المشكلة السكانية … أثناء الثورة الصناعية١

ت. ﻫ. مارشال

تم أول إحصاء شامل لسكان بريطانيا عام ١٨٠١م، أما ما عدا ذلك من بيانات إحصائية سابقة على هذا التاريخ فكلها بيانات مجتزَأة، ولا يمكن الاعتماد عليها إلا في حدودٍ ضيقة. وعندما نشر مالتوس كتابه الشهير «مقال عن مبدأ التكاثر السكاني» عام ١٧٩٨م ثم أعاد تنقيحه عدة مرات، حاول فيه أن يتلمَّس الواقع الديموجرافي في عصره وكذلك في الماضي حتى يستطيع أن يستشفَّ من ذلك اتجاهات المستقبل، ويجد أساسًا نظريًّا للسياسة الاجتماعية.

وفي المقال التالي يحاول الأستاذ ت. ﻫ. مارشال أن يؤكد ما إذا كانت نظرة مالتس إلى الظروف الديموجرافية في إنجلترا إبان الثورة الصناعية لا تزال مقبولة في جملتها. وجدير بنا ألا ننسى رغم ذلك أن هذا النص الموجَز الذي نعيد نشره هنا إنما يعطي فقط النتائج التي انتهى إليها المقال، ويحذف التقييمات النقدية التفصيلية للبيانات التي بين أيدينا والتي استقى منها تلك النتائج.

•••

لا ريب في أن كثيرين من المعاصرين كانوا يؤمنون بأن نسبة المواليد كانت في ارتفاعٍ، ولكنهم قلَّلوا — بشكلٍ واضحٍ — من قيمة انخفاض نسبة الوفيات إن لم ينكروها تمامًا، ولقد ثبت أنهم على خطأ في ذلك. ويتلخص جوهر ما يمكن أن نسميه بالموقف «المالتوسي» فيما يلي:
  • أولًا: أن معدل زيادة السكان أسرع من المطلوب.
  • ثانيًا: ينبغي الحد من معدل المواليد.
  • ثالثًا: أن ثمة قوًى اقتصادية معينة كانت تزيد من معدل المواليد، وهذه القوى يمكن إزالتها بواسطة إجراء سياسي سليم خاصة قوانين إعانة الفقراء والمطالبة بتشغيل الأطفال.

وأحب أن أشير هنا إلى أن أحسن التقديرات الحديثة عن المواليد والوفيات في إنجلترا وويلز معًا لا تؤكد يقينًا زيف هذه النظرة، بل يبدو أكثر من ذلك أنها تدعمها أو أنها، كما أُفضِّل أن أقول تتسق معها نظرًا لأن هذه الإحصاءات يغلب عليها الطابع التأمُّلي. والنتيجة هي العكس تمامًا. ويمكن فقط عن طريق الدراسة المقارنة للأرقام المحلية أن نأمل في إقامة الدليل على صدق أو زيف النقطة الأخيرة وهي أهم النقاط الثلاث، بيد أنني لم أحاول ذلك.

نحن نعرف أن الانخفاض السريع في معدل وفيات الأطفال هو القسمة الرئيسية لانخفاض نسبة الوفيات. وبالنظر إلى النتائج الاقتصادية المترتبة عليها — والتي تصبح بدورها عِللًا اقتصادية — فإن انخفاض وفيات الأطفال يكون — غالبًا — معادلًا بالضبط للزيادة في المواليد. حقًّا أن أشخاصًا جددًا يفدون دون أن يمثِّلوا ولادات جديدة. ولكن الدلالة الاقتصادية للولادة تُعَد شيئًا ضئيلًا إذا ما قورنت بالدلالة الاقتصادية للجهد المبذول في الرضاعة والرعاية والتربية، وما يتبع ذلك من تكاليف خاصة بالتغذية والملبس والضغط على أماكن الإقامة. ونحن نستطيع في الحقيقة أن نَعتبر عدد الأطفال الذين يبلغون من العمر ستة شهور أو سنة هو العدد الذي يمثِّل «النسبة الخالصة للمواليد». وتُعتبر هذه النسبة أهم بكثيرٍ من «النسبة الإجمالية للمواليد» فيما يتعلق بمشكلة السكان كما تبدو في نظر المؤرخ الاقتصادي. وكانت «نسبة المواليد الإجمالية» في الأعوام الأولى من هذه الفترة التي نحن بصددها تتميز بالثبات أو الهبوط الطفيف، وتوحي بارتفاعٍ في «نسبة المواليد الخالصة». ومن ثَم فمن بواعث الخطأ أن نقارن نسبة وفيات منخفضة بنسبة مواليد مرتفعة، ونرى في ذلك سببًا في النمو السكاني دون أن نتبيَّن أن الموت قد يلحق بالناس في أي سنة من سنوات العمر على عكس الميلاد فإنه يحدث عادة في نهاية الشهر التاسع. وكان يمكن أن تصبح الموازنة هنا صحيحة لو أن الحياة تمتد بالناس حتى السبعين، بيد أنه فرض باطل عمليًّا.

تجنَّبت في مناقشتي السالفة استخدام عبارة «التضخم السكاني»، ذلك لأنني لم أشأ أن أفسد الموضوع مقدَّمًا؛ إذ لو أننا نظرنا إلى هذه العبارة حسب معناها الدقيق الذي تلتزم به النظرية الحديثة نجد أنها لن تفيدنا فائدة تُذكَر في مناقشة الوضع الراهن حتى إن أشهر الكُتَّاب الذين يتناولون المشاكل العملية إنما يستخدمونها ليعبِّروا بها عن شيء أقل دقة، وإن كان يحمل نفس الاسم. ولعل أسوأ ما في الأمر استخدام الصحفي لهذه العبارة استخدامًا خاطئًا يخذل به كل مظاهر التفكير الواضح. وبالتالي، إذا جاز لي أن أوائم بين الصور المجازية المختلفة في صورة واحدة، فإن هذه الكلمة تبدو في سياق كل مناقشة بمثابة مهربٍ يستعين به أي ناقد ليصرف به ذهن القارئ عن لب الموضوع. وهي في معناها الدقيق مصطلح من مصطلحات الاقتصاد الاستاتيكي الذي يشير به إلى حالة معينة. مثال ذلك أن نقص عدد القاطنين في منطقة من المناطق التي تكون موضع دراسة يتبعه زيادة في الدخل بالنسبة للفرد مع افتراض ثبات كل الملابسات الأخرى بما في ذلك توزيع الأعمار. ويستخدم الكُتَّاب الذين يتناولون الموضوعات العملية هذا المصطلح بمعنى دينامي؛ فيشيرون به إلى احتواء منطقة من المناطق لعددٍ من السكان يفوق طاقتها، دون أن يترتب على ذلك انخفاض في مستوى المعيشة، بل وربما، دون أن يؤثر ذلك على اطراد ارتفاع مستوى المعيشة خلال فترة معقولة، وافتراض أن البناء الاقتصادي قادر على التكيُّف بطريقة سوية مع الظروف المتغيرة.

ومع ذلك فثمة قسمات خاصة تميز تاريخ المرحلة الأولى من القرن التاسع عشر، وتشير إلى شيئين:
  • أولًا: أن الظروف الاقتصادية أدت إلى ظهور قوة كان مقدَّرًا لها أن تحدَّ من معدل النمو السكاني في المستقبل القريب.
  • ثانيًا: أن هذه القوة جاءت كنتيجة مترتبة على سرعة النمو السكاني في الماضي القريب وطابع هذا النمو. وبعبارة أخرى فحتى لو افترضنا أنه لم يكن هناك تضخم سكاني فقد كان هناك ضغط سكاني نجم عن الفشل في إحراز أي تقدم اقتصادي، وزيادة عدد السكان بما لا يتناسب مع الوضع الاقتصادي. وأي ضغط من هذا النوع الدينامي القصير الأجل يمكن علاجه، ولا يكون العلاج عن طريق الخفض المطلَق لحجم السكان، وإنما عن طريق تعديل معدل النمو. ولا يتيسر هذا إلا إذا كان الضغط ليس مماثلًا لضغط جسم متحرك على جسم آخر في حالة ثباتٍ، وإنما يماثل ضغط جسمَين كلاهما في حالة حركة، ويحتك أحدهما بالآخر عن طريق التَّماس.
والنتائج التي يمكن أن نخرج بها من هذه الدراسة لها في الغالب الأعم طبيعة الفروض، والتي نستطيع أن نتأكد من صحتها عن طريق البحث التفصيلي، ويمكن تلخيصها فيما يلي:
  • (١)
    كانت نسبة المواليد العامة٢ خلال الفترة الواقعة ما بين عامَي ١٧٥٠–١٨٣٠م نسبة عالية بدرجة ملحوظة، قياسًا بالنسب السابقة عليها أو اللاحقة لها. ولم يكن ارتفاعها هذا شيئًا غريبًا نظرًا لأنه حدث مباشرة عقب عصر كانت فيه نسبة الوفيات مرتفعة ارتفاعًا واضحًا، بينما كان النمو السكاني في حالة ثباتٍ.

    والشيء المثير حقًّا هو استمرار هذه النسبة العالية، باستثناء بعض ذبذبات لا قيمة لها، طوال الأربعين عامًا الأخيرة من هذه الفترة، بالنظر إلى حالات ثلاث، وهي: الانخفاض الواضح في نسبة الوفيات، والذي بدأ حوالي عام ١٧٨٠م، وانخفاض نسبة وفيات الأطفال، وتعادل هذه الظاهرة من حيث نتائجها الاقتصادية ارتفاع نسبة المواليد، وأخيرًا تتابُع بعض الأزمات الاقتصادية الحادة. ويلزم عن هذا أننا إذا ما كنا نبحث عن تفسير للزيادة السريعة في السكان فلا بد لنا وأن نعنى عناية كبيرة بالقوى التي أدت إلى ارتفاع نسبة المواليد، مثلما نعنى بالقوى التي أدت إلى خفض نسبة الوفيات.

  • (٢)

    إذا قدَّرنا نسبة المواليد على أساس عدد النساء القادرات على الإنجاب فإنها ستكون نسبة مرتفعة ارتفاعًا ملحوظًا. واستمرت هذه النسبة في ارتفاعٍ تدريجي حتى عام ١٧٩١م، وحافظت على مستواها حتى عام ١٨٢١م. وتتفق التقديرات التي وصفها فار مع أرقامي التقديرية (بعد حذف الحشو الزائد) من حيث إنها تكشف لنا عن ارتفاعٍ طفيفٍ في الأعوام العشرين الأولى من هذا القرن. وظلَّت النسبة كما هي حتى عام ١٨٣٠م تقريبًا دون أن ترتد إلى المستوى الذي كانت عليه عام ١٧٨٠م. والمواليد التي تمثِّل الأساس الذي تقوم عليه هذه النسب المرتفعة هي مواليد ما بين عامَي ١٧٨٦م، ١٨٢٦م. وحدث خلال هذه الفترة ما لا يقل عن ثلاث أزمات اقتصادية حادة — وهي الأزمات التي ارتبطت بأسماء سبينهام لاند ولوديزم وبيترلو — فكانت البلاد طوال نصف هذه المدة تمامًا في حالة حرب؛ مما اضطرها إلى أن تسلِّم رجالها للخدمة العسكرية في البحر أو في البر على أرض القارة. وكان هذا بمثابة قيدٍ فُرض على القوى التناسلية القومية، ولا تكشف عنه نسبة المواليد التي تقوم على أساس عدد النساء البالغات.

    بيد أن نسبة المواليد إبان الحرب كانت أعلى منها في عام ١٨٥١م، بنسبة ١٨٫٥٪، كما كانت خلال أعوام السلام العجاف ١٨١٦–١٨٢٦م أعلى مما كانت عليه عام ١٨٧١م، وهو قمة «العصر الذهبي» بنسبة ١٠٪.

  • (٣)

    ربما ظلَّت نسبة الزواج مرتفعة حتى نهاية القرن الثامن عشر، ولكنها انخفضت في القرن التاسع عشر. وكلا التقديرين يكشفان عن أنها كانت عام ١٨٢١م أقل مما كانت عليه عام ١٨٠١م. ويوحي هذا بأحد شيئَين: إما ارتفاع الخصوبة أو زيادة العلاقات غير الشرعية، وربما كليهما معًا. ولو صح أن الذبذبة في منحنى الزواج الذي بلغ قمته عام ١٨٠١م تكشف عن انخفاض معدل عمر الزواج فسيتبع ذلك — بطبيعة الحال — ارتفاع في نسبة الخصوبة. وهذه هي النتيجة المباشرة للزيجات المبكرة، لأنها أكثر خصوبة في أعوامها الأولى، وسوف تتدعم هذه النتيجة مع مرور الوقت نظرًا لأن الزيجات المبكرة تتميز بفترة حملٍ أطول.

  • (٤)

    بلغت نسبة الوفيات العامة أدنى نقطة لها حوالي عام ١٨١١م، ثم بدأت في الارتفاع بعد ذلك بسنواتٍ قليلة، واستمرت في الارتفاع حتى الثلاثينيات الأخيرة. ووافق هذا الارتفاع تغيُّر في توزيع الأعمار مما يساعد على خفض نسبة الوفيات، أعني زيادة في نسبة هؤلاء الذين يتمتعون بصحة جيدة في ريعان حياتهم. ومن ثَم فإن الأمر أكثر خطورة مما يبدو في ظاهره. فعلى أساس متوسطات السنين السبع كانت نسب الوفيات في عامَي ١٨٢١م و١٨٤١م تساوي ٢١٫٨ و٢١٫٧. ولو افترضنا أن سكان عام ١٨٤١م يتألقون من حيث العمر والجنس بنفس النِّسب التي كان عليها سكان ١٨٢١م إذن لأصبحت نسبة الوفيات ٢٢٫٨ أي بزيادة قدرها ٥٪. ومن المحتمَل — على ما يبدو — أن هذه الزيادة، التي كانت ملحوظة بشكلٍ واضحٍ بين الأطفال وسكان المدن الكبرى، إنما حدثت نتيجة لأسبابٍ اقتصادية إذا ما استخدمنا هذا المصطلح بمعناه الواسع؛ بحيث يتضمن النقص في المواد الغذائية والسكن والرعاية الصحية.

  • (٥)

    فيما بين عامَي ١٨٢٠م و١٨٣٠م بدأ يحدث في مكانٍ ما انخفاضٌ محدَّد في كلٍّ من نسبة الزواج ونسبة المواليد. ومع عام ١٨٣١م عادت نسبة المواليد — لأول مرة — إلى مستوى عام ١٧٨١م (هذا تقدير تخميني) وذلك إذا قيست هذه النسبة على أساس عدد النساء اللائي تتراوح أعمارهن بين ٢٠–٤٠ عامًا. ومع عام ١٨٤١م انخفضت فجأة، وبسرعة إلى ما دون ذلك بكثيرٍ (وهذه حقيقة واقعة). والآن يصبح من حق النظريات القديمة أن توضح لنا كيف يعكس هذا الانخفاض المرحلي، الذي بدأ بطيئًا في أوله وسريعًا بعد ذلك، تاريخ تشغيل الأطفال وقانون إعانة الفقراء. ففي العشرينيات بدأت تُفرَض القيود على تشغيل الأطفال، وإن كانت قيودًا ضعيفة، وبدأ العمل عن طريق التعاقد يحل محل التلمذة الصناعية للصبية، والنظام الجديد لا يعفي الأب تمامًا من مسئوليته تجاه أطفاله. وفيما بين عامَي ١٨١٥م إلى ١٨٣٤م كان نظام سبينهام لاند لا يزال مطبَّقًا على نطاقٍ واسع. إلا أن قيمة الإعانة كانت تنخفض انخفاضًا فجائيًّا وكبيرًا حينما كان ذلك ممكنًا. وبدأ القضاة يعارضون مبدأ «النسبة في خدمة الأجور»، وأعلنوا في حالاتٍ عديدة أنه مبدأ غير شرعي. وفي الثلاثينيات بدأ تنفيذ قانون المصانع وقانون إعانة الفقراء الجديد.

  • (٦)

    إن هذا التقارب بين نسبتَي المواليد والوفيات وما ترتب عليه من الحد من سرعة النمو السكاني يبدو وكأنه حدث نتيجة لضغطٍ اقتصادي. وكشفت الملاحظة الآن عن أن نسبة الوفيات لا تتأثر بسرعة بالذبذبات التي يتعرض لها الرخاء الاقتصادي على عكس نسبة الزواج ونسبة المواليد فإنهما أكثر حساسية لها.

    والشيء المؤكَّد أن تنظيم النسل لم يكن مطبَّقًا على نطاقٍ واسعٍ رغم أنه كانت هناك معرفة به إلى حدٍّ ما. وربما كان فرنسيس بلاس يبالغ عندما قال عام ١٨٢٢م: «إن وسائل منع الحمل»، وصحَّحها بقوله «تحطيم الجنين، تُستَخدَم بالفعل على نطاقٍ واسعٍ بين الطبقة العاملة.» وليس من قبيل المصادفة ما نراه من اهتمام حماسي بهذا الموضوع في أوائل القرن التاسع عشر؛ إذ إنه يكشف عن الرغبة في الإفلات من الضغط السكاني المزعوم، واعتقاد بعض الأوساط أن استخدام الجهلاء لهذه الوسائل غير المرغوب فيها يشكِّل خطرًا كبيرًا على الصحة والحياة؛ ومن ثَم فربما يكون من الأفضل أن يكون تأجيل الزواج هو وسيلتنا للتحكم في النمو السكاني. ويشير الانخفاض السريع في نسبة المواليد في الثلاثينيات إلى أنه كان نتيجة لضغطٍ اقتصادي. ويوحي الارتفاع السابق في نسبة الوفيات بأن هذا الضغط كان موجودًا على أقل تقدير عام ١٨١١م وربما قبل ذلك. وهذه الفكرة من شأنها أن تدفعنا مرة أخرى إلى التساؤل: لماذا لم تبدأ نسبة المواليد في الانخفاض في فترة مبكرة عن ذلك؟ وحتى إذا كانت قد توقفت بعض الشيء عندما نشبت الحرب إلا أنها سرعان ما عادت سيرتها الأولى وظلَّت مرتفعة طوال عشرين عامًا أخرى.

  • (٧)

    كان الضغط الاقتصادي من ناحية نتيجة مباشرة لسرعة النمو السكاني. وصحب هذا النمو تركُّز السكان في المدن، وتسبب عنه ارتفاع في نسبة الوفيات في المدن، وهي التي رفعت نسبة الوفيات على النطاق القومي. وأهم الظواهر التي كان لها تأثيرها القوي في خفض نسبة المواليد هي أولًا: عبء إعالة الأطفال الذين قُدِّرَ لهم أن يعيشوا نتيجة انخفاض وفيات الأطفال. ثانيًا: ما ترتب على ذلك من اندفاع موجة من الشبان إلى سوق العمل الذي كان يعاني بالفعل من حالة كساد. ومن ثَم كان هؤلاء الشبان عاجزين عن الزواج وبالتالي انخفضت نسبة المواليد؛ ويمكن استنباط هذين العاملَين من منحنى السكان.

هذه هي الاحتمالات التي نشأت، والفروض التي أوحت بها الإحصاءات العامة لهذه الفترة. ومن الواضح أن أتباع مالتوس، سواء أكانوا على صوابٍ أم خطأ في تفاصيل ما تناولوه بالتحليل في دراستهم إلا أن قلقهم كان له ما يبرره، وكانوا على صوابٍ تمامًا حين رأوا في نسبة المواليد مفتاح الموقف. ولقد حدث بالفعل كل ما كان يخشاه مالتوس، فكل عمليات الضبط الوقائية كان تأثيرها بطيئًا، ونشطت عمليات الضبط الموجبة لتكبح من جماح سرعة النمو السكاني. وكان مالتوس يؤمن بأن فشل عملية الضبط الوقائية إنما يرجع من ناحية إلى التأثير السيئ لقانون إعانة الفقراء. أما (ريكمان) فقد كان من رأيه أن تأثير قوانين إعانة الفقراء على زيادة السكان أقل بكثيرٍ مما يُنسَب لها عادة في المناقشات النظرية. إلا أنه كان يعتقد أن السكان المشتغلين بالصناعة يتزايدون بسرعة، ويرجع ذلك من ناحية «إلى أن الأطفال الذين يعملون في كثير من المصانع قادرون على إعالة أنفسهم في سن مبكرة، ومن ثَم فإنهم لا يكلِّفون آباءهم نفقات كثيرة، ويجدون في ذلك تشجيعًا واضحًا على الزواج». ولا تستطيع الإحصاءات العامة أن تزعم لنفسها القدرة على إدانة هذه الآراء، بيد أنني آمل أن أكون قد أوضحت أن كلَّ ما نستطيع أن نفعله هو أن ننتزع منها — قسرًا — الدليل ضدهما.

١  أُعيدَ نشر هذا المقال عن مجلة التاريخ الاقتصادي، العدد الأول (١٩٢٩م)، ص٢٢٩–٤٥٦، مع حذف بعض فقراته بإذنٍ من الجمعية المَلَكية الاقتصادية والمؤلف. نسخة طبق الأصل، ١٩٢٧م للجمعية المَلَكية الاقتصادية.
٢  «نسبة المواليد العامة» هي عدد المواليد لكل ألفٍ من السكان دون أي تعديلٍ من ناحية بعض الخصائص السكانية، مثل العمر أو الجنس أو المهنة … إلخ، أما «نسبة المواليد الخاصة» فهي، على سبيل المثال، عدد المواليد لكل ألف من النساء اللائي تتراوح أعمارهن ما بين ١٥ و٤٤. ونادرًا ما كانت الإحصاءات السكانية القديمة تسمح بحساب نسب المواليد الخاصة. (ملاحظة بقلم المحرر).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤