كلمة للمؤلف

في النصف الأخير من سنة ١٨٩٨ ظهرت هذه الرواية في عالم المطبوعات العربية تحت اسم «رواية اليتيم أو ترجمة حياة شاب مصري»، بلا مقدمة أو كلمة واحدة من قلم كاتبها، الذي لم يكن إذ ذاك معروفًا إلا لدى أصدقائه وأقرانه في المدرسة، ولهذا السبب لم يرَ أن يتهجم على مواقف المؤلفين ويتقحَّم على صفوف المصنفين بنشر مقدمة يقول فيها شيئًا عن نفسه أو قصده، واختار أن يُلقي حبل تلك الرواية التي كتبها بمداد التعليم المدرسي على غاربها؛ لتنال حظها من المكانة لدى الأدباء والقُراء إما مدحًا وإما قدحًا، سيما وهو إذ ذاك طفل في عالم الأدب، متطفل على موائده، وما كان ليخطر بباله يوم أن فتح لروايته هذه باب الظهور في الوجود أنه سيضطر في يوم من الأيام بالرغم عنه لكتابة كلمة عنها ومقدمة لها، بل ما كان ليؤمِّل مع غرور الشباب في مثل ذلك السن أن تعيش روايته هذه في مثل هذا العصر، وتنفد نسخها بعد بضعة أشهر من صدورها أو أن تُطبع مرة ثانية.

وسواء كان رواج «رواية اليتيم» وإقبال الناس عليها يرجع إلى أنها تستحق ذلك، أو لأنها كانت صادرة من القلب فوصلت إلى القلوب، فهو ما أتركه للمستقبل أو لحكم الغير. ولكن ما لا أنكره على القارئ أنني لولا رغبتي في بقاء أثر من آثار الشبيبة الأولى مرتديًا بالرداء الذي وُلد فيه وقائمًا بالفطرة التي وُجد عليها؛ لرأيت فيها شيئًا كثيرًا يستوجب التغيير والتبديل، فلهذا أزفُّها للقراء كما ظهرت لهم أول مرة، وفي اعتقادي أنها ستبقى — ما دامت تقدر على المقاومة في معترك حياة الكتب — على ما هي عليه.

كثيرًا ما سُئلت عن موضوع هذه الرواية، وعما إذا كانت حقيقية أو خيالية، فكنت أجيب تارة بالتصريح وتارة بالتلميح، ولهذا رأيت أن أعيد الآن كلمة صغيرة في هذا الباب قلتها في مقدمة رواية «الحال والمآل»، وهي أنه لا يلزم أن تكون الحادثة قد وقعت لأشخاص معلومين معروفين، بل يكفي أنها كالحوادث التي تقع كل يوم، وقد تكون حدثت بعض حوادثها لأفراد مختلفين، فاجتمعت مع بعضها، ولمستها ريشة الخيال بمسحة من خطراتها؛ فتألف منها ما تراه شكلًا كاملًا، وأظن في ذلك ما يكفي.

وكثيرًا ما انتُقد على هذه الرواية بأنها صورة سوداء من الصور التي تُبْغَض في الحياة وتسيء الظنونُ بها، بمعنى أنها مُحزِنة، وأن مثل هذه الحوادث المؤلَّفة لا تتراكم بمثل هذا الحال على أحد، وحتى لقد طُلب مني عند هذه الطبعة الثانية أن أخفف بعض سوادها، فرفضت رفضًا باتًّا. أما عن الانتقاد ففيه بعض الحقيقة التي تختلف في تقريرها العقول، إلا أن هذه الرواية إن كانت قد أحزنت كثيرين فقد خففت في وقت تأليفها عن صدر كاتبها حِملًا ثقيلًا، وأراحت ضميره قليلًا.

لأسباب شخصية لا محل لها هنا كان كاتب هذه القصة في زمن من الأزمان محملًا بصنوف الحزن وضيق الصدر، حتى صغرت في عينه الحياة، وحتى خُيِّلَ له أنها لا تصفو أبدًا، فلهذا نظر إلى العالم بذلك المنظار الأسود، وصبغ روايته في ذلك الوقت بهذا اللون، وربما حمل بطلها من التعاسة والشقاء شيئًا كثيرًا؛ لأن نفس التعيس ترتاح لتعاسة غيرها حتى ولو كان ذلك في الخيال، فلهذا كان المؤلف كلما ضاق صدره خفَّ إلى قلمه فساقه في روايته هذه، فظهرت على هذا الحال.

ولا أحب أن أطيل الكلام فالكتابة عن شخص الإنسان فيها شيء من الأَثَرة والأنانية، وهو ما لا أرتاح إليه. ولولا أن ناشر مسامرات الشعب اضطرني لكتابة هذه الكلمة لبقي أمرها في طيات الضمير إلى ما شاء الله.

فأكتفي بهذا حتى تجمعني وهذه الرواية فرصة أخرى.

والسلام.

أ. حافظ عوض
المطرية في ١٠ صفر الخير سنة ١٣٢١

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤