الأدب والأدباء

خطا الأدب في هذا العصر خطوة أخرى نحو النشوء والتفرع، فبدأت علومه بالاستقلال بعضها عن بعض، وكانت في العصر الماضي مختلطة يدرس الأديب النحو واللغة والأخبار والأمثال معًا، وقلَّ من تفرغ لواحد منها — إلا النحو فإنه استقل في ذلك العصر كما رأيت. وظلت سائر علوم الأدب مختلطة، ففي هذا العصر أخذ علم اللغة بالاستقلال، وظهر علماء اشتغلوا بتعريف الألفاظ واشتقاقها ومعانيها وترتيبها على الأبجدية تمهيدًا لوضع المعاجم التي لم تظهر ناضجة إلا في العصر العباسي الثالث.

فالأدب هنا يقسم إلى ثلاثة أقسام:
  • (١)

    الأدب كما هو، ويدخل فيه الأخبار والأمثال والأشعار وغيرها.

  • (٢)

    النحو.

  • (٣)

    اللغة فنتكلم عن كل منها على حدة.

وقبل التقدم إلى ذلك لا بد لنا من التنبيه إلى أمرين مهمَّين في تاريخ آداب اللغة: الأول أن الأغراض السياسية التي ذكرناها في صدر العصر العباسي الأول من تفضيل أهل الكوفة على أهل البصرة وإثارة المنافسة بين البلدين ضعفت في هذا العصر، وفرغ البصريون والكوفيون من الغرض الذي أحيا ذينك البلدين لقربهما من البادية وسطًا بين الحضارة والبداوة، واستبحر عمران بغداد وغلبت الحضارة على نفوس المسلمين، فأخذ الأدباء وطلاب العلم في الانتقال إلى بغداد، وخصوصًا بعد أن سطا صاحب الزنج على البصرة وأخربها، والأمر الثاني أن نقل العلوم إلى اللغة العربية أكسبها ميلًا إلى تأليف الكتب وغيرها، على مثال ما شاهدوه هناك من الكتب الجامعة لمواضيع مختلفة والتوسع في الموضوع الواحد، فالكتب التي جاء ذكرها لأصحاب العصر الأول أوفاها ما كتب في الفقه والسيرة النبوية والطبقات والفتوح والنحو، أما في هذا العصر فعمدوا إلى التأليف في سائر المواضيع العلمية والأدبية والفلسفية والتاريخية وغيرها، وإن لم ينضج التأليف على الإجمال إلا في العصر الآتي.

(١) مميزات الأدب

يمتاز الأدب في هذا العصر بأشياء أهمها:
  • (١)
    أنه كان في العصر الماضي مقصورًا على النقل بلا تصرف، وإنما كان هم الأديب أن يروي ما سمعه بالإسناد إلى الراوي أو سرد ما عاينه كما كان يفعل حماد والأصمعي وأبو عبيدة، فأصبح يتدبر تلك المرويات ويبني عليها أو يستنتج منها حكمة أو عظة كما فعل الجاحظ وابن قتيبة وغيرهما، والسبب في ذلك اتساع اختبارهم وتعودهم النظر والتدبر بما اطلعوا عليه من كتب الأدب التي نقلت إلى العربية من الفارسية والهندية، وكتب المنطق وتحليل القياس ونحوهما عن اليونانية.١
  • (٢)

    أن ما ألم بالأمة من تغير الحال لفساد الحكومة وتوالي النكبات على الخلفاء حوَّل همَّ المفكرين إلى نشر الحكم وأخبار الزهد والزهاد وأقوال الحكماء، وسير رجال العدل والحزم التي يترتب عليها العظة والاعتبار مع الحث على الاقتداء بهم لرد الناس عن غيهم وتعزية المصابين والمظلومين، فأخذوا يجمعون ذلك في كتب الأدب.

  • (٣)

    أخذوا يجمعون شتات أخبار العرب على اختلاف مواضيعها ومآخذها في كتاب واحد أو بضعة كتب، وترتيبها في أبواب مبنية على الحكمة المستفادة منها للأسباب التي قدَّمناها، كما في الموشى والعقد الفريد.

  • (٤)

    تغيرت وجهة الأدب في نظر الأدباء؛ فقد كان الغرض منه بالأكثر طلب الرزق في دور الخلفاء بما كان لهؤلاء من الرغبة في الاطلاع على أخبار العرب وأشعارها وأمثالها، فأصبح في هذا العصر صناعة علمية في الإنشاء والتأليف، وقل المقتصرون عليها منهم، وانصرفت القرائح بالأكثر إلى الاشتغال في النحو واللغة، ولم ينقطع للاشتغال بالأدب بالمعنى الذي قدمناه إلا قليلون، وقد اخترنا بضعة منهم غلب عليهم الاشتغال بالأدب مع اشتغالهم بفنون أخرى من التاريخ أو السياسة أو الشعر، وهذه تراجمهم حسب سني الوفاة.

(٢) أدباء العصر العباسي الثاني

(٢-١) الجَاحظ (توفي سنة ٢٥٥ﻫ)

هو أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الكناني الليثي بالولاء، من أهل البصرة، ويعرف بالجاحظ لجحوظ عينيه، واشتهر بقبح خلقته، وكان جده أسود اللون جمالًا لعمرو بن قلع الكناني. وبلغ الجاحظ من الذكاء وجودة القريحة وقوة العارضة والتفكير ما جعله من كبار أئمة الأدب، نشأ في البصرة وهي آهلة بالأدباء والنحاة وأصحاب اللغة، ونبغ في كل ذلك، وبلغ خبره إلى المتوكل وكان عازمًا على اختيار من يؤدب ولده فاستقدمه إليه في سُرَّ من رأى، فلما رآه استبشع منظره فأمر له بعشرة آلاف درهم وصرفه، وله أخبار كثيرة تتعلق بقبح منظره، وأصيب في أواخر أيامه بالفالج النصفي؛ فكان يطلي نصفه الأيمن بالصندل والكافور لشدة حرارته والنصف الآخر لو قرض بالمقاريض ما أحس به من شدة برده في اصطلاحهم، وكان قد اشتهر وذاع صيته في العالم الإسلامي؛ فتقاطر الناس لمشاهدته والسماع منه، فلا يمر أديب أو عالم بالبصرة إلا طلب أن يرى الجاحظ ويكلمه، وكان إذا طلب أحد أن يراه أن يراه يقول: «وما تصنع بشق مائل ولعاب سائل ولون حائل؟!» وتوفي بالبصرة سنة ٢٥٥.

وهو إمام الأدباء في العصر العباسي الثاني، وله أساليب ومذاهب وآراء في الأدب واللغة خاصة به، واشتهر بطريقة في الإنشاء تنسب إليه تحداه بها الناس وعرفت باسمه. فهو قدوة المنشئين وإمامهم في هذا العصر كما كان ابن المقفع إمامهم في العصر الأول — وسنعود إلى ذلك.

الجاحظية

وكان الجاحظ من فضلاء المعتزلة جماعة المفكرين في ذلك العهد، تلقى العلم على أبي إسحاق إبراهيم بن سيار البلخي المعروف بالنظام المتكلم المشهور، وكان علم الكلام قد نشأ على أثر نقل الفلسفة والتبحر فيها، وطالع الجاحظ كثيرًا من كتب الفلاسفة، وانفرد عن سائر المعتزلة بمسائل تابعه بها جماعة عرفوا بالجاحظية، ومن مذهبه أن المعارف كلها ضرورية وليس فيها شيء من أفعال العباد، وإنما هي طبيعية، وليس للعباد كسب سوى الإرادة، وأن العباد لا يخلدون في النار بل يعبرون من طبيعتها، وأن الله لا يدخل أحدًا النار وإنما النار تجذب أهلها بنفسها وطبيعتها، وأن القرآن المنزل من قبيل الأجساد، ويمكن أن يصير مرة رجلًا ومرة حيوانًا، وأن الله لا يريد المعاصي وأنه لا يرى، وأن الله لا يريد بمعنى أنه لا يغلط ولا يصح في حقه السهو فقط، وأنه يستحيل العدم على الجواهر من الأجسام وإنما الأعراض تتبدل والجوهر باقٍ، ونحو ذلك.٢

مؤلفاته

خلف الجاحظ مؤلفات عديدة طبع كثير منها ونشر، هاك أهمها:
  • (أ)

    كتاب البيان والتبيين: (ويقال: التبين والتبيان) في الأدب والإنشاء والخطابة وأبحاث في البيان والخطابة والخطباء والسجع والشعر والشعراء والنساك والزهاد، وأمثلة من خطب النبي والخلفاء، وفي اللحن واللحانين وأحاديث ونوادر وغير ذلك، وهو أصدق مثال للإنشاء في أواسط القرن الثالث للهجرة، وقد طبع بمصر سنة ١٣١٣ وغيرها في مجلدين.

  • (ب)

    كتاب الحيوان: هو أقدم كتاب في علم الحيوان بالعربية، ويختلف عن كتب الحيوان المعروفة بأنه يشتمل على وصف طبائع الحيوانات من حيث علاقتها بالناس، ويتخلل ذلك فوائد أدبية واجتماعية وتاريخية، وقد طبع بمصر سنة ١٩٠٦ في ٤ مجلدات.

  • (جـ)

    كتاب المحاسن والأضداد والعجائب والغرائب: في اللغة طبعه المستشرق فان فلوتن في ليدن سنة ١٨٩٧ في ٤٠٠ صفحة، ثم طبع بمصر سنة ١٩٠٦.

  • (د)

    كتاب أخلاق الملوك: في الأدب، منه نسخة خطية بمكتبة أيا صوفيا.

  • (هـ)

    كتاب تنبيه الملوك والمكائد: منه نسخة خطية بمكتبة كوبرلي.

  • (و)

    كتاب البخلاء: في الأدب، طبع غير مرة في أوروبا ومصر.

  • (ز)

    كتاب سحر البيان: في كوبرلي.

  • (ح)

    كتاب فضائل الأتراك: في أيا صوفيا، وطبع بمصر مضبوطًا بالشكل سنة ١٨٩٨.

  • (ط)

    كتاب سلوة الحريف في المناظرة بين الربيع والخريف: طبع بالآستانة سنة ١٣٠٢ وفي مصر ٤٤ صفحة.

  • (ي)

    كتاب العرافة والزجر والفراسة: على مذاهب الفرس خط في مكتبة ليدن.

  • (ك)

    المختار من كلام الجاحظ: وحكم علي: بمكتبة برلين.

  • (ل)

    رسالة في بني أمية: في المكتبة الخديوية.

  • (م)

    ثلاث رسائل طبعت في ليدن، و١١ رسالة طبعت بمصر.

  • (ن)

    كتاب طبقات المغنين: ذكرته مجلة المنتقد (مجلد ٢ ج٨).

  • (س)

    كتاب التاج: في جملة كتب زكي باشا تحت الطبع بمصر.

وترجمة الجاحظ في ابن خلكان ٣٨٨ ج١، وطبقات الأدباء ٢٥٤.

(٢-٢) السُّكَّري (توفي سنة ٢٧٥ﻫ)

هو أبو سعيد الحسن بن الحسين بن عبيد الله بن عبد الرحمن بن العلاء السكري النحوي، وقد ذكرناه بين الرواة والأدباء؛ لاشتغاله بجمع الأشعار، وكان راوية البصريين، وهو الذي جمع أهم ما بين أيدينا من أشعار الجاهليين وصدر الإسلام إلى أيامه من القبائل والأفراد، فمن الأفراد الذين عمل السكري أشعارهم؛ أي جمعها في دواوين: امرؤ القيس، وزهير، والنابغة، والحطيئة، ولبيد، ودريد بن الصمة، وعمرو بن معديكرب، والأعشى، والمهلهل، ومتمم بن نويرة، وأعشى باهلة، وبشر بن أبي حازم، والمتلمس، والمسيب، وحميد بن ثور، وحميد الأرقط، وعدي بن زيد، وعدي بن الرقاع، وغيرهم مما يطول بنا بسطه. وقد ذكرهم ابن النديم في الفهرست مطولًا (صفحة ١٥٧)، وذكر بجانب كل شاعر من عمل شعره غير السكري أيضًا، ومن القبائل التي جمع السكري أشعارها: بنو ذهل، وبنو شيبان، وبنو أبي ربيعة، وبنو يربوع، وغيرها كثير.

فدواوين الشعراء الأفراد لا يزال بين أيدينا منها جانب ذكرناه في مواضعه، وإن لم يذكر في صدور الدواوين من جمعها، ومما ينسب إلى السكري (١) شرح ديوان امرئ القيس. وقد جاء ذكر بعض دواوين الأفراد التي جمعها السكري في كتب الأدب عرضًا. أما أشعار القبائل فلم يبق منها إلا ديوان الهذليين، وقد وصل إلينا مقتضبًا مع شرح قليل، ومنه نسخة خطية في مكتبتي باريس وليدن، وقد طبع القسم الأول منه في لندن سنة ١٨٥٤ في نحو ٣٠٠ صفحة كبيرة تحتوي على أشعار نحو ثلاثين شاعرًا من الهذليين وأخبارهم، وعنوان هذا الجزء «كتاب شرح أشعار الهذليين صنعه أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري رواية أبي الحسن علي بن عيسى بن علي النحوي عن أبي بكر أحمد بن محمد الحلواني عنه.» وفي صدر هذه الطبعة مقدمة إنكليزية عن تاريخ هذا الكتاب والمفضليات والحماسة، وهناك كتاب لما بقى من أشعار الهذليين غير ما جمعه السكري، طبع في برلين سنة ١٨٨٤.

وللسكري (٢) كتاب أخبار اللصوص: فيه أخبار بعض لصوص الأعراب نشرت قطعة منه في ليدن سنة ١٨٥٩، وله (٣) شرح ديوان جران العود النميري منه نسخة خطية بالمكتبة الخديوية، وله (٤) كتاب النبات ضاع. وترجمة السكري في طبقات الأدباء ٢٧٤، ومعجم الأدباء ٦٢ ج٣، والفهرست ٧٨ و١٥٧ و١٥٩.

(٢-٣) ابن قُتَيبة (توفي سنة ٢٧٦ﻫ)

هو أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، ولد في الكوفة سنة ٢١٣، وتثقَّف على أهلها، وسكن بغداد، وتولى قضاء الدينور فنسب إليها، وكان عالمًا في اللغة والنحو والشرع، متفننًا بالعلوم، صادقًا فيما يرويه، مستقل الفكر، جريئًا في قول الحق، وهو أول من تجرأ على النقد الأدبي، فألَّف في أكثر فنون الأدب المعروفة، والباقي من مؤلفاته إلى اليوم حسن وشائع، وبعضها من أمهات كتب التاريخ والأدب، وهاك ما وصل إلينا خبره منها:
  • (أ)

    عيون الأخبار: في عشرة كتب: (١) كتاب السلطان. (٢) كتاب الحرب. (٣) كتاب السؤدد. (٤) كتاب الطبائع والأخلاق. (٥) كتاب العلم بأخبار العلم والعلماء. (٦) كتاب الزهد. (٧) كتاب الإخوان. (٨) كتاب الحوائج. (٩) كتاب الطعام. (١٠) كتاب النساء. طبع في ويمار سنة ١٨٩٨ بعناية بروكلمن، وفي مصر سنة ١٩٠٧ في مجلدين كل مجلد يدخل في مائة صفحة، ومنه نسخ خطية في مكاتب بطرسبرج والآستانة، وهو أول كتاب في نوعه من أمهات كتاب الأدب.

  • (ب)

    كتاب المعارف: هو من قبيل كتب التاريخ العام ومن أقدمها، فيه خلاصة تاريخ الخلق والأنبياء، وأنساب العرب، وسيرة النبي ومغازيه، وأخبار الصحابة والتابعين والقراء ورواة الشعر، وصناعات الأشراف، وأهل العاهات، ونوادر الحوادث، والأديان، وأخبار ملوك العرب والعجم، وقد طبع في غوتنجن بعناية ووستنفيلد سنة ١٨٥٠، وفي مصر سنة ١٣٠٠.

  • (جـ)

    كتاب الشعر والشعراء: ويسميه بعضهم طبقات الشعراء أو كتاب الشعراء أو أخبار الشعراء، وكلها واحد، وهو يحتوي على تراجم «المشهورين من الشعراء الذين يعرفهم جل أهل الأدب والذين يقع الاحتجاج بأشعارهم في الغريب وفي النحو وفي كتاب الله»، ويدخل في ذلك أخبار أشهر شعراء الجاهلية وصدر الإسلام إلى أيام المؤلف، وأمثلة من أشعارهم، وفيه نظر وانتقاد، وقد طبع في ليدن بعناية دي غويه سنة ١٩٠٤، وفي مصر سنة ١٩٠٥.

  • (د)

    أدب الكاتب: يبحث فيما يحتاج إليه الأديب في صناعة الكتابة من الآداب والعلوم، وإصلاح ما كان يقع فيه الكتاب بأيامه من الخطأ أو الوهم في معاني الألفاظ أو الاشتقاقات والتراكيب مما نحن في حاجة إليه حتى اليوم، وقد قسم ذلك إلى أبواب في إقامة الهجاء وتقويم اللسان والأبنية، وقد لخص هذا الكتاب وشرح غير مرة، ومنه نسخ خطية في المتحف البريطاني ومكاتب فينا وبطرسبرج، وقد طبع في ليبسك سنة ١٨٧٧ مع خلاصة إنكليزية لسيرول، وطبع أيضًا في مصر مرارًا. وله شروح عديدة أشهرها شرح البطليوسي المتوفى سنة ٥٣٩ﻫ، طبع في بيروت سنة ١٩٠١، ويعرف بالاقتضاب.

  • (هـ)

    الإمامة والسياسة: هو تاريخ الخلافة وشروطها بالنظر إلى طلابها من وفاة النبي إلى عهد الأمين والمأمون، طبع بمصر سنة ١٩٠٠، ومنه نسخ خطية في مكاتب باريس ولندن ومصر.

  • (و)

    كتاب الشراب أو الأشربة: في اختلاف العلماء فيما يحل من الأشربة أو يحرم، منه نسخة خطية في لندن وفي المكتبة الخديوية، وطبع بمصر سنة ١٩٠٧.

  • (ز)

    كتاب التسوية بين العرب والعجم وتفضيل العرب: هو ضد الشعوبية نقل منه صاحب العقد الفريد فصلًا في صفحة ٧١ ج٢، ونشرت له مجلة المقتبس رسالة في الرد على الشعوبية (مجلد ٤).

  • (ح)

    تأويل مختلف الحديث: منه نسخ خطية في مكتبتي برلين وليدن.

  • (ط)

    كتاب مشكل القرآن: منه نسخ خطية في مكتبتي ليدن وكوبرلي.

  • (ي)

    المشتبه من الحديث والقرآن: منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية.

  • (ك)

    كتاب المسائل والجوابات: أكثره في الحديث، منه نسخة في مكتبة غوطا.

وقد ذكر صاحب الفهرست كتبًا أخرى لابن قتيبة أهمها كتاب «معاني الشعر الكبير» في ١٢ كتابًا، وفي مكتبة أيا صوفيا بالآستانة نسخة من كتاب اسمه «الشعر الكبير» لابن قتيبة لعله هو أو بعضه، وكتاب «عيون الشعر» في عشرة كتب، وغير ذلك من كتب النحو والأدب والحديث واللغة، ووقف الأب شيخو على كتاب ينسب إلى ابن قتيبة لم يذكره صاحب الفهرست ولا غيره، نعني كتاب «الرجل والمنزل» وجده في مكتبة الظاهر بدمشق ونشره في السنة ١١ من المشرق، وهو من قبيل مفردات اللغة التي ذكرناها للأصمعي وأبي عبيدة. وفي كتب الشنقيطي بالمكتبة الخديوية نسخة من كتاب خطي اسمه «كتاب العرب وعلومها» لابن قتيبة.

وترجمة ابن قتيبة في ابن خلكان ٢٥١ ج١، وطبقات الأدباء ٢٧٢، والفهرست ٧٧.

(٢-٤) ابن أبي الدنيا (توفي سنة ٢٨١ﻫ)

هو أبو بكر عبيد الله بن محمد بن عبيد مولى قريش، كان يؤدب المكتفي بالله، وله علم بالأخبار، وذكر له الفهرست مؤلفات كثيرة في الأدب والأخبار لم يصلنا منها إلا:
  • (أ)

    الفرج بعد الشدة: مجموع أخبار اتفقت لأناس أصابهم فيها بعد الشدة فرج، منه نسخ في برلين وليدن، وطبع بمصر سنة ١٩٠٦. نحا فيه منحى المدائني المتوفى سنة ٢٢٥ أول من ألَّف في هذا الموضوع، ثم تحداهما سواهما حتى انتهى ذلك إلى القاضي التنوخي المتوفى سنة ٣٨٤ﻫ، فألف كتابه الفرج بعد الشدة طبع بمصر سنة ١٩٠٤ في مجلدين، وفي مقدمته تاريخ التأليف في هذا الموضوع.

  • (ب)

    مكارم الأخلاق.

  • (جـ)

    وذم الملاهي: منهما نسختان خطيتان في برلين.

  • (د)

    فضائل عشر ذي الحجة: في ليدن.

  • (هـ)

    كتاب من عاش بعد الموت: في منشن.

  • (و)

    اليقين: في كوبرلي بالآستانة.

  • (ز)

    الشكر: في نور عثمانية.

  • (ح)

    قرى الضيف: في مكتبة لاندبرج.

وترجمة ابن أبي الدنيا في فوات الوفيات ٢٣٦ ج١، والفهرست ١٨٥.

(٢-٥) قُدَامة بن جعفر (المتوفى سنة ٣١٠ﻫ)

هو قدامة بن جعفر بن قدامة الكاتب البغدادي. كان أبوه نصرانيًّا، وأسلم في أيام المكتفي (سنة ٢٨٩–٢٩٥)، وتولى منصبًا كبيرًا في الدولة العباسية، وكان أديبًا شاعرًا ألَّف كتبًا كثيرة ذكرها صاحب الفهرست (صفحة ١٣٠) لم يصلنا منها إلا:
  • (أ)

    كتاب نقد الشعر: وهو أول كتاب مستقل في هذا الموضوع، وسنعود إليه، طبع في الآستانة سنة ١٣٠١.

  • (ب)

    كتاب نقد النثر: ويعرف بكتاب البيان، منه نسخة خطية في الإسكوريال.

  • (جـ)

    كتاب الخراج: سيأتي ذكره في الكلام على الجغرافية.

(٢-٦) الوشَّاء (في القرن الثالث)

هو أبو الطيب محمد بن أحمد بن إسحاق الأعرابي الوشاء، أحد الأدباء الظرفاء في أواخر القرن الثالث للهجرة، غلب عليه تصنيف كتب الأشعار والأخبار. ذكر له صاحب الفهرست نحو ٢٠ كتابًا في النحو والأدب لم يصلنا منها إلا كتابان:
  • (أ)

    كتاب الموشى: وهو فريد في بابه يمثل آداب ذلك العصر، ويتخلله كثير من المواعظ والحث على المصادقة والإخلاص والتعفف، وفيه وصف الأزياء التي كانت شائعة يومئذ على اختلاف الطبقات، وما اختير من الألفاظ للمكاتبات، وفيه فصول ضافية فيما كانوا يكتبونه من الأشعار على الثياب والأعلام والعصائب والزنانير والمناديل والستور والوسائد حتى النعال، وعلى المجالس وآنية الشراب والعيدان، فهو فريد ببابه، ومنه نسخة خطية في ليدن، وقد طبع فيها سنة ١٨٨٧، وفي مصر سنة ١٣٢٤، وسموه كتاب الظرف والظرفاء.

  • (ب)

    كتاب تفريج المهج وسبب الوصول إلى الفرج: منه نسخة خطية مختصرة في مكتبة برلين، وتجد أخبار الوشاء في الفهرست ٨٥، وطبقات الأدباء ٣٧٤.

(٢-٧) ابن عبد ربِّه (توفي سنة ٣٢٨ﻫ)

هو أبو عمر أحمد بن محمد عبد ربه القرطبي صاحب العقد الفريد، أصله من موالي بني أمية في الأندلس، توفي سنة ٣٢٨ (وقيل: ٣٤٨)، وكان من العلماء المكثرين من المحفوظات والاطلاع على أخبار الناس، وكان شاعرًا مطبوعًا، وإنما اشتهر بكتابه العقد الفريد. وفي شعره ميل إلى الشعر القصصي؛ أي سرد القصة شعرًا، وهو قليل في العربية، له فيه أرجوزة قصَّ فيها تاريخ عبد الرحمن الناصر صاحب الأندلس حسب السنين، وكان معاصرًا له، وهي منشورة في الجزء الثاني من العقد الفريد.

العقد الفريد، أما العقد الفريد فإنه من أجَلِّ كتب الأدب وأحواها، أو هو كالخزانة حوت خلاصة علوم ذلك العصر، حتى الطب والموسيقى، فضلًا عن الأخبار والأنساب واللغة والأمثال والشعر والعروض وقواعده، في ثلاثة مجلدات تزيد صفحاتها على ألف صفحة كبيرة، وهو مقسوم حسب المواضيع، وقد تأنَّق صاحبه في تقسيمه وتسمية أبوابه؛ فسماها بأسماء الحجارة الكريمة تطبيقًا لاسم الكتاب «العقد الفريد»، ويشتمل الجزء الأول على السلطان والحروب والأجواد والأصفاد والوفود والعلم والأدب والأمثال والمواعظ، والثاني في التعازي والمراثي والنسب وفضائل العرب وكلام الأعراب والأجوبة والخطب والتوقيعات وأخبار الكتبة، والثالث في أخبار زياد والحجاج والطالبيين والبرامكة وأيام العرب ووقائعها وفضائل الشعر وعلم الألحان والنساء والمتنبئين والممردين والبخلاء، وطبائع الإنسان، وفي الطعام والشراب.

وفي بعض هذه الأبواب فصول تاريخية لا تجد مثلها في كتب التاريخ، فأخبار زياد والحجاج والطالبيين فيها حقائق يعز العثور عليها في كتاب آخر، وناهيك بأيام العرب وأعاريض الشعر وما هناك من أخبار الخوارج والأزارقة؛ فضلًا عن كثير من الأقوال المأثورة عن عظماء الملوك، نقلًا عن كتب ضاعت أصولها، فالعقد الفريد خزانة فوائد، وهو من أمهات كتب الأدب الثقة، ويؤخذ من مطالعته أنه حوى خلاصة ما في الكتب السالفة يومئذ للأصمعي وأبي عبيدة والجاحظ وابن قتيبة وابن الكلبي وغيرهم، غير القرآن والحديث والتوراة والإنجيل، ولم يقتصر فيما جمعه على ما عرفه العرب، بل نقل عن الكتب التي ترجمت إلى العربية في ذلك الزمن عن اليونانية والهندية والفارسية، وهو يشير إلى ذلك في كلامه، وقد طبع العقد الفريد مرارًا في ثلاثة مجلدات وهو شائع، ومنه نسخ خطية في أكثر مكاتب أوروبا، وليس له سواه.

وترجمة ابن عبد ربه في ابن خلكان ٣٢ ج١، ومعجم الأدباء ٦٧ ج٢، ويتيمة الدهر ٣٦٠ و٤١٢ ج١.

(٢-٨) أبو بكر الصولي (المتوفى سنة ٣٣٥ﻫ)

هو محمد بن يحيى الصولي، ويعرف بالشطرنجي، ويتصل نسبه بملوك جرجان. كان عالمًا بفنون الأدب، حسن المعرفة بآداب الملوك، حاذقًا بتصنيف الكتب، وألعب أهل زمانه في الشطرنج، وكان نديمًا لجماعة من الخلفاء، وجمع أشعار كثيرين كما فعل السكري بأشعار القدماء، وقد أشرنا إلى شيء من ذلك في أماكنه كديوان ابن المعتز، وديوان أبي تمام وأبي نواس والبحتري، وألف في أخبار الخلفاء وأشعارهم كتابًا سماه «الأوراق في أخبار آل العباس وأشعارهم» قال ابن النديم: «إنه لم يتمَّه، والذي خرج منه أخبار الخلفاء وأشعار أولاد الخلفاء من السفاح إلى أيام المعتز.» ولكن في المكتبة الخديوية نسخة بهذا الاسم للصولي هي من قبيل أخبار الشعراء رتب أسماءهم على أحرف الهجاء، وأكثره في أخبار أبان اللاحقي شاعر البرامكة وأبنائه الشعراء، كمحمد بن أبان وأبان بن حمدان بن أبان وغيرهما، وأخبار أشجع بن عمرو السلمي وأشعاره مرتبة في أبواب، وأحمد بن يوسف وزير المأمون وآله، وابن صبيح كاتب دولة بني العباسي، وتوقيعات أحمد المذكور وكلامه فضلًا عن أشعاره، وجاء في آخر الكتاب أنه شرع بترجمة إسحاق بن إبراهيم الموصلي، وتوفي قبل أن يتمها، وذلك يختلف عما ذكره ابن النديم.

وله كتب أخرى هامة ذكرها كشف الظنون ولم نقف عليها، وأخباره في طبقات الأدباء ٣٤٣، والفهرست ١٥٠ و١٥٦.

(٣) أدباء آخرون

ومن الأدباء والرواة في هذا العصر أيضًا أبو العيناء المتوفى سنة ٢٨٢ﻫ، وجحظة البرمكي (٣٢٦ﻫ)، وأبو بكر بن مروان الدينوري المالكي المتوفى سنة ٣١٠، له كتاب المجالسة، وفيه أخبار وآداب منه نسخة في باريس، وإبراهيم بن أبي عون الكاتب، توفي سنة ٣٢٢، وله كتاب لب اللباب في جوابات ذوي الألباب، منه نسخة في برلين، وأبو الأزهر بن مزيد النحوي (٣٢٥)، له أخبار عقلاء المجانين في الإسكوريال، (ولأبي القاسم النيسابوري المتوفى سنة ٤٠٦ كتاب بهذا الاسم في مكتبة برلين)، وأبو بكر الخرائطي السامري المتوفى سنة ٣٢٧ له كتاب اعتلال القلوب في المكتبة الخديوية ومكارم الأخلاق في ليدن.

(٤) الإنشاء

رأيت ما كان من أسلوب الإنشاء في صدر الإسلام من البلاغة والإيجاز، حتى انتهى في العصر الأموي إلى عبد الحميد الكاتب، فأطال الرسائل وأدخل التحميدات في فصول الكتب. فلما كان العصر العباسي الأول نبغ ابن المقفع، وهو إمام المنشئين في ذلك العصر كما يظهر في ترجمة كليلة ودمنة، وهو إنشاء مرسل بلا تسجيع ولا تقطيع.

(٤-١) أسلوب ابن المقفع

لكنه كان إذا أراد التأنق في الإنشاء في معرض الخطابة أو التهديد أو التنبيه عمد إلى السجع، ونوَّع عبارته تنويعًا خاصًّا كما فعل في كتبه الأخرى، ولا سيما اليتيمة والأدب الصغير، فمن ذلك قوله في اليتيمة:

إذا كان سلطانك عند جدة دولة، فرأيت أمرًا استقام بغير رأي، وأعوانًا جزوا بغير نبل، وعملًا أنجح بغير حزم، فلا يغرنك ذلك ولا تستنم إليه فإن الأمر الجديد مما تكون له مهابة في أنفس أقوام وحلاوة في أنفس آخرين.

وقد يتفنن في تقطيعه كقوله: «وجدنا الناس قبلنا كانوا أعظم أجسادًا، وأوفر مع أجسادهم أحلامًا، وأشد قوة وأحسن بقوتهم للأمور إتقانًا، وأطول أعمارًا وأفضل بأعمارهم للأشياء اختبارًا.»

وفي كل حال لا بد من التمييز بين إنشاء الكتب وإنشاء الرسائل أو المقالات الأدبية ونحوها، فإنشاء الكتب لا يزال مرسلًا بلا سجع أو تقطيع مثل كتاب كليلة ودمنة، وأما الرسائل أو المقالات الأدبية أو الفصول التي يصدرون بها الكتب فهي من قبيل الخطب، فالكاتب يتأنَّق بها ويبذل جهده في تنميقها كما فعل ابن المقفع في كتابه الدرة اليتيمة التي أتينا بالمثالين المذكورين منها — فالتنويع الذي يصيب الإنشاء بتوالي الأعصر إنما يقع على هذا الإنشاء في الغالب، وما يصدق عليه يصدق على الخطب.

(٤-٢) أسلوب الجاحظ

فلما دخل العصر العباسي الثاني نبغت طبقة من الكتاب المنشئين لا يشَقُّ لهم غبار إمامهم الجاحظ وضع أسلوبًا في الإنشاء تحدوه فيه؛ وذلك أنه جعل الجملة قطعًا صغيرة كالشعر لكن بدون وزن ولا قافية، أو هو سجع لا تشترط فيه القافية كقوله: «جنبك الله الشبهة، وعصمك من الحيرة، وجعل بينك وبين المعرفة سببًا وبين الصدق نسبًا، وحبب إليك التثبت، وزين في عينك الإنصاف، وأذاقك حلاوة التقوى، وأشعر قلبك عز الحق، وأودع صدرك برد اليقين، وطرد عنك ذل اليأس … إلخ.»

وقد أدخل الدعاء حشوًا معترضًا يوجه إلى المخاطب بصيغة المفرد كقوله:

وليس حفظك الله مضرة سلاطة اللسان عند المنازعة، وسقطات الخطل يوم إطالة الخطية، بأعظم مما يحدث عن العي من اختلال الحجة، وعن الحصر من فوات درك الحاجة، والناس لا يعيرون الخرس، ولا يلومون من استولى على بيانه العجز، وهم يذمون الحصر ويؤنبون العي … إلخ.

وهذا الأسلوب في الإنشاء ينسب إلى الجاحظ، وقد توخاه معاصروه، فنسجوا على منواله كابن قتيبة والمبرد وابن ثوابة وغيرهم، ومن أمثلة ذلك قول حمزة الأصفهاني جامع ديوان أبي نواس، فإنه من أهل العصر الثاني، وأسلوبه كأسلوب الجاحظ — قال في مقدمة الديوان المذكور:

سألتني أبقاك الله وأعلى قدرك وبلغك أقصى أملك، وزادك من أفضل ما خولك، وأحسن ما منحك، ولا أعدمك جميل ما عودك، أن أصرف لك عنايتي إلى عمل مجموع من شعر أبي نواس، يشتمل على كل أشعاره، وجل أخباره، وقد أسعفتك أيدك الله بطلبتك وأجبتك إلى ملتمسك … إلخ.

وهم يرون النزوع إلى هذا التكرار أكثر إبلاغًا للمعنى، وأشد تأثيرًا في النفس حتى رأيناهم ينتقدون ما كان شائعًا من الإيجاز في صدر الإسلام، كقول يزيد لما كتب إلى مروان حين بلغه تلكؤه في بيعته: «أما بعد، فإني أراك تقدم رجلًا وتؤخر أخرى، فاعتمد على أيهما شئت.» قال ابن قتيبة في أدب الكاتب: «إن هذا لو قيل الآن لم يأت بالتأثير المطلوب، والصواب أن يطيل ويكرر ويعيد ويبدئ ويحذر وينذر …»

ولا يؤخذ من ذلك أن تكون أساليب الكتاب في ذلك العصر واحدة من كل وجه، فإن ذلك غير طبيعي، والطبيعي أن يكون لكل كاتب أسلوب يعرف به، ولكن أبناء العصر الواحد تتشابه أساليبهم، ويغلب أن يكون أحدهم مقدامًا يسيرون على خطواته فيقلدونه في أسلوبه كل منهم جهد طاقته، والجاحظ في هذا العصر إمام أهل الأدب وقدوة المنشئين.

(٥) كساد البضاعة وفساد العقيدة

وأصاب صناعة الأدب في هذا العصر كساد كما أصاب الشعر للأسباب التي قدمناها من فساد الدولة، واشتغال الملوك والأمراء عن التنشيط، وانصراف الناس إلى الفلسفة والطبيعيات والمنطق من العلوم الحادثة عندهم، وشيوع الشعوبية واحتقار العرب والطعن على كفاءتهم وعلومهم، فأصبح الأدباء يشكون كساد بضاعة الأدب وفساد عقيدة الناس بالفلسفة وتقاعد الأدباء عن إتقان صناعة الإنشاء.

قال ابن قتيبة في أدب الكاتب: «رأيت كثيرًا من كتاب زماننا كسائر أهله، قد استطابوا الدعة، واستوطئوا مركب العجز، وأعفوا أنفسهم من كد النظر وقلوبهم من تعب الفكر، حين نالوا الدرك بغير سبب، وبلغوا البغية بغير آلة، ولعمري كان ذاك، فأين همة النفس وأين الأنفة من مجانسة البهائم، وأي موقف أخزى لصاحبه من موقف رجل من الكتاب اصطفاه بعض الخلفاء لنفسه، وارتضاه لسره فقرأ عليه يومًا كتابًا — وفي الكتاب «ومطرنا مطرًا أكثر عنه الكلأ.» فقال له الخليفة ممتحنًا: «وما الكلأ؟» فتردد في الجواب وتعثر لسانه ثم قال: «لا أدري.» فقال له: «سل عنه.» ومن مقام آخر في مثل حاله قرأ على بعض الخلفاء كتابًا ذكر فيه «حاضر طي»، فصحَّفه تصحيفًا أضحك منه الحاضرين.»

ذلك ما بعث ابن قتيبة على وضع كتابه المشار إليه، وذكر الشروط اللازمة لطالب هذه الصناعة، ولا سيما سعة الاطلاع في العلوم الإسلامية والأدبية؛ فضلًا عن اللغوية كإقامة الهجاء وتقويم اللسان وضبط الأبنية.

ومن انتقاده فساد عقيدة الأدباء في عصره قوله:

رأيت أكثر أهل زماننا هذا عن سبيل الأدب ناكبين، ومن اسمه متطيرين ولأهله كارهين، أما الناشئ منهم فراغب عن التعليم، والشادي تارك للازدياد، والمتأدب في عنفوان الشباب ناسٍ أو متناسٍ ليدخل في جملة المجدودين ويخرج عن جملة المحدودين، فالعلماء مغمورون وبكثرة الجهل مقموعون، حين خوى نجم الخير وكسدت سوق البر، وبارت بضائع أهله، وصار العلم عارًا على صاحبه، والفضل نقصًا، وأموال الملوك وقفًا على النفوس، والجاه الذي هو زكاة الشرف، يباع بيع الخلق، وآضت المروءات في زخارف النجد وتشييد البنيان، ولذات النفوس في اصطفاق المزاهر، ومعاطاة الندمان، ونبذت الصنائع وجهل قدر المعروف، وماتت الخواطر، وسقطت همم النفوس، وزهد في لسان الصدق وعقد الملكوت، فأبعد غايات كاتبنا في كتابته، أن يكون حسن الخط، قويم الحروف، وأعلى منازل أديبنا أن يقول من الشعر أبياتًا في مدح قينة أو وصف كأس، وأرفع درجات لطيفنا، أن يطالع شيئًا من تقويم الكواكب، وينظر في شيء من القضاء وحدِّ المنطق، ثم يعترض على كتاب الله بالطعن وهو لا يعرف معناه، وعلى حديث رسول الله بالتكذيب وهو لا يدري من نقله … إلخ.

وتكاثر دعاة الإنشاء في ذلك العصر عن غير معرفة، وتوهَّموا أنه يحلو بالإكثار من اللفظ الغريب فأنحى عليهم ابن قتيبة باللائمة، وأتى مثلًا على ذلك بقول يحيى بن يعمر لرجل خاصمته امرأته فقال له: «إن سألتك ثمن شكرها وشبرك أنشأت تطلها وتضهلها.» وكقول عيسى بن عمر ويوسف بن عمر بن هبيرة يضربه بالسياط: «والله إن كانت إلا أثيابًا في أسيفاط قبضها عشاروك.» قال ابن قتيبة: «فهذا وأشباهه كان يستثقل والأدب غض، والزمان زمان، وأهله يتحلون فيه بالفصاحة، ويتنافسون في العلم، ويرونه تلو المقدار في درك ما يطلبون وبلوغ ما يؤمِّلون، فكيف به اليوم مع انقلاب الحال؟»

والمشهور أن عمدة كتب الأدب والإنشاء أدب الكاتب لابن قتيبة والكامل للمبرد والبيان والتبيين للجاحظ والنوادر لأبي علي القالي، ونزيد عليها العقد الفريد لابن عبد ربه والأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، وإذا أريد الإنشاء خاصة فكليلة ودمنة وسائر كتب ابن المقفع، وكلها مطبوع.

ذلك كان شأن الإنشاء في العصر العباسي الثاني وأكثر أدبائه من المنشئين، وسيخطو خطوة أخرى في العصر الآتي.

هوامش

(١) راجع تاريخ التمدن الإسلامي ١٥٢ ج٣ وبعدها.
(٢) الشهرستاني ٤٠ ج١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤