مقدمة: نظريات الأساطير

دعوني أكون واضحًا من البداية؛ ليس هذا الكتاب مقدمة إلى الأساطير بل إلى طرق تناول الأساطير، أو نظريات الأساطير، وهو لا يتخطى في تناوله النظريات الحديثة. ربما تعود نظريات الأساطير إلى وقت نشأة الأساطير نفسها، ومن المؤكد أنها ترجع إلى فلسفة ما قبل سقراط على الأقل. غير أن هذه النظريات نَحَت فيما يبدو نحوًا علميًّا في العصر الحديث فقط، خاصةً منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ فحينها فقط ظهرت إلى الوجود مجالات مهنية سعت إلى تقديم نظريات علمية حقيقية عن الأساطير مثل العلوم الاجتماعية، التي ساهم علم الأنثروبولوجيا، وعلم النفس، وبدرجة أقل علم الاجتماع، الإسهام الأكبر فيها. وبينما كان هناك على الأرجح ما يناظر النظريات العلمية الاجتماعية للأسطورة قبل ظهورها، فإن التنظير الحديث للأسطورة لا يزال مختلفًا عن مثيله السابق عليه. وبينما كان التنظير المبكر يعتمد على التخمين والتجريد اعتمادًا كبيرًا، يعتمد التنظير الحديث إلى حد بعيد على تراكم المعلومات. وتنطبق الاختلافات بين التنظير الحديث والقديم على العلوم الاجتماعية الأخرى أيضًا فيما يلخصه عالم الأنثروبولوجيا جون بيتي على النحو التالي:

بناءً عليه، قدمت تقارير التبشيريين والرحالة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في أفريقيا، وأمريكا الشمالية، ومنطقة المحيط الهادئ، وفي مناطق أخرى؛ المادة الخام التي قامت عليها مؤلفات الأنثروبولوجيا الأولى التي كُتبت في النصف الثاني من القرن الماضي. وبطبيعة الحال، كانت هناك محاولات تخمين كثيرة حول المؤسسات الإنسانية وأصولها قبل ذلك … لكن على الرغم من عبقرية تخمينات المفكرين، لم يكن هؤلاء علماء تجريبيين؛ إذ لم تعتمد النتائج التي خلصوا إليها على أي نوع من القرائن التي يمكن قياس مدى صحتها، بل لم تكن تلك التخمينات سوى استنباطات جرى التوصل إليها عبر المبادئ التي كانت — في جانب كبير — منها جزءًا من ثقافاتهم. وكان هؤلاء المفكرون في حقيقة الأمر فلاسفة ومؤرخين أوروبيين، لا علماء أنثروبولوجيا.

(بيتي، «الثقافات الأخرى»، ص٥-٦)

وفيما ترجع بعض نظريات الأساطير الحديثة إلى مجالات الفلسفة والأدب العتيقة، فهي تعكس أيضًا تأثير العلوم الاجتماعية. حتى ميرسيا إلياد — الذي تناطح نظريته المستلهمة من الدراسات الروحية نظريات العلوم الاجتماعية — يُدرج بيانات مشتقة من العلوم الاجتماعية لدعم نظريته!

يتضمن كل مجال من المجالات المذكورة نظريات متعددة عن الأساطير. وعلى نحو دقيق، تنتمي نظريات الأساطير إلى مجال أرحب كثيرًا لا تشغل الأسطورة فيه إلا مجرد فرع. على سبيل المثال، تعتبر النظريات الأنثروبولوجية للأساطير نظريات ثقافية «مُطبقة» على حالة الأساطير، كما تعتبر النظريات النفسية للأساطير نظريات عقلية، ونظريات علم الاجتماع للأساطير نظريات مجتمعية. فلا توجد نظريات للأساطير قائمة بذاتها، إذ لا يوجد مجال معرفي منفصل للأساطير. وليست الأسطورة كالأدب الذي — مثلما كانت المزاعم التقليدية حوله دومًا وما زالت قائمة — يجب دراسته «كأدب» لا كتاريخ، أو علم اجتماع، أو شيء آخر غير أدبي. فلا توجد دراسة للأسطورة في حد ذاتها.

إن ما يربط بين دراسة الأساطير في المجالات المختلفة التي توجد فيها هي الأسئلة المطروحة؛ وتتمثل الثلاثة أسئلة الرئيسة المطروحة حول الأسطورة في الأصل، والوظيفة، والموضوع. فيشير «الأصل» إلى السبب والطريقة التي نشأت بها الأسطورة، وتشير «الوظيفة» إلى السبب والطريقة التي تستمر بها الأسطورة في الوجود. وتتمثل إجابة السبب في أصل ووظيفة الأسطورة عادةً في حاجةٍ ما تستثيرها الأسطورة لتلبيتها، وتستمر من خلال مواصلتها في تلبية الحاجة. وتختلف الحاجة من نظرية إلى أخرى. بينما يشير «الموضوع» إلى المدلول في نظرية الأساطير. بعض النظريات تفسر الأسطورة تفسيرًا حرفيًّا بحيث يتمثل المدلول في المعنى المباشر الصريح، مثل الآلهة، وفي المقابل، تفسر نظريات أخرى الأسطورة تفسيرًا رمزيًّا قد يكون المدلول المجسَّد فيها أي شيء.

لا تختلف النظريات فيما بينها في الإجابات التي تقدمها بل في الأسئلة التي تطرحها أيضًا. فبينما تركِّز بعض النظريات، وربما بعض المجالات المعرفية، على أصل الأسطورة، تركِّز نظريات أخرى على الوظيفة، فيما تركِّز نظريات أخرى على الموضوع. إضافة إلى ذلك، فيما لا تتناول الأسئلة الثلاثة سوى نظريات قليلة، لا تركِّز بعض النظريات التي تتناول أصلَ أو وظيفةَ الأسطورة إلا على «سببِ» أو «طريقةِ» النشوء فقط، لا على كليهما.

من السائد قول إن نظريات القرن التاسع عشر ركزت على سؤال الأصل، وإن نظريات القرن العشرين ركزت على سؤالي الوظيفة والموضوع. ويؤدي هذا التمييز إلى الخلط بين الأصل التاريخي والأصل المتكرر. ولا تزعم النظريات التي تدعي تقديمها لأصل الأساطير معرفتها بمكان وزمان ظهور الأسطورة للمرة الأولى، بل بسبب وطريقة ظهور الأسطورة متى وأينما ظهرت. وكان موضوع الأصل المتكرر للأسطورة موضوعًا شائعًا في نظريات القرن العشرين مثلما كان كذلك في نظريات القرن التاسع عشر، وكان الاهتمام بالوظيفة والموضوع مسألة شائعة في نظريات القرن التاسع عشر مثلما كان الحال في نظريات القرن العشرين.

ثمة اختلاف حقيقي واحد بين نظريات القرن التاسع عشر ونظريات القرن العشرين؛ فكانت نظريات القرن التاسع عشر تنحو إلى النظر إلى موضوع الأسطورة باعتباره العالم المادي، وإلى الوظيفة باعتبارها التفسير الحرفي أو التعبير الرمزي عن ذلك العالم. وكانت الأسطورة تُعتبر على نحو نموذجي النظير «البدائي» للعلم الذي كان يُفترض حديثًا في مجمله. ولم يجعل العلم الأسطورة مجرد شيء لا لزوم له، بل جعلها غير متوافقة معه على الإطلاق؛ ولذا توجَّب على الحداثيين — الذي كانوا علميين بطبيعتهم — لفظها. في المقابل، لم تمِلْ نظريات القرن العشرين إلى النظر إلى الأسطورة باعتبارها نظيرًا للعلم عفا عليه الزمن، سواء فيما يتعلق بالموضوع أو الوظيفة؛ بناءً عليه، لا يتوجَّب على الحداثيين الاستغناء عن الأساطير من أجل العلم.

وإضافةً إلى الأسئلة المتعلقة بالأصل، والوظيفة، والموضوع، تشمل الأسئلة المتعلقة بالأساطير الآتي: هل الأسطورة عامة؟ وهل هي حقيقية؟ تنبثق إجابات هذين السؤالين من الإجابات عن الأسئلة الثلاثة الأولى. فالنظرية التي ترى أن الأساطير تنشأ وتعمل على تفسير العمليات المادية سوف تقصر الأسطورة — على الأرجح — على المجتمعات التي يُفترض افتقارها إلى العلم. وفي المقابل، النظرية التي ترى أن الأساطير تنشأ وتعمل على توحيد المجتمع قد تجعل من الأسطورة أمرًا مقبولًا، بل وربما لا غنى عنه في جميع المجتمعات.

تتمسك النظرية التي ترى أن الأساطير تعمل على تفسير العمليات المادية باعتقادها في زيف الأساطير، في حال إثبات أن التفسير المقدَّم لا يتماشى مع التفسير العلمي. من ناحية أخرى، قد تتلافى النظرية التي ترى أن الأسطورة تعمل على توحيد المجتمع؛ مسألة حقيقتها من خلال التأكيد على أن المجتمع يتوحد عندما «يؤمن» أعضاؤه بأن القوانين التي من المتوقع التزامهم بها وضعها أسلاف مبجلون قبل وقت طويل مضى، سواءٌ وضعت هذه القوانين قبل هذا الوقت الطويل أم لا. ويتجنَّب مثل هذا النوع من النظريات مسألة حقيقة الأساطير؛ نظرًا لأن الإجابات التي تقدمها لأسئلة الأصل والوظيفة تفي بالغرض نفسه.

تعريف الأسطورة

حضرتُ مؤتمرات عديدة طرح المتحدثون فيها آراءهم بحماس شديد حول «طبيعة الأسطورة» في الرواية «س» أو المسرحية «ص» أو الفيلم «ع». في المقابل، تعتمد معظم هذه الآراء على تعريف الأسطورة، فدعوني أطرح تعريفي للأسطورة.

بادئ ذي بدء، أقترح تعريفًا للأسطورة كقصة. واعتبار الأسطورة قصة — أيًّا كان ما تمثله من أشياء أخرى — مسألة قد تبدو بديهية. وعلى أي حال، عندما نُسأل عن ذكر بعض أمثلة الأساطير، يجول بخاطر معظمنا «قصص» عن الآلهة والأبطال اليونانيين والرومان. في المقابل، يمكن النظر إلى الأسطورة بصورة أعم باعتبارها معتقدًا أو مذهبًا، مثل «أسطورة من الأسمال إلى الثروة» أو «أسطورة الحدود» الأمريكيتين. وبينما كتب هوراشيو ألجر العديد من الروايات الشهيرة التي تشرح أسطورة تحوُّل أشخاص من الفقر المدقع إلى الثراء الفاحش، فإن المذهب في حد ذاته لا يعتمد على قصة. وينطبق الأمر نفسه على أسطورة الحدود.

إن جميع النظريات المدروسة في هذا الكتاب تَعتبر الأسطورة قصة. وبينما يحوِّل إي بي تايلور القصة إلى تعميم ضمني، لا يزال التعميم يصل إلى القارئ عن طريق قصة. وبالمثل، بينما يتجاوز كلود ليفي-ستروس حدود القصة وصولًا إلى «بنية» الأسطورة، لا تزال البنية تعتمد على القصة في توصيلها. إضافة إلى ذلك، لا تزال النظريات التي تفسر الأساطير على المستوى الرمزي بدلًا من التفسير الحرفي تنظر إلى موضوع الأسطورة، أو المعنى، باعتباره سردًا لقصة.

إذن، إذا ما جرى هنا اعتبار الأسطورة قصة، فما الذي ستدور القصة حوله؟ بالنسبة إلى دارسي المأثورات الشعبية بصفة خاصة، تدور الأسطورة حول خلق العالم؛ ففي الكتاب المقدس، لا ترتقي سوى قصتي الخلق (سفر التكوين ١–٢) وقصة جنة عدن (سفر التكوين ٣)، وقصة نوح (سفر التكوين ٦–٩) لمستوى الأساطير، بينما لا تمثِّل باقي القصص الأخرى سوى خرافات أو حكايات شعبية. وبعيدًا عن الكتاب المقدس، تعتبر «أسطورة» أوديب — على سبيل المثال — خرافة في حقيقة الأمر. إنني لا أرغب أن أكون متشددًا للغاية وسأكتفي بتعريف الأسطورة بأنها قصة تدور حول شيء مهم؛ فقد تدور أحداث هذه القصة في الماضي، مثلما كان الحال مع المؤرخ إلياد والعالم برونيسلاف مالينوفسكي، أو في الحاضر أو المستقبل.

وفيما يتعلق بالنظريات المُستقاة من الدراسات الدينية بصفة خاصة، يجب أن تكون الشخصيات الرئيسة في الأسطورة آلهة أو أشباه آلهة. ولا أرغب هنا أيضًا في أن أكون متشددًا في تعريفي؛ إذ لو كنت كذلك، لاستبعدت معظم أجزاء العهد القديم الذي بينما قد «تشتمل» أحداث جميع قصصه على الإله — باستثناء الإصحاحين الأولين من سفر التكوين — فإنها تدور حول بشر مثلما تدور حول الإله. ولن أشدد هنا إلا على ضرورة أن تكون الشخصيات الرئيسة في الأساطير شخصيات إلهية أو بشرية أو حيوانية، ولن أستثني إلا القوى اللاشخصية، مثل «الخير» عند أفلاطون. ويُعتبر تايلور من أكثر المنظِّرين انشغالًا بالجانب الشخصاني في الأساطير، وكذلك جميع المنظرين الآخرين ممن سنتناولهم لاحقًا، باستثناء ليفي-ستروس. وفي الوقت نفسه، يمكن أن تكون الشخصيات فاعلة أو مفعولًا بها في أحداث الأساطير.

باستثناء رودولف بولتمان وهانز يوناس، تناول جميع المنظرين محل النظر وظيفة الأسطورة، كما يركِّز عليها مالينوفسكي بصورة شبه حصرية. ويختلف المنظرون فيما بينهم حول وظيفة الأسطورة. وإنني لا أريد أن أملي هنا وظيفة الأسطورة لكنني في المقابل أشير فقط إلى أهمية الوظيفة بالنسبة إلى جميع المنظرين في مقابل الأهمية الأقل المُولاة إلى الوظيفة في مجال الأساطير والحكايات الشعبية؛ بناءً عليه، بينما أريد أن أشير إلى أن الأسطورة تحقق شيئًا مهمًّا بالنسبة للمؤمنين بها، فإنني لا أحدد على وجه الدقة ماهية هذا الشيء.

بلغة اليوم، تعتبر الأسطورة شيئًا مغلوطًا؛ فهي «مجرد» خرافة. على سبيل المثال، في عام ١٩٩٧ نشر المؤرخ ويليام روبنستاين كتاب «أسطورة الإغاثة: لماذا لم تكن الدول الديمقراطية قادرة على إنقاذ المزيد من اليهود من النازيين». يسفر العنوان عن المعنى المراد، ويتحدى الكتاب القناعة السائدة بأنه كان يمكن إنقاذ كثير من ضحايا اليهود من براثن النازيين، حال التزام الحلفاء بإنقاذهم. ويناهض روبنستاين الافتراضات القائلة بأن الحلفاء لم يكترثوا بمصير اليهود الأوروبيين نظرًا لأنها كانت معادية للسامية. ومن وجهة نظره، يشير مصطلح «الأسطورة» إلى تذبذب القناعة حيال الفشل في إنقاذ المزيد من اليهود، على نحو أكثر اكتمالًا من استخدام عبارات ألطف مثل «اعتقاد مغلوط» و«سوء فهم عام». وبذلك تعتبر «الأسطورة» قناعة مغلوطة لكنها راسخة.

في المقابل، تستخدم عبارة «من الأسمال إلى الثروة» مصطلح الأسطورة بصورة إيجابية في الوقت الذي تشير فيه إلى رسوخ القناعة. وربما تبدو القناعة المغلوطة الفجة أكثر رسوخًا من القناعة الصائبة؛ إذ إن القناعة تظل راسخة على الرغم من مغالطتها الواضحة. ولكن يمكن أن يُتشبث بقناعة صائبة ثمينة بنفس قدر التشبث بقناعة مغلوطة، خاصةً إذا كانت تدعمها قرينة مقنعة. وللمفارقة، ربما يتوقف بعض الأمريكيين، ممن لا يزالون يعتنقون عقيدة من الأسمال إلى الثروة، عن الإشارة إليها ﮐ «أسطورة»؛ نظرًا لأن مصطلح الأسطورة «صار» يعبر عن المغالطة؛ لذا أقترح ضرورة أن يتشبث المؤمنون بالأسطورة تشبثًا شديدًا بها حتى يمكن وصفها بالأسطورة؛ أي بالقصة التي تعبِّر لا شك عن قناعة. وفي المقابل، لا أشترط صحة القصة من عدمها.

أسطورة أدونيس

لتوضيح الفروق بين نظريات الأساطير المختلفة، أقترح عرض إحدى الأساطير المألوفة — أسطورة أدونيس — وبيان كيف تبدو في ضوء النظريات التي تناولناها. اخترتُ هذه الأسطورة في البداية لأنها لا تزال موجودة في نسخ متعددة؛ ومن ثم تبيَّن مدى طواعية مفهوم الأسطورة. وترجع المصادر الرئيسة لأسطورة أدونيس إلى كتاب المؤرخ والكاتب اليوناني أبولودورُس «المكتبة» (الكتاب الثالث، الفصل الرابع عشر، الفقرات ٣-٤) وملحمة الشاعر الروماني أوفيد «التحول» (الكتاب العاشر، السطور ٢٩٨–٧٣٩).

وفقًا لرواية أبولودورُس، الذي يقتبس نسخة القصة من الشاعر الملحمي بانياسيس، كانت سميرنا — والدة أدونيس — منجذبة إلى والدها بصورة لا تقاوم ثم صارت حبلى في طفل له. وعندما اكتشف والد سميرنا أن المرأة التي ضاجعها ليلًا كانت ابنته، استل سيفه على الفور لقتلها، فهربت سميرنا، ولاحقها. وعندما كان على وشك الإمساك بها، ابتهلت سميرنا إلى الآلهة لتخفيها عن الأنظار، فاستجابت الآلهة مشفقةً عليها فحولتها إلى شجرة مُر، ولم يمض عشرة أشهر حتى انشقت الشجرة فخرج من باطنها أدونيس.

حتى عندما كان أدونيس طفلًا، كان على قدر استثنائي من الجمال والوسامة. فتُيِّمت به أفروديت، التي كانت تتولى حراسته فيما يبدو، أيما تيم، مثلما كانت سميرنا متيمة بأبيها. وحتى تستأثر به وحدها، خبَّأته في صندوق. وعندما فتحت برسيفوني، ملكة العالم السفلي (حادس)، الصندوق الذي ائتمنتها أفروديت عليه دون أن تفصح عما يحتويه؛ وقعت هي الأخرى في حب أدونيس، ورفضت إعادته إلى أفروديت. ولمَّا كانت كل إلهة منهما تريد أدونيس لنفسها وحدها، لجأتا إلى ملك الآلهة، زيوس، الذي حكم بأن يقضي أدونيس ثلث العام مع برسيفوني، وثلثه مع أفروديت، والثلث المتبقي وحده. فتخلَّى أدونيس عن الثلث الخاص به لصالح أفروديت؛ ومن ثم لم يخرج أبدًا عن كنف أي إلهة. وفي أحد الأيام، عندما كان يصطاد، جرحه خنزير بري فلقى حتفه إثر الجرح. ووفق أحد الروايات الأخرى للقصة في نسخة مجهولة الاسم لأبولودورُس، كان الجرح من عمل آريز، إله الحرب، الذي كان غاضبًا جراء تفوق أدونيس عليه كحبيب لأفروديت.

بالمثل، يُرجع أوفيد قصة أدونيس إلى علاقة زنا المحارم بين والدته، ميرا، وأبيها المدعو في هذه القصة سينيراس. كانت ميرا على وشك شنق نفسها للتخلص من وطأة معاناتها التي كانت تمر بها، لولا وصيفتها العجوز التي كشفت عن مصدر معاناة ميرا، ومثلما سارت الأحداث في رواية أبولودورُس، رتبت مضاجعة ميرا مع أبيها دون علمه. بالرغم من ذلك، في الليلة الثالثة، عندما طلب والد ميرا إضاءة المصابيح لمعرفة من أحبته إلى هذه الدرجة، وجدها ابنته. ومثلما ورد في رواية أبولودورُس، استل سيفه لقتلها فهربت ميرا. ظلت ميرا التي حملت سفاحًا تجوب في كل مكان لمدة تسعة أشهر. ووفقًا لتسلسل الأحداث في رواية أبولودورُس أيضًا، صلَّت ميرا منهكة القوى للآلهة التي أشفقت عليها فحوَّلتها إلى شجرة، وكان ذلك في نهاية حملها، لا في بدايته كما في رواية أبولودورُس. رغم ذلك، ظلت ميرا تحتفظ بجانب إنساني وهي شجرة جعلها تنتحب، ومن دموعها استُخلص عطر المُر. كان على الطفل الذي دبت فيه الحياة في أحشائها أن يشق طريقه خارج الشجرة ليخرج إلى النور.

في رواية أوفيد، في مقابل رواية أبولودورُس، ما إن التقت فينوس (الاسم الروماني المقابل لأفروديت) بأدونيس شابًّا حتى شغفها حبًّا في الحال، كتسلسل أحداث رواية أبولودورُس. ولم تكن هناك أية صراعات عليه مع أية إلهة أخرى؛ لذا استأثرت فينوس بأدونيس لنفسها دون منازع. فكانا يذهبان إلى الصيد معًا، وعلى الرغم من تحذير فينوس المتكرر لأدونيس بألا يصطاد سوى الحيوانات الأليفة، لم يعبأ أدونيس وسعى إلى اصطياد الحيوانات المتوحشة. ومثلما حدث في رواية أبولودورُس، قتله خنزير بري، ولكن هذه المرة دون أن ترسله أية إلهة تتنافس مع فينوس على حبه.

فبينما تنتهي قصة أبولودورُس بمقتل أدونيس، يواصل أوفيد قصته بذكر تفاصيل حداد فينوس عليه. وتكريمًا لذكراه، رشَّت فينوس رحيقًا فوق دمائه، فتفتقت زهرة شقائق النعمان، وهي زهرة قصيرة العمر مثل أدونيس.

وعلى الرغم من أن الدورة السنوية للموت والميلاد من جديد «تسبق» الموت «النهائي» لأدونيس في رواية أبولودورُس، «تتبع» الدورة السنوية في رواية أوفيد، ممثلةً في الزهرة، وفاة أدونيس. وتسبق زراعة الزهرة الطقوس المصاحبة لأسطورة أدونيس، وهي صلة لم يرد ذكرها في رواية أبولودورُس.

ومع أن الغضب هو الدافع الرئيس للأحداث في رواية أبولودورُس، فالحب هو الدافع في رواية أوفيد. وبينما يعتبر أدونيس في رواية أبولودورُس هو الضحية البريئة لصراع الآباء والآلهة المتنافسة، فإن أفروديت التعيسة في رواية أوفيد تعتبر ضحية بالمثل.

fig1
شكل ١: لوحة «فينوس وأدونيس» بريشة روبنز.1

وفيما يطرح أبولودورُس القصة باعتبارها حقيقية، يقدمها أوفيد في ثوب القصة الخيالية. وبينما يسرد أبولودورُس أحداث القصة بصورة مباشرة، يحرفها أوفيد بحيث تسع لذكر موضوعات أكبر، خاصةً موضوع التحول، مثل تحول ميرا إلى شجرة وأدونيس إلى زهرة. وفيما يهدف أبولودورُس إلى تفسير قصته حرفيًّا، يستهدف أوفيد تفسير القصة مجازيًّا. وبينما يتبنى أبولودورُس أسلوبًا جادًّا في سرد القصة، يوظف أوفيد نبرة مرحة.

إنني أقترح استخدام أسطورة أدونيس؛ ليس فقط لأنها لا تزال موجودة في نسخ شديدة التباين، ولكن لشعبيتها الطاغية لدى منظري الأساطير في العصر الحديث. إضافةً إلى ذلك، خضعت هذه الأسطورة لتحليل منظرين من أمثال جيه جي فريزر، ومارسيل ديتيان الذي اتبع لاحقًا مدرسة ليفي-ستروس، وسي جي يونج وأتباعه.

تطبيق النظريات على الأساطير

يتمثل تحليل إحدى الأساطير في إجراء التحليل في ضوء إحدى النظريات؛ فلا مفر من التنظير. على سبيل المثال، كتيبات الميثولوجيا الكلاسيكية، التي تربط ربطًا مباشرًا بين رحلة أدونيس السنوية إلى برسيفوني ثم عودته إلى أفروديت، وبين مراحل إنبات الزهرة؛ تفترض مسبقًا اعتبار الأسطورة نظيرًا بدائيًّا للعلم. وبينما يعتبر التشكك في شمولية أية نظرية أمرًا محل نظر، فإنه لا يمكن التخلي عن التنظير بصورة كاملة.

تحتاج النظريات إلى الأساطير بقدر حاجة الأساطير إلى النظريات. إذا فسرت النظريات الأساطير، فإن الأساطير بدورها تؤكد صحة النظريات. رغم ذلك، لا يؤكد التوافق التام بين النظرية والأسطورة صحة النظرية، ولا بد من ترسيخ المبادئ الأساسية للنظرية بصورة مستقلة. على سبيل المثال، إن توضيح أن نظرية يونج، عند تطبيقها، تفسر أسطورة أدونيس، لا يثبت في حد ذاته وجود لاوعي جمعي يُفترض مسبقًا في المقابل. وأحد الطرق — غير المباشرة — التي تساعد في تأكيد إحدى النظريات تتمثل في إظهار براعة تطبيقها «عند» التسليم بصحة مبادئها الأساسية، وهو ما يستند إلى صحة أو محدودية النظرية حال إثبات عدم نجاحها.

هوامش

(1) © 2003 The Metropolitan Museum of Art, New York. Gift of Harry Payne Bingham, 1937. All rights reserved.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤