الفصل الثاني

مسائل ما بعد الطبيعة

على هرم في هيكل «إيزيس» Isis بصا الحجر Lais١ نقش قديم يتضمن الكلمات الآتية:

أنا كل شيء كان، وكل شيء كائن، وكل شيء سيكون، ومحال على من يفنى أن يزيل النقاب الذي تنقب به من لا يفنى.

أما العلم الحديث فيعتقد أنه كشف هذا الحجاب، وأن «القوة» و«المادة» هما كل شيء كان وسيكون! وليس هذا موضع البحث فيما إذا كان ما يزعمه العلم حقًّا أو باطلًا، وإنما الذي نريد أن نقوله: إن العقل البشري بذل جهده في رفع النقاب، وحاول معرفة هذا السر المحتجب بحميَّة وغيرة، ولكن لا نتعرض للحكم بنجاحه أو خيبته.

طالع العقل البشري لغز هذا العالم من وجوه عديدة وشرحه، وكان السؤال الأول من بين الأسئلة الثلاثة التي لا ينفك يحاول الإجابة عنها — وأعني بها:
  • (١)

    ما حقيقة الموجود الذي هو من اختصاص ما بعد الطبيعة؟

  • (٢)

    وما حقيقة المعرفة؟

  • (٣)

    وماذا ينبغي للإنسان أن يعمل؟ — هو أهم ما هيج في الإنسان الميل إلى حب الاستطلاع، واختلف الفلاسفة في الإجابة عنه في العصور المختلفة، ونشأ عن ذلك مذاهب فيما بعد الطبيعة.

ولو أنا سألنا إنسانًا عاديًّا عمليًّا: «ما الموجود؟» أجابك من غير تردد بقوله: كل شيء حولي موجود، وكثيرة هي الأشياء، فكل ما أرى وأسمع، وكل ما أمسك وألمس، والسماء والأرض، والأشجار والأنهار، والشمس والنجوم، والطير والهواء، والسمك في الماء، والوحوش في الغابات، وعلى الجملة كل ما أرى وأمسك وألمس كائن موجود، ولكن يرى الإنسان بين هذه الموجودات فروقًا واختلافًا؛ «فمنهم من يمشي على بطنه، ومنهم من يمشي على رجلين، ومنهم من يمشي على أربع.» طائر وغير طائر، متحرك وغير متحرك، والمتحرك حي، وغيره فاقد الحياة، والحي إذا لمسه الموت فقد الحركة.

أنَّى لنا هذه الأعضاء وتلك القوة العاصفة التي فينا، ودم الحياة وما يبعث من شهوات، ثم بعد قليل يصير ذلك كله ترابًا، ويذهب التراب هباءً كأن لم يغنَ بالأمس؟ هنا يتساءل عن علة هذا التغير وتلك التقلبات.

وقد وضع الشاعر «بيرون» الأبيات الآتية على لسان قابيل وقد رأى أخاه «هابيل» ميتًا ولم يكن رأى الموت قط:

أخي ما دهاك وكنت صباحًا
قوي الفؤاد قوي البدن؟!
على العشب مُلقًى فماذا عراك؟
أنومٌ وما الوقت وقت الوسن؟!
سكنتَ وأمسك منك اللسان
وهل مات حي إذا ما سكن؟
ألا ما هلكت، وإن كان في
شحوبك معنًى يهيج الحزَن

وصل العقل البشري إلى نتيجة وهي أن هناك شيئًا لا يدركه النظر، ندركه بعقولنا ولا ندركه بعيوننا، ليس بمادة ولكن يسكن الأجسام الحية، وذلك هو الروح أو النفس، وهي التي تمنح ما تحل فيه حركة وحياة، فإذا انسلت منه فلا حياة ولا حركة. وترى الأمم مجمعة على الاعتقاد بالروح حتى إن علم اللغة أثبت أنه لم تخل لغة من لفظ يدل عليها؛ فالإنسان من مبدأ أمره يميز بين المادة والروح حتى من قبل أن يتفلسف، فالمادة تفنى والروح تبقى، قال بيرون:

وهيهات لا تفنى جميعًا وإنما
لديك من الأسرار باق مخلد

ولما يقنع الفيلسوف بهذه الأقوال المبهمة الساذجة حاول أن يضع مبدأ أساسيًّا يحيط بكل موجود، وعنه يصدر كل شيء، قال قائلون: «لا شيء غير الروح، وليست المادة إلا ظاهرة من ظواهرها.» ويسمى هؤلاء بالروحانيين، وقال آخرون: «لا شيء غير المادة، وليست الحياة والحركة إلا وظيفة من وظائف المادة أو صفة من صفاتها، حتى إذا عرا المادةَ الانحلالُ فلا حياة.» ويسمى هؤلاء بالماديين، وذهبت طائفة ثالثة إلى أن هناك أساسين متحدين امتزج بعضهما ببعض؛ وهما: المادة والروح، ويسمى هذا المذهب «بالاثنينية» تمييزًا له عن القولين الأولين الذاهبين إلى أن هناك أساسًا واحدًا؛ إما المادة أو الروح، ويسمى مذهب هؤلاء «بالواحدية».

(١) المادية والروحانية

في إحدى حجر الفاتيكان صورة شهيرة في حائط صوَّرها «روفائيل» تسمى مدرسة أثينا، مركز هذه الصورة أرسطو وأفلاطون يحيط بهما أتباعهما وتلاميذهما، وفيها يشير أفلاطون بإصبعه إلى السماء، وأرسطو يصغي إلى قوله في فتور مشيرًا بيده اليمنى إلى الأرض. هذه الصورة تمثل تاريخ المذاهب في أثينا، بل وتمثل تاريخ الفكر الإنساني والنظريات الفلسفية في كل العصور، تمثل المادية والروحانية اللتين ثارت الحرب بينهما من ذلك العهد إلى الآن، فالروحانية تشير إلى السماء، والمادية إلى الأرض.

المادية

تطلق «المادية» على المذهب القائل بأن الظواهر المتعددة للأشياء ترجع إلى أساس واحد (هو المادة)، ويرى أن العالم مجموعة مكونة من شيء واحد، ويذهب إلى أن المادة أساس كل شيء، وينكر وجود روح قائمة بنفسها قد تتصل بالمادة وقد تنفصل عنها «كالحصان يربط في العجلة ويحل منها»، قال مُوليشُت: «مضى الزمن الذي كان يقال فيه بوجود روح مستقلة عن المادة.»

فالماديون يرون أن لا شيء غير المادة، مخالفين في ذلك الروحانيين، كما أنهم يخالفون الاثنينيين القائلين بأن الظواهر لا ترجع إلى شيء واحد، بل إلى أصلين: المادة، والروح أو العقل، ويرى هؤلاء الماديون أن ما نسميه العقل ليس إلا شكلًا من أشكال المادة الدائمة التغير والتنوع، وليست المادة كتلة عديمة الحياة لا حراك بها، تأتي إليها الروح وهي منفصلة عنها فتنفخ فيها وتنتج حياة، وإنما القوة ملازمة للمادة ومظهر من مظاهر المادة المتنوعة، والحياة والفكر ليستا إلا صفتين غريزيتين للمادة ونتيجة لامتزاج جزئيات المادة مزجًا معقَّدًا.

وليس القول بوجود قوة وروح وإله منفصل عن المادة يسبح فوقها يدفعها ويسخرها إلا قولًا خاملًا هراء في نظر المادي العنصري «موليشت»، ومن السخف عنده القول بوجود روح مجردة وقوة خالقة مغايرة للمادة.

نكرر القول — على مذهبهم — بأن كل الظواهر النفسية ليست إلا وظيفة لأحد أعضائنا — وهو المخ — فالأفكار والإرادات والعواطف تتوقف على قوة المخ وعمله وحجمه وتركيبه، وعلم النفس إنما هو فرع من علم وظائف الأعضاء يبحث في المخ، وليس الفكر إلا حركة للمادة ينعدم بانعدامها، وأعمال العقل مظهر خاص لقوة حية نشأ عن تركب المخ تركبًا خاصًّا، والإنسان يفكر بواسطة المخ كما يهضم بواسطة المعدة، وليس القول بوجود نفس منفصلة عن الجسم مستقلة عن المادة إلا لغوًا اختلقه فلاسفة علم النفس ليس له قيمة علمية، وعلى الإجمال فكل شيء إما مادة أو مظهر من مظاهر المادة، والمادة لا تُحدُّ ولا تفنى، وقوانينها أبدية لا تتغير، وهذه المادة لم يخلقها الله ولا الإنسان، بل هي قديمة أزلية أبدية لا تتغير ولا تفنى، وليس في هذا العالم شيء يعتريه الفناء ولا ذرة واحدة، وإنما تتغير الأشكال:

خفف الوطء ما أظن أديم الـ
أرض إلا من هذه الأجساد
وقبيح بنا وإن قدم العهـ
ـد هوان الآباء والأجداد

قال شكسبير:

يعتري قيصر العظيم حِمَامٌ
وتحيلُ الوجود أيدي الفناء
فإذا قيصر المعظَّم طين
سد في ثلمةٍ ممر الهواء

وقد ذهب الأستاذ «كارل فخت» إلى أبعد من هذا في تعريفه للفكر فقال: إن المخ يفرز الفكر بعين الطريقة التي يفرز بها الكبدُ الصفراءَ والكليةُ البولَ.

والنفس والحياة والفكر والوجدان كلها ثمرة المادة، وكلها كائنة في كل ذرة من المادة، وإنما تظهر إذا تركبت الذرات، وكلما كانت مادة العضو أكثر تركبًا كانت وظائفه أكثر تعقدًا، والمخ من أعجب الأعضاء وأدقها وأجملها تركبًا، ووظيفته الفكر، فليست المادة كتلة صلبة جامدة خالية من الحركة الذاتية عقيمة لا تنتج مظاهر الحياة والعقل والشعور إلا بمعونة قوة أخرى، وليست المادة دائمًا محسوسة منظورة، وإنما المادة تحتوي ملايين لا تحصى من الجزيئات على حالة عادية غير منتظمة ولا منظورة، وبتحرك هذه الجزيئات حركات متناسقة تتخذ المادة أشكالًا متنوعة، وينشأ عنها ظواهرُ متعددةٌ من خشونة ونعومة ولون وحركة وامتداد وحجم إلى ما عدا ذلك مما ليس إلا نتيجة عمل المادة، والحياة والفكر مظهران كذلك من تلك المظاهر، ولسنا ندعي أنهما أنفسهما مادة، وإنما هما كما قال «بخنر» في كتابه (القول الفصل في المادية): «ليسا مادة وإنما هما ما فعلت المادة.»

وهذه المادة المركبة من ذرات وقتية ليست موزعة على الفضاء بنسبة واحدة، بل هي مجتمعة في بعض المواضع دون الأخرى كتلًا كتلًا من سديم وسحاب وشموس ونجوم وأجرام أخرى سماوية، وكما تختلف المادة من حيث توزعها على الفضاء، كذلك تختلف من حيث الحركة وتركب الجزيئات، فبعض أجزاء المادة في منتهى النشاط وسرعة الحركة، وبعضها بطيء خامد، وقد تقلبت المادة في أطوار متعددة جارية على سنن النشوء والارتقاء حتى تشكلت بشكل أرضنا؛ ذلك الشكل المكثف الجامد المستقل، وكذلك مر الإنسان في أدوار النشوء حتى وصل مخه — وهو عضو التفكير — إلى درجة عالية من الرقي، وعند ذلك نشأت المدنية الحديثة.

أما الموت فقد رأى فيه بخنر ما يأتي، قال: «ذهب كثير من الفلاسفة إلى أن الموت هو السبب الأساسي الذي حمل على الفلسفة، وإذا صح هذا كانت الفلسفة التجريبية (القائلة بأن التجربة أساس العلم بالأشياء) في عهدنا هذا قد حلت أكبر لغز في الفلسفة؛ فقد أبانت منطقيًّا وتجريبًا أن لا موت، وأن الموت — وهو أكبر سر غامض — ليس إلا تغيرًا مطردًا من حال إلى حال، وأن كل شيء في هذا العالم لا يفنى ولا يزول، من أصغر دويبة إلى أكبر جرم سماوي، من حبة رمل أو قطرة ماء إلى أعظم موجود في الخليقة؛ أعني الإنسان وأفكاره. نعم، يتغير شكل الموجود، أما الموجود نفسه فدائم لا يلحقه الفناء، فإذا نحن متنا فليس معنى ذلك أننا فُقدنا، وإنما فقدنا شعورنا الشخصي أو شكلنا العارض الذي لبسته حقيقتنا الأبدية وقتًا قصيرًا، وسنبقى أبدًا في العالم وفي جنسنا وفي ذريتنا وأعمالنا وأفكارنا، وعلى الجملة فسنبقى فيما قدمناه من عمل — مادي أو نفسي — وما خلفناه من أثر لبني جنسنا أو للعالم أجمع في الأيام القصيرة التي عاشتها أشخاصنا.» والمادية مع كونها من المذاهب الواحدية إلا أنها بالضرورة مذهب إلحادي؛ لأنه ينكر وجود شيء غير المادة، فلا يعترف بآلهة ولا بأرواح ولا بملائكة ولا بشياطين، قال أحد الكُتَّاب الماديين: «إن الطبيعة تقوم بشئونها ولا شيء فوق الطبيعة، وليست الحوادث التي يسميها بعضهم خوارق للعادة ووراء الطبيعة إلا هراءً من القول، وخطأ في الملاحظة منشؤه اختلاط في العقل وإضلال رجال الدين.»

وليس مثل هذه الرسالة المؤلفة للجمهور يسمح لنا بذكر تفاصيل عن مذهب المادة، ولكنا سنذكر لها تاريخًا إجماليًّا يبين أصلها وما وصلت إليه من رقي، قال «لنج» في كتابه (تاريخ المادية): إنها قديمة قدم الفلسفة وليست أقدم منها، فقديمًا حاول الناس أن يدركوا العالم كأنه شيء واحد، وأن يدركوا خطأ الحواس الشائع ويتغلبوا عليه، وترجع المادية لأول عهد الناس بالفكر والنظر، فتراها في البوذية عند قدماء الهنود، وفي النظم الدينية عند الصينيين، وعند أعظم الأمم القديمة مدنية — أعني المصريين — ونجدها في شكل منظم عند اليونان الأولين؛ فقد كان فلاسفتهم الأقدمون ماديين، بحثوا في أصل المادة التي منها تتكون الأشياء، وقد رقى مذهب المادية علماء الجوهر الفرد؛ أعني ليُوسِيبس وصاحبه ديقريطس ٤٢٠ق.م الذي يعد رأس الماديين، وقد وضع ديمقريطس هذا — وهو أحد علماء الطبيعة الأيونيين — نظرية الجوهر الفرد، فقرر أن المادة تتركب من جزيئات صغيرة لا نهاية لها «جواهر فردة» تتجمع وتتفرق فتتكون منها الأجسام، وتلك الجزيئات قد منحت الحركة ولم تستمد حركتها من أية قوة أخرى أو أصل آخر، وإنما ذلك من طبيعتها.

وجاء بعده أبيقور ٣٤٠ق.م، فرقَّى نظرية ديمقريطس وقرر أن المادة قوام العالم، وأن النفس والفكر والعقل والشعور أعراض للمادة، وربما عدَّ من أتباع أبيقور: ليوكريتوس كاروس ٩٩ق.م المؤلف الروماني الشهير والفيلسوف الشاعر، وقد أوضح آراءه في كتاب له منظوم لقبه (طبيعة الأشياء)، وهذا الشعور المشهور — كما قال «لنج» — هو الذي جعل لعقيدة أبيقور قوة في العصور الحديثة.

وفي القرون الوسطى كان للمعتقدات الدينية والتصديق الأعمى الغلبةُ والسلطة على عقل الإنسان، فخضعت المادية للنصرانية الاثنينية؛ أعني القائلة بالروح والمادة، ولم يخلُ ذلك العصر من أصوات ضعيفة قالت بالمادية، مثل: جَسِّندي الفرنسي، وجيوردانو برونو الإيطالي، ولكن لم تلبث أصواتهم أن أخمدت، وأحرق الأخير برومية في ١٧ فبراير سنة ١٦٠٠م. أما في العصور الحديثة فقد انتعشت المادية في إنجلترا بفضل توماس هوبز ١٥٨٨–١٦٧٩، وقد ذهب إلى أن كل مظاهر العالم الحقيقية نتيجة الحركة، وأن ليس هناك أرواح غير مجسدة، وفسر الروح بأنها أجسام طبيعية رقيت حتى لم تستطع حواسنا إدراكها.

وقد انتقل مذهب المادية من إنجلترا إلى فرنسا، فظهر لامِتْريه ١٧٠٩–١٧٥١ وبارون هلبك فأوضحا مذهب المادية، وجاء كاباني أيام الثورة الفرنسية ١٧٥٧–١٨٠٨ فأيد مبادئ الماديين.

وفي ألمانيا كان سيل مذهب المثال الذي وضع نظامه (فخته وشلنج وهجل) طاغيًا على المادية، ولكن انتعاش العلوم الطبيعية جدد للمادية حياتها، وجاء مولشت فبحث في روح العلوم الوضعية — اليقينية — حتى صار في القرن الماضي ناشر مذهب مادي قوي جديد، وقرر في أحد كتبه مبدأ «أن لا قوة بلا مادة ولا مادة بلا قوة»، وتبعه «كارل فجت» الطبيعي الشهير، فأظهر في كتاب له٢ ميله إلى المادية، وجاء «لدويج بخنر» فتأثر بتعاليم مولشت حتى صار اللسان القوي المبين لمذهب الماديين العصريين، ولُقِّب كتابه (القوة والمادة) بالكتاب المقدس للمادية.

الروحانية

على العكس من مذهب المادية — القائل بأن المادة أصل كل الأشياء من حياة وفكر وشعور ومظاهر عقلية — مذهب الروحانية، وقد أخطأ بعض الناس فهم «الروحانية» فلقبوها «مذهب المِثَال» Idealism، مع أن مذهب المثال هذا إنما يقابله «مذهب الواقع» لا «مذهب الماديين» كما ستعلم ذلك عند الكلام على «نظرية المعرفة». وقد نشأ من عدم تحديد معاني الكلمات أن بعض الناس فهموا خطأ كذلك أن المادية تدعو إلى الأنانية (الأثَرة) والأميال السافلة حتى استعملوا كلمة «الماديين» للذم والتعيير؛ لهذا كان من المستحسن أن نميز بين المادية والروحانية تمييزًا صحيحًا، فمذهب المادية يرى أن أساس كل الأشياء هو المادة، وهي في أول أمرها تكون مادة لا حراك بها ولا شعور لها، ثم ترتقي حتى تصل إلى مادة حية شاعرة، وتصدر عنها الأعمال النفسية في أرقى مظاهرها، وأما مذهب الروحانية فيرى أن أساس هذا الوجود الذي يعمل وراء هذه المظاهر إنما هي الروح التي لا مادة لها.

ولسنا نحاول هنا شرح المذاهب المختلفة للروحانية، وإنما يكفينا أن نقول: إن هذا المذهب يرى أن «الفكر» وإن كان له ارتباط بالمخ ليس نتيجة المخ، وبعبارة فلسفية نقول: إن العلاقة بين المخ والفكر ليست علاقة علة بمعلول. نعم، إن المخ آلة لا بد منها للتفكير، ولكنها ليست نتيجة للتفكير؛ إذ ليس يمكن أن يكون فكر الإنسان الذي يشعر بشخصيته وبحرية إرادته نتيجة لمادة جامدة لا تحس ولا تشعر مهما كانت حالتها من رقي تركيبها وحسن نظامها.

المادة لا يمكن أن تفكر ولا أن تشعر؛ لأن ما يفكر فيه أو يشعر به (وهو المادة) لا يمكن أن يكون هو بعينه المفكر الشاعر في الوقت نفسه، وفي ذلك يقول شاعر فرنسي ما معناه: «لا أظن أن الفكر وهو ذلك الشعاع الساطع ينبعث من مادة كثيفة مظلمة.»

فماهية الأشياء على هذا المذهب ليست قوة مادية، بل روحًا تشعر بنفسها وتحس بشخصيتها؛ ذلك لأنه ليس في استطاعتنا أن ندرك حقائق الأشياء بحواسنا، بل بعقلنا المجرد، فكان لا بد إذن أن تكون حقيقة الأشياء المدركة بالعقل المجرد شيئًا روحيًّا مجردًا.

وقد ظهر المذهب الروحاني بعد المذهب المادي، فالعقل البشري الشغوف بالغيب وبالأسرار وبما لا تعرف له علة، وبعبارة أخرى بكل ما لا يصل إليه علمنا، لا يقنع طويلًا بمذهب المادية الذي يجرد الحياة من الأسرار، وهذا هو السر في أن الإنسان من حين لآخر يعدل عن العلم إلى الدين، بعدما عدل عن الدين إلى العلم.

وقد كانت المادية والروحانية في جميع أدوار تاريخ الفكر الإنساني — ولا تزالان إلى اليوم — في حرب عوان، كلٌّ يطلب الغلبة والسيادة في عالم الفلسفة؛ فقد أوضح أفلاطون نظرية الروحانية وقرر أن «المُثُل» لها وجود حقيقي، وأنها هي النماذج التي تحتذيها الظواهر، وفي العصور الحديثة جاء «رينه ديكارت» فأحيا عقيدة الروحانية، ثم جاء ليبنتز ١٦٤٦–١٧١٦ وإليه يرجع الفضل في ضبطها وإحكامها، ومذهبه أن أساس الموجودات شيء وهو الروح، وهي تنقسم إلى نقط روحية لا عداد لها، وكل نقطة من هذه النقط تسمى «الذَّرَّة الروحية»،٣ وهذه الذَّرَّة يخلقها الله، وكل جوهر فرد مركب من مجموعة من هذه الذرات، وعدم قبول الجواهر الفردة للانقسام ليس إلا في الظاهر فقط، أما في الواقع فهي قابلة للانقسام؛ إذ إنها مركبة من ذرات روحية، وكل جسم مركب من جواهر فردة فهو إذن مركب من ذرات روحية، وما يرى للجسم من الامتداد فليس حقيقيًّا، بل هو ناشئ من اجتماع ذرات روحية بعضها مع بعض.

وحقائق الأشياء ليست المادة، بل القوة أو الذرات الروحية، وقد خلق الله تلك الذرات وجعلها مراكز للقوة، ومنحها قوة إدراك، وفاوت فيما بينها في ذلك، فالذرة الروحية قوة روحية تتجلى فيما تتخذه من الأشكال المتغيرة على الدوام، وهذه الذرات «هي مرآة العالم الحية الباقية»، وفيها قوة تحاول التحول من حالة اللاشعور إلى حالة الشعور، والشعور هو تيار من الأفكار والإحساسات يتدفق من حقيقة الذرة الروحية، والمادة هي مجموعة من الذرات الروحية، وقد تكون تلك الذرات في حالة اللاشعور فتكون منها المادة الميتة.

والجسم هو امتداد المادية Materiality، ولكن ما حقيقة تلك المادية؟ قال ليبنتز: إنها القوة — أو الذرة — وهي ليست بمادة، وليست قابلة للامتداد ولا للتجزئة ولا للفناء؛ وللذرات الروحية تدرج في الرقي يصل إلى حد الكمال، وما بلغ منها منتهى الكمال يحكم ما لم يبلغ، وما لم يبلغ حد الكمال يطيع، والمادة الميتة هي مجموعة ذرات روحية لم تبلغ الكمال، وليس معها ذرات حاكمة، وليست الذرات الروحية في أي حال من أحوالها فائدة الحياة؛ لأن كل ذرة لها جسم وروح، فالروح ماهية المادة والجسم مظهره المحسوس.

ولئن كان ليبنتز قد رأى للمادة وجودًا ما، فإن «بركلي» قد ذهب إلى أبعد منه وتغالى في الروحانية — وهو جورج بركلي قسيس «كلوين» ١٦٨٥–١٧٥٣م الملقب «بمحب الإنسانية الكبير والفيلسوف الصغير»، لقبه به مؤلف جرماني حديث، وربما كان غير عادل في تلقيبه بذلك — وقد ذهب بركلي إلى أن المادة لا وجود لها في الخارج، وإنما يخيل إلينا أنها موجودة، ولا وجود إلا للروح والعقل، ولا فرق بين ما نسميه شيئًا حقيقيًّا وبعبارة أخرى (ما ندعي وجوده في الخارج)، وبين آرائنا في الشيء أو تصورنا له، بل العقل يتصور شيئًا وفي الوقت عينه ينتج الشيء نفسه، وليس هناك شيء خارج العقل، فترى من هذا أن ليبنتز سلم بوجود الأشياء الخارجة، وأما بركلي فأنكر وجود شيء وراء العقل، فالشمس والقمر والأشجار عند بركلي لا وجود لها إذا لم يوجد عقل يدركها، والعقل عنده — وقد رأى بركلي تعدد العقول — لا يدرك الأشياء بنفسه ولا بقوة إرادته، ولكنه يستمد الإدراك من الله القادر، فهو سبحانه يطبع الصور في عقولنا، ونحن نسمي تلك الصور عادة أشياء حقيقية.

وقد قال في كتابه المسمى (السلسلة) الذي ابتدأه بالكلام على منافع «ماء القطران» وختمه بالكلام على «الموجود المطلق»: «ليست الآراء والأفكار خيالات باطلة يتخيلها العقل، بل هي الموجودات الحقيقية التي لا تقبل التغير، ولذلك كان وجودها أكثر تحققًا من الأشياء الخارجية الزائلة التي تقع عليها حواسنا والتي لا ثبات لها، ولا يمكن أن تكون موضوعًا للعلوم فضلًا عن أن يدركها العقل.»

وفي العصور الحديثة جاء «هرمان لوتز» فشرح في كتابه (العالم الصغير) مذهب الروحانيين، وكذلك «شوبنهور» الذي ذهب إلى أن الإرادة هي حقيقة الأشياء، و«فخنر» الذي يقول: «إن كل شيء في الوجود حي.» يعدان من الروحانيين.

(٢) الواحدية والاثنينية

ذهب بعض الفلاسفة إلى أن أساس الأشياء شيء واحد، إما المادة وإما الروح، وآخرون إلى أن العالم والإنسان يتركبان من أصلين قائمين جنبًا لجنب على وفاق، وهما المادة والروح، فالأولون وهم القائلون بوجود أساس واحد إليه ترجع كل الظواهر المختلفة يسمون «الواحديين»، ومذهبهم يسمى «الواحدية»، قال وُلف: «الواحديون هم الفلاسفة الذين يقولون بعنصر واحد.» وهم إما ماديون إذا رأوا أن المادة هي الأصل، أو روحانيون إذا قالوا بأن الروح هي أساس الأشياء.

وقد رأى «إدوارد هارتمان» في كتابه (فلسفة اللاشاعر) أن الميل إلى «الواحدية» كان سائدًا بين النظم الأساسية التي وضعها الأولون دينية كانت أو فلسفية، وأما «الاثنينية»؛ أعني المذهب القائل بوجود أساسين متعاونين: المادة والروح، فليس مذهبًا يسود بين السذج فحسب، بل قد دافع عنه أيضًا فلاسفة عظام من طلوع فجر المدنية إلى اليوم، قال ولف في تعريفهم: «الاثنينيون هم الذين يقولون بوجود عنصرين: مادي وروحي.»

وقد كان أنكساغوراس وأرسططاليس والرواقيون اثنينيين، وفي العصور الحديثة جاء «ديكارت» فأيد مذهب الاثنينية، ثم عدَّله جهلنكس إلى مذهب «الاتفاقيين» Occasionalists،٤ وربما عُدَّ من «الاثنينيين» أيضًا هربارت ولوتز وفخته.

رأى أنكساغوراس ٤٥٠ق.م وجود مبدأ عاقل هو سبب الحركة، وهو غير العنصر المادي لا يتحرك ولا يشعر، والعنصر المادي لا شعور له، وليس في قدرته أن يسبب حركة بنفسه، وإنما العنصر الروحي الذي وهب الشعور والتأثير والقوة والعقل، وهو الذي ينتج الحركة والحياة في هذا العالم.

ويعد الفيلسوفان العظيمان القديمان أفلاطون وتلميذه الشهير أرسطو «اثنينيين»؛ فقد سلم أفلاطون بوجود المبدأ المثالي والمبدأ المادي، وبعبارة أخرى سلم بوجود عالم الحواس وعالم المثال، ويرى أن عالم المثال نموذج يحتذيه عالم الحواس، وكذلك أرسطو قال بوجود مبدأين: المادة (الهيولي) — وهي الشيء القابل — (والصورة) وهي التي منحت القوة، فهو أيضًا اثنيني، ولكن ما ذهب إليه من أن الصورة أو المثال والمادة لا ينفصل أحدهما عن الآخر، وأن لكل موجود صورة وهيولي، مثالًا ومادة، روحًا وجسمًا، يجعل مذهبه أقرب إلى «الواحدية»، أو على الأقل يجعل الاثنينية مصبوغة بصبغة الواحدية.

وقد ظلت الاثنينية ذات السلطان في القرون الوسطى لاتفاقها مع التعاليم الدينية، ويعد «ديكارت» مؤسس الاثنينية في العصور الحديثة، وقد فرق بين ما يقبل الامتداد — وهو المادة — وبين العقل وقال: إنهما عنصران مختلفان يضاد كل منهما الآخر على خط مستقيم، وكل منهما يطارد الآخر.

والعقل أو الروح ليس ماديًّا ولا امتداد له، وهو فاعل حر، أما الجسم أو المادة فلها امتداد ولا روح لها، والإنسان مكون من الجسم والروح معًا، وحركات الجسم تنشأ عن النفس، والنفس مستقلة عن البدن وغير قابلة للفناء، وتلتقي النفس مع البدن في الغدة الصنوبرية (القلب).

وجاء سبينوزا فرأى أن الامتداد والفكر إنما هما صفتان مختلفتان لعنصر واحد يتكون منه كل شيء، الطبيعة أو الله، وليسا ناشئين من عنصرين مختلفين؛ لأن العنصرين المختلفين المتضادين تمام التضاد لا يمكن أن يتحدا، ولهذا يعد سبينوزا «واحديًّا».

وفي العصور الحديثة يمكن أن يعد لوتز وفخته اثنينيين.

«والاثنينية العقيدة التي تعتنقها العقول الساذجة، وهي أساس الأديان كلها.»

قال هيكل في رسالته «الواحدية»: كل الأديان الغابرة والمذاهب الفلسفية القديمة «اثنينية» تعتقد أن الله والعالم، الخالق والمخلوق، الروح والمادة، عنصران منفصل بعضهما عن بعض تمام الانفصال، وإنا نجد الاثنينية في أنقى الأديان ولا سيما في ديانات التوحيد الثلاث التي جاء بها أنبياء ثلاثة ظهروا شرقي البحر الأبيض وذاع صيتهم؛ وهم: موسى، وعيسى، ومحمد.

(٣) قضية العالم الدينية

مما يتصل بالبحث في حقيقة الموجود مسألة شغلت عقول الناس منذ أن ابتدءوا يفكرون؛ وهي: كيف وجد العالم؟ وبعبارة أخرى كيف برز هذا العالم إلى الوجود؟ فقديمًا تنبه الإنسان — حتى الإنسان العادي — إلى أن هناك وحدة تشترك فيها أشياء العالم المتنوعة، أي إن العالم كله كالشيء الواحد يتصل بعضه ببعض، سواء في ذلك ما يدرك بالعين وما لا يدرك، وسرعان ما أدرك أن ظواهر العالم تحصل بنظام دقيق، وأنها خاضعة لقوانين لا تنتهك في كل أطوار الإنسان؛ من أيام طفولته إلى عصر تقدمه يرى أن كل شيء حوله من أرض تقله وسماء تظله تسير على قانون ونظام يستخرجان منه العجب، فكان فيما شاهده من نظام في الطبيعة وترتيب في الظواهر الطبيعية المتنوعة ما أثر فيه، وحمله على أن يسأل عمَّ نشأ نظام هذا العالم؟ وكيف وجد؟

ظن فلاسفة اليونان الأولون أنهم حلوا المسألة بقولهم بوجود أصل واحد للأشياء مثل الماء كما قال طاليس، أو الجو — أنكسمندر — أو الهواء — أنكسمينيس — أو النار — هرقليطس — وأن كل موجود على قولهم يستمد وجوده من ذلك الأصل وإليه المآب.

ولكن كيف نشأ هذا النظام، ووجدت الأشياء من ذلك العَمَاء؟ إلى الآن لم يُجبْ عن هذا السؤال، وقد أفحم الطفل الذكي أبيقور أستاذه — وقد كان يقرر له أن العالم نشأ من العماء — بسؤاله: «ومن أين نشأ هذا العماء؟!» إن العنصر أو العناصر التي يظن أنه ينبثق منها كل موجود، وينظم هذا النظام التام لا بد أن يكون لها علة، وقد ذهب بعض الفلاسفة مثل ديمقريطس وهيرقليطس إلى أن وحدة Unity العالم ليست إلا مظهرًا فقط، والحقيقة أن هناك عددًا لا نهاية له من جزيئات لا عداد لها (جواهر فردة) تتحرك في الفراغ لا لغرض ولا مقصد، فتجتمع تارة وتتفرَّق أخرى، وليس تجمعها أو تفرقها يرجع إلى سبب علوي، ولكن تبعًا للحركة الوقتية التي هي جزء من حقيقتها، وليس عندهم ما يسمى بعلة العلل، وإنما تتحرك الجواهر الفردة في فضاء لا نهاية له، وفي زمن لا نهاية له، فيجتمع منها ما يمكن أن يتجمع، ويحصل ذلك ويتكرر، ويسمى هذا المذهب مذهب الجوهر الفرد.
مثل هذا الشرح لا يُقْنِعُ الإنسان طويلًا؛ فإن عادته التي لا تفتأ تسأل عن العلة الأخيرة لهذه الظواهر، وما فيه من مشاعر غامضة قوية أهمها شعوره بضرورة اعتماده على قوة، وحاجته إلى واقٍ يقيه، حملته على الاعتقاد بوجود قوة علوية لا تدركها الأبصار، قوة شاعرة بأن لها إرادة «ولها بعض الشبه البعيد بعقل الإنسان»، وهذه القوة هي سبب نظام العالم، هي سر كل شيء، إياها يستعين الإنسان على ما يطلب من حماية وسعادة. وذلك العماء٥ الذي ذكرناه لا بد أن يكون له مدبر يضبط أموره، وهذا المدبر هو ما يعلل به نظام العالم، وهو مفتاح يحل به أعظم الألغاز المعقدة، ويشرح لنا الغرض من هذا العالم، قال مكس مولر: «إن النظر في الظواهر الطبيعية قاد الإنسان إلى إدراك خالق وراء هذه الظواهر.»

تلك القوة العلوية هي الله، ومن قبل أن طلعت شمس المدنية والناس يقرون بوجوده، وكل جنس وجيل تقريبًا سماه باسم خاص مثل: يهوه، وجوبتر، والسيد المالك، وما لا يحد وما لا يعرف، والإرادة المطلقة، ومسخر العالم إلخ.

وإن السماء لدليل على عظمته.

وكما قال «تنيسن»:

كلا، ليس الشمس والقمر والنجوم والسهل والحَزْن إلا منظرًا من مناظر رب العالمين.

والاعتقاد بالله متأصل في نفوس الناس ينبع حينًا بعد آخر حتى من أجدب النفوس وأقحلها، وكانت فكرة الاعتقاد بالله فكرة ساذجة في أول أمرها، درجت بين ما كان عند الإنسان الأول من أثرة وحب نفس ثم ترقت بمرور الأزمان، وكانت مجالًا لنظريات مختلفة وآراء متباينة، نشأت فكرة سخيفة في عصر الهمجية اعتنقها المتوحشون الذين صاغوا معبودهم بأيديهم، وترقت إلى أن وصلت إلى شكل اعتنقه أمثال هجل ورِنان ومكس مولر وغيرهم.

والمذهب القائل بوجود خالق لهذا العالم مدبر لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار يسمى بمذهب المؤلهة (القائلين بإله)، وهذا المذهب يرى وجود إلهة أو آلهة علويين فوق الطبيعة وفوق العالم، وهذا الاعتقاد أساس كل المعتقدات الدينية من عقيدة المتبربرين الذين لم يأخذوا من المدنية بحظ وافر إلى العقيدة الأثيرية التي وضعها شلر ماكر.

ومذهب المؤلهة إما أن يقول بإلهين أو آلهة عدة، وهذا هو أساس ديانات كثيرة — شرقية قديمة وحديثة — ويسمى مذهب الشِّرْك، وإما أن يقول بإله واحد ويسمى مذهب التوحيد، وهذا أساس الديانات الثلاث العظمى: اليهودية، والنصرانية، والإسلام، ويقول مذهب المؤلهة: إنه لما كان العقل وحده لا يستطيع أن يدرك الاعتقاد بالله حق الإدراك، جاء الوحي لتفهيم الناس هذه الحقيقة.

ومذهب المؤلهة مذهب مشَبِّه (يشبه الله بالإنسان) فينسب إلى الله فكرًا ورأيًا وصفات وأميالًا وصورة كما للإنسان ذلك، إلا أنه يقر بأنه ما له من ذلك أكمل مما للإنسان.

وهناك مذهب يخالف مذهب المؤلهة فيقول أيضًا بوجود إله علوي قوي عالم، إلا أنه لا يقول بوحي، ويسمى هذا المذهب مذهب العقليين، وهذا المذهب يؤيد القول بإله، ويرد على الملحدين المنكرين له، ولكنه ينكر أن الله هو الفعال على الدوام في حكم العالم وفي تدبيره، وفي إسعاد الناس وإشقائهم، ويرى أن العقل وحده لا بمعونة وحي وخوارق للعادة يستطيع أن يصل إلى معرفة الله، أو إلى علة العلل الذي نظم العماء، وأن هذه القوة (الله) ليست في حاجة إلى نظام ديني خاص، ولا إلى شكل من أشكال الصلاة، ولا إلى شعائر عبادة.

وتغالى أصحاب هذا المذهب في آرائهم، وتعمقوا في خيالاتهم، حتى ذهبوا إلى أن كل العقائد والأديان ستفقد خواصها المميزة لها بعد أمد مديد، وأن النصرانية واليهودية والإسلام ومذاهب الإشراك والتوحيد ليست إلا أمواجًا قصيرة الأمد سائرة إلى الزوال في بحر الألوهية المحيط، وليست البوذية والزرادشتية والمانوية أشياء يعتد بها في الأفق الفسيح للمثل الإنسانية العليا. والعقليون ينكرون أيضًا القول بأن الله خالق العالم من لا شيء، ويرون أن الله إنما نظم حالة المادة المشوشة وأخرجها من حالة العماء، أما المادة نفسها فقديمة، وكثيرًا ما يسمى العقليون لهذا «ملحدين»، وقد سماهم بوشوت «الملحدين المتنكرين».

ويتفق مذهب المؤلهة ومذهب العقليين في القول بإله علوي فوق العالم يحكم العالم من علٍ، كأنه من منفصل عنه، ويذهب المؤلهون إلى أبعد من ذلك، فيعتقدون الله مستويًا على العرش بيده الخير والشر، يثيب الناس ويعاقبهم جزاء بما كانوا يعملون، تهمه أعمال الإنسان، وتسره التضحية، وتسكن ثورة غضبه الصلاة، ويرى أيضًا أن الله تعالى أعلى من أن تفهم عقولنا أعماله.

وتضاد هذه العقائدَ القائلةَ بأن لله وجودًا مستقلًّا وأنه أعلى من مخلوقاته عقيدةٌ أخرى ترى مذهب الحلول؛ أي إن الله في هذا العالم، وأنه كل شيء في كل شيء، وأن الله والقوة الداخلية الفاعلة في هذا العالم مترادفان؛ وإنه لمن الصعب تحديد مذهب الحلول حتى قال جوتيه: «لم أر إلى الآن من يفهم ما تدل عليه كلمة الحلول فهمًا صحيحًا.» وتدل الكلمة على أن هذا المذهب يرى أن الله هو كل شيء، وأن كل شيء هو الله، وليس الله والعالم منفصلًا بعضهما عن بعض، بل شيئًا واحدًا من عنصر واحد، ولا يرى أن الله قائم بذاته منفصل عن العالم كما يرى مذهب المؤلهة — المشبهين — ومذهب العقليين، بل ينزه الله عن كل أوصاف البشر، وينكر أن يكون الله مشخصًا قائمًا بذاته، ويقول: لا فرق بين الله والعالم، وأن الله هو الخالق المدبر والعلة الفاعلة على الدوام، وهو روحٌ فكرتها العالم، والعالم عندهم مظهر الله، والطبيعة شعاره؛ ذلك لأنه لو كان هناك شيء غير الله لكان محدودًا ولما وجد في كل مكان، ولما كان قادرًا على كل شيء، وعندهم أن الله حالٌّ في كل ذرة من ذرات العالم، وفي كل حبة من رمال الصحراء، وفي كل نبتة من نبات الحقول، وفي كل ورقة من أوراق الأشجار يلاعبها الهواء، وفي كل دابة تدب على الغبراء، قال شلي يخاطب الله:

إن أصغر ورقة من أوراق الأشجار التي يلاعبها النسيم ليست إلا بضعة منك (جزءًا من أجزائك)، كلا ولا أحقر دودة تسكن القبور وتسمن من لحوم الموتى أقل مشاركة لك في حياتك السرمدية.

وقال: «إن هذه الروح التي توجد في كل مكان بها يحيا كل موجود، وهي هو.»

وقد حدد هنريك هيني في كتابه الممتع (الدين والفلسفة في جرمانيا) مذهب الحلول الذي قال عنه: «إنه دين ألمانيا المختفي في نفوسهم.» فقال: إن الله هو العالم، وقد تجلى الله في النبات بنوع حياة؛ حياة مغناطيسية لا تنبهية، وتجلى في الحيوان بحياة تشبه حياة النائم، فهو يحس نوع إحساس بأن له وجودًا، ثم تجلى أعظم تجلٍّ في الإنسان، فهو يشعر ويفكر، ظهر الله في الإنسان بمظهر الشاعر بنفسه، ولست أعني فردًا من أفراد الإنسان، وإنما أعني النوع الإنساني كله، فيحق لنا أن نقول: «إن الله قد تجسد في ذلك النوع الإنساني.»

وإذا نحن حاولنا أن نذكر تاريخًا كاملًا لقضية العالم الدينية، فمعنى ذلك أننا نريد ذكر تاريخ الفلسفة كلها، وليس في وسعنا ذلك؛ ولذلك سأقتصر على ذكر أسماء قليلة من هؤلاء الذين قالوا بالمذاهب الأربعة التي تقدم ذكرها؛ وأعني بها مذهب الجوهر الفرد، ومذهب المؤلهة، ومذهب العقليين، ومذهب الحلول.

أسس مذهب الجوهر الفرد «ليُوسِيبس» وتلميذه ديمقريطس، وجاء أنكساغوراس فرأى أنه لا بد من قوة أو عقل مدبر هو السبب في نظام العالم، ومن أجل ذلك قال بوجود عنصر قد منح القوة والحياة والعقل والعمل والحرية، وهو منبع نظام العالم وحياته وحركته، وسمى هذه القوة نوس Nous «العقل»، وهذا العقل هو الروح التي أخرجت من العماء نظامًا، وهو المحرك الأول للمادة، ولكنه ليس الخالق لها؛ فإنها أزلية. ويخالف هذا المذهب مذهب المؤلهة؛ فإنه يرى أن الله خالق المادة من العدم، وهذه العقيدة هي أساس كل العقائد الدينية، وقد اتبع مذهب المؤلهة «أفلاطون» و«أرسطو» و«ليبنتز» و«كانت»، واعتقدوا أن الله هو العلة الأولى لهذا العالم.

ومذهب العقليين يقول بوجود إله يشرف على الكائنات ويحكم العالم، ولكن لا عن إرادة حرة، بل يحكمها متبعًا قوانين لا تقبل التغير؛ وقد ظهر هذا المذهب أولًا في إنجلترا في القرن الثامن عشر، وكان «تولاندوم. تندال» وشافتسبري أشهر المدافعين عنه.

أما مذهب الحلول فقد كان يدعو إليه ريك فيدا Rig Veda (كتاب الهنود المقدس) وقدماء فلاسفة اليونان الإيليون، وكان القديس بولس نفسه يدعو إلى الحلول لما قال: «في الله نحيا، وفيه نتحرك، وفيه نكون.» وكان «زينو فانيس» يعلم أن ليس إلا إله واحد، وأنه هو والعالم شيء واحد.

ونحو آخر القرن السادس عشر، قام «جيوردانو برونو» ولم يعبأ بتهديدات محكمة التفتيش ورفع صوته بتأييد الحلول، والطعن على مذهب المؤلهة الذي يشبِّه الله بالإنسان، وعنده أن الله الذي لا يحده حد والعالم شيء واحد، وأن هؤلاء الذين يتخيلون أن الله موجود بجانب الموجودات الأخرى إنما يجعلونه محدودًا، وأن ليس الله خالق العالم ولا المحرك الأول له، بل هو الروح العالم.

وجاء «سبينوزا» الأمستردامي ١٦٣٢–١٦٧٧ ونظم مذهب الحلول، ولذلك يعدُّ أبا الحلول الحديث، وأصبحت كلمتا الاسبينوزية ومذهب الحلول مترادفتين، ويمكن تلخيص مذهب سبينوزا فيما يأتي: إن في العالم جوهرًا واحدًا وهو الله، وهو مطلق لا يحد، وكل الجواهر الأخرى المحدودة منبعثة منه ومظروفة فيه، وليس لها إلا وجود زائل سائر إلى الفناء، ولله صفتان يُظهر بهما لنا نفسه: الامتداد والفكر، فبالامتداد المتنوع تتكون الأجسام، وبالفكر المتنوع تتكون العقول، وهاتان الصفتان ثوبان لله نسجتهما «المكوكات الدائمة الحركة في نول الزمن العاصف».

ولما أعلن سبينوزا حكيم «أمستردام» الأوحد عقيدته هذه ثار عليه أنصار الدين واتهموه بالإلحاد، وما كان أبعده عن الإلحاد؛ فقد كان مملوءًا بحب الله حبًّا جاءه عبر الطبيعة، فمن كأس الطبيعة الطافحة قد شرب الألوهية حتى ثمل، وحتى أصبح لا يرى أمامه إلا الله، وبالرغم مما وجه إلى سبينوزا من الضربات القاسية كان له تأثير عظيم في أكبر العقول في أوروبا، «فشلر» و«جوتيه» و«لسنج» و«هردر» و«شلر ماكر» و«هيني» و«شلي» كانوا حلوليين، وإن شئت فقل: سبينوزيين.

وقد أوضح جوتيه عقيدته في الحلول في قوله:
كلا، ليس يرضى الله أن يهيمن على العالم من فوق فحسب، بل يود أن يكون في باطن الكائنات، وأن يرى الطبيعة متجلية فيه، ويرى نفسه متجليًا في الطبيعة، فما يخلقه الله والله وحياته وقوته شيء واحد!٦

هوامش

(١) إيزيس Isis إلهة مصرية زوجة أوزيريس، انتشرت عبادتها من مصر إلى اليونان ورومة، وكانت عبادتها تنافس النصرانية. Lais هي بصا الحجر، وهي في مركز كفر الزيات تبعد عن فرع رشيد بنحو ألف متر (المعرِّب).
(٢) اسم هذا الكتاب هو Charcoal—burner’s Greed and science.
(٣) ترجمنا كلمة Monad التي استعملها ليبنتز (بالذرة الروحية)، ويريد بها جزيئًا صغيرًا من الروح لا امتداد له قد منح الحياة، ويقابله الجوهر الفرد وهو جزيء صغير من الجسم، وعلى رأي ليبنتز الجوهر الفرد مركب من ذرات روحية، وقد توسعنا في شرح مذهب ليبنتز لأن ما ذكره المؤلف مركز تركزًا يجعله صعب الفهم (المعرِّب).
(٤) مذهب الاتفاقية Occasionalism مذهب يقول: إن العقل والبدن لا يؤثر أحدهما في الآخر، وعند عروض تغير في أحدهما اتفاقًا يغير الله في الآخر (المعرِّب).
(٥) ترجمنا كلمة Chaos بالعماء، ونعني بها المادة التي على حالة اختلال وعدم انتظار؛ وذلك قبل أن تخلق، والخلق على هذا القول إخراج المادة من حالة التشويش وعدم الانتظام إلى حالة الانتظام. واستعملنا كلمة العماء بهذا المعنى أخذًا من قوله عليه الصلاة والسلام وقد سئل: أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال: «في عماء تحته هواء وفوقه هواء» (المعرِّب).
(٦) وإذا نحن قارنا بين مذاهب المسلمين وما حكاه عن هذه المذاهب وجدنا المسلمين يغلب عليهم القول بمذهب المؤلهة، فهم يقولون بإله، ويصفونه بأوصاف الإنسان من سمع وبصر واستواء على العرش ونحو ذلك، وإن كانوا يقولون بالفرق بين اتصاف الله بهذه الصفات واتصاف الإنسان بها. وللمعتزلة تعاليم تجعل بينهم وبين العقليين بعض الشبه؛ فقد قالوا: يجب على الله فعل الأصلح وتجنب الفساد. ونفوا تشبيه الله بالإنسان وقالوا: إن الإنسان يخلق أفعال نفسه. ولكنهم لم يتفقوا مع العقليين في نفي الوحي. وقد ظهر مذهب الحلول بين المسلمين وقالت به طائفة الصوفية، من أوائلهم أبو يزيد البسطامي المتوفى سنة ٢٦١ﻫ، وأشهر منه في القول بالحلول الحلاج تلميذ الجنيد، قتل سنة ٣٠٩ﻫ، وله كلام وشعر يشبه شعر شلي وجوتيه وكلام سبينوزا في الحلول، فمن قوله: «ما في الجبة إلا الله.» و«أنا الحق.» ومن شعره:
سبحان من أظهر ناسوته
سر سنا لاهوته الثاقب
ثم بدا في خلقه ظاهرًا
في صورة الآكل والشارب
حتى لقد عاينه خلقه
كلحظة الحاجب بالحاجب
ومن أشهر شعره:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا
وللصوفية كلام ومذاهب في الحلول أو وحدة الوجود يطول شرحها (المعرِّب).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤