الفصل الخامس

الكاتبة

أما انتقاد رسائلها من جهة صناعة الكتابة فحسبي أن أقرر من غير محاباة أنها أكتَب سيدة قرأنا كتاباتها في عصرنا الحاضر، بل هي تعطينا في كتاباتها صورة الكاتبات الغربيات اللاتي تفوقن على كثير من الكتَّاب.١
أحمد لطفي السيد بك
إني رأيت في كتابة هذه السيدة حدَّة في بعض الموضوعات؛ وكأنها معذورة في حدَّتها لامتلاك الموضوع نفسها وحواسها فكتبت فيه وهي ممتلئة حنقًا.٢
الشيخ عبد الكريم سلمان
إنها أعادت لنا ذلك العصر الذهبي الذي كانت فيه ذوات العصائب يناضلن أرباب العمائم في ميدانَي الكتابة والخطابة.٣
أحمد زكي باشا
لله درُّكِ أن نثرتِ
ودرُّ حفني٤ إنْ نثر٥
حافظ إبراهيم بك

وما حاجتي إلى الكلام عنها كاتبةً؟! إننا لو ضربنا صفحًا عن شهادة من شهد لها بالمقدرة الكتابية مكتفين بما ورد من أقوالها في الفصول الماضية، لأثبتنا على الورق ما قد سبق وقرره حكمنا الصامت، وهو أنها كاتبة كبيرة. يطلق الناس عادة اسم «الكاتب الكبير» على من كتب كثيرًا، وهم في ذلك مخطئون؛ إن من حملة الأقلام من له مؤلفات عديدة وهو ليس بالكاتب الكبير حتى ولا بالصغير، لأنه ليس كاتبا على الإطلاق. إنه ينقصه ما يسميه الإفرنج «قماش الكاتب» أي السر الذي يقود الفكر إلى اختيار الألفاظ الصائبة، ويعلِّم اليد صياغة الجملة الملائمة، وينقصه خصوصًا ذلك اللهيب الخفي الذي ينشر بين السطور أشباح النور والظلام.

ما هي الكلمة؟

والكلمة التي تعيِّن الحركة والإشارة والصوت واللون والانفعال، الكلمة التي تعني أمرًا دون آخر وتوقظ عاطفة دون غيرها، ما هي وما هو سر انتخابها؟ الأبجدية لجميع البشر، والناس لا يتفاهمون عادة إلا بالكلام، فما هي تلك القدرة المعطاة للبعض ليرسموا بالحروف الوجوه ونوع استدارتها، والشفاه وحدود ثناياها، والآفاق واتساعها اللانهائي، والليل وعمقه وكواكبه والنفس وعجائب خفاياها؟ كيف تنبض في الألفاظ المجردة الجامدة حياة سريعة متقدة بثورة الشعور وهيجان الغضب وأنين الشكوى ورنين النجاح والظفر؟ لماذا تهتز الألفاظ تارة كالأوتار، وتولول طورًا كأمواج البحر العجاج، وتهمس حينًا همسًا عجيبًا كأنما هو منطلق من سحيق الذراري ومبهم الآمال القصوى؟

قال فيكتور هوغو: إن الكلمة كائن حي،٦ وقد تكون خالقًا ساعةَ تجعل المخيلة ترى ما لا يُرى، وتنظم القرطاس أفقًا مفعمًا بالكائنات الجميلة، وتصبح سحرًا يُصير الغائب حاضرًا والعدم وجودًا.

إن للإفصاح عن الفكر أساليب جمة، ولكن لا يصلح للكاتب الواحد إلا أسلوب واحد. وهو الذي يتفق مع ذاتيته. كلنا عالِمٌ ذلك. وكلنا باحث عن الطريقة التي … فأجارك الله يا أيها الباحث من الطريقة التي … إنك لتهوي قبل الوصول إليها في دركات التصنع والتكلف والتعمُّل، وتتيه في فيافي الخلو والتقعُّر والجفاف. وإذا حاولت النهوض من الدركات أو العودة من الفيافي تعثرت قدماك وقلمك بذيول الزوائد والحواشي الجاهزة بين المتداولات كالحلوى على أطباق حلواني العيد. أو داهمك مرض الاختصار الجاف فيشعر قارئك الشقيُّ بأنه حُكم عليه بسفِّ التِّبن لجريمة مجهولة منه ومن البشر أجمعين.

إن أفلاطون الذي اشتهر ببلاغته اشتهاره بفلسفته ظل ينسخ كتابه «الجمهورية» إلى عمر الثمانين ليزيده تحسينًا وإصلاحًا. ذلك لأن الكتابة التي يراها الكثيرون مسألة هينة أكثر الفنون دقة وعسرًا. ولا أظن اكتشاف القطب أصعب على الرحالة من اكتشاف الأسلوب (هذا القطب الآخر) على الكاتب الذي عنده شيء يقوله لأن نفسه تفيض به وتحثه على إعلانه. كلمات النفس حركات خفيفة لطيفة. فكيف يتيسر نقل هذه الخفة واللطافة بالكلمات البشرية الكثيفة؟ وكيف تتبع أداة القلم خطوات النفس الوثابة الكثيرة الأهواء في تموُّجها وتحنِّيها المباغت من الفرح إلى الحزن ومن التحنان المذيب إلى النقمة البركانية؟ إن ذلك لسرٌّ تملَّص من القواعد والنصوص وترفَّع عن أن تلقيه الضمائر إلى الألسنة. وهو كل مقدرة الكاتب أو كل ضعفه.

كذلك فيه الحكمُ بالإعدام أو بالخلود. وهناك معيار للوقوف على مقدرة الكاتب ومعرفة النقطة المتغلبة لديه ودرجة إدراكه للسر المكنون، وهو المقابلة بين ما كتبهُ هو وما كتبه آخرون في الموضوع نفسه.

•••

لنُخضعن بعض صفحات الباحثة بل جميع فصول «النسائيات» لهذا الحكم نجد اللغة في يدها آلة دقيقة ماهرة في تدوين ما تريد. ولا أعرف من هو أقدر منها على وضع الكلمة في مكانها، بحيث إنك لو تعمدت حذف لفظةٍ من جملة كنت باترًا مجموع المعنى. هي تخبرك عن أحقر الأشياء برشاقةٍ وبلاغةٍ لأنها مصرية كل المصرية، أي إن الرشاقة والبلاغة طبيعتان فيها سبق وجودهما عندها قلم الكاتب. وقد وضعت «للكاتب» وصفًا وما كانت واصفة إلا نفسها في هذه الفذلكة التي هي من أدلِّ ما كتبت على جمال أسلوبها:
اللسان والقلم رسولا القلب إلى الناس، أو هما جدولان صافيان تنعكس عليهما صورة النفس وما حواليها من الصفات. وإن شئت فقل هما سلك كهرباء بين ذهن المرء ومن يخاطبهم أو يكتب لهم. تنقل عنه رسالة أخلاقه حرفًا حرفًا بلا زيادة ولا نقصان. والفضائل والرذائل كامنة في الأشخاص، لا يُوري زنادها إلا الأقوال والأفعال. فالمتكلم والكاتب تظهر أخلاقهما جليًّا فيما يقولانه أو يخطَّانه وإن حاولا إخفاءها؛ لأن الطبع غالب والتطبُّع سمل بالٍ قليل الستر إن وارى شيئًا تظهر منه أشياء. والفكرة وإن جانبتها لا تزال تحوم حواليك وترفرف إلى أن تجد لها مقرًّا تستقر فيه من الجولان والاضطراب.٧
«الفكرة التي تحوم وترفرف» لا تجد عند الباحثة «مقرًّا تستقر فيه من الجولان والاضطراب» إلا البيئة التي جعلتها موضوع اهتمامها. وإذا خرجت من هذه بالفكر حينًا جاء ذلك للمعارضة وتقوية الحجة ووجوب قياس القريب على البعيد كتمثيلها الطبيعة هذا التمثيل المترسل:
فالسماء معقودة على الأفق في مصر، وهي كذلك معقودة على الأفق في اليابان وفي جرينلاند. لم يضع الله لها عمد المرمر في إيطاليا ولا قوائم العاج في السودان، ولم يقرَّها على حوائط البلور في النمسا. تنيرها الشمس نهارًا (إلا في القطبين) والقمر ليلًا، وقد نثرت فيها النجوم نثرًا إلا قليلها فهو مظلم. ولم يشأ الله وهو قادر أن يجعلها كلها في شكل عقود وتيجان وأن يرسمها دوائر مثلثات مرصوصة رص البلاط الملون، وهي مع ذلك يأخذ جمالها بلبِّ المتأمل المتفكر. والأرض بسيطة أيضًا لا تَحوُّل لنظامها. فالصخر يفتته توالي الريح والمطر فيصير رملًا. والرمل تُسفيه الريح ويعجنه المطر فيكون صخرًا. والبذر ينبت إذا لقيَ ريًّا وأرضًا صالحة. وما أبسط سوق النبات تظل قائمة ولكنها تميل مع الريح ويثقل عليها ثمرها فيتدلى أو يسقط إلى الأرض!٨

وما الذي تظنه موجبًا لهذه السطور المنمقة بقلمٍ قديرٍ، كما أنها تنم عن نفس منبسط الأرجاء توزَّع فيها حب الطبيعة وتفهُّم الجمال؟ أتحسبه مشهد شروق أو غروب أو وقفةً على جبل شاهق، أو جوبة بين ضلوع الوادي المخططة بالمياه المتعلمات؟ إنها استهلت النبذة السابقة بهذا المطلع: «بين الزوجين الحضريين من أهل مصر تكلُّف لا يتفق مع ما يريده الله لهما من سكون الواحد إلى صاحبه، ويشذ عن شواهد الطبيعة وآثارها المرسلة إرسالًا من غير تعقيد ولا إبهام. فالسماءُ معقودة على الأفق في مصر … إلخ.»

إذا أرادت انتقاد الكلفة بين الزوجين المصريين ليس غير! وإن ذلك ليذهلني قليلًا. لأن الفكر الذي يبقى ضيق الحدود ما ظل مستقرًّا على الجزئيات ينفتح منه الجناح بانطلاقه إلى الكليات. فيستنسر محلقًا في آفاق بعيدة، ويتسع منه الكيان ممتدًّا في تمدد الكون الذي هو جزء منه. وحينما يصل إلى هذا المقام من النشوة المعنوية ينحسر لثام الظرفية عن صغائر الحياة ويتموج الجزء الحقير غارقًا في الكل العظيم فيبدو للمفكر بوجهٍ آخر ومعنًى جديد عميق. ولكن باحثة البادية بعد هذه الطيرة الفكرية تهبط إلى ضرب مثلٍ عن أحد ملوك الصين لتثبت قبح التكلف وحلاوة البساطة، ولتنتقد المرأة التي تقول لزوجها «يا سيدي» أو «يا بك» فيناديها هو بقوله «يا هانم!»

ترى ألم تكتب النبذة الأولى في يوم ثم عادت فألحقت بها ما يليها في يوم آخر؟

•••

إنها كجميع النفوس التي أَثقل فكرها ما خلا منه فكر الآخرين، فكانت بذلك منْفرزة عن محيطها، تتجنب جلبة الجمهور ما استطاعت وتستهويها العزلة حيث يختمر الفكر وتنضج ثمار التأمل. تحب عيشة القرى والخلاء بقدر ما تنفر من المدن ميادين الكذب والمشاجرة والضوضاء. وقد أبدت ميلها هذا في الفقرة الآتية الحسنة:
قل: ما أنقى الهواء وأعذب الماء وأصفى السماء في القرى! وما أكذب الحياة وأقرب الوفاة في المدن! القرى جميلة لأنها على الفطرة. أما المدن فلا تعدم أثرًا للتكلف والرياء. أين دوي الكهرباء من خرير الماء! والدخان المتعاقد فوق المداخن من جو لا ترى فيه إلا تحليق الصقور وإلا رءوس النخل الباسقات! وأين وحل الشوارع وعثيرها من أرض كُسيت ببساط النبات! وأين الرائحة المنبعثة من مقاذير المنازل وروث الدواب من شذى أزهار الحقول! بل ما أوصل البصر يريد الجولان فيرده من هنا جدار ومن هناك سور من نظرٍ تُسرحه حيث شئت فلا تجد إلا اللانهاية في الفضاء.٩

«اللانهاية في الفضاء»! في المدن مجد النشاط وجلال العمران، ولكنَّ عين المفكر في حاجة إلى تسريح النظر في المدى الواسع كأنما هي تبحث في أبعاده المتراميات عن حلِّ ما غمض عليها من مشاكل الحياة، أو كأن القلب الحزين يستخرج من عصير الألوان الجوية بلسمًا إن لم يكن شافيًا لسآمته ففيه ما يجلب التلطيف والتسكين.

سمعت مرةً فتاةً تقول: «ومَن ليس جميلًا من هنا (مشيرة إلى العينين)؟» وقد كانت مصيبة. إن من جميع أعضاء الجسم وتقاطيع الوجه ليس أكثر من العينين شفوفًا عما يألفه الذهن من الخواطر وما يلتصق بالنفس من رغبات. العين مرآة السريرة، تطل منها جميع الخيالات والأشواق، فإذا عرفت عين امرئ عرفت ما هو إجمالًا وبعض ما طُوي عليه. ولئن كان بعض العيون جميلًا دائمًا فإن جميع العيون جميلة في أوقات معينة، والمعنى النفسي الأقوى تغلبًا على الملكات يُنيل العينين تعبيرها المقيم.

لم يكن في عينَي باحثة البادية ما يدل على أنهما اعتادتا النظر إلى داخل الوجدان، حيث وراء الجراح والدماء والآمال المهشَّمة يلمع بصيص النور الذي لا يخبو، وهو السعادة الحقيقية الوحيدة، لأنه من الروح، وللروح، وفي مأمن من كل شاردةٍ وعادية. إن الباحثة لم تكن على شيء من الروحانية، وكانت تقدِّر الظواهر وتتكئ عليها في أشياء كثيرة، حتى في تدينها. وعلى رغم ذلك فإن إدراك «اللانهاية في الفضاء» كان يتألق أحيانًا في عينيها الباسمتين الكئيبتين، في تينك العينين القاتمتين لونًا ومعنًى؛ لأن الاحتياج العنيف المندمج في مطاوي النفس البشرية، ذاك الاحتياج الدائم إلى قوت أثيري، ليس ليقوم مقامه ما تقدِّمه الأرض من غذاء وعزاء. وأكثر الذين لا تسمح لهم شواغلهم بالشعور بذلك الاحتياج يطلقون عليه اسم «الخيال» وهو في الواقع خيال بالنسبة إليهم. ولكنه بالنسبة إلى الآخرين حقيقة ثمينة قد ائتمن عليها أصفى جواهر الإنسان.

•••

كلنا معجب بفصاحة القرآن ونعزو إليه فصاحة العربية عند المسلمين، واستقامة لفظهم وجمال منطوقهم، وفخامة أسلوبهم الكتابي، لأنهم يستظهرون آية صغارًا ويستشهدون بها كبارًا. إلا أن فصاحة الكتاب الحكيم وجماله قد عوَّدا القوم الكسل الفكري. فصاروا إذا ما أرادوا الإفصاح عن رأي أو نظرة أهملوا إجهاد القوى المولدة مطمئنين إلى ضرب آية قرآنية — أو حكمة شعرية — مثلًا، تاركين قرائحهم في حالة الجمود مستكنَّات، وعليها خيوط العنكبوت تخيِّم آمنات. بيد أن هذا الانتقاد الذي يصح على الأكثرية لا ينطبق على أقلية لبيبة إن هي استعملت الآية القرآنية عند الحاجة فإن لها أسلوبها الخاص. وقد تنسج عبارتها على وزن القرآن بنزعة فطرية، واضعة ألفاظه لمعنًى شخصي وبشكل جديد يسترق السمع ويستأسر المخيلة قبل أن يبلغ أفق الإدراك. وعند الباحثة مثل ذلك أحيانًا، كهذه الجمل ذات التفصيل القرآني والموسيقى القرآنية:
ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، فكيف ورجالنا على هذا الاستبداد يأملون صلاح الأمة وتربية أبنائها على حب الاستقلال والدستور؟ أما والله لو أرانا رجالنا عناية واحترامًا لكنا لهم كما يحبون. فما نحن إلا مرآة تنعكس علينا صورهم ولنا قلوب تشعر كما يشعرون، فإذا أرادوا من إصلاحنا فليصلحوا من أنفسهم وإلا فلينظروا ماذا هم فاعلون.١٠
أظنني قلت قبل اليوم إن أحد أجزاء شخصيتها لا ينفصل عن الأجزاء الأخرى ولا تعمل إحدى قواها إلا بمعاونة جميع القوى؛ لذلك ترى المصرية ممتزجة دائمًا بالكاتبة، وتتكلم الناقدة والمُصلحة بلسان المسلمة والمصرية، كأنما هي لا تستطيع تجريد نفسها من نفسها. وترتسم المرأة في كل كلمة تخطها الكاتبة وما هي إلا امرأة في البدء، وامرأة بالتالي، وامرأة دائمًا. فإذا ذكرت إحدى مزايا النساء ترنَّح القلم ثملًا بين أناملها وهو يقول:
البشاشة مفتاح ما أُغلق من السعادة، ومعوان على قضاء الأشغال يصل نورها إلى قلب صاحبها فيفعمه غبطة. وكذلك (إني أحذف بسرور هذه الكذلك الزائدة هنا) يلقي شعاعه الكهربائي على من حوله فتنتعش به أرواحهم. وهي جميلة في الكهل كما تجمل في الطفل، إلا أنها أبهى وأشد تأثيرًا في المرأة، تلك التي تسيطر على القلوب ولا تدري.١١

… أوْ تدري. وهذا لا يقلل من جمال البشاشة.

ولو جاز لي تحديد هذا الأسلوب الكتابي لقلت إن له من المزاج العصبي الصفراوي الحرارة التي تكون حينًا حدةً وحينًا نعومةً، ومن الإسلام التنميق والبلاغة، وهو بالجملة مصري أسمر «نغش» جذاب.

•••

ولا يسوغ لي أن أختم هذا الفصل دون التنويه بأمر آخر اشتهرت به دون غيرها بين المسلمات، وهو الخطابة. ولكن كيف أتكلم عن أمر أجهله، وكيف أحكم على خطيب لم أكن يومًا بين المستمعين إليه؟ غاية ما أعلم أنها كانت جامعة لصفاتٍ لا بد من توفرها لكل مقدِم على ارتقاء المنابر: أولها وأهمها السمباثيا Sympathy وخفة الروح، ثم عذوبة الصوت المنطلق من الصدر؛ لأن كل صوتٍ ينحدر من الرأس إلى الأنف يكون ذا نغمةٍ شائكة مزعجة فيفقد قوة التأثير. وإن لم يكن الخطيب مؤثرًا فلماذا يتكلم؟ ثم وضوح اللفظ وبلاغة النطق، وأخيرًا الشجاعة الأدبية اللازمة لإبداء الرأي بكرامة وسذاجة.
كثير من مقالاتها مكتوب بكيفية خطابية، وهي كيفية فعالة، غير أنها في خطبها تتبع خطة المحدث البسيط؛ لأن خطبها لم تكن في الواقع إلا محاضرات، وهذه تشغل الدرجة الواقعة بين الحديث المألوف والخطابة الصرفة. وقد تركت بعض المنظومات لأنها كانت تحب الكلام الموزون، وكل ما نثرت موزون منسَّق. ولا أعرف في كل ما كتبت نبذة أبدع من هذه التي تبدو فيها مقدرة مزدوجة كتابية وخطابية يختلط بها شيء من الشجن الشعري وكآبة المرأة الغزيرة العواطف الدامية الشعور:
يصبونه (الماء) فينصب، ويريقونه فيختفي في الأرض، ويضعونه في كل آنية معوجة وملونة فيأخذ كل شكل ويصطبغ بكل ما يراد به من الألوان. تبخره الطبيعة زاريةً هازئةً فتارةً ترفعه إلى السحاب وطورًا تقذف به إلى الأرض، وآونةً تعاكسه بصقيعها فيتحول بردًا وآونة تحمي عليه براكينها فيخرج ملتهبًا، وحينًا تخبث رائحته بكبريتها وزرنيخها فيلعنه الناس إذا أحسُّوا منه غير ما يريدون وهو بريء، ثم أليس هو رمز الطاعة والامتثال؛ يضعون فيه سُكرًا فيحلو ويذيبون به الحنظل فيمرَّ. وهم مع ذلك لا يقيمون له وزنًا ولا يعترفون له بجميل. وهو بلا ثمن في أكثر بقاع الأرض وأرخص الأشياء في أقلِّها. إنه مثلي يا مي؛ يذهب ضياعًا.١٢

ما أوجع هذه الكلمة وأوجع المرارة التي أملتها! لقد فعل الحزن هنا ما يفعله في كل نفس صالحة، فكان اليد المنبهة الخصب الجانية الخيرات. إن لهف أيامٍ ولواعج عمرٍ أنتجت أبحاثًا قليلة ولكنها فريدة من نوعها في الآداب العربية. وسنقف على زبدة هذه الأبحاث في الفصلين المقبلين إذ نعالج الباحثة ناقدةً ومُصلحةً، فنجد ثمة أكثر الآراء تعقلًا ورزانةً. لو لم يكن للحزن من منفعةٍ سوى انتباه ضحيته إلى ضرورة الإصلاح وعثورها على مواطن الضعف والسقام من بيئتها، ولو لم يكن له من منفعة سوى تمزيق حجب الزهو والغرور عن محيا الرصانة والحكمة، لكفى به قوةً تسكب عليها البركات على كر الدهور!

كلا، لم تمضِ أتراحكِ جزافًا، يا روح العزيزة؛ إذ لا يتلاشى شيء في هذا الوجود العظيم، ولا ذهبت منكِ القدرة ضياعًا؛ لأن الحياة والموت ألعوبتان في يد النظام المطلق: نظام التحول الشامل، وما كان قومك بذلك التحول فيك إلا القوم الرابحين!

١  في مقدمة «النسائيات».
٢  انظر باب التقاريظ في «النسائيات».
٣  انظر باب التقاريظ في النسائيات.
٤  كان المرحوم حفني بك حاضرًا في احتفال التأبين الذي أقيم لكريمته، وذلك قبل وفاته بأسابيع قليلة.
٥  من مرثاة شعرية ألقاها حافظ بك في حفلة التأبين.
٦  “Car le mot, qu’on le sache, est un être vivant.” Victor Hugo (les Contemplations).
٧  النسائيات.
٨  النسائيات.
٩  النسائيات.
١٠  النسائيات.
١١  النسائيات.
١٢  «بين كاتبتين» نشرت في المحروسة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤