الموكب

لم يقل عيسى إنه نبي أو رسول، أو أن أحدًا بعثه بمهمة ما، أو أنه قام بابتعاث نفسه كما فعل الكثيرون، كل ما قاله عن نفسه أنه المسيح عيسى ابن مريم، وكان يطلب مِنَّا أن نناديه بابن الإنسان، ولكن المُشكلة الكبيرة في المؤمنين به، هم الذين يصرُّون على أن الرجل لا بد أن يكون قد أرسل من قبل قوة عظمى، كقوة الله مثلًا، أو أنه مدعوم بالله، أو مرسل من قِبَله، أو أن روح الله قد حلت فيه في شطحة صوفية مريبة كتلك التي أودت بحياة الحلاج والسهروردي المقتول، الفكي السحيني وغيرهم. كلٌّ يعتقد فيه حسب درجة إيمانه به وثقافته ودهشته للكرامات المتتالية التي يستعرضها سيده، ولو أنه قال لنا: الكرامات لا تخلق نبيًّا ولا تدل عليه، إنها في أفضل حالاتها تشير إلى بشرية الإنسان.

وقال: من آمن بي من أجل كراماتي فإنه آمن بكراماتي، ومن آمن بكراماتي ما آمن بي مثقال طرفة عين.

وقال: الحقيقة لا تحتاج إلى براهين، وحدها الأكذوبة تتطلَّب سندًا من خارجها.

وقال: الكذب أسوأ درجة من درجات الصدق، كما أن الضلالة تكمن في نُخاع الحقيقة.

وأضاف قائلًا: لم يتمظهر الشر في كليَّتِه في الكون إلا في الجنجويد، فإنهم شر خالص.

وقال: إن الجنجويد ليسوا قبيلة، وليسوا عنصرًا، فيولد الشخص خيرًا، ثم بعد ذلك له الخيار إما أن يصبح إنسانًا أو جنجويدًا.

وقال: من يكرهك جنبك شرور محبته.

وقال: من يكفر بي كمن آمن بي، ومن يجهلني يعرفني أكثر، وأنا ما بين الوردة وطائر الطنان، كثيرٌ من التحليق وبعض الرحيق.

وقال لنا: لا يعني أنكم إذا قُتِلتم الآن قد لا تعيشون للأبد.

وأضاف: إن الأبد لا وجود له إلا في مخيلته ذاتها، وقال لنا: أنا وأنتم مخيلته.

وقال لنا: إن قوتي في الكلمة، وقوتكم في الكلمة، وقوة الكلمة في أن تُقال، وأن تُسْمَع، وأن تخترق حواجز المادة والروح، وأن تحقق ذاتها في معنى ما تحمل وقول ما يشاء قائلها، والكلمة بدون مشيئة خير منها الصمت، وقد يُسْمَعُ الصمت أحيانًا.

عندما ذهبت الدجاجات الكثيرات، وهي المخلوقات الوحيدة التي استيقظت من موتها، في تلك الجمعة التي أحيا فيها الرجل أربعين رجلًا وامرأة وطفلًا، قال لنا: فلنذهب لننام.

كان الكهف صغيرًا جدًّا في الماضي، ولكنه يتسع كل مرة ليسع كل من يدخله، كان المؤمنون به ١٥ رجلًا وامرأة واحدة، الآن هم ٦٦ جنديًّا نظاميًّا وقائدهم الميداني، إبراهيم خضر إبراهيم، ١٠٤ من النجارين وأشباه النجارين، وملايين الرجال والنساء في شتى أنحاء الكون قد لا يرونه وقد لا يلتقي بهم؛ لأن الإيمان به لا يتطلَّب شيئًا، فقط أن تسمع به، لا أكثر؛ لأن أفكار الرجل هي من الطبيعة ذاتها، هي ما يكمن في ذات كل إنسان ومخلوق آخر من حقيقة، فالإيمان به كالكفر به كما قال، كلاهما درجة من المحبة؛ بالتالي قد يؤمن به حتى من يجهله جهلًا كاملًا.

شكا البعض من ظلمة المكان، فقال لهم: لا تتضجَّروا من الظلام، بل أضيئوا المكان.

وهنا كان الدرس الأول في الكلمة التي أصبحت نورًا، الكلمة التي أطلقها أحدنا، أو أنها انطلقت من ذوات كثيرة متعددة، هو لم يكن من بينها. كان المؤمنون به يتعلمون كثيرًا منه ولكن ببطء شديد. في تلك الليلة جاءت المرايم الثلاث: مريم أمه، مريم كُويا خالته وهي أم يحيى، ومريم الأخرى؛ أي جارتهم التي يطلقون عليها لقب مريومة، وهو للتصغير والتدليل. جاءوا في صُحبة الأب يوسف النجار وفي صحبتهم أيضًا لفيف من سكان مدينة نيالا، من بينهم العمة خريفية والعم جمعة ساكن نفسه، وامرأة مجنونة تبحث عن أطفال لها قتلهم الجنجويد ستجدهم هنا، أطفال وطفلات رجالٌ ونساء، يحيى ليس من بينهم، تقول أمه إنه هائم بوجهه في البراري منذ شهور كثيرة، يطلق لحيته، ويطعم الجراد والعسل، يعيش وهوام البراري جنبًا لجنب.

علينا أن نذكر أيضًا أن الأربعين إنسانًا الذين أحياهم من موتهم، ما زالوا نائمين في بيوتهم، لقد مضوا نحو منازلهم مثل السُّكارى يترنَّحون، بينما ينمو اللحم على عظامهم التي التأمت واستقامت وانتصبت وتهيأت لأن تكون، تنبني الأعضاء التي بترها الجنجويد والأحشاء التي مزقتها بنادقهم، تعود للمغتصبات بكارتهن، للأطفال الطمأنينة ودفء الأسرة. قال إنهم سينامون بقدر الزمن الذي كانوا فيه أمواتًا، ثم ينهضون ليعيشوا كما نعيش نحن الآن.

ثم تحدث عن الموكب قال: استعدوا للموكب.

وما كان أحدٌ منا يعلم ما هو الموكب، ولكن الجميع كانوا على أهبة، إنهم يدركون.

قال لنا: ما المسافة بين الحياة والموت؟

قال لنا: ما المسافة بين الحي والميت؟

قال لنا: هل مات الميت؟

قال لنا: إن الكلمة هي أن تعي الواقع وتعيشه ولا تنفصل عنه، وتعمل من أجل الأحياء والأشياء، فما نحن إلا ما نفعل من أجل الاثنين، ثقوا في الإنسان الذي فيكم، ثقوا فيه جيدًا، ضعوا كل ثقتكم فيه، هو محل لها، محلها الوحيد الأبدي والنهائي، ولا تؤمنوا بالمثل الذي يقول لكم: لا تضعوا البيض في سلة واحدة، أقول لكم: ضعوا بيضكم كله في سلة الإنسانية، وسوف تربحون الجمال.

وقال لنا: الموكب الموكب.

وقال لي: يا إبراهيم، لا تؤمن بي بعقلك ولا بقلبك ولا بظنك ولا بالليل والنهار، بل تقبَّلني بأمك كما أتقبلكم الآن جميعًا بأمي مريم.

وقال لنا: أعدوا للموكب عدته.

ولا يعلم أي منا ما هي عدة الموكب، لكننا كنا ندركها ونعدها جيدًا، وهو يرى ويعرف ويبتسم، عندما نعسوا ناموا، ناموا في المكان الضيق الذي وسع الجميع، راعى خصوصيات كل فرد منهم، الأطفال والطفلات وجدوا لبنًا لعشائهم، النساء الجميلات المؤمنات وجدن كل ما يخصهن ويحتجن إليه في اللحظة والحين، الرجال وجدوا المكان مهيَّأً كما لو أنه كان يخصُّهم وحدهم، عيسى ود مريم كان هنالك، مختلطًا بالآخرين، يشبه الجميع، يعرف الجميع بأسماء أمهاتهم وآبائهم، مريم الحبيبة تتبعه أينما ذهب، تحرص على راحته، كان يناديها قائلًا: حبيبتي مريم.

وهي ترد إليه ﺑ: سيدي ابن الإنسان.

والأغرب في الأمر، في النوم، أنهم جميعًا حلموا حلمًا واحدًا، حلمًا شاسعًا وكبيرًا، كان الموكب العظيم ينطلق من المغارة ذاتها، تتقدمه المرايم والنساء الكثيرات اللائي قدمن من نيالا وكاس وزالنجي مؤمنات ومحبات، كان الصدق الذي في قلوب النساء يضيء طريق الموكب، ثم السيد عيسى ابن الإنسان ود مريم، كل شخص كان يحمل صليبه، صليبه الثقيل جدًّا، الذي يزداد ثقلًا كلما التصق بجسد حامله واستنشق أنفاسه، قال لهم: احملوا صلبانكم واتبعوني، فمن لا يستطيع أن يحمل صليبه لا يستطيع الطيران، ولن يجد الكلمة، وكلما ثقل صليبك مررت خفيفًا كالريشة في الهواء.

وهتف فينا بمرح جميل: الموكب الموكب.

هتف الجميع: المهرجان الموكب.

وكانوا يرغبون في الطيران، يرغبون فيه بشدة وحب ووعي، والصلبان ثقيلة كأنها قد قُدَّت من الحديد الصلب، كانت ثقيلة وتثقل كل لحظة، كانوا يمضون بها وهي على ظهورهم، التي تدمى من الاحتكاك بها، وعظامهم الحزينة البائسة تطق من حمل الصلبان، وأرجلهم تتلوَّى تحت ثقلها، وبطونهم تضجُّ، ورءوسهم تدور، وعيونهم تحمرُّ، صدورهم تعرق، ولكن قلوبهم تخضر وتورق وتثمر مثل حدائق مباركة في جنة من الروح والياسمين.

وقال لهم: صليبك صليبك وأنت أولى به.

الموكب الذي انطلق من ذات الكهف كان يتوغل في الأمكنة، يعبر الأراضي الصحراوية وشبه الصحراوية، والغابات والوديان المخضرة. عندما يمرُّ بالقرى المحروقة تنهض البيوت من رمادها، تتطهر آبارها من السم، تنمو الأشجار التي قُطعت، الأواني المهشمة تقوم من حطامها وتصير كما كانت، الماشية والطيور والأرانب البرية، الذئاب، المدارس، الحدائق، الجوامع، الشوارع، الصحاب، كل شيء يعود كما كان، يحيى القتلى من قبورهم، ومن لم يُقبر، نفض عن نفسه الغبار والعُشب وقام، حمل صليبًا وتبع الموكب، كانوا لا يدرون إلى أين يسير الموكب، ولكنهم كانوا يعرفون أنه يسير لوجهة ما؛ وجهة كلها خير، إذا لم تكن نحو الجمال، فالموكب يدري وجهته. على الرغم من ثقل الصلبان كانوا يحسون كما لو أنهم يطيرون، يحلقون عاليًا في السماء التي مثل أحضان أم عظيمة لا نهائية تضمهم إليها وتبتسم.

عبد العزيز بركة ساكن
خشم القربة، الخرطوم
٢٠٠٨–٢٠١٢

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤