الحُكم

إذا وصفت الحكومة التي نص عليها القرآن بصفة من صفات الحكومة العصرية فهي الحكومة الديمقراطية في أصلحِ أوضاعها؛ لأنها حكومة الشورى والمساواة ومنع «السيطرة الفردية».

وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ.١  وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ.٢  وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.٣  إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ.٤  إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ.٥  يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ.٦  وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ.٧

وجملة ما يقال: إنها هي الحكومة لمصلحة المحكومين، لا لمصلحة الحاكمين، يطاع الحاكم ما أطاع الله؛ فإن لم يطعه فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ.٨  وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ.٩

فكل أركان (حكم الأمة للأمة) قائمة في هذه الحكومة القرآنية.

ولكن لا يفهم من هذا بداهة أن الأمر فيها لكثرة العدد، أو للطبقة الكثيرة من بين سائر الطبقات.

لأن القرآن الكريم قد تكررت فيه الآيات التي تنص على أن الرأي والفضل والذمة والعلم ليست من صفات أكثر الناس على التعميم، وهذه أمثلة من تلك الآيات تتكرر أحيانًا بلفظها، وأحيانًا بمعناها في مواضعَ شتى من السور التي تصف الناس عامة كما تصفهم بعد البعثة المحمدية.

وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ.١٠  أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا.١١  وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا.١٢  وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ ۖ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ.١٣  وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ.١٤  وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ.١٥  وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ.١٦
وإذا كانت طاعة أكثر الناس تضل عن سبيل الله فليس من الرشد لهم ولا لغيرهم أن يكون لهم الحكم المطاع، وإنما تقع تبعات الحكم على الأمة كلها بجميع عناصرها، وترجع الشورى إلى أهل الشورى، وهي لا تكون لغير ذي رأي أو ذي حكمة، ويصبح المؤمنون كالإخوة في المعاملة: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ.١٧

ولكن الذين يعلمون منهم أحق بالطاعة من الذين لا يعلمون.

قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ.١٨

ولهذا كانت أمانة الحكم في الأمة مقرونة بأمانة مثلها لا تقل عنها شأنًا، ولا يستقيم أمر الأمم بغيرها؛ وهي أمانة الدعوة والإرشاد.

وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.١٩
وشر ما تبتلى به جماعة بشرية من سوء المصير إنما مرجعه إلى بطلان هذه الدعوة، والتغاضي عن المنكرات، وكذلك كان مصير الضالين من بني إسرائيل كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ.٢٠
وعلى أبناء الأمة جميعًا أن يتعاونوا على المصلحة العامة، وإقامة الفرائض والفضائل: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ.٢١

فالحاكمون والمحكومون جميعًا متعاونون في أمانة الحكم وأمانة الإصلاح: كل بما يستطيع، وكل بما يصلح له، وما يصلح عليه، ولا حق في الطغيان لفرد جبار، ولا جماعة كثيرة العدد، بل الحق كله للجماعة كلها، بين التشاور والتعاون، والتنبيه والإرشاد والاسترشاد.

وما من جماعة بشرية تتم فيها أمانة الشورى، وأمانة الإصلاح، وأمانة التعاون ثم يعروها انحلال، أو يخشى عليها من فساد.

•••

ويلحق بقواعد الحكم قواعد توزيع الثروة، وهي في القرآن تمنع الإسراف وتمنع الحرمان.

فاختزان الأموال محرمٌ كلَّ التحريمِ، وإنما جعل المال للإنفاق في سبيل الله، وفي طيبات العيش، وفي مرافق الحياة: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ.٢٢

والمحرومون العاجزون عن العمل محسوب لهم حسابهم في الثروة العامة، فريضة لازمة لا تبرعًا يختاره من يختار.

خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا.٢٣
وَآتُوا الزَّكَاةَ،٢٤ أمر موجه إلى كل مسلم قادر عليها، وفي سبيلها حارب الخليفة الأول جموع المرتدين، وهم أوفر عددًا، وأكمل عدة من المسلمين.

وقلما تمتحن أمة بالبلاء في نظامها، وقواعد حكمها إلا من قبيل هاتين الآفتين: أموال مخزونة لا تنفق في وجوهها، وفقراء محرومين لا يفتح لهم باب العمل، ولا باب الإحسان.

وكلتا الآفتين ممنوعة متقاة في حكومة القرآن.

١  الشورى: ٣٨.
٢  آل عمران: ١٥٩.
٣  الشعراء: ٢١٥.
٤  الحجرات: ١٠.
٥  الكهف: ١١٠.
٦  آل عمران: ٦٤.
٧  ق: ٤٥.
٨  النساء: ٥٩.
٩  النساء: ٥٨.
١٠  الأنعام: ١١٦.
١١  الفرقان: ٤٤.
١٢  يونس: ٣٦.
١٣  الأعراف: ١٠٢.
١٤  هود: ١٧، غافر: ٥٩.
١٥  الأنعام: ١١١.
١٦  الزخرف: ٧٨.
١٧  الحجرات: ١٠.
١٨  الزمر: ٩.
١٩  آل عمران: ١٠٤.
٢٠  المائدة: ٧٩.
٢١  المائدة: ٢.
٢٢  التوبة: ٣٤.
٢٣  التوبة: ١٠٣.
٢٤  البقرة: ٤٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤