الذكرى

إذا لاحَت في الأفق القريب بشائرُ عيد الفطر خفَّت وطأةُ رمضان على النفوس، وهوَّن الفرحُ الموعود من جفاف شهر الصوم، واهتزت صرامة التقشف في الصدور تحت موجة طربٍ آنَ انطلاقها. هناك تجد ربات البيوت أنفسهن في مكانة الساحر، يتطلَّع إليهن الصغار بأعينهم الحالمة هاتفةً بهن أن يُبدعنَ آيات الكعك اللذيذ، وأن يخلقنَ من العجين كهيئة العرائس والحيوان والطير.

أما جماعة الموظفين الذين تقضي عليهم أشغالُهم بالتغرب في أقاصي القطر، فلا يشغلهم في تلك الأيام مثل إعداد الحقائب والتأهب للسفر إلى بلدانهم؛ حيث يسعدون بالعيد بين أهليهم، وحيث تتحقق للأطفال ولهم أحلامهم.

وكان من هؤلاء الأستاذ يوسف زينهم المدرِّس بمدرسة أسيوط الثانوية وأسرتُه المكونة من زوجة وابنتَيه الصغيرتَين، فما أتى يوم الوقفة حتى كان الأستاذ وأسرته في القاهرة، بل في القاهرة المعزية؛ حيث يقع بيت المرحوم والده في الدرَّاسة قريبًا من مسجد الحسين. وكان البيت من البيوت القديمة، باهتَ الجدران رثَّ الهيئة، يصعد إليه الصاعد على سلَّم ضيق متهدم الدرجات بغير درابزين، حلزوني الشكل كسلَّم المآذن. ويتكوَّن البيت من طابق واحد ذي ثلاث حجرات صغيرة الحجم. ولكنها كانت سفرة سعيدة، ودواعي لذتها متوفرة من التنقل واستقبال العيد ورؤية الأهل والأحباب.

ومهما يكن من أمر البيت من التفاهة والضعة، فما كان يوسف يطأ بقدمه أولَ درجة من سلَّمِه حتى يُرفرف قلبُه في صدره وتمتلئ عيناه بالأحلام وقلبه بالحنين، ويذكر لفوره ذلك الطفل الصغير ذا الجلباب والطاقية الذي كان يقفز على هذا السلَّم صاعدًا هابطًا كل يوم حافي القدمين.

أي ذكرى وأي أيام!

وكان كل مكان فيه يحفظ لقلبه ذكرى تنعش النفس وتشرح الصدر، سواء أكان ما تحمل نوعًا من مسرَّات الصِّبا أو لونًا من متاعبه وهمومه. وكثيرٌ من آلام الصغر التي يضيق بها الأطفال يجدونها إذا كروا إليها في الكِبَر متعة ولذة وتفكهة، فكان لهذا يطوف بحجرات البيت حالمًا متذكرًا كأنما يطوف بضريح وليٍّ من أولياء الله، ثم يستقر مدة إقامته في أعزها عليه وأحبِّها إلى قلبه: في الحجرة التي عاش فيها من عمره اثنين وعشرين عامًا بين عبثِ الطفولة وأحلام الصِّبا وآمال الشباب.

والذي يقيم فيها الآن أخوه سامي، وهو ابن عشر ويختم في هذا العام دراستَه الابتدائية. ويُخيَّل إليه — أي إلى يوسف — كما شاهده أنه يُعيد تمثيل الحياة التي حيِيَها مرة أخرى، وأن الحجرة تشهد للمرة الثانية نفس فصول الرواية، ولعلها بدأت تبسم وتسخر وتسأم .. وكان سامي يتخلَّى عن حجرته سعيدًا مغتبطًا لأخيه الأكبر الذي ينزل من نفسه منزلة الأب، ويتولَّى من بعده جميع أموره ويتعهده بالتربية والمحبة.

وقد لاحظ يوسف أن أخاه غيَّر من نظام الحجرة، وأنه نقل المكتب القديم إلى غير موضعه الأصلي، وكان يحب أن تبقى الحجرة محتفظة بصورتها القديمة، فسأله عن هذا، وأجابه الغلام: إني جعلت المكتب بحيث إذا جلست للمذاكرة جاء نور النافذة من الجهة اليسرى كما أوصانا مدرِّس علم الصحة.

فابتسم يوسف، وقال: «ما أسعدَ حظَّكم يا تلاميذ اليوم؛ فإن لكم من مدرِّسيكم آباء رحماء يودُّون لكم الصحة والعافية ويُشفقون عليكم من الأذى، أمَّا على أيامنا فكان الحال غير الحال والمدرسون غير المدرسين. وإني لأذكر العنت الذي كان يصيبنا — في نفس مدرستك خليل أغا — وما كانوا يلزموننا من حفظ البلدان والثغور والجزر والحاصلات. وكم من مرة مددنا على الأرض وألهبت العِصِي القاسية ظهورَنا وبطون أقدامنا .. تلك أيام خلَت .. أما أيامكم …!»

ثم استلقى الأستاذ على كنبة، واستسلم لتيار التذكر العذب التسلسل، تاركًا زوجَه وأمَّه تتحادثان ما شاء لهما الحديث، وسامي يجالس ميمي وفيفي الصغيرتَين ويلاعبهما.

ولم تنسَ أمُّه أن تأتيَ بمدفأة وتضعها في ركن من الحجرة؛ لأن الشهر كان ديسمبر والجو شديد البرودة يزيد من شدة قساوته الصيام، وكأن السماء أشفقت من البرد فتلفعت بأردية من السحب، أضاء بعضها عن لون أبيض ناصع بهيج، وأظلم البعض عن كُتَل دكناء كالجبال عند الغروب؛ فانكمش جسدُه، وتحفزت روحه للوثوب وحلَّقت على رأسه الأحلام. وسرعان ما كرَّت نفسُه راجعةً عشرين عامًا في خطِّ الزمن غير المتنامي، وذكر عهد هذه الحجرة أيام كانت رفيقةَ صباه وشبابه وشريكة أحلامه وأهوائه، وشاهدة أفراحه وأحزانه، ومستسرة خباياه ومرجع نجواه. ربَّاه! .. إنه ليُدير عينَيه في أنحائها طمعًا أن ينفذ إلى تضاعيف جوِّها الخفي، ويقرأ ما خطَّ من حياته، وما سجل من نوازع قلبه وعقله ووجدانه .. ولقد تأتي عليه أوقاتٌ يغمره تيارُ الحياة وتكتنفه متاعبها فينسى ذكريات الماضي في هموم الحاضر، ويُخيَّل إليه أن ذاك الصبيَّ الذي عاش وفرح وتأمَّل وأمل ويئس شخص غريب عنه لا تربطه به رابطة ألم أو أمل. وقد تأتي عليه ساعات أُخَر يتوب فيها إلى نفسه فينسى حاضره هارعًا إلى الماضي البعيد، وتُقدم إليه حافظتُه الثائرة أزاهرَ الذكريات واحدة فواحدة حتى يُخالَ أنه لم يَعبر الماضي إلا منذ ساعات قلائل، وأنه لم يحيَ إلا به وله.

وها هو ذا الآن تغشاه ساعة من تلك الساعات الحالمة فتُحلِّق روحه في آفاق بعيدة كالذاهل في غيبوبة مغناطيسية، وتتدفق عليه الصور الحالمة في غير ترتيب زماني، فيذكر كيف كان يستيقظ — في نفس الحجرة — منذ الفجر، ويدلف إلى النافذة يشاهد بهاء الفجر المشتمل الكون بثوبِه الأزرق، والنجوم من فيض الحياة بها تكاد أن تتكلم بأحاديث الأزل، ويرى البيوت كالأشباح القائمة، ومئذنة سيدنا الحسين في المكان الأوسط منها كالحارس الحفيظ، ويستمع إلى صياح الديكة المنتشية ببشائر النور وقطر الندى، حتى يشقَّ الفضاءُ صوتَ المؤذن داعيًا «الله أكبر»، فيهبط على القلوب هبوط الصحة والطمأنينة فيملأَها نشوة وبهجة وحنينًا، ثم يصلي الفجر، فإذا انتهى أشعل المصباح وقعد يذاكر ويحل تمرينات الحساب ومسائل الهندسة.

وإنه ليذكر لهذه المناسبة عهد التلمذة الغريب، الذي كان يرسف في أغلاله كالسجين، أو الأسير المعذب، يجهد عبثًا أن يقوم بما يفرضه عليه البرنامج الثقيل المرهق، وتضطرب أعصابه خوفًا ورعبًا من المدرِّسين وعِصِيهم الذين كان يكفي تذكرهم لتجميد الدم في العروق أو قطع الأنفاس في الصدور. ولا عجب فقد كانت القسوة هي السياسة المرسومة لتربية التلاميذ، وكان يظن أنها الطريقة المثلى لخلق الرجال الفضلاء، فكان عهدُ التلمذة عهدَ رعب وإرهاب وعنت. وإنه إذا جاز له الآن أن يُشبِّه المعلم بالفنان يحاول أن يُبدع من مادته أجمل الآيات وأمتعها فلا يستطيع أن يُشبِّه مدرِّسيه القدماء إلا بمحصلي الضرائب الأتراك .. ولكنه بالرغم من هذا لا يذكر ذاك العهد حتى يعلوَه الابتسام ويغمره الفرح، كأن ما فيه من مسرة فهو له وما فيه من ألم فهو لغيره، يراه كما يرى المشاهد الرواية التمثيلية الحزينة فيتمتع بأثرها الجميل.

وفيما هو سابح في بحر أحلامه، انتبه فجأة على يد ابنته الصغرى ميمي وهي تهزُّه، فالتفت إليها متبرمًا، وصاح بها منتهرًا: «إيه يا بنت؟»

وهي تشير إلى حائط الحجرة.

فسألته بصوتها الرفيع المتقطع: «هل حقًّا أنت الذي رسمت هذه الصورة يا بابا؟»

وتتبع ناظرُه إصبعَها إلى هدفها من الحائط في المكان الذي كان يشغله المكتب قبل أن ينقله سامي، فرأى صورة طفلة صغيرة في نصف الحجم الطبيعي سرعان ما تذكَّرها عقله وقلبه، وذكر بعض الظروف التي دفعَته إلى رسمها منذ عشرات السنين .. وتعجَّب كيف شاءت المصادفةُ أن تُنبِّه ابنتَه إليها ساعة تهيم روحه في سموات عهدها الحلو المنطوي، فكأنما سخَّرت الصورةَ للطفلة الصغيرة لتذكير أبيها الغافل.

قال سامي: لا شك أنك أنت يا أخي يوسف الذي رسمتها؛ فأنت صاحب الحجرة القديم، وأنت الذي تستطيع أن تُجيد الرسم.

وقالت ميمي مرة أخرى: بابا .. اشترِ لي عروسة مثلها.

ودلف يوسف إلى قريب من الصورة، وتأمَّلها بعين لو رأت زوجُه نظرتَها المشوقة لسألت باهتمام عن الصورة وتاريخ رسمها، وأجرَت في ذاك تحقيقًا عسيرًا، وكان ما يبقى منها ظلٌّ خفيف طمست منه بعض معالم الوجه، ولكن بقيَ منها محافِظًا على وضوحه مفرق الشعر الغزير المرسل في عبث فتان، وما يبين عن جمال الأنف الصغير الدقيق. فالشكر لله أنه كان يجيد الرسم منذ الصغر، وإلى جانب الصورة كانت مكتوبة هذه الأبيات:

أَفِقْ قد أفاق العاشقون وفارقوا الـ
ـهـوى واستمرت بالرجال المرائر
دَعِ النفس واستبقِ الحياة فإنما
تُباعد أو تُدني الرباب المقادر
أَمِت حبَّها واجعل قديم وصالها
وعشرتها مثل التي لا تعاشر
وهَبْها كشيء لم يكن أو كنازح
به الدار أو مَن غيَّبَته المقابر

إن للصورة والشعر قصة قديمة كانت حياةَ قلب ناشئ اصطرع من جرأتها فيه الأمل والألم، وتيقظت بسببها عواطفُ شتى وغرائز نائمة، وإن عفت آثار تلك الحياة من قلبه الآن كأنما فاضت من غير منبعه واصطخبَت في غير ميدانه. وإنه لمن المؤلم المضحك أن يكون الحائط الحجري أحفظ للودِّ وأرعى للذكريات الجميلة من قلب الإنسان العاقل .. وإن تلك الصورة وهذه الأبيات الشعرية لتُذكِّره بأجمل ما وهبت حياته المنطوية، بل أجمل ما تهب الحياة لبنيها، تُذكِّره بوهم الحب الطاهر، الحب الذي يفيض من قلب طاهر لم تَعرُكْه التجارب، ويُخبئ أغراضه المرسومة منذ الأزل خلفَ وجهِ ملاكٍ سامٍ، ويُخفي أنات الأرض وراء لحن سماوي ساحر، ويُغشي على الطين ستارًا كثيفًا من السحاب الأبيض الجميل.

نعم، لا يكاد يذكر التفاصيل، ولا يحضره الترتيب الزماني، ولكن تندلع في قلبه ألسنةٌ من اللهب بين الحين والحين؛ فيكشف نورها المتقطع عن صور عزيزة فاتنة من الماضي.

•••

كان المرحوم والده طاهي الوجيه سليم بك عامر — من سراة القاهرة وأعيانها المبرزين — وكان يوسف يتردد عليه أحيانًا كثيرة، ولا يزال يذكر القصر العامر بحديقته الغنَّاء وجدرانه الشاهقة وأبوابه العالية ونوافذه ذات الستائر المختلفة الألوان، كما يذكر البناء الصغير المنعزل في ركن من الحديقة ذات المدخنة الطويلة؛ حيث كان يباشر أبوه عمله. وكان إذا زار أباه يجلس في ركن المطبخ يشاهد عملية الطهي الغريبة، وفن تحويل الخضروات والطماطم والطيور إلى أصناف شهية بهيجة اللون لذيذة الطعم، ويلتهم ما يعطيه من اللحم والحلوى، ويسمع في دهشة الخدم وهم ينادون أباه بقولهم: «يا عم زينهم.» وما كان يظن أن شخصًا كوالده العظيم الذي يمتلئ قلبُه رهبةً منه، والذي تقف له أمُّه وإخوته كلما جاء أو ذهب يمكن أن يُنادَى بمثل هذا النداء الذي يُخاطَب به باعة الفول السوداني «وغزل البنات» .. ولكنه ما لبث أن اعتادَته مسامعه وألِفته نفسه، وطفق يدرك شيئًا فشيئًا مكانة والده من القصر العظيم، وتبين البون الشاسع الذي يفصل بين واحد مثله وبين أهل ذاك القصر الذين لا يدري على أي وجه من الحياة يعيشون خلف تلك الجدران الهائلة.

وهو لا يكاد يذكر تاريخ أول لقاء على وجه التحديد، ولكنه يرجح أنه وقع لأول عهده بزيارة قصر سليم بك، وهو في الثانية عشرة من عمره. وكان مطمئنًا إلى مكانه المختار من المطبخ وفي يده قطعة «البقلاوة»، وعلى حين فجأة دخلت إلى المكان طفلة في مثل عمره لم يرَ مثلها من قبل، كانت مستديرة الوجه، مليحة القسمات، خمرية اللون، رشيقة القامة، ينتثر شعرها الأسود الحالك خصلات على كتفَيها ويلتقي وسط الرأس في «فيونكة» حمراء، ثم تنزل منه شعرات رفيعة مستقيمة على الجبين كرذاذ النافورة، وترتدي فستانًا أبيض شفافًا ذا منطقة حمراء يكشف عن ركبتَيها الصغيرتين، فأثاره منظرها، وجمدت عيناه عليها في إعجاب ورهبة بعد أن أخفت يده بحركة غريزية قطعة «البقلاوة»، وانتبه أبوه إليها فانحنى باحترام وهو يقول مبتسمًا: أهلًا وسهلًا بسوسن هانم.

ولاحظ الرجل أنها تنظر إلى ابنه نظرة غريبة، فقال يقدمه إليها: هذا خادمكِ يوسف .. ابني.

فدارت عيناها الجميلتان بينه وبين أبيه في صمت وسكون، ثم ولت مسرعة في خفة أخَّاذة، وأسرع يوسف وراءها زحفًا على يدَيه وقدمَيه كالضفدع، فلما بلغ باب المطبخ أرسل بناظرَيه خلفها يشاهدها وهي تجري في الحديقة حتى أخفتها عن عينَيه طرقاتها الملتوية. إنه يذكر هذا المنظر على توغله في الماضي كأنما لمس حواسه بالأمس القريب، ولا ينسى كيف أنه أيقظ نفسه وقلبه وخياله وبدَّل موتها حياة حارة وركودها ثورة هائجة. فما إن رجع إلى البيت ورقد — ربما حيث يرقد الآن — استحضر صورتها وخلا إليها واستغرق في حُسْنها وبهائها .. أي حسن وأي بهاء! .. ربَّاه! .. هل تحوي الدنيا مثل هذه الفتنة وهذه النظافة؟ .. لقد عاشر من جنسها كثيرات، منهن أمه وأربع أخوات — تفرقنَ الآن في بيوت أزواجهن — شتان ما بينها وبينهن، إنهن من طين وهي نور، وما كان يظن أن لها لحمًا ودمًا كلحمهن ودمهن، أو أن يكون بداخلها معدة وأمعاء كبقية الإنس، فنزهها عن هذا وعن غيره، ونزلت من نفسه منزلة الملائكة في نفوس العابدين.

وكان يوسف رقيق العواطف متوثب الخيال دقيق الحس كجميع هواة الرسم والفنون، وكانت غريزته لا تزال راقدة في سُباتها الذي فطرها الله عليها، فدبَّت فيها الحياة بعد أن نفخت فيها صورة سوسن من روحها العذب، وغاب عنه حينذاك أنه يمثِّل فصلًا من رواية تكررت مشاهدها آلاف السنين، وأنه يقع في الأحبولة المنصوبة منذ الأزل لبني الإنسان، فظن أنه يكشف عالمًا روحيًّا جديدًا يطير إليه على جناحَي الحب. إنه ليذكر هذا الآن فيتعجب لهذا الحب الغريب، الحب الذي هو فلسفة الشباب الشاملة، والذي يتسامى إلى معارج التصوف والتجلِّي، وينحط إلى مهاوي القسوة والأنانية والقذارة، وتكمن خلف جميع أوجهه تلك الغريزة التي هي أمضى سلاح في يد الحياة .. واقتطفت ذاكرته صورة أخرى من الماضي الجميل لا يُحسن معرفة موقعها من حوادث تلك الأيام، ولكنه يذكر جيدًا أنه بعد اللقاء الأول غيَّر مجلسه من المطبخ إلى مكان قريب من الباب، بحيث يستطيع أن يشاهد منه الحديقة طمعًا أن يرى العروسة الصغيرة التي استبدت بأحلامه وأمانيه، وأنه كان يراها في صحبة أخوَين لها في مثل عمرها يركبون الدراجة أو يلعبون «بالبلي»، أو يستبقون في ممرات الحديقة الرملية!

ففي جولة من جولاتهم عثروا به، فلفت منظره الغريب أنظارهم وتساءل عنه الصغيران، فأجابتهما سوسن بأنه «ابن عم زينهم» فدنوا منه، وأنعموا فيه النظر: في جلبابه الباهت، وطاقيته السوداء، وقبقابه الصغير، فجفل قلبه وهمَّ أن يولِّيَ فرارًا لولا أن صاحَت به سوسن بصوتها العذب: لا تخف .. ولتبقَ حيث أنت؛ فلن يؤذيَك أحد.

وسأله أحد الصبيَّين: وقد نسيَ اسمَيهما: هل أنت ابن عم زينهم؟

فأحنى يوسف رأسه أن: نعم. فسأله الثاني وعلى فمه ابتسامة: هل أنت تلميذ؟

فأحنى رأسه مرة أخرى أنْ نعم، مما أثار دهشة بين الثلاثة، فسأله الأول: وما مدرستك؟

– خليل أغا.

– في سنة إيه؟

– في السنة الرابعة.

ثم سكت يوسف لحظة يغالب رغبة في الحديث حتى غلبته، فسأل الأخوين قائلًا: وما مدرستكما؟

– الناصرية.

– ولِمَ لم تدخلَا خليل أغا وهي قريبة من البيت؟

فبدَت في عينَي الشقيقين نظرةُ إنكار وقال أكبرهما: الناصرية مدرسة الأغنياء.

وقال الآخر وكان أشد صلفًا: أما خليل أغا فهي مدرسة الفقراء.

وقالت سوسن: ماذا يهمُّ بُعد المدرسة إذا كانَا يذهبان إليها في السيارة!

فردَّد يوسف عينَيه بينهما، وقد غُلب على أمره، واستخذَى خجلًا ومهانةً، وكرهت نفسُه الهزيمة؛ فقال بدون داعٍ ولا مناسبة وبصوت يدل على التحدي: أنا أول فرقتي .. وأُجيد الرسم إجادة فائقة .. إليَّ بورقة وقلم!

فنظر إليه الأخ الأكبر بعين الهزء، وأخرج من جيب بنطلونه ورقة وقلمًا، وقال له: إليك ما تريد.

وزاد اهتمام سوسن؛ فاقتربت خطوة منه، وقالت: إن كنت شاطرًا حقًّا فارسم كلبًا.

فبسط الصبي الورقة أمامه بثقة واطمئنان، وجرت يده بالقلم في ثبات وخفة ومهارة، فصورت كلبًا لا بأس به. ولما انتهى منه نظر إليهم نظرة فوز وظفر، ونظر إليه الأخوان باحتقار وغيظ، أما سوسن فقالت وعلى فمها ابتسامة رقيقة: الكلب موضوع سهل .. إن كنت شاطرًا حقًّا فارسم إوزة.

ولكنه لم يقهر أيضًا، وذاق لذة الفوز مرة أخرى، فقال الأخ الأصغر: الرسم مادة تافهة.

– ولكني الأول في جميع العلوم.

– وهذا أمر تافه.

فقال يوسف بحدة: إذن فما المهم؟

فوضع الصبي الآخر يدَيه في جيبَي البنطلون، وقال وهو ينظر إليه من علٍ: المهم أن تكون ابن بك .. وأن يكون لك مثل هذا القصر.

هذا ما يذكره من تلك المنافرة الصبيانية، ويذكر فوق هذا أنه عاد إلى بيته ذاك اليوم ينتفض من الغضب والحقد ويمتلئ كراهيةً للصبيَّين. أما سوسن فلم يكره منها قولًا أو فعلًا؛ إذ كانت حبيبة عزيزة جميلة، وكان حبيبًا عزيزًا جميلًا كلَّله الحب بتاجه.

وكان مستعدًّا في أعماقه أن يكره منذ صغره إن وجد منها كرهًا له أو احتقارًا، ولا يحب الشر ويعظمه إن آنس منها له حبًّا وتعظيمًا؛ إذ كانت تتبوأ من نفسه مكانة المثل الأعلى في كل شيء، فالخير خير بالإضافة إلى أفعالها، والجميل جميل على قدر مشابهته لصورتها.

إنه يَذكر تلك اللوثة الهيامية كالمستفيق الذي يتذكَّر فعاله حين السكر الشديد. ولم يتصل الحديث بينه وبين الأخوين بعد تلك المعركة الكلامية، ولم يرَهما إلا قليلًا، وكانَا إذا مرَّا به مرَّا مقتحمَين كأنهما لا يريانِه، أما سوسن فكان يراها كثيرًا .. ولم تكن متكبرة قاسية كأخوَيها فكانت إذا التقَت عيناها بعينَيه ابتسمت إليه أو بادلته كلمة تافهة كانت لديه ألذ من الصحة والعافية.

وكان مرة جالسًا القرفصاء، وكانت تلعب في الحديقة على بُعدٍ قريب منه، قافزة على حبل تُديره خادمتان من طرفَيه، فلبث يراقبها بعينَين مشتاقتَين، وبعد قفزاتها على دقات قلبه الولهان. وحدث أن ذهبت إحدى الخادمتين لبعض الشئون، فنادَته أن يحلَّ محلَّ الخادمة، ولبَّى مُسرعًا سعيدًا مغتبطًا ظافرًا، وودَّ من قلبه لو لم تنتهِ تلك الساعة السعيدة أبدًا، ولكن الصغيرة تعبت فتوقفت تستريح، وخشيَ يوسف أن تنتهيَ سعادته ويعود إلى مكانه، وكان شديد الرغبة في أن يحادثها، وأن يستمع إلى صوتها العذب الذي يفعل به فعل التعويذة بالمسحور فسألها: هل تذهبين إلى المدرسة؟

وكان يخشى ألَّا تتنازل وترد عليه، ولكنه سمعها تقول: نعم.

– أي مدرسة؟

– لامير دي دييه.

– إنه اسم غريب.

فافترَّ ثغرُها عن ابتسامة ظريفة يرى وميضها الآن منيرًا في ظلام السنين المنطوية، وقالت: إنها مدرسة فرنسية.

– ألَا تتعلمين اللغة العربية؟

فضربت بقدمَيها الأرض، وقالت: بلى .. يُدرِّسُها لنا شيخ .. هي ثقيلة كريهة .. هل تحبها أنت؟

– إني أذاكرها برغم صعوبتها، وأحفظ النحو حفظًا جيدًا .. وأحبُّ الشعر .. لماذا تكرهينها؟

هي ثقيلة جدًّا، وقلما تستطيع ذاكرتي أن تحفظ شيئًا من قواعدها، ومُدرِّسها رجل ثقيل الدم يضع على رأسه عمامة مضحكة.

فاضطرب وصعد الدم إلى وجهه، وذكر طاقيته السوداء، وما عسى أن تقول عنها، ثم قال: كثيرون يؤثرون العمامة على غيرها.

– هي في نظري على كل حال مضحكة .. ثم إن هذا الشيخ قذر .. لمحتُ مرة يدَه فرأيت أظافره سوداء كالطين.

وهنا قبض يدَيه، وودَّ لو يخفيهما.

ومن ذاك اليوم كان إذا نوى الذهاب إلى القصر قص أظافره، وخلع طاقيته، ولبس الحذاء بدلًا من القبقاب. ومضَت الأيام وهو على تلك الحال، يرنو بالنظر، ويسعد بالحديث الذي لا يمس الهوى، ويعاني حبًّا مكتومًا ينمو يومًا بعد يوم، وكانت سوسن تستأثر بحياته جميعًا، الظاهرة والباطنة، اليقظة والغافلة، فكانت مثار أحلامه حين العمل وحين اللعب، ولدى اللقاء ولدى الغياب، وأوقات الفرح وأوقات الحزن، وعند الصحة وعند المرض، وكانت آخر فكر مودع عند النوم، وأول خاطر مُرحب عند الاستيقاظ. وكان حبُّه طاهرًا ساميًا ارتفع به من العالم الصاخب إلى حيث يطَّلع على العالمين كما تطَّلع الآلهة على المخلوقات، إلا أنه لم يخلُ من الألم واليأس، بل الحقيقة أن الألم واليأس كانَا من مقوماته الأولية؛ لأنه لم يغفل لحظة عما يُفرق بين طبقتَيهما، ولم ينسَ الحقيقة المُرة التي جعلت أباه يقدمه لسوسن، فيقول: «هذا خادمكِ يوسف» فهو خادمها ما في ذلك من شك، وهو وأهله من المحسوبين عليها والعائشين على فُتات مائدتها.

حقًّا إن الحب من دوافع النشاط والاجتهاد والتطلُّع إلى المجد، ولكنه شك في قدرة الحب على خلق معجزة عظيمة، مثل ربط آنسة جميلة كسوسن بابن خادمها البائس يوسف ابن زينهم.

كانت تلك الأفكار السوداء تعصر قلبه عصرًا، وتسكب السمَّ في دمه والمرارة في ريقه، وبلغ به الحزن أنه كان يرمق أباه أحيانًا بنظرات الغضب والسخط؛ لأنه كان القضاء الذي حكم عليه بالضعة، وأنزله حيث هو من الذل والهوان.

ولكن كانت تمسُّه السعادة في لحظات أخرى، فيسأل نفسه: لِمَ ترضى بالحديث معي؟ لِمَ تداعبني وتسألني؟ لماذا لا تتعالى عن مصاحبتي؟ لماذا تبسم في وجهي تلك الابتسامة المشرقة التي تقتل اليأس وتهلك الأحزان؟ أليست هي على كل حال إنسانة قبل أن تكون سوسن ربيبة المجد والشرف، أليست تخضع لسُنن الحياة المستبدة الغامضة التي لا تُميِّز بين كبير وصغير؟

ويغريه بالأمل أنه الصبي الوحيد الغريب الذي تراه مرات في الأسبوع، وأنه وسيم الطلعة جميل القسمات على رغم فقره وضعته.

ولكن هذه اللحظات السريعة كانت تمر به مرور النشوة بالسكران، وتتركه سريعًا إلى الحقائق المحزنة. وهكذا فأغلب ما يذكر عن تلك الفترة كان خليطًا من الهيام والتسامي والألم واليأس ولحظات قصيرة من السعادة والطمأنينة، وإلى جانب هذه تبرز له من غياهب الماضي واقعة مسلية يذكرها بتفاصيلها جميعًا. وكان في السنة الأولى أو الثانية من المدارس الثانوية، ويبلغ الخامسة عشرة من عمره على وجه التقريب، وكان ينتظر مقدمها في مكانه المعهود إذ جاءته وعلى فمها الابتسامة الملائكية وفي يدها كراسة تقبضها وتبسطها في ارتباك ظاهر، فأقبل نحوها منتشيًا بالفرح والبهجة وكأنه أراد أن يخلق أسبابًا للحديث فسألها: ما هذه الكراسة؟

– كراسة العربي.

– دائمًا العربي .. العربي.

فتنهدت، وقالت: أعوذ بالله من هذه اللغة .. أتَعْلم أنه لا يكدرني في الدنيا شيء إلا همَّ حفظها .. فلا الفرنسي ولا الحساب ولا التاريخ بالعلوم التي تعجزني، فجميعها كوم والعربي كوم.

ثم فتحت الكراسة وأنشأت تُقلِّب في صفحاتها، وهي تقول: أملَى علينا الشيخ سؤالًا صعبًا.

– ما هو؟

فكان جوابها أن طلبت إليه أن يتبعها إلى أريكة في بعض منحنيات الحديقة، ثم جلسَا جنبًا إلى جنب لأول مرة، وقرأت السؤال قائلة: اشرح ما يأتي وأعرب ما تحته خط:

أشوقًا ولمَّا يمضِ لي غيرُ ليلةٍ
فكيف إذا خبَّ المطيُّ بنا عشرًا

وظن يوسف أن السؤال غاية في السهولة، وأن في استطاعته أن يجيب عليه في غمضة عين، فقال: إنه سؤال بسيط، وهذا البيت موجود بنصه في كتاب قواعد اللغة.

فهزَّت كتفَيها استهانة، وقالت: لا علم لي بكتاب قواعد لغتك هذا .. أما ما يهمني فهو أن تُملي على مهل الإعراب والشرح.

ثم استعدت للكتابة .. فاعتدل في جلسته وقطَّب جبينه استحضارًا لفكره الشارد، ثم أنشأ يقول: لما حرف جزم .. ويمضِ فعل مضارع مجزوم بلمَّا وعلامة جزمه حذف آخره.

ثم سكت لحظة يختار ديباجة الشرح، ثم استطرد: أشوقًا، ولما يمض لي غير ليلة .. يقول الشاعر: أأشتاق ولم يمضِ لي غير ليلةٍ على الفراق …

واضطر إلى قطع الشرح؛ لأنه اكتشف فجأة أنه يجهل معنى خب والمطي، فنادى ذاكرته ولكنها لم تُسعفه، فاضطرب وارتبك واشتد به الخجل، وكاد الدم يتفجر من خدَّيه، ولحظت سوسن صمتَه واضطرابه فسألته، وقد قلَّ صبرها: والشطر الثاني؟

فاشتدَّ به الاضطراب والارتباك والخجل، وأشفق من أن يفقد مفخرته الوحيدة في الدنيا، وهي ما يزعم من التفوق على الأقران، فآثر الكذب والتحايل على التسليم بالجهل، فقال: خب بمعنى طال .. والمطي هو الفراق .. معنى الشطر كله: كيف إذا طال الفراق عشر ليالٍ لا ليلة واحدة؟

وأغلقت سوسن الكراسة في ارتياح وطمأنينة، ونظرت إليه ممتنة شاكرة، فأغضى أمام نظراتها الساحرة خجلًا وخزيًا، متألم الضمير من تضليله لها وعبثه بثقتها به، وذكر في رعب مفاجأتها المتوقعة أمام الشيخ حين يشطب بقلمه الأحمر على شرح الشطر الثاني .. فما عسى أن يكون رأيها فيه أو شعورها نحوه؟

وكاد يغرق في أفكاره، لولا أن سمعها تقول بصوت هادئ عذب:

أأشتاق ولم يمضِ لي غير ليلةٍ
فكيف إذا طال الفراق عشرَا

ثم ضحكت وسألته: لمَن قيل هذا البيت؟

وكان قد سرَّى عنه الهمَّ سماعُ صوتها وضحكتها، وقال: الذي يفهم أن الشاعر يخاطب حبيبته.

وكانت هذه أول مرة يجري بينهما فيها ذكرٌ لإحدى اشتقاقات الحب، فنظر إليها مرتبكًا وهالَه أن يرى حمرةً في خدَّيها وارتباكًا في عينَيها .. لِمَ؟ .. لِمَ؟

وكانت الابتسامة لا تزال متعلقة بشفتَيها الجميلتَين المفترتين عن درٍّ نضيد، وخُصلات شعرها مبعثرة على الجبين والخدَّين كلما هبَّ النسيم حملها من حُسن إلى حُسن، فنسيَ الوجود، وما عاد يرى الأشجار والأزهار ولا يحس بهبَّات النسيم ولا يشعر بهمومه وتأنيب ضميره، وما عاد يذكر مَن هو، ولا مَن هي، واستقر وجدانه في هالة من النور تشعُّ من وجهها الجميل، فأنعم فيها نظرًا وهيامًا.

ولم تقوَ على نظراته فأسبلَت جفونها وتدفَّق الدم إلى خدَّيها كأن تلك الكلمة الساحرة التي أفلتَت من لسانه عن غير قصد أروَتها فأنبتت هاتين الوردتَين، فلجَّ بها الهيام، واستثاره ما تدل عليه هيئتها من الاستسلام، فمال بهامته حتى مسَّ جبينُه خصلةً من شعرها وأسكره أريجُ أنفاسها .. وتردَّد لحظة .. ثم لَثِم فاهًا .. وعلى حين فجأة انتفضت الصبية في جلستها كمَن يستيقظ على ضربة في أُمِّ رأسه، وقد اتسعت عيناها، وصرخت فيهما الدهشة والذعر، ثم انتصبت واقفة وفرت هاربة.

رباه .. ما الذي أفزعها .. ولماذا فرت على تلك الحال؟ وما عسى أن تفعل بعد ذلك؟

وامتلأ قلبُه رعبًا، فقام من فوره واندفع جاريًا في اضطراب شديد إلى باب القصر، ثم ترك قدمَيه للريح، لا يلوي على شيء حتى انتهى إلى حجرته.

هل يمكن أن تشكوَه سوسن إلى أبيها؟ كم كان أعمى مجنونًا! كيف آتَته الجرأة! يا ويحه فقد خُدع فظن عطفها محبة وعبثه ودًّا، وإذا فضحته عند أبيها فماذا يكون مصيره؟ بل ماذا يكون مصير والده نفسه؟ ولكن رجع أبوه إلى البيت كعادته، ومرت أيام دون أن يُوجَّه إليه أي تهمة أو يتعرض للفصل من عمله، فهدأت نفس يوسف، وعاودته العواطف التي غاصت في قلبه لحظات خوفًا وذعرًا، ونازعه الشوق إلى الوجه الجميل وصاحبته، ورأى أن ما يمكن أن يصيبه من ذهابه لن يعدل ما هو فيه من ألم الشوق مهما ساء وغلا. فحمل نفسه إلى القصر بعد احتجابه تلك الأيام وانتظر ونفسه حيرى، وجاءته الصبية تسعى، ولما وقع نظرُها عليه بدَا على مخايلها الغضب فتقدمت منه خطوات، ووقفت متحدية، فأغضى أمام نظراتها خجلًا وألمًا، وانتظر في يأس الكلمة القاضية، واشتد عليه الحال، فقال بصوت تمزقه نبرات الألم: كانت غلطة شنيعة .. هل أنتِ غاضبة؟

فأجابته بلهجة حادة: «طبعًا .. ماذا كنت تنتظر؟»

– اعفي عني.

– لن أعفوَ.

وهنا رفع رأسه بحركة سريعة، وقد تبدَّل وجهه من حال إلى حال، لأنه خُيِّل إليه أنها فاهت بالعبارة الأخيرة بلهجة رقيقة وهي تغالب ضحكة، فلما وقع عليها وجدها تبسم إليه بثغر فتَّان غفور رحيم!

وهمَّ أن يتقدم منها خطوة؛ ففرت منه هاربة!

كانت تلك الأيام أسعد أيام حياته على الإطلاق، لا يذكر أنه سعد سعادتها من قبل ولا من بعد رغم تنوع الظروف واطراد التجارب، وبعد تلك القُبلة وذاك الرضا لم تَعُد تقابله في علانية وسذاجة، بل اقتصر التبادل الروحي بينهما على النظرات والهمسات أو اللقاء المختلس تحت الخمائل أو خلف جماعات الشجر، وستر عليهما تعارفهما ترامي أطراف الحديقة وعدم إمكان تسرُّب الشك إلى قلب مَن يراهما معًا، فعاشَا زمنًا سعيدًا في غفلة من الناس والدهر حتى وقع ما قضى عليه بالخروج من جنته مقهورًا مغلوبًا على أمره: كانَا جالسَين على الأريكة التي قبَّلها عليها لأول مرة، وقد انساق الحديث إلى المستقبل، قال يوسف: هل يمكن أن تنسيني فيما يقبل من الأيام؟

فنظرت إليه نظرة إنكار، وقالت: أنا؟! .. مستحيل!

– ولكني أخشى أن يُبدِّد أهلُكَ أحلامَنا .. فتنهار آمالي وأفقد سعادتي.

فردت عليه وقد كشرت عن أنفة وكبرياء: أبدًا .. لن أسمح بهذا ما حييت.

فصمت يوسف لحظة يُمتع نفسه بحماسها الفاتن، لكن لم يَطُل به الصمت السعيد؛ لأنه تذكَّر العقبات الأوابد التي تسد عليه الطريق، فتنهد، وقال كأنما يُحدث نفسه: تُرى هل أبلغ أمنيتي يومًا فأتزوج منك؟

وكانت تلك المرة الأولى التي ينطق فيها بتلك الكلمة الخطيرة، ولذا أنكرَتها أُذُنُه وخُيل إليه أن قائلها غريب عنه، أما سوسن فقد ارتجفت شفتاها عن اضطراب، وتدفَّق الدم إلى وجهها فصار كالجمان .. ولم يكن يطمع أن تجيبه بأكثر من هذا .. وبعد هنيهة ذهبت في التفكير والأحلام فسألته: «أي مستقبل تبتغي؟»

فأجاب: «أنا ما زلت في مستهل الطريق ومبتدأ العمر .. وكلُّ صعبٍ يسيرٌ مع الجهد والعزيمة الصادقة، فعليكِ الاختيار وعليَّ الاجتهاد.»

ففكرَت لحظة تختار لزوج المستقبل ما تحب من المهن والأعمال، ثم قالت: ألَا تستطيع أن تكون من الأعيان؟ إنني أسمعهم دائمًا يقولون عن بابا إنه من الأعيان، فلِمَ لا تكون مثله؟

– من الأعيان؟! .. ولكنها ليست وظيفة ولا مهنة .. الوظائف التي أعني مثل المهندس والمدرس والضابط والطبيب …

وعادت مرة أخرى إلى التفكير والمفاضلة، وكانت عيناه لا تفارقان وجهها، فرآه تضيق عيناه وتنفرج شفتاه من الذهاب مع التفكير، ففتنه منظرُه وأنساه نفسه كما فعل به في المرة الأولى، فاقترب منها وهوى برأسه يريد أن ينال منها قُبلة .. ولكنه أحس بغتة .. نعم بغتة، بشيء يصيب رأسه وسمع صوتًا يصرخ به: أتجرؤ يا كلب؟! .. والتفت مذعورًا فرأى أخا الآنسة الأصغر ينهال عليه لكمًا وضربًا. وأراد دفع السوء عن نفسه فأمسك بتلابيبه، فضاعف غضب الأخ وضاعف له الضرب .. ووقفَت على بعد قريب سوسن تشاهد ما يقع بعينين محملقتين ووجه شاحب كوجوه المرضى. ولا يدري كيف نمى الخبر إلى أبيه فجاء يجري مضطربًا وأمسك بيوسف بعيدًا عن الصبي الآخر، وسأله بصوت ملْؤه الاحترام: «لماذا تجد عليه يا سيدي؟ ماذا فعل؟» فأجابه بصوت عالٍ مغيظ: «رأيته يحاول أن يغتصب … قُبلة من سوسن بالقوة!» فصرخ الرجل: «يا للفظاعة! .. هل حقًّا يا سيدتي؟» وكانت سوسن لا تزال ملازمة لحالة المباغتة التي استولت عليها .. فلما سمعت سؤال الرجل اضطربت ثانية .. ثم بلعت ريقها، وقالت بصوت خافت: «نعم.» وفرت هاربة من الواقفين ومن عينَي يوسف خاصةً.

بعد هذا شد الرجل على يد ابنه وساقه أمامه .. وقد هَمَّ يوسف أن يتكلم فما أحس إلا بيد أبيه تصيب مؤخرة رأسه فيقع على وجهه بين الإعياء الشديد والإغماء .. وهكذا كان ختام حديث الحب والمستقبل .. وهكذا كانت نهاية مغامرته في قصر سليم بك عامر.

لقد بدَا له تصرفها أول الأمر غدرًا وخيانة. ولكنه لم يلبث أن انتحل لها الأعذار .. وما كان الغضب ولا الموجدة ولا الاعتقاد في غدرها بمستطيعة أن تزحزح الحب عن قلبه قيد أنملة، فانزوى في حجرته يعاني الحرمان والألم واليأس المميت شهرًا بعد شهر وعامًا بعد عام، حقًّا لقد كان حبًّا عجيبًا رهيبًا .. وأنه لن ينسى ما عاش تلك الأعوام التي شهدت أيامها وساعاتها ودقائقها معاناته الألم الشديد واليأس والحب الخائب، وفي بعض ساعات اليأس والشوق رسم صورتها على حائط حجرته التي شهدت آلامه جميعها وكتب إلى جانبها تلك الأبيات الشعرية، وجعل يرددها كل حين علَّه ينسى ويتعزَّى.

وما كان يستطيع أن يتصور أنه ينسى.

ولكن للأيام أحكامها وقد تسرَّب النسيان إلى طيات قلبه نقطة نقطة حتى برئ وشفيَ وعفا من قلبه الهوى. ثم تقدم به العمر ووُظِّف ثم تزوج وخلف وضاق بالحب.

وكم سخر من حياته ومن دنياه! .. إلا ذكرى واحدة إذا زارته انبسطت أساريرُ وجهه ولاحَت في عينيه الأحلام .. وبعد فحسبه أن تذكر .. لأن التذكر للقلب كالحفر في باطن الأرض يفجر الماء فياضًا غزيرًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤