الفصل الرابع

الشكاك

(٩١) الشك الخلقي: بيرون

(أ) ليس الشك جديدًا في الفلسفة اليونانية، فقديمًا اتهم بارمنيدس المعرفة الحسية، واتهم أتباع هرقليطس المعرفة العقلية، واتخذ السوفسطائيون من تباين المذاهب والأخلاق والعادات ذريعة قوية للشك، ولكنا الآن بإزاء شك جديد له أسبابه ومميزاته؛ فقد ازداد عدد المذاهب واشتد تعارضها، وفتح الإسكندر بلادًا رأى فيها اليونان ألوانًا من العادات والأخلاق، ولما قضى وتمزق ملكه وراح اليونان يتقاتلون كان من جراء انحطاطهم السياسي تخاذل الهمم وتعاظم حاجة العقلاء للراحة، فقامت إلى جانب المدارس القديمة النظرية مدارس توجهت إلى طلب الطمأنينة والسعادة أولًا وقبل كل شيء على ما رأينا، وكانت منها المدرسة الشكية، لم يكن الشاك في هذا الدور نافيًا متهكمًا كالسوفسطائي ولكنه رجل مغلوب على أمره فَقَدَ الإيمان بالحق والخير في بيئة تبلبلت فيها الأفكار وفسدت الأخلاق إلى حد بعيد فانعزل في نفسه لا يوجب ولا ينفي وإنما يقول: لا أدري، ولم يكن كالسوفسطائي مزهوًّا بفنه طالبًا للمال، ولكنه كان جادًّا معرضًا عن متاع الدنيا، أقرب في أخلاقه إلى الرواقية منه إلى الأبيقورية، ولم يكن هدامًا مثله، ولكنه كان يرى في الإخلاد إلى التقاليد والعقائد الشعبية وسيلة إلى الراحة والاطمئنان، وكان السوفسطائيون مبتدئين يحاجون بلا ترتيب ولا منهج، أما الشكاك فأناس انتفعوا بتقدم الفكر اليوناني فأتقنوا المحاجة على أصولها وأبلغوا الشك أشده وأقاموه مذهبًا بين المذاهب.

(ب) وإمامهم بيرون (٣٦٥–٢٧٥) المعروف بأنه صاحب مذهب اللاأدرية، المنكر للعلم ولليقين، وُلد في إيليس، وتتلمذ لأحد الميغاريين وعرف أحد أتباع ديموقريطس، ورافق وإياه حملة الإسكندر على الشرق، فرأى «فقراء» الهنود وأعجب بما كانوا يبدون من عدم مبالاة بالحياة وثبات في الآلام، وبعد وفاة الإسكندر عاد إلى وطنه، قضى فيه حياة هادئة بسيطة، وكان موضع إجلال مواطنيه، عينوه كاهنًا أعظم وأقاموا له تمثالًا بعد موته.

(ﺟ) لم يدوِّن آراءه وإنما ذكرها تلاميذه، ويرجع ما بقي لنا من أقوالهم إلى ما يأتي: كل قضية فهي تحتمل قولين ويمكن إيجابها وسلبها بقوة متعادلة، فالحكمة في العدول عن الإيجاب والسلب والامتناع عن الجدل والوقوف عند الظواهر؛ «فإن الشك لا يتناول الظواهر وهي بينة في النفس ولكنه يتناول الأشياء في أنفسها، والشاك يقر أن الشيء الفلاني يبدو له أبيضَ، وأن العسل يبدو لذوقه حلوًا، وأن النار تحرق؛ ولكنه يمتنع عن الحكم بأن الشيء أبيض، وأن العسل حلو، وأن من طبيعة النار أن تحرق.» وعلى ذلك ليس هناك خير وشر بالذات، وكل ما هنالك عرف واصطلاح يسير عليهما الناس، الشيء الواحد تارة يكون خيرًا وتارة شرًّا، وكل شيء فهو زائل الخير والشر على السواء، فالناس يخطئون؛ إذ يتوهمون سعادتهم وشقاءهم في الأشياء أنفسها ويعتمدون عليها كأنها باقية، أما إذا اقتنعوا أن الأشياء زائلة والأحوال متقلبة انتفى تصديقهم بها وانعدم ميلهم إليها أو جزعهم منها، ونعموا بالطمأنينة أي السعادة مهما تكن الظروف. ويلوح أن أقواله كانت من هذا الطراز الأخير، وأن الشك عنده كان خلقيًّا أكثر منه منطقيًّا، وكان موجهًا لقيمة الأشياء بالإضافة إلى السعادة لا إلى قيمة المعرفة في ذاتها، ولم يذكر عنه أنه اشتغل بالمنطق والعلم الطبيعي وعني بالرد على أصحابها كما سيفعل المنتمون إليه في عهد متأخر.

(٩٢) الأكاديمية الجديدة أو مذهب الاحتمال: أرقاسيلاس وقرنيادس

(أ) قبل هذا العهد وإلى جانب تلاميذ بيرون نجد الشك في مدرسة كانت تظن أبعد المدارس عنه هي مدرسة أفلاطون، وأول من قال به من رجالها أرقاسيلاس (٣١٦–٢٤١) ونهجت المدرسة نهجه إلى منتصف القرن الأول قبل الميلاد فعرفت لهذا العهد بالأكاديمية الجديدة، ولد أرقاسيلاس في إيولية وجاء أثينا فاستمع إلى ثاوفراسطس ثم اختلف إلى الأكاديمية وبقي فيها وترأسها من سنة ٢٦٨ إلى وفاته، وكان على جانب عظيم من البراعة الخطابية والمقدرة الجدلية فتقاطرت عليه جماهير التلاميذ، وقد كان يناقش ولا يكتب؛ لأنه أراد أن يعود إلى منهج سقراط في الجدل وتصنع الجهل، أو إلى منهج أفلاطون الذي كان من عادته أن يناقش القولين المتناقضين في قضية واحدة وأن يستعمل صيغًا شكية مثل «يلوح وقد يكون» وما إلى ذلك. وجه همه إلى منازلة زينون وأصحابه وزعزعة ثقتهم باليقين فهاجم نظرية «الفكرة الحقيقية» فأنكر أولًا أن يقع التصديق على فكرة وهو إنما يقع على قضية؛ وقال ثانيًا: إن لدينا تصورات قوية واضحة ليست حادثة عن شيء كما يتبين من أخطاء الحواس وخيالات المنام وأوهام السكر والجنون، فليس لدينا وسيلة للتمييز بين الفكرة الحقيقية وغير الحقيقية وليس هناك علامة للحقيقة، وإذا كانت التصورات سواء كانت الحكمة في تعليق الحكم على الشيء في ذاته، غير أن من الآراء ما يبدو معقولًا ومن الأفعال ما يبدو مستقيمًا؛ هي تلك التي يمكن الدفاع عنها بعد استعراض الحجج المؤيدة لها والمعارضة، دون أن يؤخذ هذا الدفاع برهانًا على مطابقتها لحقيقة ممتنعة الإدراك، فأرقاسيلاس كان احتماليًّا أو مرجحًا يعتقد بالعقل في هذه الحدود فيختلف من هذه الناحية عن بيرون وتلاميذه الذين كانوا يخضعون للعادة والقانون المرعي خضوعًا أعمى، ويحتفظ بشيء من سقراط وأفلاطون.

(ب) وتوالى على المدرسة زعماء ثلاثة نَحَوْا هذا المَنحى ولم يزيدوا شيئًا، وجاء بعدهم قرنيادس (٢١٤–١٢٨)، نشأ في قورينا ودخل الأكاديمية ثم صار زعميها قبل سنة ١٥٦ إلى وفاته، ومما يذكر عنه أن أثينا كانت قد خربت مدينة أوروبة فقضى عليها مجلس الشيوخ الروماني بغرامة — وكان قد صار الحكَم بين المدن اليونانية بعد فتح اليونان سنة ١٤٦ — فأوفد الأثينيون إلى روما سفراء ثلاثة يدافعون عن قضيتهم اختاروهم من ثلاث مدارس فلسفية: واحد رواقي، وآخر أرسطوطالي، وثالث أكاديمي هو قرنيادس، فكان لخطبهم تأثير كبير في المجلس وفي الجمهور، وخطب هو الجمهور يومين متوالين أورد في اليوم الأول الحجج المؤيدة للأخلاق، وفي اليوم الثاني الحجج المعارضة، فكان إعجاب القوم بالخطبة الثانية أعظم، وخافت السلطة على العقائد الموروثة، فطلبت إليه أن يبرح المدينة.

(ﺟ) لم يكتب ولكنه جادل، جادل الرواقيين على الخصوص وأنكر أن تكون هناك علامة للحقيقة، نقد الحواس والعقل والعرف، وقال بالاحتمال والترجيح، ووضع لذلك ثلاثة شروط:
  • الأول: الانتباه، فكل ما انتبهنا إليه من التصورات وبدا واضحًا قويًّا صدقناه مع الاحتفاظ برأينا أنه قد يكون كاذبًا أي اعتبرناه محتملًا.
  • الشرط الثاني: عدم تناقض التصورات، مثال ذلك إذا أبصرت شخصًا فإني أبصر وجهه وقامته ولونه وحركاته وثيابه والأشياء المحيطة به، فإذا اجتمعت هذه كلها صدقت الرؤية أي اعتبرتها محتملة، أما إن غاب بعضها فقد وجب عليَّ الحذر.
  • الشرط الثالث: امتحان التصورات في جميع تفاصيلها، مثال ذلك إذا أبصرت حبلًا وظننته ثعبانًا فإني أضربه بالعصا فأعلم ما هو.

بهذه الشروط نستطيع أن نطمئن إلى التصور، ولكنها لا تخولنا الحق في الحكم على الشيء في ذاته، هي محك للتصور فقط، والاحتمال المستند إليها معادل عمليًّا للحقيقة الممتنعة الإدراك.

(٩٣) الشك الجدلي: أناسيداموس وأغريبا

(أ) وتوالى تلاميذ بيرون من جهتهم يحاكون أستاذهم إلى أن قام أناسيداموس فوضع المذهب وضعًا عليًّا ودعمه بالحجج، ولسنا ندري زمانه بالضبط فإنه يتراوح بين أوائل القرن الأول قبل الميلاد وأواخر القرن الأول بعده، وكل ما يقال عنه أنه علم بالإسكندرية في وقت غير معين، وتذكر له كتب لم تصل إلينا، أما آراؤه فمروية في الكتب القديمة وتلخص فيما يلي: انتمى صراحة إلى بيرون، وميز الشكاك من الأكاديميين بأن هؤلاء يقولون أن لا شيء محقق ثم يفرقون بين المحتمل وغير المحتمل والخير والشر والحكمة والحماقة فيقعون في التناقض، أما الشكاك فلا يوجبون ولا يسلبون أصلًا، وأورد حججًا عشرًا لتبرير تعليق الحكم في المحسوسات وثلاث حجج ضد العلم.

(ب) وهذه هي الحجج العشر جمعها من قدماء الفلاسفة ومن الأكاديمية الجديدة:
  • الأولى: أن اختلاف الأعضاء الحاسة في الحيوان والإنسان يستتبع أن لكل نوع إحساساته الخاصة؛ فالرؤية مثلًا تختلف باختلاف تركيب العين، ويختلف اللمس باختلاف جلد الحيوان فإن منه المغطى بصدف أو ريش أو قشر أو شعر، ويختلف الذوق باختلاف رطوبة اللسان ويبوسته، وإذن فلنا أن نقول عن الشيء المدرك بالحواس: إنه يبدو لنا كذا لا أنه كذا في ذاته؛ إذ لا يسوغ لنا أن نفرض أن إحساساتنا أصدق من إحساسات الحيوان.
  • الحجة الثانية: أن اختلاف الناس جسمًا ونفسًا يستتبع اختلاف إحساساتهم وأحكامهم فكيف الاختيار؟ هل نرجع للأغلبية؟ ولكن التجربة لا يمكن أن تتناول الناس جميعًا، ثم إن الأغلبية تختلف بين بلد وبلد وبين عصر وعصر فيتعين العدول عن الاختيار والامتناع عن الحكم.
  • الحجة الثالثة: أن الحواس تتعارض بإزاء الشيء الواحد؛ فالبصر يدرك بروزًا في الصورة واللمس يدركها مسطحة، والرائحة اللذيذة للشم مؤذية للذوق، وماء المطر مفيد للعين ضار للرئة، ومن يدرينا؟ لعل تباين الإدراكات الحسية ناشئ من تباين حواسنا، وإذن فنحن هنا أيضًا ندرك الظواهر لا الحقائق.
  • الحجة الرابعة: أن إدراكات الحس الواحد تختلف باختلاف الظروف من سن وصحة ومرض ونوم ويقظة وانفعال وهدوء وغير ذلك؛ فمثلًا العسل يبدو مرًّا في الحمى وتبدو الأشياء صفراء للمصاب باليرقان، وإن قيل: إن مثل هذه الحالات مرضي استثنائي. أجاب الشاك: وكيف نعلم أن الصحة ليست ظرفًا بغير الظواهر؟
  • الحجة الخامسة: أن الأشياء تبدو لنا باختلاف على حسب المسافات والأمكنة والأوضاع؛ فالسفينة البعيدة تبدو صغيرة ثابتة فإذا ما اقتربت أو اقتربنا منها بدت كبيرة متحركة، والبرج المربع يبدو مستديرًا عن بعد، وتبدو العصا منكسرة في الماء مستقيمة خارجه، وضوء المصباح يبدو ضئيلًا في الشمس ساطعًا في الظلام، وإذا نظرنا إلى صورة عن بعد رأينا فيها بروزًا فإذا نظرنا إليها عن قرب بدت مسطحة، وعنق الحمام يختلف تلوينه باختلاف حركته: فكيف السبيل إلى معرفة الأشياء بغض النظر عن المكان الذي تشغله والأوضاع التي تتخذها والمسافات التي تفصلنا عنها؟
  • الحجة السادسة: أن الأشياء تبدو لنا باختلاف على حسب ما تمتزج به أو تتحد به من هواء أو حرارة أو ضوء أو برد أو حركة؛ فلون الوجه يختلف في الحر وفي البرد، ويختلف الصوت في الهواء اللطيف وفي الهواء الكثيف، ويختلف لون الأرجوان في ضوء الشمس وفي ضوء المصباح، ونحن لا ندرك الأشياء إلا بواسطة أعضاء الحواس، وامتزاجها بالأعضاء يفسد الإدراك كما رأينا في الحجة الرابعة، فكيف السبيل إلى إدراك الشيء في نفسه مع استحالة فصله عما يحيط به؟
  • الحجة السابعة: أن الأشياء تبدو لنا باختلاف على حسب الكمية، فمثلًا قرن المعزى يبدو أسودَ بينما قشوره تبدو بيضاء، وحبة الرمل تبدو خشنة بينما كومة الرمل تبدو رخوة، والنبيذ يقوينا إذا تعاطيناه باعتدال ويضعفنا إذا أسرفنا.
  • الحجة الثامنة: أن كل شيء نسبي بالإضافة إلى الأشياء المدرَكة وإلى الشخص المدرِك؛ فالشيء ليس إلى اليمين أو اليسار إلى أعلى أو أسفل بنفسه بل بالنسبة إلى شيء آخر، وكذلك الكبير والصغير والأب والابن، فليس شيء مدرَكًا في نفسه.
  • الحجة التاسعة: أن الأشياء تبدو لنا باختلاف على حسب المألوف والنادر؛ فالنجم المذنب يدهشنا لندرته، ولولا أنا نرى الشمس كل يوم لكانت تبدو مخيفة، فليست صفات الأشياء هي علة أحكامنا عليها بل كثرة ورودها أو ندرته.
  • الحجة العاشرة: اختلاف العادات والقوانين والآراء؛ فالمصريون يحنطون الموتى والرومان يحرقونهم وبعض الشعوب يلقيهم في المستنقعات، ويجيز الفرس زواج الأبناء من أمهاتهم، ويجيز المصريون زواج الإخوة من أخواتهم، ويحظر القانون اليوناني كل ذلك، واختلافات الأديان ومذاهب الفلاسفة وقصص الشعراء معلومة للجميع، وإذن فكل ما نستطيع أن نقوله هو أن الناس رأوا أو يرون كذا أو كذا أي ما بدا أو يبدو لهم حقًّا لا الحق في ذاته.

وهذه الحجج أنواع يمكن ردها إلى واحدة هي حجة النسبية نعتبرها جنسًا عاليًا تحته أجناس ثلاثة: جنس خاص بالشخص المدرك يشمل الحجج الأربع الأولى، وجنس خاص بالموضوع المدرك يشمل الحجتين السابعة والعاشرة، وجنس خاص بالشخص والموضوع جميعًا يشمل الخامسة والسادسة والثامنة والتاسعة.

(ﺟ) ونقده للعلم يعتبر أثره الخاص في المذهب، وكان لا بد من هذا النقد ليتم له قوله بتعليق الحكم، وتعريف العلم أنه معرفة العلل بالظواهر، فله حجة تبطل المعرفة بمعنى أنها معرفة الحقيقة، وأخرى تنقد العلية، وثالثة تنفي إمكان التأدي من الظواهر إلى العلل:
  • فالحجة الأولى: تقول إن وجدت الحقيقة فهي لا تخلو أن تكون إما محسوسة وإما معقولة، ولكنها ليست محسوسة؛ لأن كل ما هو محسوس فهو مدرك بالحس وليست الحقيقة مدركة بالحس؛ لأن الإحساس بذاته خلو من البرهان وليس يمكن إدراك الحقيقة دون برهان فليست الحقيقة محسوسة، وهي ليست معقولة وإلا لم يكن شيء محسوس حقيقيًّا وهذا باطل.
  • الحجة الثانية: لا يستطيع الجسم أن يحدث جسمًا؛ إذ يستحيل أن يحدث شيء شيئًا لم يكن موجودًا وأن يصير الواحد اثنين، ولا يستطيع اللاجسمي أن يحدث لا جسميًّا؛ وذلك لنفس السبب ولسبب آخر هو أن الفعل والانفعال يقتضيان التماس واللاجسمي منزه عن التماس فلا يفعل ولا ينفعل، ولا يستطيع الجسم أن يحدث لا جسميًّا ولا اللاجسمي أن يحدث جسمًا؛ لأن الجسم لا يحتوي طبيعة اللاجسمي، واللاجسمي لا يحتوي طبيعة الجسم؛ فالعلية ممتنعة.
  • الحجة الثالثة: يذهب الناس عامتهم وخاصتهم إلى أن الظواهر علامات العلل الخفية، ولكن الظواهر أو العلامات تظهر واحدة للجميع ولا يفسرونها على نحو واحد، مثل أعراض الأمراض تظهر للأطباء ويختلفون في تأويلها، والاختلافات كثيرة من هذا القبيل في جميع فروع المعرفة، فالعلم ممتنع.
(د) وكان لأناسيداموس أتباع لم يحفظ التاريخ شيئًا عنهم فلا تفيدنا أسماؤهم، واحد فقط نعلم أقواله ونجهل زمانه وأحواله هو أغريبا يوضع في القرن الأول أو الثاني للميلاد، له خمس حجج:
  • الأولى: تناقض الفلاسفة فيما بينهم وفيما بينهم وبين العامة.
  • الثانية: نسبية أحكامنا إلينا أو بعضها إلى بعض. وفي هاتين الحجتين تدخل حجج أناسيداموس العشر.
  • الحجة الثالثة: التداعي إلى غير نهاية في البرهان بمعنى أن كل قضية فهي تتطلب برهانًا وهكذا إلى ما لا نهاية بحيث لا يتم برهان أبدًا.
  • الحجة الرابعة: أن المبادئ التي يعتمد عليها أصحاب اليقين لتفادي التسلسل في البرهان فروض غير مبرهنة فهي ليست أبين من نقائضها.
  • الحجة الخامسة: إذا أردنا تفادي التسلسل فليس لدينا سوى البرهان الدوري الذي يقيم المقدمة على النتيجة والنتيجة على المقدمة فالبرهان ممتنع على كل حال.

والحجتان الأولى والثانية خاصتان بمادة المعرفة أو بالمعرفة الحسية، والحجج الثلاث الباقية خاصة بصورة المعرفة أو بأصول المعرفة العقلية، والقسم الأول يرمي إلى أن اليقين غير موجود بالفعل، والقسم الثاني يرمي إلى أن اليقين لا يمكن أن يوجد.

(٩٤) الشك التجريبي: سكستوس

(أ) ونشأت طائفة من الأطباء اعتنقوا الشك أو طائفة من الشكاك احترفوا الطب، أخذوا بالموقف الهادم السلبي الذي هو تراث سلفائهم وزادوا عليه موقفًا إيجابيًّا أوحت به صناعتهم هو عبارة عن تنظيم التجربة بالتجربة نفسها دون التجاء إلى العقل أو حكم على حقائق الأشياء، فأقاموا الفن بديلًا من العلم وعرفوا لذلك بالتجريبيين، أشهرهم سكستوس أمبيريقوس أي التجريبي، نكاد لا نعرف شيئًا عن حياته، عاش في القرن الثاني للميلاد على ما تذكر بعض الروايات، أو في القرن الثالث على ما جاء في روايات أخرى، له كتب هي موسوعة المذهب الشكي فيها أخبار الشكاك وحججهم، وقد وصلت إلينا منها ثلاثة: واحد يدعى الحجج البيرونية وهو موجز المذهب، وآخر عنوانه الرد على الفلاسفة، والثالث في الرد على العلماء.

(ب) والقسم السلبي في كتبه تكرار لما سُبق إليه من أقوال الشك موزعة على ثلاثة أقسام: ضد المناطقة وضد الطبيعيين وضد الخلقيين، وهو ينبه إلى أن دحض أصحاب اليقين لا يعني البرهان على أنهم مخطئون «فإن مثل هذا البرهان حكم موجب» ولكنه يعني أنهم غير محقين أو بالأحرى أنه يمكن دائمًا معارضة أقاويلهم بأقاويل معادلة لها قوة، ومما يذكر من حججه ضد المناطقة نقده للقياس والاستقراء، فهو يقول عن القياس: إن المقدمة الكبرى «كل إنسان فهو حيوان» لم يقلها القائل إلا لعلمه أن سقراط وأفلاطون وديون هم أناسي وحيوانات في آن واحد، فإذا أضاف قوله: «وسقراط إنسان إذن فسقراط حيوان» كان هذا منه مصادرة على المطلوب الأول؛ لأن القضية الكبرى الكلية لا تكون صادقة إلا إذا كانت النتيجة معلومة من قبل (٥٠–ب). ويقول عن الاستقراء: إنه إذا لم يتناول سوى بعض الجزئيات كانت نتيجته الكلية غير منطقية؛ لعدم جواز الانتقال من البعض إلى الكل، ولا يمكن أن يتناول جميع الجزئيات؛ لأن عددها غير متناهٍ، فالاستقراء تامًّا كان أو ناقصًا ممتنع (٥٠–و)، والبرهان بنوعيه — قياس واستقراء — ممتنع.

(ﺟ) أما القسم الإيجابي فلم يعرضه صراحة ولكنه ظاهر من عباراته فهو يقول: «لسنا نريد معارضة الرأي العام ولا الوقوف جامدين بإزاء الحياة» ويدل على وسيلة تجريبية خلو من كل فلسفة وكافية للحياة وهي ترجع إلى ثلاثة أمور:
  • (١)

    الشاك يتبع الطبيعة فيأكل عند الجوع ويشرب عند العطش ويلبي سائر الحاجات الطبيعية كما يفعل كافة الناس.

  • (٢)

    والشاك يتبع القوانين والعادات؛ لأنها مفروضة عليه.

  • (٣)

    والشاك يدرك الظواهر وترابطها فيكتسب تجربة تؤدي به عفوًا إلى توقع بعضها عند حدوث بعض، وكل ذلك بناء على ملاحظات كثيرة شخصية أو متواترة، فيحصل بذلك على الفن أي على جملة نتائج الملاحظات في موضوع ما، فيأخذ بهذه النتائج غفلًا مما يعتمد عليه أصحاب اليقين من مبادئ كلية ويتوقع المستقبل بناء عليها بالعادة دون أن يكون لهذا التوقع أساس في الحقيقة أو مبرر في عقله؛ فيتعلم القراءة والكتابة دون التفات إلى فقه اللغة، ويتعلم الكلام دون التعرض لعلم البيان، ويستخدم العدد دون الخوض في علم الحساب، وينبئ بالمطر والصحو والزلازل بناء على الملاحظة الصرفة دون نظر إلى علم الفلك أو علم التنجيم، ويطبب دون ادعاء معرفة ماهيات الأمراض وتعيين عللها.

(د) ومعنى هذا أن اليأس من البلوغ إلى العلم يرد الشاك إلى موقف الرجل الساذج مع هذا الفارق وهو أن الساذج لا يُعنى بالبحث عن تفسير الأشياء، والشاك يعتقد أن ليس هناك تفسير يبحث عنه أو أن هذا التفسير ممتنع المنال، ولكن مهما يحرص الشكاك على تعليق الحكم فإن الحياة تضطرهم إلى قبول اليقين، فإذا قبلوه إلى هذا الحد المتواضع الذي ذكرنا لم يعد هناك مانع من قبوله إلى حد أكبر، بل إن فطرة العقل تدفعه إلى امتحان أسباب اليقين أيًّا كان مقداره، وتؤدي به إلى الأسباب الأولى التي هي أصول العلم، وما من حجة من حجج الشكاك إلا وهي مردودة، ولم يكونوا ليغتروا بها لو أنهم نظروا نظرًا جديًّا في تفنيد أفلاطون وأرسطو دعاوى السوفسطائيين والميغاريين، ولكن الناس كما أنهم لا يتعظون بحوادث التاريخ أو ينسونها فكثيرًا ما لا ينظرون في آراء من تقدمهم، بحيث إن الفلسفة كالتاريخ تعيد نفسها، ولقد عاد الشك في العصر الحديث فأثر في فكر ديكارت، وتغلب على فكر هيوم، وأيقظ كنْط من «سباته اليقيني» فحمله على اصطناع نوع من اليقين التجريبي، وقدم لستوارت مِل الأركان الأساسية لمنطقه الاستقرائي بما في ذلك نقده للقياس وتلمسه أساسًا للاستقراء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤