الفصل الأول

الأسطورة والعلم

يرجع رفض الأسطورة في الغرب إلى أفلاطون الذي رفض أساطير هوميروس لأسباب أخلاقية بالأساس. واقتصر الأمر في الدفاع عن الأسطورة من هذا الاتهام على الرواقيين الذين أعادوا تفسير الأساطير مجازيًّا. ولم يأتِ رفض الأساطير الأساسي في العصر الحديث من علم الأخلاق بل من العلم. ويُفترض هنا أن تفسِّر الأسطورة طريقة سيطرة الآلهة على العالم المادي بدلًا من طريقة تعامل الآلهة مع بعضها البعض، مثلما كان يرى أفلاطون. وبينما كان أفلاطون يسخر من الأساطير لتقديم الآلهة كشخصيات تمارس الأفعال اللاأخلاقية، فإن نقاد العصر الحديث يرفضون الأساطير بسبب تفسيرها للعالم تفسيرًا غير علمي.

الأسطورة كعلم حقيقي

كان من أشكال الرفض الحديثة للأساطير رفض مصداقيتها العلمية. فهل حدثت عملية الخلق في ستة أيام فقط، مثلما تشير القصة الأولى من قصتَي الخلق في سفر التكوين (١: ١-٢: ٤أ)؟ هل كان هناك حقًّا طوفان غمر العالم بأكمله؟ هل يرجع تاريخ الأرض إلى ستة أو سبعة آلاف سنة فقط؟ هل أصاب المصريين عشرةُ ضربات بالفعل؟ كان أحد أكثر الدفاعات استماتةً عن الأسطورة في هذا السياق هو الزعم بصحة الرواية المذكورة في الكتاب المقدس لهذه الأحداث، بسبب تنزيل الله للأسفار على موسى. ويتخذ هذا الرأي، المعروف باسم «نظرية الخلق»، صورًا متعددة، تتراوح بين حساب عدد أيام الخلق باعتبارها ستة أيام بالضبط، وبين اعتبارها مسألة استغرقت «عصورًا». وظهرت نظرية الخلق كرد فعل لكتاب «أصل الأنواع» لداروين (١٨٥٩)، الذي يطرح تطور الأنواع تدريجيًّا بعضها من بعض، وليس خلقها بصورة منفصلة آنية. ومما يدعو للدهشة أن نظرية الخلق صارت أكثر، وليس أقل، تشبثًا بالحرفية في تفسيرها لرواية الكتاب المقدس لقصة الخلق.

في الوقت نفسه، يتباهى مؤيدو نظرية الخلق من كافة المشارب بشأن رؤاهم باعتبارها علمية «وكذلك» دينية، وليست دينية «أكثر» من كونها علمية. و«نظرية الخلق» هي اختصار ﻟ «علم الخلق»، الذي يقتنص أي دليل علمي من أي نوع لدعم مزاعمه، ودحض مزاعم النظريات اللادينية المنافسة مثل التطور. ولا شك في أن «علماء الخلق» قد يعترضون على استخدام مصطلح «أسطورة» للتعبير عن الرؤى التي يدافعون عنها؛ وذلك فقط نظرًا للمعتقدات الزائفة المرتبطة بالمصطلح. وإذا جرى استخدام المصطلح بصورة محايدة للإشارة إلى معتنق راسخ، فإن نظرية الخلق ستعبر حينها عن أسطورة تزعم أنها علمية. ومن وجهة نظر علماء الخلق، لا يستند التطور إلى أي أساس علمي على الإطلاق. وفي حال وجود أي صدام بين الكتاب المقدس والعلم الحديث، يجب على العلم الحديث أن يفسح المجال لعلم الكتاب المقدس، وليس العكس.

الأسطورة كعلم حديث

يتمثل أحد الدفاعات الأكثر اعتدالًا عن الأسطورة في وجه رفض العلم الحديث لها في التوفيق بينها وبين العلم. وفي هذا السياق، يتم التخلص من العناصر التي تصطدم بالعلم الحديث أو، بصورة أكثر براعة، إعادة تفسيرها بحيث تصير حديثة وعلمية. وتعتبر الأسطورة ذات مصداقية علمية؛ نظرًا «لأنها» علم — علم حديث. ربما لم يكن بمقدور إنسان اسمه نوح (النبي) وحده جمع كل هذه الأنواع من الكائنات والحفاظ على حياتها في قارب خشبي قوي بما يكفي لتحمل أمواج أعتى البحار الموجودة آنذاك، لكن كان هناك طوفان. من ثم، يعتبر ما ظل قائمًا من الأسطورة صحيحًا لأنه علمي. ويُعد هذا الأسلوب في التناول متعارضًا مع الأسلوب الذي يُطلق عليه «التجرد من العناصر الخرافية»، الذي يفصل الجانب الخرافي عن العلمي. وسنتناول أسلوب التجرد من العناصر الخرافية في الفصل التالي.

وفي تعليق على الضربة الأولى؛ ألا وهي تحول مياه النيل إلى دم (سفر الخروج ٧ : ١٤–٢٤)، يجسد محررو «إنجيل أكسفورد المشروح» هذا الأسلوب المنطقي بقولهم: «كانت ضربة الدم تعكس بوضوح ظاهرة طبيعية في مصر؛ ألا وهي لون نهر النيل الضارب إلى الحمرة في أوج فيضانه في الصيف، والذي كان يرجع إلى جسيمات حمراء في الأرض أو ربما إلى كائنات حية دقيقة.» أما بالنسبة للضربة الثانية؛ ألا وهي ضربة الضفادع (سفر الخروج ٨ : ١-١٥)، كتب المحررون قائلين في وضوح: «كان طمي النيل، بعد موسم الفيضان، هو البيئة الطبيعية لتكاثر الضفادع، ولم تتعرض مصر لهذه الضربة لأكثر من مرة من قبل؛ نظرًا لوجود الطائر الآكل للضفادع؛ أبو منجل.» فيا لها من مصادفة، تلك التي وقعت حينما كان طائر أبو منجل ليس على الساحة عندما بسط هارون يده للتسبب في وقوع الضربة، وحتمًا عاد الطائر في الوقت الذي كان موسى يرغب فيه في رفع البلاء! فبدلًا من وضع الأسطورة «في مواجهة» العلم، يسنح هذا الأسلوب بتحويل الأسطورة «إلى» علم، وليس كما هو رائج حاليًّا، تحويل العلم إلى أسطورة.

الأسطورة كعلم بدائي

حتى الآن، تمثَّلت أكثر ردود الفعل شيوعًا حيال رفض العلم للأسطورة في التخلي عن الأساطير لصالح العلم. في هذا السياق، تعبر الأسطورة، التي لا تزال تقدِّم تفسيرًا للعالم، عن تفسير فريد من نوعه، وليس تفسيرًا علميًّا تحت غطاء خرافي. إذن، لا يتمثل جوهر المسألة في المصداقية العلمية للأسطورة، بل في مدى توافق الأسطورة مع العلم. وتُعتبر الأسطورة علمًا «بدائيًّا» أو، بصورة أدق، نظيرًا سبق ظهور العلم الذي يُفترض كونه حديثًا بصورة استثنائية. وتُعتبر الأسطورة في هذا السياق جزءًا من الدين، وبينما يوفر الدين — المنفصل عن الأسطورة — الاعتقاد في الآلهة، تملأ الأسطورة الفراغ بتفاصيل طريقة تنفيذ الآلهة للأحداث. ونظرًا لأن الأسطورة جزء من الدين، أدى صعود العلم كتفسير حديث ومهيمن للأحداث المادية إلى سقوط الدين والأسطورة معًا. ولأن الحداثيين يقبلون العلم بطبيعتهم، فإنهم يعجزون عن تقبل وجود الأسطورة أيضًا، وهكذا تعد عبارة «الأسطورة الحديثة» متعارضة مع نفسها. وبذلك، تعد الأسطورة ضحية عملية العلمنة التي تؤلف الحداثة.

في الواقع، لم تكن العلاقة بين الدين والعلم متناغمة قط، وتعبِّر المؤلفات ذات العناوين المنحازة مثل «تاريخ حرب العلم مع اللاهوت في العالم المسيحي» عن وجهة نظر أحادية. وبالرغم من ذلك، كان الدين والعلم، وبناءً عليه الأسطورة والعلم، يُعارضان على نحو أكثر انتظامًا في القرن التاسع عشر عنه في القرن العشرين، الذي جرى فيه التوفيق بينهما في كثير من الأحيان.

إي بي تايلور

fig2
شكل ١-١: إي بي تايلور، بريشة الفنان جي بونافيا.1

يظل عالم الأنثروبولوجيا الرائد الإنجليزي الجنسية إي بي تايلور (١٨٣٢–١٩١٧)؛ المؤيدَ الكلاسيكي لوجهة النظر القائلة بتعارض الأسطورة مع العلم. يصنف تايلور الأسطورة تحت الدين، ومن ثم يصنف كلًّا من الدين والعلم تحت الفلسفة. ويقسِّم تايلور الفلسفة إلى «بدائية» و«حديثة». فتتطابق الفلسفة البدائية مع الدين البدائي، غير أنه لا يوجد علم بدائي. على النقيض من ذلك، تتضمن الفلسفة الحديثة قسمين فرعيين: الدين والعلم. ومن بين الاثنين، يُعتبر العلم هو الأكثر أهمية، كما يُعتبر النظير الحديث للدين البدائي. ويتألف الدين الحديث من عنصرين — ما وراء الطبيعة وعلم الأخلاق — وكلاهما لا يوجد في الدين البدائي. فتتعامل ما وراء الطبيعة مع الكيانات غير المادية التي لا يدركها «البدائيون». وبينما لا يغيب علم الأخلاق في الثقافة البدائية، فإنه يقع خارج نطاق الدين البدائي: «يبدو أن ارتباط علم الأخلاق بالفلسفة الروحانية، لم يبدأ في الثقافة الدنيا، إلا نادرًا، على الرغم من ارتباطهما وبقوة في الثقافة العليا.» ويستخدم تايلور مصطلح «المذهب الروحاني» للإشارة إلى الدين في حد ذاته، سواءٌ الحديث أم البدائي؛ نظرًا لأنه يستمد الاعتقاد في الآلهة من الاعتقاد في الأرواح. وفي الدين البدائي، تسكن الأرواح جميع الكيانات المادية بدءًا من أجساد البشر. ويُعتبر الآلهة هم الأرواح الساكنة في جميع الكيانات المادية «باستثناء» البشر الذين هم ليسوا آلهة.

يعتبر الدين البدائي هو النظير البدائي للعلم؛ نظرًا لأن كليهما يقدمان تفسيرات للعالم المادي؛ بناءً عليه، يصف تايلور الدين البدائي بأنه «بيولوجيا بدائية»، مؤكدًا على «إحلال علم الفلك الميكانيكي محل علم الفلك الروحاني عند الأعراق الدنيا تدريجيًّا»، وأنه حاليًّا «يحل علم الأمراض البيولوجية محل علم الأمراض الروحانية تدريجيًّا.» إضافةً إلى ذلك، يعتبر التفسير الديني شخصانيًّا؛ إذ تفسر قرارات الآلهة الأحداث، بينما يُعد التفسير العلمي غير شخصي؛ إذ تفسر القوانين الميكانيكية الأحداث. وبذلك حلَّت العلوم في مجملها محل الدين كتفسير للعالم المادي، بحيث صار «علم الفلك الروحاني» و«علم الأمراض الروحاني» يشيران فقط إلى المذهب الروحاني البدائي، لا الحديث. وأسلم الدين الحديث راية تفسير العالم المادي إلى العلم، وانزوى إلى العالم غير المادي، خاصةً إلى عالم الحياة بعد الموت، بعبارة أخرى إلى حياة الروح بعد موت الجسد. وفيما تعتبر الأرواح مادية في الدين البدائي، تعتبر غير مادية في الدين الحديث كما تقتصر على البشر:

في وقتنا هذا ودولتنا هذه، نلاحظ تلاشي فكرة أرواح المخلوقات. ويبدو المذهب الروحاني كأنه ينسحب من قواعده المترامية، ويمركز نفسه في وضعه الأول والرئيس، وهو مذهب الروح البشرية … تخلَّت الروح عن مادتها الأثيرية، وصارت كيانًا غير مادي، «ظلًّا لظل». ويتزايد انفصال نظرية الروح عن نطاق الأبحاث في علم الأحياء والعلوم العقلية، التي تناقش حاليًّا ظاهرة الحياة والفكر، الحواس والعقل، المشاعر والإرادة، استنادًا إلى أساس من التجربة الخالصة. فظهر إلى الوجود منتج فكري يعتبر وجوده — في حد ذاته — في غاية الأهمية؛ ألا وهو «علم النفس» الذي لم يعد له علاقة ﺑ «الروح». وتقع الروح في الفكر الحديث في مجال ما وراء الطبيعة الدينية، وتتمثل مهمتها الخاصة هناك في تقديم جانب فكري إلى المذهب الديني للمستقبل.

(تايلور، «الثقافة البدائية»، المجلد الثاني، ص٨٥)

بالمثل، فيما تُعتبر الآلهة مادية في الدين البدائي، فإنها غير مادية في الدين الحديث؛ بناءً عليه، لم تعد الآلهة فاعلة في العالم المادي — ويفترض تايلور هنا أن الآثار المادية لا بد أن تكون لها أسباب مادية — كما لم يعد الدين تفسيرًا للعالم المادي. فنُقلت الآلهة من العالم المادي إلى العالم الاجتماعي، وأصبحت نماذج للبشر، مثلما يجب أن يكونوا وفقًا لأفلاطون. يرجع المرء إذن الآن إلى الكتاب المقدس لتعلم الأخلاق، وليس الفيزياء. ويقرأ المرء الكتاب المقدس، لا ليعرف قصة الخلق بل لمعرفة الوصايا العشر، مثلما تمكِّن أعمال هوميروس، بعد تنقيحها، المرء من فعل ذلك، حسب رؤية أفلاطون. وهكذا، يُحاكى المسيح باعتباره إنسانًا مثاليًّا وليس باعتباره صانع معجزات. ولقد عبَّر عن نموذج لهذه الرؤية الناقد الثقافي ماثيو أرنولد في العصر الفيكتوري.

يشبه هذا الموقف التوافقي موقف عالم الأحياء التطورية الراحل ستيفن جاي جولد، الذي يعتبر العلم — خاصةً علم التطور — متوافقًا مع الدين؛ نظرًا لأن كليهما لا يتقاطعان أبدًا. وفيما يفسِّر العلم العالم المادي، يقدِّم الدين وصفة أخلاقية ويعطي معنى للحياة:

يحاول العلم توثيق الطبيعة الحقيقية للعالم الطبيعي، وتطوير نظريات تنسق هذه الحقائق وتفسرها. على الجانب الآخر، يوجد الدين في مجال الأغراض والمعاني والقيم الإنسانية.

(جولد، «صخور العصور»، ص٤)

رغم ذلك، بينما أدى الدين «دومًا» عند جولد وظيفة مختلفة عن وظيفة العلم، أُجبر الدين من وجهة نظر تايلور على التقهقر؛ نظرًا لتهميش العلم له قسرًا، وصارت وظيفته الحالية أضعف. ويُعتبر تايلور أقرب إلى عالِم الأحياء ريتشارد دوكينز، على الرغم من أن دوكينز، على عكس تايلور، غير مستعد حتى لأن يمنح الدين وظيفة أقل بعد ظهور العلم.

ويرى تايلور أن تضاؤل دور الدين، كتفسير للعالم المادي، كان يعني تضاؤل دور الأساطير بالكامل التي تقتصر من وجهة نظره على الدين البدائي. وعلى الرغم من أن الأساطير هي إسهاب للاعتقاد في الآلهة، فإن هذا الاعتقاد في حد ذاته قادر على الصمود أمام صعود العلم حيثما تعجز الأسطورة عن ذلك إلى حد ما. ومن الواضح أن الأساطير وثيقة الصلة بالآلهة كأيادٍ فاعلة في العالم بصورة لا تسمح بإجراء أية عملية تحول مقارنة من الفيزياء إلى ما وراء الطبيعة. إذن، بينما يوجد «دين حديث»، على الرغم من كونه دينًا لا يمارس الدور الرئيس في التفسير، فإنه لا توجد أساطير حديثة.

في وضع الأسطورة في مواجهة العلم، كما هي الحال في وضع الدين كتفسير في مقابل العلم، يجسد تايلور النظرة حيال الأساطير في القرن التاسع عشر. وفي القرن العشرين، سار الاتجاه العام نحو التوفيق بين الأساطير والعلم من جهة وبين الدين والعلم من جهة أخرى، بحيث لا يستغني الناس في العلم الحديث عن الأسطورة أو الدين. مع ذلك، تظل وجهة نظر تايلور شائعة بلا شك، ويتبناها أولئك ممن يثير لديهم مصطلح «الأسطورة» قصصًا تدور حول الآلهة اليونانية والرومانية.

ويرى تايلور أن العلم لا يجعل الأسطورة شيئًا غير ضروري فحسب، بل يجعلها أيضًا غير مقبولة. لماذا؟ لأن التفسيرات التي يطرحها كل من الأسطورة والعلم غير متوافقة. ولا يقتصر الأمر ببساطة على أن تفسيرات الأساطير شخصانية وأن التفسيرات العلمية غير شخصية، بل يتجاوز ذلك إلى أن كليهما يطرح تفسيرات «مباشرة» للأحداث «نفسها»، فلا تؤثر الآلهة في الأشياء من خلف أو من خلال قوى غير شخصية، بل تحل محلها؛ ففي الأسطورة، يجمع إله الأمطار، على سبيل المثال، الأمطار في دلاء ثم يقرر تفريغها في منطقة ما أسفل منه، أما في العلم، تسبب الأحوال الجوية الأمطار. وبذلك، لا يستطيع المرء وضع التفسير الخرافي فوق التفسير العلمي؛ لأن إله المطر، بدلًا من استخدام الأحوال الجوية، يُسقط الأمطار ويتسبب فيها بدلًا منها.

بصورة أدق، لا تعتبر السببية في الأساطير مسألة شخصانية بالكامل قط. ويفترض قرار إله المطر إنزال الأمطار فوق منطقة ما وجود قوانين فيزيائية يرجع إليها سبب تراكم الأمطار في السماء، وسعة الدلاء للاحتفاظ بالأمطار، وتوجيه الأمطار الهاطلة. ولكن، حتى يحافظ تايلور على الفجوة الصارمة بين الأسطورة والعلم، لا شك أنه سيجيب بأن الأساطير نفسها تتجاهل العمليات الفيزيائية وتركِّز على القرارات الإلهية فقط.

مع ذلك، حتى في حال عدم التوافق بين الأسطورة والعلم، لماذا لا تتسم الأسطورة بأنها علمية من وجهة نظر تايلور؟ لا بد أن الإجابة هي أن المسببات الشخصية غير علمية. ولِم ذلك؟ لم يجب تايلور قط. وربما تتمثل الإجابة في أحد الأسباب التالية: أن المسببات الشخصية عقلية — أي إنها قرارات أيادٍ فاعلة إلهية — بينما تعتبر المسببات غير الشخصية مادية. أن المسببات الشخصية لا يمكن التنبؤ بها أو اختبارها، بينما يمكن توقع وقياس المسببات غير الشخصية. أن المسببات الشخصية خاصة، بينما المسببات غير الشخصية معممة. وأن المسببات الشخصية نهائية أو غائية (لها غاية)، بينما المسببات غير الشخصية فاعلة ومؤثرة. ولكن، لا تفرِّق أي من هذه الأسباب في حقيقة الأمر بين المسببات الشخصية وغير الشخصية، مما يصعِّب معرفة كيف استطاع تايلور الدفاع عن قناعته بأن الأسطورة غير علمية.

نظرًا لأن تايلور لا يشكك في هذا الافتراض أبدًا، فإنه لا يسلم جدلًا فقط بأن الأشخاص البدائيين لا يملكون إلا أساطير، بل والأدهى من ذلك أن الحداثيين لا يملكون إلا العلم. وليس من قبيل المصادفة، إذن، أن يشير تايلور إلى «مرحلة صناعة الأسطورة» في الثقافة. وبدلًا من كون الأسطورة ظاهرة خالدة، مثلما يزعم كل من ميرسيا إلياد وسي جي يونج وجوزيف كامبل بتعالي، لا تعتبر الأسطورة من منظور تايلور أكثر من مجرد ظاهرة زائلة، وإن كانت تزول ببطء. فلقد أدت الأساطير دورها باقتدار غير أن زمانها انتهى. وفشل الحداثيون الذين لا يزالون يتشبثون بالأساطير في إدراك أو التسليم بعدم توافقها مع العلم. وبينما لا يشير تايلور إلى تاريخ بداية المرحلة العلمية، فإن هذا التاريخ يتطابق مع تاريخ بداية الحداثة، ومن ثم لا يرجع إلى أكثر من قرون قليلة خلت. وعند وفاته في عام ١٩١٧، لم يتخيل على الإطلاق وجود مرحلة تتعدى الحداثة. وأحد الأمثلة الحديثة على موقف تايلور، عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي دافيد بدني.

أحد أسباب وضع تايلور للأسطورة في مواجهة مع العلم هو تصنيفه للأسطورة تحت مظلة الدين. ومن وجهة نظره، لا توجد أسطورة خارج مجال الدين، على الرغم من عدم وجود أسطورة في الدين الحديث. ولأن الدين البدائي يعتبر نظير العلم، كذلك يجب أن تكون الأسطورة، ولأن الدين يجب فهمه حرفيًّا، كذلك يجب فهم الأسطورة على النحو نفسه.

من الأسباب الأخرى لوضع تايلور الأسطورة في مواجهة مع الدين أنه يفسر الأسطورة تفسيرًا حرفيًّا. ويعارض تايلور من يفسرون الأسطورة بصورة رمزية، أو شعرية، أو مجازية، وهي جميعًا بالنسبة إليه مصطلحات متماثلة. ويعارض أيضًا «الرمزيين الأخلاقيين» الذين يعتبرون أسطورة قيادة هيليوس اليومية لعربته عبر السماء وسيلة لغرس الانضباط الذاتي. بالمثل، يعارض تايلور «المؤلهين» الذين يرون الأسطورة مجرد أسلوب حيوي لوصف إنجازات بطل محلي أو قومي. (كان يوهيمروس — الذي اشتُقت من اسمه لفظة «مؤله» باللغة الإنجليزية — جامعَ أساطير يونانيًّا قديمًا أرسى تقليد البحث عن أساس تاريخي حقيقي للأحداث الأسطورية.) ويرى تايلور أن أسطورة هيليوس تفسر شروق الشمس وغروبها؛ وهذه الوظيفة التفسيرية «تتطلب» تفسيرًا حرفيًّا. ولا تعتبر الأسطورة من منظور الرمزيين الأخلاقيين والمؤلهين نظيرًا بدائيًّا للعلم؛ نظرًا لأن الأسطورة تدور حول البشر أكثر مما تدور حول الآلهة أو العالم، وذلك في حال تفسيرها بصورة رمزية. ويرى الرمزيون الأسطورة غير علمية، نظرًا لأنها تقدم وصفة إلى البشر حول كيفية التصرف أكثر مما تشرح طرق التصرف، وذلك حال تفسيرها تفسيرًا رمزيًّا.

كتفسيرات للأسسطورة، يرجع كل من الترميز الأخلاقي وتأليه الأشخاص إلى العصور القديمة، إلا أن تايلور يرى أن المؤيدين لكليهما المعاصرين له تدفعهما رغبة في الحفاظ على الأسطورة، على الرغم من رفض العلم الحديث لها على هذا النحو المميز. وفيما يرفض تايلور أولئك الذين يفسرون الآلهة على أنهم مجرد استعارات تشير إلى البشر باعتبارهم «مؤلهين»، فإن المؤلهين القدامى أنفسهم سلموا على نحو تقليدي بأن الآلهة — ما أن افتُرض وجودهم جدلًا — يُفسَّرون كآلهة، وذهبوا إلى أن الآلهة «ظهرت للوجود» بتفخيم البشر وإجلالهم، مثلما يرى تايلور نفسه. وكان المؤلهون القدامى يرون أن الآلهة الأولين كانوا ملوكًا عظماء بحق، جرى تأليههم بعد مماتهم. ورأى يوهيمروس نفسه أن الآلهة الأولين كانوا ملوكًا جرى تأليههم وهم على قيد الحياة.

يأتي على طرف النقيض من تايلور معاصره في الحقبة الفيكتورية، فريدريك ماكس مولر (١٨٢٣–١٩٠٠) — ألماني المولد عالم اللغة السنسكريتية — الذي قضى حياته العملية في أكسفورد. وبينما أساء الحداثيون — من منظور تايلور — تفسير الأسطورة لنحوهم نحوًا رمزيًّا، وصل الأمر بالقدماء أنفسهم — في وجهة نظر مولر — إلى إساءة تفسير أساطيرهم، أو البيانات الخرافية لانتهاجهم على نحو تدريجي نهجًا حرفيًّا. وفي الأصل، كان الوصف الرمزي للظواهر الطبيعية يُفسَّر كوصف حرفي لصفات الآلهة. على سبيل المثال، البحر الموصوف شعريًّا بأنه «هائج» كان يُعتبر بمرور الوقت صفةً للإله المشخصن المسئول عن البحر، ثم لاحقًا ابتكرت أسطورة للتعبير عن هذه الصفة. وتنبثق الميثولوجيا في رأي مولر من غياب أو شبه غياب الأسماء المجردة وعلامات التذكير والتأنيث في اللغات القديمة؛ بناءً عليه، دائمًا ما كان يحول أي اسم أُعطي للشمس، لنقل على سبيل المثال «مصدر الدفء»، كيانًا مجردًا غير شخصي إلى شخصية حقيقية، ثم ابتكرت الأجيال اللاحقة الأساطير لملء تفاصيل حياة هذا الإله المذكر أو المؤنث.

في حالة تطبيق منهج تايلور على أسطورة أدونيس، سنجد أن الأسطورة تعبر عن تفسير — قائم بذاته — لشيء مدهش جرت ملاحظته. ويرى تايلور أن روايتي أبولودورُس وأوفيد تقدمان تفسيرًا لأصل شجرة المر. غير أن رواية أوفيد تقدم تفسيرًا لأصل زهرة شقائق النعمان، وتفسر أيضًا سبب قصر حياة الزهرة، وهو ما يرمز إلى قصر حياة أدونيس. فإذا كان للمرء أن يعمِّم ما يحدث لزهرة شقائق النعمان وغيرها من النباتات، فقد تفسر الأسطورة لماذا لا تموت هذه الكيانات بل إنها تولد من جديد. على الجانب الآخر، يرى تايلور أن أدونيس يجب أن يكون إلهًا، وليس بشرًا، كما يجب أن تربط الأسطورة بين مراحل إنبات الزهور والنباتات على مدار العام بصورة عامة، وبين رحلة أدونيس السنوية إلى حادس والرجوع منه. غير أن موت أدونيس سيتم تجاهله؛ فالتركيز في الأسطورة يقع على قدرة أدونيس على السيطرة على الكيانات الطبيعية التي كان مسئولًا عنها. أما عن الدرس المستفاد من الأسطورة، فهو فكري من جميع جوانبه: ويتمثل في معرفة المرء سبب سلوك المحاصيل على هذا النحو الفريد — إذ تموت ثم تعود إلى الحياة، ولا يحدث ذلك مرة واحدة بل إلى الأبد.

مع ذلك، فإن الأسطورة نفسها لا تربط بين رحلة أدونيس السنوية وبين مراحل الإنبات، على الرغم من وجود هذا الارتباط في طقوس نثر البذور في «حدائق أدونيس» سريعة النمو، سريعة الموت. وحتى في حال عدم ربط رحلة أدونيس بمراحل الإنبات، لن يتأتى أي أثر على النبات من أي قرار يتخذه أدونيس، مثلما قد يشترط تايلور، بل كنتيجة تلقائية لأفعاله.

إضافة إلى ذلك، سيجري التخلي عن جانب كبير من الأسطورة. فلا تغطي نظرية تايلور موضوعات زنا المحارم، والحب، والغيرة، والجنس. وبصورة أدق، لا تستطيع نظرية تايلور تغطية هذه الموضوعات إلا من باب تناول دوافع أدونيس. في المقابل، تظل هذه الدوافع دوافع الأشخاص من حول أدونيس، لا دوافعه هو. ويعتبر أدونيس شخصية سلبية أكثر من كونها فاعلة. وعلى الرغم من الأحداث الإعجازية في حياة أدونيس، لا يزال أدونيس بشرًا، وليس إلهًا. إجمالًا، تركز الأسطورة فيما يبدو على علاقاته بالآخرين أكثر من تأثيره أو تأثير الآخرين على العالم المادي.

تبدو نظرية تايلور مفصلة خصيصى لنموذج أسطورة تعبِّر بصورة جلية عن قصة الخلق، بل تعبِّر عن آليات عمل الظواهر المادية الجاري. خذ سفر التكوين الإصحاح الأول على سبيل المثال، الذي يعتبره تايلور أسطورة وفق هذا المعيار. ولنستشهد ببعض المقتطفات:

وقال الله: «لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد، ولتظهر اليابسة.» وكان كذلك. ودعا الله اليابسة أرضًا، ومجتمع المياه دعاه بحارًا. ورأى الله ذلك أنه حسن.

(سفر التكوين ١ : ٩-١٠ [النسخة القياسية المراجعة])

وقال الله: «لتفض المياه زحافات ذات نفس حية، وليطر طير فوق الأرض على وجه جلد السماء.» فخلق الله التنانين العظام، وكل ذوات الأنفس الحية الدبابة التي فاضت بها المياه كأجناسها، وكل طائر ذي جناح كجنسه. ورأى الله ذلك أنه حسن.

(سفر التكوين ١ : ٢٠-٢١)

وقال الله: «نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا، فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم، وعلى كل الأرض، وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض.» فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكرًا وأنثى خلقهم. وباركهم الله وقال لهم: «أثمروا وأكثروا واملئوا الأرض، وأخضعوها» … ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن جدًّا.

(سفر التكوين ١ : ٢٦–٣١)

تتناسب نظرية تايلور مع عناصر العالم تلك التي لم تُخلق وفق نظام محدد مرة واحدة إلى الأبد، مثل اليابسة والبحار، فضلًا عن الظواهر المتكررة مثل الأمطار، وتحولات الفصول، و(في قصة نوح) قوس قزح. يتناول سفر التكوين، الإصحاح الأول، العديد من الظواهر المتكررة مثل الليل والنهار، والشمس والقمر، وجميع الكائنات الحية. في مقابل ذلك، تتطلب نظرية تايلور وقوع الظواهر المتكررة استنادًا إلى القرارات المتكررة للآلهة. ووفقًا لتايلور، يمثِّل الآلهة للعالم المادي ما يمثله البشر للعالم الاجتماعي؛ إذ يتخذون قرارًا جديدًا في كل مرة يفعلون الشيء نفسه. ومن وجهة نظره، لا يخلق الآلهة الأشياء التي تظل للأبد، على النقيض مما يراه منظرون من أمثال برونيسلاف مالينوفسكي وإلياد.

ماذا عن الظواهر التي لم يشهدها أحد على الإطلاق، مثل وحوش البحر؟ كيف تصلح الأسطورة للتعبير عنها؟ تتمثل إجابة تايلور السهلة في أن واضعي سفر التكوين افترضوا مشاهدة أحد لها. ولن تختلف وحوش البحر في هذه الحالة عن الأطباق الطائرة المجهولة.

حتى في حال توافق نظرية تايلور مع عملية الخلق توافقًا محكمًا في سفر التكوين، الإصحاح الأول، سيقع جانب كبير من الأسطورة خارج نطاق النظرية. فلا تقتصر النظرية على تفسير عملية الخلق فحسب، بل إنها تجري عملية تقييم لها، واصفةً إياها بالحسنة بصورة دائمة. ونظرًا لأن تايلور يصر على إجراء مقارنة بين الأسطورة والعلم، لا يدع أي مجال في الأسطورة للأخلاق، والدليل على ذلك معارضته للرمزيين الأخلاقيين. ويرى تايلور أن سفر التكوين، الإصحاح الأول، يجب أن يفسر قصة الخلق، لا أن يقيمها. وبالمثل، لا تقتصر قصة الخلق على تفسير قصة خلق البشر، بل ترتقي بهم إلى مصاف تعلو مراتب كافة الخلق، مانحةً إياهم الحق والمسئولية في آن واحد في الإشراف على العالم المادي. إضافة إلى ذلك، إذا كانت «صورة» الله التي على مثالها خُلق البشر أكثر من مجرد صورة تشريحية، فسنجد قصورًا هنا أيضًا في نظرية تايلور.

أخيرًا، في حال نجاح نظرية تايلور، ماذا ستكشف عنه؟ إن التوافق بين نظرية ما وأسطورة بعينها أمر يختلف عن أن تفسر النظرية أية أسطورة تتوافق معها. فعلام تدلنا نظرية تايلور التي لولاها ما عرفنا ما سنعرفه منها؟ إحقاقًا للحق، لم يستطع أحد سؤال تايلور عن «معنى» الأسطورة؛ إذ إن تايلور يتشبث بموقفه بتفسير الأسطورة تفسيرًا حرفيًّا. بعبارة أخرى، تعني الأسطورة بالنسبة له ما تنُص عليه. ويتمثل إسهام تايلور فيما يتعلق بالأسطورة في أصل ووظيفة الأسطورة. ومثلما يؤكد تايلور، لم ينشأ سفر التكوين، الإصحاح الأول، من تخمينات جامحة إزاء العالم، بل من ملاحظات منتظمة لعمليات طبيعية متكررة، وإن كانت مدهشة، تستدعي التفسير. وفيما بين مؤيدي نظرية الخلق، هناك جمهور يطري على نظرية تايلور — ليس لأنه يعتبر سفر التكوين، الإصحاح الأول، هو الرواية الصحيحة عن أصل العالم، بل لأنه يعتبره «رواية»؛ رواية دينية مميزة. ويطرح تايلور تصحيحًا لعلماء اللاهوت في القرن العشرين الذين، بإصرارهم على جعل الكتاب المقدس كتابًا مستساغًا للحداثيين، يرون أن سفر التكوين، الإصحاح الأول، لا يعبر بأي صورة من الصور عن قصة الخلق، وهي رؤية تشبه وجهة نظر رودولف بولتمان حول العهد الجديد، كما سنرى في الفصل التالي.

جيه جي فريزر

لا تمثل رؤية تايلور سوى رؤية واحدة للعلاقة بين الأسطورة والعلم، أو بين الدين والعلم. وأقرب الرؤى إليها هي رؤية معاصره الرائد الأنثربولوجي جيه جي فريزر (١٨٥٤–١٩٤١)، اسكتلندي المولد، ودارس الحضارة اليونانية والرومانية القديمة المنتسب إلى جامعة كامبريدج. يرى فريزر، وكذلك تايلور، أن الأسطورة جزء من الدين البدائي، كما يعتبر الدين البدائي جزءًا من الفلسفة، التي تُعد شاملة، والدين البدائي أيضًا هو نظير للعلم الطبيعي الذي يُعد حديثًا في مجمله. ويرى كلاهما أيضًا أنه لا يوجد توافق بين الدين البدائي والعلم؛ فيخطئ الدين البدائي والعلم يصيب. ولكن، بينما يمثِّل الدين البدائي عند تايلور، متضمنًا الأسطورة، النظيرَ المقابل ﻟ «النظرية» العلمية، يمثِّل الدين البدائي عند فريزر النظيرَ المقابل للعلم «التطبيقي»، أو التكنولوجيا. وبينما «يفسِّر» الدين البدائي في رأي تايلور الأحداث في العالم المادي، «يسبب» الدين البدائي الأحداث في منظور فريزر، خاصةً نمو المحاصيل. وفيما يتعامل تايلور مع الأسطورة كنص مستقل، يربط فريزر الأسطورة بالطقوس التي تسببها.

يعتبر فريزر أسطورة أدونيس أحد الأمثلة الرئيسة على الأسطورة الأم من بين جميع الأساطير، وهي أسطورة كبير الآلهة، إله النبات. ويرى فريزر أنه كان من الممكن تمثيل أسطورة أدونيس، وذلك التمثيل الطقوسي كان يُعتقد أنه سيحقق نجاحًا باهرًا في إحداث ما كان مرجوًّا منه. فكان من الممكن أن يؤدي تمثيل عودة أدونيس إلى عودته بالفعل، ومن ثم إعادة إنبات المحاصيل. كما أن الأسطورة لم يكن الهدف منها هو شرح سبب موت المحاصيل — فقد ماتت لأن أدونيس، عند نزوله إلى أرض الموتى، قد مات — بل استهدفت إحياء المحاصيل. ويعتقد فريزر أن الدرس المستفاد من هذه الأسطورة، وهو تجنب المجاعة، شديد العملية. أما عن تفسيره لأسطورة أدونيس، فسوف نوليه الدراسة بمزيد من التفاصيل في الفصل الرابع من هذا الكتاب.

تتمثل الصعوبة الكبرى في رؤية تايلور وفريزر للأسطورة كنظير بدائي للعلم في عجزها الواضح عن تبرير وجود الأسطورة بعد ظهور العلم. فإذا كانت الأسطورة لا تؤدي أكثر من الدور الذي يؤديه العلم، فلماذا لا تزال موجودة؟ بطبيعة الحال، ربما يجيب تايلور وفريزر عن هذا السؤال على الفور قائلين إن أيًّا ما ظل قائمًا من الأسطورة لبعد ظهور العلم، فهو ليس أسطورة، وذلك يرجع إلى أنه لا يؤدي أي وظيفة علمية. في المقابل، يرى الفيلسوف الألماني المعاصر هانز بلومنبرج (١٩٢٠–١٩٩٦) أن استمرار الأسطورة إلى جانب العلم يقدِّم دليلًا على أن الأسطورة لم تؤد «أبدًا» نفس وظيفة العلم. رغم ذلك لم يقدِّم بلومنبرج أو تايلور أو فريزر تفسيرًا حول سبب استدعاء الأسطورة، أو الدين ككل، «إلى جانب» العلم عند تفسير الأحداث المادية.

على سبيل المثال، عندما ينجو عدد محدود من الركاب من حادث اصطدام طائرة، يجري تفسير الاصطدام تفسيرًا علميًّا، بينما يُعزى سبب نجاة المسافرين على متنها إلى العناية الإلهية وليس — مثلًا — إلى موضع المقاعد في الطائرة. وقطعًا يمكن أن يرد تايلور وفريزر على ذلك قائلين إن الناجين لم يتقبلوا حقيقة عدم توافق تفسيرهم الديني مع التفسير العلمي، غير أنه يطغى على هذه المطالبة بالتوافق بينهما حاجةٌ أكثر إلحاحًا لا يمكن تلبيتها إلا بالتفسير الديني.

لوسيان ليفي-بريل

لوسيان ليفي-بريل (١٨٥٧–١٩٣٩) هو فيلسوف فرنسي وعالم نظري في مجال الأنثروبولوجيا، عارض آراء تايلور وفريزر ومنظرين آخرين ممن أطلق عليهم «المدرسة الإنجليزية للأنثروبولوجيا»، وإن لم يتحر الدقة عند اختيار هذا الاسم. وفي معارضته لآرائهم، أكد على وجود فجوة كبيرة جدًّا بين الأسطورة والعلم. وفيما يفكر البدائيون، من منظور تايلور وفريزر، مثل الحداثيين — ولكن على نحو أقل دقة — يفكِّر البدائيون في رأي ليفي-بريل تفكيرًا مختلفًا عن الحداثيين. وبينما يعد تايلور وفريزر التفكير البدائي منطقيًّا، وإن كان يشوبه الأخطاء، يعتبر ليفي-بريل هذا التفكير البدائي غير منطقي، أو باستخدام اصطلاحه المفضل، «قبل منطقي».

ووفقًا لليفي-بريل وكذلك تايلور، لا يؤمن البدائيون بأن كل الظواهر الطبيعية لها أرواح فردية كالأرواح البشرية، أو آلهة، بل يؤمنون بأن جميع الظواهر، بما في ذلك البشر ومتعلقاتهم، تمثِّل جزءًا من عالم غير شخصي ومقدس، أو «غامض»، يتخلل العالم الطبيعي. إضافة إلى ذلك، يؤمن البدائيون بأن «مشاركة» جميع الأشياء في هذا الواقع الغامض لا تجعل الظواهر تؤثر بعضها على بعض تأثيرًا سحريًّا فحسب، بل تمكنها من أن تصبح إحداها الأخرى، وأن تحتفظ في الوقت نفسه بماهيتها: «يمكن أن تصبح الأشياءُ والكائنات والظواهر، نفسَها وشيئًا آخر غير نفسها — وإن كان بطريقة لا نفهمها نحن [الحداثيين].» فأفراد قبائل البورورو البرازيلية يعدون أنفسهم طيور مكاو حمراء، أو ببغاوات براكيت، إضافة إلى كونهم بشرًا. ويصف ليفي-بريل هذا الاعتقاد بأنه قبل منطقي؛ نظرًا لمخالفته قانون عدم التعارض، الذي ينص على أن الشيء يمكن أن يصبح ذاتَه وأن يصبح شيئًا آخر في آن واحد.

وبينما تتضمن الأسطورة وفق وجهتي نظر تايلور وفريزر نفس عمليات الملاحظة والاستدلال والتعميم بصفتها علمًا، أو على الأقل علمًا حسب تفكيرهم؛ يرى ليفي-بريل أن التفكير الخرافي هو النقيض للتفكير العلمي. وفيما «يدرك» البدائيون العالم نفسه، في رأي تايلور وفريزر، كإدراك الحداثيين — وإن كانوا «يتصورونه» على نحو مختلف — فإن ليفي-بريل يظن أن البدائيين يرون العالم، ومن ثم يتصورونه، بصورة مختلفة عن الحداثيين؛ أي يرونه متوحدًا معهم.

ويرى ليفي-بريل، وكذلك تايلور وفريزر، أن الأسطورة جزء من الدين، وأن الدين بدائي، وأن الحداثيين يرجحون كفة العلم على الدين. في المقابل، بينما يُدرج تايلور وفريزر كلًّا من الدين والعلم تحت الفلسفة، يربط ليفي-بريل الفلسفة بالتفكير المتحرر من التوحد الروحي مع العالم. ويُعتبر التفكير البدائي غير فلسفي؛ نظرًا لعدم انفصاله عن العالم، وبذلك يمتلك البدائيون عقلية خاصة بهم، عقلية تشهد عليها أساطيرهم.

بل إن توظيف الأسطورة في وجهة نظر ليفي-بريل يتعلق بالاندماج الشعوري، وليس بالانفصال الفكري كما يراه تايلور وفريزر. ولا يستخدم البدائيون الدين، خاصةً الأسطورة، لتفسير العالم أو التحكم فيه، بل يستخدمونه في التواصل مع العالم، والسبب الأدق لاستخدامهم الدين هو استعادة التواصل «الغامض» الذي بدأ في التلاشي تدريجيًّا:

ما دامت مشاركة الفرد في المجموعة الاجتماعية لا تزال محسوسة على نحو مباشر، وطالما كانت مشاركة المجموعة مع المجموعات المحيطة بها واقعية — بعبارة أخرى، ما دامت فترة التعايش الغامض لا تزال مستمرة — فإن الأساطير تكون قليلة العدد ومنخفضة القيمة … فهل يمكن أن تصبح الأساطير بالمثل نتاج العقلية البدائية والتي تخرج إلى النور عندما تسعى هذه العقلية إلى تحقيق مشاركة لم تعد قائمة بالفعل؛ أي عندما لا تجد سوى اللجوء إلى العوامل الوسيطة والوسائل التي تهدف إلى ضمان وجود تواصل لم يعد موجودًا على أرض الواقع؟

(ليفي-بريل، «كيف يفكِّر السكان الأصليون»، ص٣٣٠)

في حالة أسطورة أدونيس كان من المؤكد أن يركز ليفي-بريل على علاقة أدونيس الغامضة بالعالم. فأدونيس في رواية أوفيد لا ينتبه إلى أي من التحذيرات من مخاطر العالم؛ لأنه يتخيل أنه يشعر بالأمان في العالم، وهكذا يشعر؛ لأنه والعالم كيان واحد مترابط. ويعجز أدونيس عن مقاومة الإلهتين؛ لأنهما بالنسبة له بمنزلة الأم التي لا يسعى إلى مضاجعتها، بل إلى المكوث في أحشائها. فهناك حالة بدائية من التوحد بينه وبين الإلهتين، يطلق عليها ليفي-بريل «غموض المشاركة».

برونيسلاف مالينوفسكي

كانت إحدى الاستجابات لرؤية ليفي-بريل هي إعادة التأكيد على الطبيعة الفلسفية للأسطورة، وهي استجابة نتناولها تفصيلًا في الفصل التالي. ويُعد بول رادين وإرنست كاسيرر هما المنظران الرئيسان اللذان صدرت منهما هذه الاستجابة. وكان من الاستجابات الأخرى قبول فصل ليفي-بريل للأسطورة عن الفلسفة، مع رفض وصف الأسطورة بأنها قبل فلسفية أو قبل علمية. وأهم المناصرين لوجهة النظر هذه هو عالم الأنثروبولوجيا بولندي المولد برونيسلاف مالينوفسكي (١٨٨٤–١٩٤٢)، الذي نزح مبكرًا إلى إنجلترا. فبينما يؤكد ليفي-بريل أن البدائيين يسعون إلى التواصل مع الطبيعة بدلًا من تفسيرها، يؤكد مالينوفسكي أن البدائيين يسعون إلى التحكم في الطبيعة بدلًا من تفسيرها؛ فكلاهما يجمع بين أسلوب فلسفي وآخر تفسيري أو فكري، كما يجمعان بين هذه الرؤية والرؤية البريطانية — أقصد ما فعله مالينوفسكي في الجمع بين رؤيته ورؤية تايلور، وليس فريزر. وكلاهما يُرجع هذه الفكرة المختلقة عن الأسطورة، وبصورة عامة، عن الدين، إلى فكرة مختلقة عن البدائيين.

استشهد مالينوفسكي بفريزر، الذي يعتبر الأسطورة والدين النظيرين البدائيين للعلم التطبيقي، في رؤيته أن البدائيين مشغولون للغاية بسعيهم الدءوب لكسب قوت يومهم إلى حد لا تتوفر لديهم عنده رفاهية التفكير في العالم من حولهم. وبينما يستخدم البدائيون — في رأي فريزر — الأسطورة «محل» العلم، الذي نؤكد تارة أخرى أنه حديث بصورة استثنائية، فإن مالينوفسكي يظن أن البدائيين يستخدمون الأسطورة ﮐ «بديل طارئ» للعلم. ولا يملك البدائيون النظير المقابل للعلم فقط، بل يملكون العلم نفسه:

إذا كان يُفهم من العلم أنه يتألف من مجموعة من القواعد والمفاهيم، التي تستند إلى الخبرة ويجري التوصل إليها من خلال الاستدلال المنطقي، والتي تتجسد في مجموعة من الإنجازات المادية وفيما يتفق مع شكل ثابت من أشكال التقاليد، ويجري تنفيذها عن طريق إحدى المنظمات الاجتماعية؛ فلا شك إذن في أن أقل المجتمعات البدائية تحضرًا تمتلك بدايات علم، مهما كان بدائيًّا.

(مالينوفسكي، «السحر والعلم والدين»، ص٣٤)

يستخدم البدائيون العلم للتحكم في العالم المادي. وعندما لا يُجدي العلم، يتحولون إلى استخدام السحر.

وعندما لا يجدي استخدام السحر، يتجه البدائيون إلى الأسطورة، ولكن ليس لإحكام السيطرة على العالم، مثلما يفترض فريزر، بل العكس، للتوفيق بين أنفسهم وبين سمات في العالم لا يمكن التحكم فيها، مثل الكوارث الطبيعية، والأمراض، وكبر السن، والموت؛ إذ تُرجع الأساطير، التي لا تقتصر على الدين، أسباب هذه المصائب إلى الأفعال البدائية التي لا راد لها، سواء التي تصدر من الآلهة أو البشر. فوفقًا لإحدى الأساطير النموذجية، يطعن البشر في السن لأن اثنين من الأسلاف قاموا بشيء أخرق جعل العمر المتقدم جزءًا من العالم على نحو لا سبيل إلى تغييره:

فُقدت القدرة المأمولة على الشباب الدائم واستعادة الشباب التي تمنح حصانة ضد الضعف والعمر القصير من خلال حادثة بسيطة كان في مقدرة طفل وامرأة منعها.

(مالينوفسكي، «الأسطورة في علم النفس البدائي»، ص١٣٧)
على سبيل المثال، تفسِّر الأسطورة طريقة حدوث الفيضان — بقول إنه قد سببه إلهٌ أو إنسان — بينما يحاول العلم البدائي والسحر القيام بشيء حياله. وفي المقابل، تؤكد الأسطورة على عدم القدرة على فعل شيء حيال الفيضان. وتدور الأساطير التي تجعل البدائيين يستسلمون إلى القوى التي لا قبل لهم بالتحكم فيها حول الظواهر المادية. أما الأساطير التي تدور حول ظواهر «اجتماعية»، مثل العادات والقوانين، فإنها تهدف إلى إقناع البدائيين بتقبل ما «يمكن» مقاومته، مثلما سنبيِّن لاحقًا في الفصل الثامن.

ماذا عسى مالينوفسكي أن يقول عن أسطورة أدونيس؟ سيركِّز على الأرجح على الأسطورة كتعبير عن حتمية الموت لجميع البشر، وسينظر إلى أدونيس باعتباره بشرًا لا إلهًا، كما سيعتبر عدم مبالاة أدونيس بأنه فانٍ درسًا يتعلم منه الآخرون. في المقابل، لن تنجح نظرية مالينوفسكي إلا إذا كانت الأسطورة «تفسِّر» الموت أكثر مما تفترض وجوده المسبق. إذ تتعلق الأسطورة في رأي مالينوفسكي — وكذلك إلياد مثلما سنرى — بالأصول. وسيعتبر مالينوفسكي أن رواية أوفيد لأسطورة أدونيس ما هي إلا رواية مطولة تدور حول زهرة شقائق النعمان، وسيسعى إلى إثبات أهمية الزهرة في حياة اليونانيين أو الرومان القدماء. كما سيفسِّر الأسطورة حرفيًّا مثل تايلور.

كلود ليفي-ستروس

في معارضته لرؤية مالينوفسكي للبدائيين بأنهم عمليون وليسوا مفكرين، ولرؤية ليفي-بريل لهم بأنهم عاطفيون وليسوا مفكرين؛ سعى عالم الأنثروبولوجيا البنيوية الفرنسي كلود ليفي-ستروس (١٩٠٨–٢٠٠٩) إلى إحياء النظرة الفكرية إلى البدائيين وإلى الأسطورة بجرأة. من النظرة الأولى، تشبه آراء ليفي-ستروس آراء تايلور فيما يبدو؛ إذ تعتبر الأسطورة في رأيه، وكذلك تايلور، بدائية بصورة استثنائية، على الرغم من أنها تتسم بالفكر العميق. وبإعلان أن البدائيين «كانوا مدفوعين بحاجة أو رغبة لفهم العالَم من حولهم، ويتقدمون عبر وسائل فكرية، تمامًا مثلما يمكن أن يحدث وسوف يحدث مع الفيلسوف، أو إلى حد ما مع العالِم»، لا يبدو ليفي-ستروس مختلفًا عن تايلور.

رغم ذلك، يعتبر ليفي-ستروس ناقدًا عنيفًا لتايلور الذي يرى أن البدائيين يختلقون الأساطير بدلًا من ابتكار العلم؛ نظرًا لأنهم يفكرون بصورة أقل نقدية من الحداثيين. ويرى ليفي-ستروس أن البدائيين يختلقون الأساطير لأنهم يفكرون بصورة مختلفة عن الحداثيين، وهم — على خلاف ما يراه ليفي-بريل — لا يزالون يفكرون، وأن تفكيرهم دقيق. ويعتقد كل من تايلور وليفي-ستروس أن الأسطورة هي النموذج المصغر للتفكير البدائي.

وبينما يعتقد تايلور أن التفكير البدائي شخصاني والتفكير الحديث غير شخصي، يرى ليفي-ستروس أن التفكير البدائي ملموس والتفكير الحديث مجرد. ويتعامل التفكير البدائي مع الظواهر بطريقة كيفية، في مقابل التفكير الحديث الذي يتعامل مع الظواهر بصورة كمية. ويركِّز التفكير البدائي على ما هو قابل للملاحظة، وعلى الجوانب الحسية للظواهر، في مقابل ما هو غير قابل للملاحظة وغير حسي في التفكير الحديث:

بالنسبة إلى هؤلاء الناس [أي البدائيين] … يتألف العالم من معادن، ونباتات، وحيوانات، وأصوات، وألوان، ومنسوجات، ونكهات، وروائح … والفرق شديد الوضوح بين التفكير البدائي والتفكير العلمي [الحديث]؛ ولا يتمثَّل في الحاجة الماسة إلى المنطق، قلَّت أم زادت. وتتلاعب الأساطير بخواص الإدراك هذه، التي طردها الفكر الحديث من العلم، بمولد العلم الحديث.

(ليفي-ستروس، نقلًا عن أندريه أكون وآخرين، «حوار مع كلود ليفي-ستروس»، ص٣٩)
في المقابل، وفي تعارض واضح مع تايلور، لا يعتبر ليفي-ستروس الأسطورة أقل علمًا من العلم الحديث. فهي جزء من «العلم المادي» أكثر منها جزءًا من «العلم المجرد»:

هناك نمطان متمايزان للفكر العلمي؛ ولا شك في أنهما لا يقومان بأي وظيفة في المراحل المختلفة للعقل البشري، بل إن لهما وظيفة في مستويين استراتيجيين يستطيع البحث العلمي عندهما اختراق الطبيعة: أحدهما يتغير ليتلاءم مع الإدراك والخيال، بينما يبتعد الآخر عنهما.

(ليفي-ستروس، «العقل البدائي»، ص١٥)

فيما يرى تايلور أن الأسطورة هي النظير البدائي للعلم في حد ذاته، يرى ليفي-ستروس أنها هي النظير البدائي للعلم «الحديث». وبينما تعتبر الأسطورة علمًا بدائيًّا، فإن ذلك لا يجعلها علمًا ذا قيمة أقل.

وإذا كانت الأسطورة مثالًا على التفكير البدائي لأنها تتعامل مع ظواهر مادية ملموسة، فإنها مثالًا على التفكير نفسه نظرًا لأنها تصنِّف الظواهر. ويرى ليفي-ستروس أن جميع البشر يفكرون في إطار تصنيفات، خاصةً في إطار أزواج من المتعارضات، ثم يطبقون هذه التصنيفات على العالم. وتعبِّر العديد من الظواهر الثقافية عن هذه التعارضات. وتعتبر الأسطورة متميزة من ناحية حل أو — على نحو أدق — التخفيف من حدة هذه المتعارضات التي تعبِّر عنها. وفيما يعتقد تايلور أن الأسطورة مثل العلم نظرًا لأنها تتجاوز حدود الملاحظة إلى التفسير، يعتبر ليفي-ستروس الأسطورة علمية بصورة مباشرة نظرًا لأنها تتجاوز حدود تسجيل الظواهر المتعارضة التي جرى ملاحظتها إلى تخفيف حدتها. ولا يمكن العثور على هذه التعارضات في الحبكة أو الأسطورة بل فيما يشتهر إطلاق ليفي-ستروس عليه «البنية». وسيُخصَّص فصل بالكامل، هو الفصل السابع، لمناقشة أسلوب تناول الأسطورة الذي يُطلق عليه بناءً على تسمية ستروس «البنيوية»؛ وسيُجرى تحليل أسطورة أدونيس فيه باستفاضة.

روبين هورتون

رفض عالم الأنثروبولوجيا الإنجليزي روبين هورتون (وُلد ١٩٣٢)، الذي قضى حياته المهنية في نيجيريا، استغراق تايلور في التفسيرات الخرافية والدينية باعتبارها تفسيرات شخصانية، وفي التفسيرات العلمية باعتبارها غير شخصية. ويسير هورتون على خطى تايلور في جوانب كثيرة، حتى إنه سُمي «تايلور الجديد»، وهو لقب مُنح إياه للتقليل من شأنه، لكنه تقبله بفخر. وعلى غرار تايلور، يعتبر هورتون الدين والعلم مجالين يقدمان تفسيرات حول العالم المادي. وشأنه شأن تايلور أيضًا، يعتبر هورتون التفسير الديني بدائيًّا، ويفضِّل الإشارة إليه باستخدام التعبير الأكثر قبولًا؛ «تقليدي»، كما يعتبر التفسير العلمي حديثًا. ومثله كذلك، يعتبر التفسيرين البدائي والعلمي متنافيين بعضهما مع البعض. وبينما لا يركِّز هورتون على الأسطورة بصورة خاصة، تعتبر الأسطورة بالنسبة إليه، وكذلك تايلور، جزءًا من الدين.

لا يفند هورتون معادلة تايلور بين الدين والتفسيرات الشخصانية، وبين العلم والتفسيرات غير الشخصية. في المقابل، يختلف هورتون عن تايلور في رد الأمر إلى مجرد «اختلاف في مصطلح الاجتهاد التفسيري» — وهو الأمر الذي شغل تايلور أيما انشغال. وبما يتعارض مع ما جاء به تايلور، لا يعتبر هورتون استخدام الأسباب الشخصية في تفسير الأحداث أقل تجريبية من استخدام الأسباب غير الشخصية، على الرغم من اعتبار إياها غير علمية، متفقًا في ذلك مع تايلور ومختلفًا مع ليفي-ستروس.

يُرجع تايلور التفسيرات الشخصانية إلى تفكير البدائيين الأقل نقدًا، فهم يتقبلون أول التفسيرات المتاحة لهم. وشأنهم شأن الأطفال، يجرون عملية قياس على التفسيرات المألوفة في السلوك الإنساني. ويفترض هورتون أيضًا أن البدائيين يعتمدون على ما هو مألوف لديهم، غير أنه يرى أن الحداثيين يفعلون ذلك أيضًا. ويرى أن الظواهر المألوفة هي تلك الظواهر التي تنضح بالنظام والتكرار. ونظرًا لأنه في «المجتمعات الصناعية المعقدة سريعة التغير، يعتبر المشهد الإنساني في حالة حراك مستمرة»، فإن هذا النظام والتكرار يتجلى «في عالم الجماد»؛ بناءً عليه، «يتجه العقل الذي يبحث عن حالات قياس تفسيرية إلى عالم الجماد بسهولة ويسر.» على النقيض من ذلك، في المجتمعات الأفريقية، يعتبر النظام والتكرار «أقل وضوحًا بكثير» في عالم الجماد عن عالم البشر؛ حيث «لا يمكن تصور وجود قدر أقل منهما في المنزل مع الأقران، مقارنةً بوجودهما في عالم الجماد»؛ بناءً عليه، «يتجه العقل الذي يبحث عن حالات قياس تفسيرية تلقائيًّا إلى عالم الإنسان وشبكة علاقاته»؛ إذن يشكِّل إرجاع الدين في أفريقيا السبب في الأحداث المختلفة إلى قرارات تتخذها كيانات لها طابع إنساني منطقًا نظريًّا سليمًا.

يختلف هورتون اختلافًا كبيرًا عن تايلور في التفرقة بين التفسيرات الدينية والعلمية على أساس «السياق» أكثر من «المحتوى». وباستخدام مصطلحات كارل بوبر، يرى هورتون أن التفسيرات الدينية تسري في المجتمع «المغلق»، فيما تسري التفسيرات العلمية في المجتمع «المفتوح». ففي أي مجتمع مغلق، أو مجتمع غير نقدي، «لا يوجد وعي متطور ببدائل تحل محل مجموعة المعتقدات النظرية الراسخة.» على الجانب الآخر، ينقد المجتمع المفتوح نفسَه نقدًا ذاتيًّا؛ حيث يكون فيه «هذا الوعي متطورًا للغاية.» وفيما تكون للمعتقدات السائدة في المجتمع المغلق مكانة مقدسة — نظرًا لعدم نقدها — ويُعد أي نقد لها بمنزلة التجديف والتطاول، لا تملك المعتقدات القائمة في المجتمع المفتوح أي قداسة — نظرًا لمعارضتها — ومن ثم يمكن تقييمها بصورة شرعية.

على غرار تايلور، لا يملك هورتون الكثير ليقوله حول أسطورة أدونيس، فيما يملك الكثير ليقوله حول سفر التكوين، الإصحاح الأول، الذي ينظر إليه — وكذلك تايلور — دون مواربة باعتباره تفسيرًا قبل علمي لأصل العالم المادي؛ تفسيرًا لا يستطيع الحداثيون الاعتقاد فيه جنبًا إلى جنب مع التفسير العلمي. وبينما لا يستطيع الحداثيون الاعتقاد في مثل هذا التفسير إلا من خلال إعادة تحديد وظيفته أو معناه، لا يقبل هورتون — شأنه شأن تايلور — أيًّا من الخيارين.

على النقيض من هورتون، يحيي عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي ستيوارت جثري جهود تايلور واستغراقه في التفسيرات الشخصانية، أو المؤنسنة، في الدين. فيرى جثري، وكذلك تايلور، أن الأنسنة تشكِّل جوهر التفسير الديني، بما فيه من تفسير خرافي. في المقابل، يختلف جثري عن هورتون، وعن تايلور أيضًا، في الإشارة إلى وجود الأنسنة في العلم والدين. وفيما تُعد الأنسنة عند كل من هورتون وتايلور طريقة بدائية استثنائيًّا لتفسير العالم، يراها جثري طريقة عامة وشبه شاملة لتفسير العالم.

كارل بوبر

يختلف كارل بوبر (١٩٠٢–١٩٩٤) — فيلسوف العلوم المولود في فيينا، والذي استقر في نهاية المطاف في إنجلترا — عن تايلور اختلافًا أكثر راديكالية من اختلاف هورتون عنه؛ أولًا: لا يقدِّم تايلور أي تفسير على الإطلاق حول طريقة ظهور العلم، فيما يقدِّم الدين، بما فيه من أسطورة، تفسيرًا شاملًا، وغير قابل للدحض فيما يبدو، لجميع الأحداث في العالم المادي. ثانيًا: لا يعتمد العلم في رأي تايلور على الأسطورة لكنه يحل محلها. أما بوبر، فيرى أن العلم ينبثق «من» الأسطورة؛ ليس من خلال «قبول» الأسطورة بل من خلال «نقدها»: «بناءً عليه، يجب أن ينطلق العلم من الأساطير، ومن خلال نقد الأساطير.» ولا يقصد بوبر ﺑ «النقد» هنا الرفض، بل التقييم الذي يصير علميًّا عندما يخضع لمحاولات دحض صحتها المزعومة.

يصل بوبر بطرحه إلى بُعد أعمق، قائلًا إن هناك أساطير علمية وأساطير دينية، وهو ما يتعارض مع قول تايلور الذي لم يقتبس منه بوبر إطلاقًا. والفرق بين الأساطير العلمية والدينية لا يكمن في محتواها، بل في الموقف حيالها. فبينما تلاقي الأساطير الدينية قبولًا حاسمًا، تتعرض الأساطير العلمية للتشكيك:

يتمثَّل طرحي في أن ما نطلق عليه «علمًا» يختلف عن الأساطير السابقة عليه، ليس لكونه مميزًا عن الأسطورة، بل لارتباطه بتقليد ثانوي؛ ألا وهو تناول الأسطورة تناولًا نقديًّا. قبل ذلك، كان هناك تقليد أساسي فقط؛ إذ كان يجري تناقل قصة محددة لا تتغير. أما في ضوء نقد الأسطورة، يتم الإبقاء على تناقل القصة بالطبع، لكن مع مصاحبتها بشيء مثل نص صامت يصدر من شخصية ثانوية: «أنقل القصة إليك، لكن دُلني، ما رأيك فيها. دقق النظر، فربما تستطيع تقديم قصة مختلفة» … يجب أن نفهم أن العلم — من منظور ما — يعبر عن عملية صناعة الأساطير، شأنه شأن الدين.

(بوبر، «تخمينات وتفنيدات»، ص١٢٧)

يرى بوبر أيضًا أن النظريات العلمية «تحتفظ» بالطابع الخرافي؛ إذ إن النظريات، كالأساطير، لا يمكن إثباتها، بل يجري دحضها فحسب، ومن ثم «تظل غير مؤكدة أو افتراضية بصورة أساسية.»

ليس من الجلي ما عسى بوبر أن يقوله عن أسطورة أدونيس. فالأساطير التي تستحوذ على اهتمامه تنحصر في أساطير الخلق؛ لأنها تطرح تخمينات جريئة عن أصل العالم، ومن ثم تستهل عملية التنظير العلمي. جدير بالذكر أن بوبر نفسه ألَّفَ كتابًا عنوانه «أسطورة إطار العمل»، وكان يعني بلفظة «أسطورة» في الكتاب ما يقصده ويليام روبنستاين في كتاب «أسطورة الإغاثة» باستخدام نفس اللفظة: أي القناعة المغلوطة الراسخة، التي لا يجب التمادي في اختبارها، بل وجب التخلي عنها!

شأنه شأن بوبر، يقول الفيلسوف المتخصص في الحضارتين اليونانية والرومانية القديمة — إنجليزي الجنسية — إف إم كورنفورد (١٨٧٤–١٩٤٣)، بأن العلم في اليونان انبثق من الأسطورة والدين. مع ذلك، يقصر كورنفورد قوله على محتوى الأسطورة، ولا يتطرق مطلقًا إلى الموقف من الأسطورة. فهو يرى أن العلم يخلِّد المعتقدات الدينية والخرافية، وإن كان في صورة علمانية لادينية، ومن ثم يؤكد أن علم اليونانيين القدماء قطع صلته بالدين وصار علمًا تجريبيًّا. ولاحقًا، قال كورنفورد إن علم اليونانيين القدماء لم يقطع صلته مع الدين على الإطلاق، ولم يصبح قط علمًا تجريبيًّا.

بينما يقارن تايلور نفسه بين قابلية العلم للاختبار وعدم قابلية الأسطورة له، لا يحدد طبيعة الاختبار:

إننا نتدرب على حقائق العلم المادي، التي يمكن اختبارها مرارًا وتكرارًا، ونشعر بالتراجع عن بلوغ هذا المستوى العالي من البرهان عندما نتحول بعقولنا إلى بيانات عتيقة تستعصي على الاختبار، بل ويقر الجميع على أنها تحتوي على عبارات لا يُعتمد عليها.

(تايلور، «الثقافة البدائية»، المجلد الأول، ص٢٨٠)

مع ذلك، يجب أن يسمح تايلور للبدائيين بممارسة النقد؛ إذ لولا ذلك، كيف كان سيُفسر الإحلال النهائي للعلم محل الأسطورة؟ ومَن سوى الجيل الأخير من البدائيين كان حاضرًا لوضع اللبنات الأولى للعلم، وإحلاله محل الأسطورة، وتشكيل الحداثة؟

هوامش

(1) © Archivo Iconografico, S. A./Corbis.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤