستميساني، فارسي الأصل، انتقل إلى البصرة ثم أقام في بغداد، وكان متحققًا في خدمة المأمون وصاحب خزانة الحكمة له، وكان حكيمًا فصيحًا شاعرًا شعوبي المذهب شديد العصبية على العرب، وله في ذلك كتب كثيرة ورسائل في البخل. وكان الجاحظ يفضله ويصف براعته وفصاحته ويحكي عنه، وله من الكتب ديوان الرسائل، وكتاب ثعلة وعفرة المتقدم ذكره، وكتاب الهذلية المخزومي، وكتاب النمر والثعلب، وغيرها كثير لم نقف عليها، وأخباره في الفهرست ١٢٠، والدميري ٣١٣ ج١.

ومنهم علي بن عبيد الريحاني له اختصاص بالمأمون، وكان يُرْمَى بالزندقة، وذكر له صاحب الفهرست (صفحة ١١٩) نحو خمسين مؤلفًا ضاعت كلها، وللمستشرق الروسي أينوسترانسيف كلام عن مؤلفاته في كتابه عن تأثير آداب الفرس في اللغة العربية طبع في بطرسبرج سنة ١٩٠٩.

(٤-٥) الموسيقى أو الغناء

الموسيقى من الفنون الجميلة مثل الشعر، وفي العرب استعداد لها فطري لحساسة نفوسهم وشدة تأثرهم، وكان لهم في جاهليتهم ألحان توافق خشونتهم، فلما ظهر الإسلام واختلطوا بالروم والفرس اقتبسوا الموسيقى عن تلك الأمم قبل سائر العلوم الدخيلة؛ لأن اقتباسها لا يحتاج إلى نقل أو ترجمة، وأول من فعل ذلك عبد مكي اسمه سعيد بن مسحج كان حسن الصوت مغرمًا بالموسيقى، وكان في مكة عند حصار الأمويين لها على عهد عبد الله بن الزبير في الثلث الأخير من القرن الأول للهجرة، واستخدم ابن الزبير رجالًا من الفرس في ترميم الكعبة، فسمع ابن مسحج بعضهم يغني بالفارسية، فطرب والتقط النغم منه، ثم رحل إلى الشام وفارس، وأخذ الألحان الرومية والفارسية، وألقى منها ما استقبحه من النبرات والنغم مما لا يألفه الذوق العربي، وغنى على هذا المذهب، وهو أول من فعل ذلك، وأخذ عنه من جاء بعده من مغني المسلمين فنبغ منهم جماعة كبيرة، وكان الغناء يزداد إتقانًا ويزداد نبوغ المغنين كلما قربت الدولة من الترف والقصف؛ ولذلك كثروا في أواخر الدولة الأموية وأواسط الدولة العباسية، ومن أشهر المغنين ابن سريج والغريض ومعبد وحكم الوادي وفليج بن أبي العوراء وسياط ونشيط وعمر الوادي وإبراهيم الموصلي وابنه إسحاق وغيرهم، ومن المغنيات جميلة وحبابه وسلامة وعقيلة وغيرهن.

ولما اشتغل المسلمون في نقل العلوم الدخيلة كان من جملتها كتب الموسيقى لليونان والهند، فتناولها المسلمون ودرسوها، وأصبحت الموسيقى عندهم علمًا بأصولٍ، وقد جمعوا بين ألحان اليونان والهنود والفرس والعرب، فألفوا من ذلك علمًا خاصًّا بالتمدن الإسلامي بلغ درجة حسنة من الإتقان، فألفوا فيه المؤلفات المسهبة فضلًا عما استنبطوه من الألحان أو اخترعوه من الآلات.

ففي العصر العباسي الأول صار للعرب مذاهب في الغناء خاصة بهم، وأصبح الغناء علمًا قائمًا بنفسه؛ فعمدوا إلى تدوينه، وأول من دوَّنه يونس بن سليمان الكاتب أصله فارسي، وصار مولى لعمرو بن الزبير، نشأ في المدينة، وكان أبوه فقيهًا أسلمه إلى الديوان فكان من كتابه، وأخذ الغناء عن معبد، ولم يكن في أصحاب معبد أحذق ولا أقوم منه، وله غناء حسن، فوضع كتابًا في الأغاني، وهو أول من فعل ذلك،٥٤ وقد ضاع كتابه، وللخليل بن أحمد كتاب في الموسيقى زَمَّ فيه أصناف النغم وحصر به أنواع اللحون وحدد ذلك كله ولخصه، وذكر مبالغ أقسامه ونهايات أعداده وقد ضاع هذا أيضًا.

وممن اشتغل بفن الموسيقى يحيى بن أبي منصور الموصلي؛ فألف كتابًا في الأغاني على الحروف وآخر في العود والملاهي لم نقف على خبرهما، ووضع المغنون كتبًا ضبط كل منهم في الألحان التي حدثت فضلًا عن الأصوات القديمة؛ لأن المغني كان إذا برع واشتهر استنبط ألحانًا من عند نفسه حتى انتهى ذلك إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلي، فأصبح هو إمام المغنين وينسبون إليه كتابًا في الأغاني كبيرًا يشك الناقدون في نسبته إليه، وألف يحيى بن مرزوق المكي كتابًا فيه ١٢٠٠٠ صوت أهداه إلى محمد بن عبد الله بن طاهر؛ فوصله بثلاثين ألف درهم، وشاع هذا الكتاب، لكن إسحاق الموصلي صححه.

الغناء القديم والغناء الحديث

ولما زها العصر العباسي الأول في زمن الرشيد والمأمون، وأطلقت الألسنة والأفكار، أخذ المغنون يفكِّرون في تعديل الألحان واستنباط أسلوب جديد. وأول من تجرَّأ على ذلك إبراهيم المهدي أخو الرشيد — وكان من الطامعين في الخلافة، فلما استتب الأمر لابن أخيه المأمون انصرف هو إلى الغناء كما انصرف خالد بن يزيد الأموي إلى الكيمياء لما يئس من الخلافة. وكان إبراهيم من أعلم الناس بالنغم والوتر والإيقاعات، وأطبعهم في الغناء وأحسنهم صوتًا، وهو يعد من الطبقة الأولى في عصره، لكنه كان مقصِّرًا عن أداء الغناء القديم على طريقة الموصلي، فكان يحذف نغم الأغاني الكثيرة العمل حذفًا شديدًا أو يخففها على قدر طاقته، وإنما تجرأ على ذلك بما ناله من المنزلة عند الناس، فكان إذا عوتب قال: «أنا ملك أغني كما أشتهي.»، وصارت له طريقة يسمونها الغناء الحديث، وسموا طريقة إسحاق الطريقة القديمة، وانقسم المغنون في ذلك إلى قسمين، وأصحاب فن الغناء يعدون عمل إبراهيم بن المهدي إفسادًا في هذه الصناعة؛ لأنهم يفضلون القديم فأخذوا في الرجوع إليه.

على أن ذلك بعثهم على إعمال الفكرة والتعمق بهذا الفن، وانتهى ذلك إلى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر من أهل العصر العباسي الثاني، وكان من كبار العلماء المفكرين، ولا سيما في علوم الأوائل والموسيقى والهندسة، فوضع كتابًا في النغم وعلل الأغاني سماه «الآداب الرفيعة» نال شهرة واسعة، ونأسف لضياعه مثل ضياع أكثر ما وضعه العرب في الموسيقى أو الغناء قبل كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني، وسيأتي ذكره.٥٥
fig10
شكل ١: الآلات الموسيقية العربية.

هوامش

(١) طبقات الأدباء ١١٧.
(٢) معجم الأدباء ١٧ ج١.
(٣) العمدة ١١ ج١.
(٤) طبقات الأدباء ٤٢.
(٥) الأغاني ٧٦ ج١٨.
(٦) طبقات الأدباء ٨٧.
(٧) المزهر ٢١١ ج٢.
(٨) طبقات الأدباء ١٤٥.
(٩) طبقات الأدباء ١٦٢.
(١٠) ابن خلدون ٥٠٩ ج١.
(١١) طبقات الأدباء ١٥٧.
(١٢) طبقات الأدباء ١٦٦.
(١٣) الفهرست ٤٧.
(١٤) ابن خلكان ٤٢٧ ج١، والمزهر ١٧١ ج٢.
(١٥) فوات الوفيات ١٦٤ ج١.
(١٦) طبقات الأدباء ٣٣.
(١٧) المزهر ٢٠٣ ج٢.
(١٨) العقد الفريد ٤٧–٩٣ ج٣.
(١٩) الأغاني ٢٨ ج٨.
(٢٠) المشرق ٦٣٨ سنة ١٠.
(٢١) الأغاني ٦٨ ج٥.
(٢٢) هذان الكتابان طُبِعَا معًا باسم الكنز اللغوي.
(٢٣) طبقات الأدباء ١٧٥.
(٢٤) المزهر ٧٥ ج١.
(٢٥) ابن خلكان ٢٠٨ ج١.
(٢٦) الفهرست ٥٤.
(٢٧) الأغاني ١٦٩ ج٥.
(٢٨) الأغاني ١٧٤ ج٥.
(٢٩) طبقات الأدباء ٧٠.
(٣٠) نبهنا إلى وجودها هناك مصطفى أفندي الرافعي الشاعر، فأشكره على صدق رغبته في خدمة آداب اللغة.
(٣١) المزهر ٨٧ ج١.
(٣٢) الأغاني ٨ ج١٣.
(٣٣) الأغاني ٥ ج١٣.
(٣٤) الأغاني ٥٨ ج١٩.
(٣٥) الأغاني ١٧٢ ج٥.
(٣٦) المزهر ٢٠٣ ج٢.
(٣٧) المزهر ٢١٠ ج٢.
(٣٨) المزهر ٨٥ ج١.
(٣٩) المزهر ٧١ ج١.
(٤٠) تاريخ التمدن الإسلامي ٧٩ ج٣.
(٤١) طبقات الأدباء ١٦.
(٤٢) طبقات الأدباء ٢٨.
(٤٣) المزهر ٥٨ ج١.
(٤٤) المزهر ٢٠٢ ج٢.
(٤٥) طبقات الأدباء ١٣١، وابن خلكان ٢٢٨ ج٢.
(٤٦) كتاب النخل والكرم طبعة الأب شيخو.
(٤٧) William’s Sanskrit Grammar 15.
(٤٨) طبقات الأدباء ٢٦٠.
(٤٩) الفهرست ٤٢.
(٥٠) الجزء الأول ٣١٤.
(٥١) البيان والتبيين ١١٤ ج٢.
(٥٢) المشرق ٩٨١ سنة ٤.
(٥٣) الفهرست ١٢٠ والبيان ٢٤ ج١
(٥٤) الأغاني ١١٤ ج٤.
(٥٥) راجع تاريخ الغناء في الجاهلية والإسلام في تاريخ التمدن الإسلامي ١٩٧ ج٣ و٣٢ ج٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤