مقدمة

لكلٍّ منا حياتان؛ حياة الواقع التي يعيشها الإنسان متأثرًا بالوسط الزماني والمكاني، وحياة الخيال التي يرغب في أن يعيشها. والفرق بين الحياتين هو الفرق بين الوجود الناقص وبين التخيل الكامل، أو بين ما هو موجود على الرغم منا، وبين ما يجب أن يوجد وفق خيالنا وطبق رغباتنا.

والعقل الإنساني مطبوع على أن يُتم بخياله ما يراه ناقصًا في الحقائق الواقعة حوله، ومهما قيدنا العقل ومنعنا من التفكير فيما يهوى، فإنه ينفلت منا، ولو وقت النوم؛ فيعوضنا من نقصنا الحقيقي كمالًا متوهَّمًا، فمن جاع في النهار وقت صحوه أكل في الليل أشهى الأطعمة وقت نومه، ومن تحرق في النهار لرؤية حبيبته رأى طيفها يتهادى في الليل وهو مستغرق في سباته، بل نحن نحلم في يقظتنا فنستسلم للخواطر الجميلة؛ لنرى القصر الفخم الذي نسكن فيه بخيالنا، والجياد المطهمة تجر عرباتنا، كما نرى الخدم والأتباع، نخاطبهم بلهجة الرياسة، ونحن في فراش وثير لنا؛ زوجة محبة، وأولاد مطيعون، وحدائق غنَّاء نتنزه فيها، كل هذا وأكثر منه نراه في خيالنا؛ لأننا نشعر بالنقص في الحقائق الواقعة حولنا، ومن ضروب الراحة التي يلجأ إليها العقل أن يعيد التوازن في رغبات الجسم وشهوات النفس، وهذا هو السبب في أن الاستغراق في الضحك يعقبه شيء من الغم، والانغماس في الشهوة يليه شيء من الاشمئزاز والفتور، فإذا كانت حقائق الحياة مؤلمة تعكر صفاء الذهن وتكده بالتدبير لملاقاة تكاليفها وآلامها، كان من ضروب الراحة لهذا الذهن أن يعمد إلى ما يناقض هذه الحقائق من الخيال فيرسم لنفسه عالمًا آخر غير هذا العالم كله نعيم وسرور.

فكلٌّ منا يعيش إذن في عالمين: عالم الواقع، وهو أبدًا ناقص، وعالم الخيال وهو أبدًا كامل، على النحو الذي نفهم به معنى الكمال، فإذا آلمتنا الحقيقة لجأنا إلى الحياة، أو قل بعبارة أخرى: إذا رأينا الواقع خارجنا ناقصًا مختلًّا مؤلمًا فررنا منه إلى الخيال داخل أذهاننا فاعتضنا من الحقيقة حلمًا.

وإياك واحتقار الأحلام …

وهل تحتقر الآلهة؟

اعتبر المصريون القدماء لما استبدت بسواد الأمة فئة قليلة العدد من الأمراء والكهنة والأجناد، واستحوذوا على ثروة البلاد، ورأى أفراد هذا السواد أنهم يعيشون في حرمان، لا ينعمون بشيء من نعم هذه الحياة فعمدوا إلى خيالهم فاخترعوا عالمًا آخر يعيش فيه المحرومون المظلومون، يؤجرون أجرًا حسنًا على ما قاسوه في هذا العالم، وينعمون هناك بما لم يقدروا أن ينعموا به هنا، فكأن خيالهم قد ثار على الحقيقة، وخرج عقلهم الباطن على عقلهم الظاهر، وأوجد نوعًا من التوازن في حياتهم؛ بحيث جعل ما توهمه من ملذات العالم الثاني بنسبة ما هو واقع من آلام هذا العالم الأول، لعلك من هنا تدرك تلك النزعة الإلحادية التي تعتري بعض الشياطين الاشتراكيين والشيوعيين حين يقاومون الأديان ويحضون السواد على تركها؛ إذ يخشون هذا التوازن الذي يحدثه الإيمان بعالم آخر، وما يعقبه من تهدئة لنفس العمال، وهم إنما يرغبون في إحداث القلق والاستعار في نفوسهم، والفيلسوف والعالِم والأديب كلهم يتخيل ويحلم وهم أكثر خيالًا وحلمًا إذا اضطربت أحوال المعيشة، وتنافر الخيال المشتهى مع الواقع الحتم، ونحن في كل أزمة تقع أو نكبة تلم بنا، نجدنا إزاء ثلاثة حلول لنا أن نختار منها واحدًا، فإما أن نفر كما يفعل الناسك؛ يزهد في الحياة فيلجأ إلى صومعته مهزولًا كالأسد الجريح يذهب إلى مغارته، وإما أن نكافح مدافعين وهذا ما يفعله معظمنا، وإما أن نهاجم وهذا ما يفعله الأديب أو العالم أو الفيلسوف؛ فهو لا يفر وهو أيضًا لا يكتفي بالمكافحة، وإنما يتخيل وسطًا يجعله بديلًا من هذا الوسط الحقيقي؛ فيهاجمه به ويدعو الناس إلى حلمه حتى يستبدلوا بحقائقهم خياله، ولكل إنسان مزاج خاص، ولكن أمزجة الناس متداخلة فليس فينا من لا يفكر في الفرار بعض الأحيان، ولم تكن المهاجرة إلى أمريكا إلا فرارًا من أوروبا، وليس فينا من لا يكافح بعض الأحيان، بل هذا هو شأننا طول النهار، كما أنه ليس فينا من لا يتخيل ويحلم، ولو بضع دقائق بعد الغداء، حين يطمو العقل الظاهر وتتسلل الخواطر بلا قيد ولا شرط.

والفيلسوف ومن إليه من المفكرين يختلفون عن الكاهن المصري القديم الذي يمثل أحلام سواد الأمة من حيث إنهم لا يجعلون ميدان حلمهم في العالم الثاني؛ فإن همومهم الذهنية مقصورة على هذا العالم، والناس على الأرض — لا الملائكة في السماء — هم موضوع كلامهم وخيالهم؛ فهم يرون من الخبط والخلط في الهيئة الاجتماعية، ومن الظلم والإسراف في معاملات الناس ما يحثهم على اختراع نظام أوفى يضمن لهم أكمل ما يتوهمون من صور العدالة والصحة والعمار؛ فهم يحلمون لنا ونحن أحياء على هذه الأرض ولا يبالون بنا بعد موتنا؛ لأن الحياة — لا الموت — هي موضوع تفكيرهم وغاية نظرهم في الإصلاح، ولا ننسى أن كل إصلاح حدث في الماضي أو سيحدث في المستقبل، إنما هو حلم من أحلام المفكرين، وقد صدق أناطول فرانس في قوله:

لولا أحلام الفلاسفة في الأزمنة الماضية لكان الناس يعيشون إلى الآن كما كانوا يعيشون قديمًا؛ عراة أشقياء في الكهوف، لقد كان إنشاء أول مدينة خيالًا من أخيلة المفكرين … ومن الأحلام السخية ظهرت الحقائق النافعة، فالخيال هو مبدأ التقدم وفيه محاولة إيجاد المستقبل الحسن.

وفيما يلي قد لخصنا للقراء بعض الأحلام الشهيرة التي رآها الفلاسفة في يقظتهم، وتخيلوها عن روية وتدبير، يرجون بها إصلاح مجتمعهم، ومنها يقف القارئ على ضرورة الإصلاح التي تخيلها هؤلاء الفلاسفة، وما كان من أثر الوسط في كلٍّ منهم، وكيف كانوا يتخيلون المدينة الفاضلة والحكومة الفاضلة وأحسن ضروب الزواج وخير نظام للتربية وما إلى ذلك.

ولا شك في أن القارئ وهو يتنقل من ترسيم إلى ترسيم، ومن برنامج إلى برنامج آخر، سيدفعه إلى أن يحلم هو أيضًا حلمًا قد يظن أنه جدير بأن يحشر بين هذه الأحلام، وسواء أكان هذا أم لم يكن؛ فالمؤلف قد تجرأ وحشر حلمه بينها في «طوبى» توهمها كاملة مستوفية شروط السعادة لمن به كفاية السعادة.

سلامة موسى

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤