الفصل الثاني

المعرفة

(٣١) الجدل الصاعد

(أ) لم يكن إيثارُ أفلاطونَ للحوارِ عبثًا أو إرضاءً لنزوعه الأول للقصص التمثيلي، ولكن معاصر السوفسطائيين وتلميذ سقراط تأثر بالجدل واعتقد مع أستاذه أن الحوار بمرحلتيه (٢٦–أ) هو الطريق الوحيد للبحث في الفلسفة، فاصطنع الجدل وتحدى السوفسطائيين؛ فنقل اللفظ من معنى المناقشة المموهة إلى معنى المناقشة المخلصة التي تولد العلم، وهي مناقشة بين اثنين أو أكثر أو مناقشة النفس لنفسها، بل ذهب إلى أبعد من هذا فأطلق اللفظ على العلم الأعلى الذي ليس بعده مناقشة، وحد الجدل بأنه المنهج الذي يرتفع العقل به من المحسوس إلى المعقول لا يستخدم شيئًا حسيًّا، بل ينتقل من معانٍ إلى معانٍ بواسطة معانٍ،١ ثم بأنه العلم الكلي بالمبادئ الأولى والأمور الدائمة يصل إليه العقل بعد العلوم الجزئية، فينزل منه إلى هذه العلوم يربطها بمبادئها، وإلى المحسوسات يفسرها، فالجدل منهج وعلم يجتاز جميع مراتب الوجود من أسفل إلى أعلى وبالعكس،٢ ومن حيث هو علم فهو يقابل ما نسميه الآن نظرية المعرفة بمعنى واسع يشمل المنطق والميتافيزيقا جميعًا.
(ب) وأفلاطون أول فيلسوف بحث مسألة المعرفة لذاتها، وأفاض فيها من جميع جهاتها، وجد نفسه بين رأيين متعارضين: رأي بروتاغوراس وأقراطيلوس وأمثالهما من الهرقليطيين الذين يردون المعرفة إلى الإحساس ويزعمونها جزئية متغيرة مثله، ورأي سقراط الذي يضع المعرفة الحقة في العقل ويجعل موضوعها الماهية المجردة الضرورية، فاستقصى أنواع المعرفة فكانت أربعة؛ الأول: الإحساس؛ وهو إدراك عوارض الأجسام أو أشباحها في اليقظة وصورها في المنام. الثاني: الظن؛ وهو الحكم على المحسوسات بما هي كذلك. والثالث: الاستدلال؛ وهو علم الماهيات الرياضية المتحققة في المحسوسات. والرابع: التعقل؛ وهو إدراك الماهيات المجردة من كل مادة، وهذه الأنواع مترتبة بعضها فوق بعض تتأدى النفس من الواحد إلى الذي يليه بحركة ضرورية إلى أن تطمئن عند الأخير.٣ وإليك البيان:
(ﺟ) الإحساس أول مراحل المعرفة، ويدعي الهرقليطيون أن المعرفة مقصورة عليه وأنه ظاهرة قائمة بذاتها متغيرة أبدًا ليس لها جوهر تتقوم به ولا قوة تصدر عنها، ولكن لو كان الإحساس كل المعرفة كما يقولون لاقتصرت المعرفة على الظواهر المتغيرة ولم ندرك ماهيات الأشياء، ولصح قول بروتاغوراس: إن الإنسان مقياس الأشياء، وإن ما يظهر لكل فرد فهو عنده على ما يظهر، فأصبحت جميع الآراء صادقة على السواء؛ المتناقض منها والمتضاد، وامتنع القول إن شيئًا هو كذا أو كذا على الإطلاق، ليس فقط في النظريات؛ بل في السياسة والأخلاق والصناعات أيضًا، فيستحيل العلم والعمل، ولكنهما ممكنان فالقول مردود، وهو مردود كذلك من جهة أنه ينكر الفكر كملكة خاصة، والواقع أن الذاكرة والشعور بالتبعية ينقضان هذه الدعوى من حيث إن الذكر يعني دوام الشخص الذي يذكر، ثم إن فينا قوة تدرك موضوعات الحواس على اختلافها وتركبها معًا في الإدراك الظاهري؛ فتعلم أن هذا الأصفر حلو، بينما الحواس لا يدرك كل منها إلا موضوعًا خاصًّا وتفوته موضوعات سائر الحواس، وليس يكفي لفهم اللغة مثلًا رؤية ألفاظها أو سماعها، بل إن الإحساس ينبه قوة في النفس لولاها ما كان فهم أبدًا، ومع اشتراك العالم والجاهل في الإحساس فإن العالم وحده يتوقع المستقبل بعلمه، ويؤيد المستقبل توقعه، مما يدل على وجود قوة تعلم وقوانين ثابتة للأشياء، وهذه القوة تضاهي الإحساسات بعضها ببعض وتصدر عليها أحكامًا مغايرة للحس بالمرة، فتقول عن صوت وعن لون مثلًا: إن كلًّا منهما هو عين نفسه وغير الآخر وإن كلًّا منهما واحد، وإنهما اثنان، وإنهما متباينان: جميع هذه العلاقات يحكم بها المركز المركب، والمضاهاة وإدراك العلاقة فعلان متمايزان من الإحساس، فليس العلم الإحساس؛ ولكنه حكم النفس على الإحساس، وبهذا الحكم يمتاز الإنسان على الحيوان الأعجم مع اشتراكهما بالإحساس.٤
(د) ولكن الحكم يختلف باختلاف موضوعه، فإذا كان الموضوع المحسوسات المتغيرة من حيث هي كذلك كان الحكم «ظنًّا» أي معرفة غير مربوطة بالعلة فلا يعلم للغير؛ لأن التعليم تبيان الأمور بعللها، ولا يبقى ثابتًا بل يتغير بتغير موضوعه في عوارضه وعلاقاته: انظر إلى الطب والحرب والفنون الجميلة والآلية والسياسة العملية والعلوم الطبيعية تجدها جميعًا متغيرة نسبية؛ لتعلقها بالمادة لا تتناولها المعرفة إلا في حالات وظروف مختلفة، فليس الظن العلم الذي تتوق إليه النفس؛ إذ إنه قد يكون صادقًا وقد يكون كاذبًا، والعلم صادق بالضرورة، والظن الصادق متمايز من العلم؛ لتمايز موضوعهما؛ فإن موضوع الظن الوجود المتغير، وموضوع العلم الماهية الدائمة، ثم إن العلم قائم على البرهان، والظن تخمين، والظن الصادق نفحة إلهية أو إلهام لا اكتساب عقلي، والظن بالإجمال قلق في النفس يدفعها إلى طلب العلم.٥
(ﻫ) وترقى النفس درجة أخرى بدراسة الحساب والهندسة والفلك والموسيقى، فإن هذه العلوم ولو أنها تبدأ من المحسوسات وتستعين بها إلا أن لها موضوعات متمايزة من المحسوسات ومناهج خاصة؛ فليس الحساب عد الجزئيات كما يفعل التاجر بل العلم الذي يفحص عن الأعداد أنفسها بصرف النظر عن المعدودات، وليست الهندسة مسح الأرض بل النظر في الأشكال أنفسها، ويمتاز الفلك من رصد السماء بأنه يفسر الظواهر السماوية بحركات دائرية راتبة، بينما الملاحظة البحتة لا تقع إلا على حركات غير منتظمة،٦ ويفترق العالم الذي يكشف النسب العددية التي تقوم بها الألحان عن الموسيقي الذي يضبط النغم بالتجربة، فهذه العلوم تضع أمام الفكر صورًا كلية ونسبًا وقوانينَ تتكرر في الجزئيات؛ لذلك يستخدم الفكر الصور المحسوسة في هذه الدرجة من المعرفة، لكن لا كموضوع؛ بل كواسطة؛ لتنبيه المعاني الكلية المقابلة لها والتي هي موضوعه، ثم يستغني عن كل صورة حسية ويتأمل المعاني خالصة، وهو يستغني عن التجربة كذلك في استدلاله، ويستخدم المنهج الفرضي الذي يضع المقدمات وضعًا ويستخرج النتائج: مثال ذلك قد تعرض مسألة للمهندس أو الفلكي فيقول في نفسه: «أفرض أن حلها بالإيجاب وأنظر ما يلزم من نتائج»، أو «أفرض أن حلها بالسلب وأنظر ما يخرج لي» فإذا وجد أن نتيجة كاذبة تلزم من فرض ما انتقل إلى نقيض هذا الفرض وأخذ به، ولكن يلاحظ على هذا المنهج أمران؛ الأول: أنه قد يبين كذب فرض ما، ولا يبين صدق الفرض الذي يقف عنده؛ إذ قد تخرج نتائج صادقة من مقدمات كاذبة، والثاني: أنه يرغم العقل على قبول النتيجة ولا يقنعه؛ لأنه يأخذ المسائل من خلف ولا يُستعمل إلا حيث يتعذر النظر المستقيم، ويلاحظ على هذه العلوم أنها لا تكفي أنفسها؛ لأنها تضع مبادئها وضعًا ولا تبرهن عليها باستخراجها من مبادئ عليا، ويمتنع أن يقوم علم كامل حيث لا توجد مبادئ يقينية، فالرياضيات معرفة وسطى بين غموض الظن ووضوح العلم، هي أرقى من الظن؛ لأنها كلية تستخدم في الفنون والصناعات والعلوم وتعلمها ضروري لكل إنسان، وهي أدنى من العلم؛ لأنها استدلالية.٧
(و) والتجربة الحسية والعلوم الرياضية تستحث الفكر على اطراد سيره؛ ذلك أنه يحكم عليها بأمور ليست لها بالذات وغير متعلقة بمادة أصلًا، كأن يرى الشيء الواحد كبيرًا بالإضافة إلى آخر صغيرًا بالإضافة إلى ثالث شبيهًا بآخر أو مضادًّا أو مباينًا مساويًا أو غير مساوٍ جميلًا خيِّرًا عادلًا إلى غير ذلك من الصفات المفارقة للأجسام والمتعقلة من غير معاونة الحواس، فيتساءل عن الكبر والصغر والتشابه والتضاد والتباين والتساوي والجمال والخير والعدالة وما أشبه ذلك كيف حصل عليها وهي ليست محسوسة وهي ضرورية لتركيب الأحكام على المحسوسات، فيلوح له أنها موجودة في العقل قبل الإدراك الحسي،٨ وهكذا يتدرج الفكر من الإحساس إلى الظن إلى العلم الاستدلالي إلى التعقل المحض مدفوعًا بقوة باطنة «وجدل صاعد»؛ لأنه في الحقيقة يطلب العلم الكامل الذي يكفي نفسه ويصلح أساسًا لغيره.

(٣٢) نظرية المُثُل

(أ) وللجدل الصاعد شوط آخر: فإن المحسوسات على تغيرها تمثل صورًا كلية ثابتة هي الأجناس والأنواع، وتتحقق على حسب أعداد وأشكال ثابتة كذلك، فإذا فكرت النفس في هذه الماهيات الثابتة أدركت أولًا أن لا بد لاطرادها في التجربة من مبدأ ثابت؛ لأن المحسوسات حادثة تكون وتفسد، وكل ما هو حادث فله علة ثابتة ولا تتداعى العلل إلى غير نهاية، وأدركت ثانيًا أن الفرق بعيد بين المحسوسات وماهياتها، فإن هذه كاملة في العقل من كل وجه، والمحسوسات ناقصة تتفاوت في تحقيق الماهية ولا تبلغ أبدًا إلى كمالها، وأدركت ثالثًا أن هذه الماهيات بهذه المثابة معقولات صرفة كالتي ذكرناها الآن.

فيلزم مما تقدم أن الكامل الثابت أول، وأن الناقص محاكاته وتضاؤله، وأنه لا يمكن أن يكون المعقول الكامل الثابت قد حصل في النفس بالحواس عن الأجسام الجزئية المتحركة، ويقال مثل ذلك من باب أولى عن المجردات التي لا تتعلق بالمادة، فلا يبقى إلا أن الماهيات جميعًا حاصلة في العقل عن موجودات مجردة ضرورية مثلها لما هو واضح من أن المعرفة شبه المعروف حتمًا، فتؤمن النفس بعالم معقول هو مثال العالم المحسوس وأصله، يدرك بالعقل الصرف، الماهيات متحققة فيه بالذات على نحو تحققها في العقل مفارقة للمادة بريئة عن الكون والفساد؛ الإنسان بالذات والعدالة بالذات، والكبر والصغر والجمال والخير والشجر والفرس بالذات وهلم جرًّا، فهي مبادئ و«مثل» الوجود المحسوس والمعرفة جميعًا؛ ذلك أن الأجسام إنما يتعين كل منها في نوعه «بمشاركة» جزء من المادة في مثال من هذه المثل، فيتشبه به ويحصل على شيء من كماله ويسمى باسمه، فالمثال هو الشيء بالذات والجسم هو شبح للمثال، والمثال نموذج الجسم أو مثله الأعلى متحققة فيه كمالات النوع إلى أقصى حد، بينا هي لا تتحقق في الأجسام إلا متفاوتة بحيث إذا أردنا الكلام بدقة لم نسمِّ النار المحسوسة نارًا، بل قلنا: إنها شيء شبيه بالنار بالذات، وإن الماء المحسوس شيء شبيه بالماء بالذات وهكذا، أما أن المثل مبادئ المعرفة أيضًا فلأن النفس لو لم تكن حاصلة عليها لما عرفت كيف تسمى الأشياء وتحكم عليها، المثل معاييرنا الدائمة يحصل لنا العلم أولًا وبالذات بحصول صورها في العقل، فهي الموضوع الحقيقي للعلم، وعلة حكمنا على النسبي بالمطلق وعلى الناقص بالكامل وعلى التغير بالوجود.٩
(ب) كيف عرفنا هذه المثل وليس بيننا وبين العالم المعقول اتصال مباشر فيما نعلم؟ إن شيئًا من التأمل يدلنا على أننا نستكشفها في النفس بالتفكير، فحينما تعرض لنا مسألة نقع في حيرة ونشعر بالجهل ثم يتبين لنا «ظن صادق» يتحول إلى علم بتفكيرنا الخاص أي بجدل باطن أو بالأسئلة المرتبة يلقيها علينا ذو علم، وما علينا إلا أن نجرب الأمر في فتى لم يتلقَّ الهندسة نجده يجيب عن الأسئلة إجابة محكمة، ويستخرج من نفسه مبادئ هذا العلم، فإذا كنا نستطيع أن نستخرج من أنفسنا معارف لم يلقنها لنا أحد، فلا بد أن تكون النفس اكتسبتها في حياة سابقة على الحياة الراهنة،١٠ كانت النفس قبل اتصالها بالبدن في صحبة الآلهة تشاهد «فيما وراء السماء» موجودات «ليس لها لون ولا شكل» ثم ارتكبت إثمًا فهبطت إلى البدن، فهي إذا أدركت أشباح المثل بالحواس تذكرت المثل،١١ «فالعلم ذكر والجهل نسيان» وكما أن الإحساس الحاضر ينبه في الذهن ما اقترن به في الماضي وما يشابهه أو يضاده، وكما أنا نذكر صديقًا عند رؤية رسمه، فكذلك نذكر الخير بالذات بمناسبة الخيرات الجزئية، والمتساوي بالذات والجمال بالذات بمناسبة الأشياء المتساوية أو الجميلة وهكذا، فما التجربة إلا فرصة ملائمة لعودة المعنى الكلي إلى الذهن، وما الاستقراء إلا وسيلة لتنبيهه، أما هو في ذاته فموجود في النفس ومتصور بالعقل الصرف.١٢
(ﺟ) هذا العالم المعقول مثلنا معه مثل أناس وضعوا في كهف منذ الطفولة وأوثقوا بسلاسل ثقيلة، فلا يستطيعون نهوضًا ولا مشيًا ولا تلفتًا، وأديرت وجوههم إلى داخل الكهف فلا يملكون النظر إلا أمامهم مباشرة، فيرون على الجدار ضوء نار عظيمة وأشباح أشخاص وأشياء تمر وراءهم، ولما كانوا لم يروا في حياتهم سوى الأشباح فإنهم يتوهمونها أعيانًا، فإذا أطلقنا أحدهم وأدرنا وجهه للنار فجأة فإنه ينبهر ويتحسر على مقامه المظلم، ويعتقد أن العلم الحق معرفة الأشباح ثم يفيق من ذهوله وينظر إلى الأشياء في ضوء الليل الباهت، أو إلى صورها المنعكسة في الماء حتى تعتاد عيناه ضوء النهار، ويستطيع أن ينظر إلى الأشياء أنفسها، ثم إلى الشمس مصدر كل نور، فالكهف هو العالم المحسوس، وإدراك الأشباح المعرفة الحسية، والخلاص من الجمود إزاء الأشباح يتم بالجدل، والأشياء المرئية في الليل أو في الماء الأنواع والأجناس والأشكال أي الأمور الدائمة في هذه الدنيا، والأشياء الحقيقية المثل، والنار ضوء الشمس، والشمس مثال الخير أرفع المثل ومصدر الوجود والكمال، فالفيلسوف الحق هو الذي يميز بين الأشياء المشاركة ومثلها، ويجاوز المحسوس المتغير إلى نموذجه الدائم، ويؤثر الحكمة على الظن، فيتعلق بالخير بالذات والجمال بالذات.١٣
(د) والآن كيف تمت لأفلاطون هذه النظرية؟ لقد وصل إليها بالتفكير في المذاهب السابقة «فإنه أخذ عن أقراطيلوس وهرقليطس أن المحسوسات لتغيرها المتصل لا تصلح أن تكون موضوع علم، وكان سقراط يطلب الكلي في الخلقيات فاعتقد أفلاطون أن هذا الكلي لمغايرته المحسوس يجب أن يكون متحققًا في موجودات مغايرة للمحسوسات وأسمى هذه الموجودات مثلًا، أما المشاركة فهي اسم آخر لمسمى وجده عند الفيثاغوريين؛ فإنهم كانوا يقولون: إن الأشياء تحاكي الأعداد أو تشابهها فأبدل هو اللفظ، وقال: إن الأشياء تشارك في المثل دون أن يبين ماهية هذه المشاركة، غير أن الفيثاغوريين لم يكونوا يجعلون الأعداد مفارقة وإنما قالوا: إن الأشياء أعداد، ولم يكن سقراط ينصب الماهيات أشياء قائمة بأنفسها،١٤ ففطن أفلاطون إلى أنه لما كان الكلي يغاير المحسوسات من حيث هي كذلك فيجب وضع الكليات فوق الجزئيات.»١٥ فتحقق له بها موضوع للعلم وعلل صورية أو نماذج للمحسوسات، وتحقق له ما كان يرمي إليه أنبادوقليس بقوله بالمحبة أو الخير، وأنكساغورس بقوله بالعقل والنظام والكمال، ثم أخذ عن الفيثاغوريين فكرة حياة سابقة وأحال التوليد السقراطي تذكيرًا، فالقارئ يرى كيف تلاقت كل هذه المذاهب في مذهب أفلاطون وتلاءمت فوفقت بين المحسوس والمعقول والتغير والوجود.
(ﻫ) ولم يكن أفلاطون غافلًا عن صعوبات نظريته فقد عاد إليها يمتحنها١٦ فرأى أن المنطق يقضي عليه أن يضع مثلًا للمشابهة والواحد والكثير والجمال والخير وما شاكلها، ولكنه يقول: إنه كثيرًا ما تردد في وضع مثل للإنسان والنار والماء … وأنه يجد من الغرابة بمكان عظيم أن يكون هناك مثل للشعر والوحل والوسخ، وما إلى ذلك من الأشياء الحقيرة، ثم ينتهي إلى أن هذا التردد إنما يعرض له؛ لأنه يلحظ رأي الناس ولأن الفلسفة لم تستولِ عليه بعد بالقوة التي يرجو أن تستولي يومًا، وحينئذ فلن يشعر في نفسه احتقارًا لشيء، وينتقل إلى المشاركة، فيقول: إذا كانت أشياء عدة تشترك في مثال واحد، فإما أن يوجد المثال كله في كل واحد من هذه الأشياء، وهذا يعني أن المثال متحقق كله في نفسه ومتحقق كله في كل واحد من الأشياء، أي مفارق لنفسه، وهذا خلف، وإما أنه يوجد مقسمًا في الأشياء المشاركة فيه وحينئذ يفقد بساطته من جهة، ويلزم القول من جهة أخرى أن جزء الكبير بالذات ينقلب صغيرًا بالنسبة إلى كل الكبير، وأن كل الصغير بالذات يصبح كبيرًا بالنسبة إلى جزئه؛ أي إن الشيء المشارك يصير على خلاف الشيء المشارك فيه، وهذا خلف كذلك، ثم إن الغاية من نظرية المثل إنما هو وضع جزئيات عدة تحت مثال واحد يقال عليها، ولكن هذه الوحدة ممتنعة؛ لأنه إذا ساغ لنا أن نضع الكبير بالذات فوق الكبار المتكثرة؛ لتشابهها في هذه الصفة، فإن تشابه المثال والأشياء الكبيرة يحتم علينا أن نضع لنفس السبب كبيرًا آخر فوقها جميعًا وهكذا إلى غير نهاية، وليس يغني القول أن المثال تصور في العقل، وأنه من حيث هو كذلك يمكن أن يقال على كثيرين دون أن يفقد شيئًا من وحدته؛ فإن العقل إنما يتصور بالمثال شيئًا حقيقيًّا هي الماهية المشتركة بين كثيرين، وهذه الناحية المشتركة هي المثال فلم يتغير الموقف، أما إن قيل إن نسبة الجزئي إلى المثال ليست كنسبة الجزء إلى الكل بل كنسبة الصورة إلى النموذج، أمكن الإجابة أن النموذج في هذه الحالة يشبه الصورة، فيتعين أن نضع فوقها نموذجًا آخر يشتركان فيه وهكذا إلى ما لا نهاية … ولكنه يعود فيقول إن هذه الصعوبات ليست ممتنعة الحل، وإنما يتطلب حلها عقلًا ممتازًا، أما إذا وقفنا عندها وأنكرنا المثل فلسنا ندري إلى أين نوجه الفكر: أإلى التغير المتصل فيمتنع العلم؟ أم إلى الوجود الثابت فيمتنع العلم كذلك؟ إن المثل «نقطة ثابتة» فوق التغير تفسره، وعليها هي يقع العلم، ولكن …

(٣٣) الجدل النازل

(أ) ولكن العلم حكم بأن شيئًا ما هو كذا أو كذا، والمثل قائمة بأنفسها، فكيف يمكن الحكم عليها، والحكم يعني أن شيئًا (الموضوع) مشاركٌ في شيء (المحمول)؟ هل المثل منفصلة بعضها عن بعض، أم مشاركة كلها في كلها، أم بعضها مشارك في بعض دون بعض؟ الفرض الأول يرجع إلى مذهب بارمنيدس أي إلى السكون التام فيستحيل معه الحكم، فإنه إذا لم تكن الحركة مشاركة في الوجود فليس هناك حركة، وإذا لم يكن السكون مشاركًا في الوجود فليس هناك سكون، والفرض الثاني يرجع إلى موقف هرقليطس أي إلى الاختلاط العام والتغير المتصل فيستحيل معه الحكم كذلك، فإننا إذا قبلناه لزم منه أن السكون في حركة وأن الحركة في سكون، يبقى الغرض الثالث وهو الصحيح، والجدل هو الذي يتبين ملاءمة المثل بعضها لبعض، وهو رأس العلوم يجعل العلم ممكنًا؛ لأنه يرى المثل مترتبة في أنواع وأجناس أي يرى بعضها مرتبطًا بالبعض بواسطة مثل أعلى وأعم، وهذه مرتبطة كذلك بمثل أعلى وأعم، وهكذا إلى مثال أول قائم فوقها جميعًا هو الخير بالذات، ويرى مبادئ العلوم مترتبة من الأخص إلى الأعم حتى يصل إلى مبدأين أساسيين هما مبدأ عدم التناقض ومبدأ العلية، الأول قانون الفكر بيِّن بنفسه لا يقام عليه برهان ولا اعتراض ويقوى استمساكنا به إذا نظرنا إلى ما يترتب على إنكاره من نتائجَ هي النتائج التي ينتهي إليها بروتاغوراس وأضرابه، ومبدأ العلية قانون التغير وهو على شكلين: مبدأ العلة الفاعلية والعلة الغائية، ويضع الجدل هذه العلاقات في أحكام، فالحكم الذي يعني أن الشيء هو هو، وفي آن واحد شيء آخر «المحمول» يعني أن المثال الواحد يشارك في مثال آخر «وفي غيره» مع بقائه هو هو، والعلم استقصاء هذه المشاركات بين المثل، فإن أضاف مثالًا لمثال مشارك فيه كان صادقًا، وإن ألف مثالين ليس بينهما مشاركة كان كاذبًا.١٧

(ب) كيف يمكن الحكم الكاذب أو الخطأ؟ إن الحكم الكاذب يعبر عما ليس موجودًا واللاوجود غير موجود، فلا يمكن أن يكون موضوع فكر أو إحساس أو قول، كيف يمكن أن تتصور النفس «بالمحمول» غير ما تتصور «بالموضوع» فلا تعلم ما تعلم أو تعلم ما لا تعلم؟ شغلت المسألة أفلاطون فعالجها في «تيتياتوس» وعاد إليها في «السوفسطائي»، قال في المحاورة الأولى: ينشأ الخطأ عندما نحاول أن نوفق بين إحساس ومعنى سابق محفوظ في النفس، كما إذا رأيت سقراط فأضفت هذه الرؤية إلى صورة تيودورس وبالعكس، فليس الخطأ معرفة كاذبة بل ذكرًا كاذبًا وتنافرًا بين المعرفة الحسية والمعرفة التذكرية، ولكن ما القول إذا كان الطرفان فكرتين؛ مثل أن ٥ + ٧ = ١١؟ النفس تخطئ في اختيار أحد الطرفين من بين المعاني المحفوظة كما يخطئ الذي يتناول يمامة من قفص وهو يطلب حمامة، ولكن أليس هذا عودًا إلى الصعوبة الأولى وهي أن النفس تعلم ما لا تعلم أو لا تعلم ما تعلم؟ وينتهي الحوار من غير حل ولا يحل الإشكال إلا في «السوفسطائي» فيهتدي أفلاطون إلى أن اللاوجود قد يعني ما هو نقيض الوجود وما هو لا وجود ما، وأن اللاوجود في الحكم هو من النوع الثاني؛ فحينما نتحدث عن اللاكبير نقصد الصغير أو المساوي؛ أي نقصد وجودًا هو غير الكبير؛ فالخطأ تفصيل أو تركيب حيث لا ينبغي بين أطراف وجودية، وفي الخطأ يقع الفكر على وجود هو غير الوجود المقصود ويعلم نوعًا من العلم. وقد كان لهذا التمييز بين معنيَيِ اللاوجود شأن كبير، فإنه مهد السبيل لقول أرسطو: إن الوجود يطلق على أنحاء عدة، ولحل إشكالات بارمنيدس.

(ﺟ) كيف يستكشف الجدل العلاقات بين المثل ليؤلفها في أحكام؟ وبعبارة أخرى كيف يرتب المثل في أجناس وأنواع فيتصور العالم المعقول على حقيقته؟ بالنزول من أرفع المثل إلى أدناها، وهذا هو الجدل النازل، ووسيلته القسمة، فإن قسمة الجنس ممكنة بخاصيات نوعية تنضاف إليه فتضيق ما صدقه، وتجعل فيه أقسامًا مختلفة لها أسماء مختلفة، وتشترك مع ذلك في معنى واحد،١٨ وللقسمة قواعد تتبع ومخاطر تجتنب: يجب أن تطابق طبيعة الشيء فلا تقسم إلا حيث تقتضي الطبيعة القسمة كما يجزأ الحيوان في مفاصله من غير تهشيم، ويجب أن تكون تامة فتستخرج من الجنس نوعين أو ثلاثة، ومن كل منهما صنفين أو ثلاثة حتى تنتهي إلى البسائط، أما ما يتحرز منه فهو اعتبار المركب بسيطًا والعرضي جوهريًّا، والقسمة المثلى هي الثنائية كأن نقول: السياسة علم والعلم نظري وعملي، والسياسة تدخل في الطائفة الأولى، والعلم النظري علم يأمر وعلم يقرر، والسياسة تدخل في الطائفة الأولى وهكذا حتى يتعين معنى السياسة،١٩ أو كأن نحاول تعريف السوفسطائي فنمضي من قسمة إلى أخرى حتى نبلغ إلى التعريف الذي لا ينطبق إلا عليه،٢٠ فالقسمة تبدأ من اللامعين وتتدرج إلى التعيين أي إنها تتأدى من وحدة الجنس إلى كثرة الأنواع، ومن وحدة المبدأ إلى كثرة النتائج؛ فالجدل النازل منهج مكمل للجدل الصاعد وهو آمن منه وأكفل باستيعاب الأقسام جميعًا.
(د) هذا إيجاز لأبحاث أفلاطون في المعرفة فيها منطق وفيها ميتافيزيقا كما قلنا: أخذ الحد والاستقراء عن سقراط وتعمق في تفسير الحكم ولكنه أقامه على مشاركة المثل بعضها في بعض وهي أغمض من مشاركة المحسوسات في المثل، واقترب من القياس بالقسمة الثنائية؛ فإنها عبارة عن وضع علاقة بين طرفين بواسطة طرف ثالث علاقته بهما معلومة، ولكنها لا تشبه القياس إلا من بعيد كما سيبين أرسطو (٥٠–ﻫ)، ونظر في أصول المعرفة نظرًا دقيقًا عميقًا وبلغ إلى عالم معقول هو أساس المعرفة والوجود المحسوس، فكان وضعه المثل جواهر قائمة بأنفسها توكيدًا لهذا الوجود الأعلى لفت به الإنسانية بقوة إلى الفرق بين الجزئي والكلي والمحسوس والمعقول فلن تنسى الإنسانية هذا الفرق، غير أنه في أواخر أيامه وفي دروسه الشفوية مال عن سقراط إلى الفيثاغورية فاستبدل الأعداد بالمثل وتابعه تلاميذه الأولون حتى قال أرسطو مؤرخ هذه المرحلة الأخيرة: «لقد أصبحت الرياضيات عند فلاسفة العصر الحاضر كل الفلسفة ولو أنهم يقولون: إنها إنما تدرس لأجل الباقي.»٢١ فكأنه في محاولته البلوغ إلى المعقولية التامة أراد أن يلغي المادة الكثيفة المستعصية على التجريد والتعقل، وأن يرد الوجود كله أعدادًا ونسبًا عددية فيلغي الظن من المعرفة، ولا يستبقي غير العلم في شكله الرياضي، وسيظل هذا الهدف مطمح أنظار كثيرين من المفكرين يكفي أن نذكر منهم ديكارت؛ لندل على شدة جاذبية هذه الوجهة.
١  الجمهورية ص٥١١ (ب).
٢  الجمهورية ص٥٣٣ (ﺟ).
٣  الجمهورية م٦ ص٥١٠-٥١١.
٤  تيتياتوس ص١٥٢ و١٦٠–١٦٥ و١٨٤–١٨٦.
٥  مينون بأكملها وبالأخص ص٩٧ و٩٨. تيتياتوس ١٨٧ وما بعدها. الجمهورية نهاية المقالة الخامسة. ثيماوس ص٥١.
٦  «كان غرض الفلكيين بيان ما يظهر للراصد من الحركات السماوية بأشكال هندسية بحيث يمكنهم حساب تلك الحركات وإن كانت تلك الأشكال غير مطابقة لحقيقة الأمور.»
نلينو: علم الفلك تاريخه عند العرب ص٢٣–٣١. انظر أيضًا: P. Duhem: Le systeime du monde, I, p, 103.
٧  الجمهورية م٧ ص٥٢١ (ﺟ)–٥٣٢ (ب).
٨  الجمهورية المواضع المذكورة وفيدون ص٦٥-٦٦ و٧٤-٧٥.
٩  فيدون والجمهورية في المواضع المذكورة. وفيدون ص٧٨ و٩٩ و١٠١ و١٠٢.
١٠  مينون ص٨٠–٨٦.
١١  فيدروس ص٢٤٦ وما بعدها. وفيدون ص٧٢ وما بعدها.
١٢  فيدون ص٧٠ و٧٧.
١٣  مفتتح المقالة السابعة في الجمهورية.
١٤  ولا أفلاطون في محاوراته الأولى ولكنها فيها مكتسبة بالاستقراء.
١٥  أرسطو: ما بعد الطبيعة م١ ف٦ وم١٣ ف٤ باختصار.
١٦  في محاورة بارمنيدس ص١٣٠–١٣٣.
١٧  بارمنيدس والسوفسطائي في مواضع مختلفة. فيدون ص١٠٣–١٠٥.
١٨  الجمهورية ص٤٣٧.
١٩  السياسي ص٢٥٨–٢٦٧.
٢٠  السوفسطائي ص٢١٨–٢٣١.
٢١  ما بعد الطبيعة م١ ف٩ ص٩٩٢ ع ا س٣٣–٣٥، وانظر أيضًا عن هذه المرحلة الأخيرة المقالتين ١٣ و١٤ من الكتاب المذكور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤