الفصل الثاني

في المدرسة التوفيقية

كنت أسمع بعض الناس يقولون إن زمن المدرسة أحسن أيام المرءِ وأهنأ أوقاته، وما كنت أصدِّق أقوالهم أو كنت أظن أن زمن تعليمهم ربما كان أهنأ من أيامنا، ولكنني عرفتُ الآن وتحققت صدق تلك الأقوال الصادرة عن التجارب والحكمة. نعم، أسعد أيام الفتى هي أيام الدراسة، أيام لا يعرف من مصائب الدنيا إلا أسماءها، زمن لا يتحمل الإنسان فيه سوى مذاكرة الدرس، زمن كل آمال المرء فيه التقدم على الأقران، زمن خالٍ من الهموم والأحزان، ولن يعرف الإنسان قدر ذلك الزمان والهناء إلا بعد أن يكابد متاعب الدنيا، وبضدها تتميز الأشياء.

زمن سعيد قد مضى بصفاء
ما بين إسعاد وبين هناء
كشعاع نور في ظلام حالك
أو نقطة خضراء في صحراء
وَلَّى وأبقى في الفؤاد رسومه
وكذا تولِّي سائر الأشياء

ولقد كان زمن وجودي في هذه المدرسة زمنًا مملوءًا بالمسرات التي أصبحت أقدِّرها الآن فأغبط طلاب تلك المدرسة؛ لأن الصحة تاج على رءوس أصحابها لا يبصره إلا المرضى، وأذكر أني كنت أبكي فيها بعض الأحيان لفراق والدي وحبيبتي، ولكن:

رُبَّ يوم بكيت فيه فلما
صرت في غيره بكيت عليه

فيا إخواني في المدرسة، وددت لو تمنحني الطبيعة قوة أسمعكم بها كلماتٍ وبيني وبينكم أقطار شاسعة وبحار واسعة، فإذا سمحت الأيام واطلعتم على أقوالي فاحمدوا الله على وجودكم في هذه المدرسة، وليحمد الله الوطن على وجودكم فيها، فأنتم خير أبنائه وذخيرته على ممرِّ السنين الآتية.

عزمتُ على أن لا أطيل الكلام في زمن المدرسة؛ فإن ذلك يحتاج لأوقات طويلة، ولَعَمري يمكن التلميذ أن يكتب مجلدًا ضخمًا عن سنة واحدة فكيف بمن أقام ثلاث سنين متوالية؟! وبما أني خصصت هذا الفصل للكتابة عن أيام المدرسة فسأذكر المهم على وجه الإجمال.

أقمت في هذه المدرسة ثلاث سنوات متوالية، وما أخرجني منها قبل تتميم الدراسة سوى القدر المحتوم والحظ المنكود، ويعلم الله أني كنت متمتعًا بجميع صنوف الراحة كأني كنت في منزلي، لا ينقصني إلا بُعد سكينة ووالدي، وكنا في الصباح نفطر بالجبن والخبز والعسل، وكان أغلبنا لا يفطر في المدرسة بل من أكل الباعة الذين يوجدون أمام باب المدرسة، وأما الغداء فكان مع التلامذة الخارجية، وعند الساعة أربعة ونصف مساءً تخرج التلامذة الخارجية ويبقى الداخلية في المدرسة يتنزهون ذهابًا وإيابًا في الحوش وأمام المدرسة، وكان ضباطنا رجالًا كرامًا يصرحون لنا بالفُسحة في الحقول والحدائق المجاورة، على شرط أن نعود إلى المدرسة قبل دق الجرس. ولا تسل عن أول ليلة بتها في المدرسة، حيث كنت حزين البال لا أعرف أحدًا من التلامذة، ولكنني بالصدفة تعرفت بتلميذ جاء معي في حين واحد، وقد تأكدت بيننا روابط المودَّة بالنسبة لتوافق مشاربنا وأمزجتنا، وكان هذا الشاب يُعادلني سنًّا، نبيهًا، ذكيًّا، محبًّا للمطالعة والمباحثة خصوصًا في آداب اللغة العربية، ولذلك كنت أمضي أغلب أوقاتي معه لحسن أخلاقه وطيب معاشرته وآدابه. أما بقية التلامذة الداخلية فعلى العموم كانوا من خيرة الشبان، وبينهم مودَّة كأعضاء عائلة واحدة، وكنا مع سرورنا الزائد وراحة بالنا نظن أنفسنا تعساء، لا سيما حينما نرى إخواننا الخارجية يخرجون مساء ونحن دائمون مسجونون في المدرسة، حتى في يوم الجمعة لا نخرج إلا بعد الظهر ونعود في المساء، ولكن كل هذه أفكار صبيانية؛ لأننا لو تأملنا إلى الخارجية لوجدنا أغلبهم، إن لم نقل جميعهم، فاسدي الأخلاق؛ وذلك من عدم اشتغالهم بالدروس والتفاتهم لأشياء أخرى، وخصوصًا الذين يأتون من البلاد فإنهم لعدم وجود من يقوم بأمرهم لا يهنأ لهم عيش من المطعم والملبس، وربما يسكنون في بيوت مضرة بالصحة، وربما لا يذهبون إلى الحمامات إلا كل شهرين أو ثلاثة، ثم لعدم وجود من يراعي سيرهم تراهم يسيرون حسب أهوائهم، والشباب مطية الجهل يقود المرء إلى ارتكاب كل منكر وفاسد. هذا فضلًا عن أن التعليم في المدارس لعدم مزجه بأصول الدين الذي هو أس الفضائل؛ يجعل الشباب لا يعبئون بالآداب، ويرتكبون المحرمات، ولعمري إن مصر في احتياج إلى شبان يعرفون واجب بلادهم وأنفسهم وإخوانهم؛ ليكوِّنوا مجموعًا يُدعى بالأمة المصرية، وهذا لا يكون إلا إذا مُزج التعليم بالآداب والفضائل.

أقول ذلك لأني كنت متعودًا على القيام بالفرائض الدينية حينما كنت بالإسكندرية، فلما أتيت إلى هذه المدرسة وجدت كل شيء بخلاف ما كنت أنتظر، فإنني لما كنت أصلي كانت التلامذة تسخر بي كأنني أنا أعمل عملًا غير واجب عليَّ وعليهم، ولكن التعود على شيء يجعل الإنسان يسخر بمن يُخالفه، ومع ذلك لم يؤثِّروا على فكري؛ لأن والدي علمني وثبت أفكاري على مبدأ سرت عليه طول حياتي. وفي اعتقادي أن ذهاب الأطفال من الصغر بدون تهذيب عائلي إلى المدرسة يضر بالولد كثيرًا؛ لأن المعلم إنما يعتني بمواد العلم، وهيهات أن يلتفت إلى الأخلاق إلا بما يهمه من جلوس التلميذ متأدبًا، وإن شئت قل خائفًا خاشعًا مدة الدرس مهما كان شقيًّا فاسد الأخلاق خارجه، ذلك فضلًا عن الاختلاط مع التلامذة سيئي الخُلق والتربية. ومن هنا تعرف فائدة تعليم البنات، لا لكي يقرأن ويحرَّرن أو يطالبن بحقوقهن ويعرفن ما لهن وما عليهن فقط، بل ليفدن أبناءهن ويهذبن أخلاقهم ليعيشوا عيشة هنية في الدنيا والآخرة.

أما صديقي الوحيد فكانت أخلاقه توافق أخلاقي في جميع الأمور، وكنا نذهب يوم الجمعة بعد الظهر لزيارة الأهرامات والمقابر والمساجد العتيقة والنزهة البسيطة في بعض الجهات الخلوية وما شابه ذلك، وفي تلك المدة كانت تأتيني رسائل من والدي يحثني على الاجتهاد والسير الحسن، حتى جاء شهر رمضان المعظم وبعد عشرين يومًا صرَّحت لنا المدرسة بالإجازة، ولا تسل عن سروري حين ركبت القطار، وأرسلت تلغرافًا إلى والدي، وكان معي صديقي الذي كان مسافرًا إلى دمنهور، ولما وصلنا إلى تلك البلدة ودَّعته، وسار القطار حتى وقف في محطة سيدي جابر، فوافرحتاه! حيث وجدتُ سكينة تنتظرني هناك مع خادمي، وقد رأيتها تغيرت قليلًا وازدادت جمالًا على جمال وبهاءً على بهاء، وحين أبصرتني أقبلت عليَّ وسلمنا سلام المحبين، ثم صرنا نتمشى ذهابًا وإيابًا على الرصيف، وهي تسألني عن القاهرة والمدرسة وإخواني وأنا أجاوبها، فما أسعد تلك الأوقات!

ما كان أصفى العيش لو دام كما
قد كان في ماضي الزمان الأول
ليت الكواكب والطبيعة كلها
وقفت وذاك الوقت لم يتحول

وبعد زمن قصير جاء قطار الرمل، فركبت معها وسار بنا سيره المعتاد بين الرياض الغنَّاء وسكينة تحادثني عن والدي ووالدها، حتى جئنا محطة باخوص فوجدت والدي على المحطة، وحين رآني قبَّلني بين عينيَّ وقبَّلتُ يده ثم سرنا وأنا على يمينه وسكينة على يساره حتى وصلنا المنزل، ولا تسل عن الأيام القلائل التي قضيتها وأنا كل يوم أتنزه مع سكينة. ولما انقضت الأيام عدت إلى المدرسة، وكانت تراسلني سكينة من وقت إلى آخر، إلى أن جاءت المسامحة الكبيرة. واعذرني أيها القارئ أن اختصرت في وصف تلك الأيام وشرحها؛ فإن ذكراها تجدد أحزاني وتضاعف همومي، عافاك الله من مثل مصائبي، إنه رءوف رحيم!

ولا أقول لك إن مدة المسامحة كانت كليل وصْل في زمان هجر أو شجرة في صحراء أو نقطة بيضاء في صحيفة سوداء، وبعد انقضائها عدتُ إلى المدرسة، وما كان أصعب فراق سكينة! ولكن التعود على الفراق يخفف آلامه. ولما وصلتُ إلى المدرسة تقابلتُ مع إخواني كما تتقابل أعضاء العائلة مع بعضها بعد طول فراق، وبعد مضي شهر أتاني جواب من سكينة، هذا نصه:

إلى رفيق صباي: أمين

إذا صدق ما يقوله الناس أن قلوب المحبين ترى من وراء حجاب، فيحتمل إن كان عندك ما عندي أن يتخيل لك قرب مقابلتي؛ لأن وافرحتاه! والدي عزم على الإقامة في القاهرة مدة فصل الشتاء، ولو أنني أحزن لفراق الرمل ورياضه إلا أن سروري بلقياك واجتماعي بك من وقت لآخر يجعلني فرحة مسرورة بذهابي إلى القاهرة، وآمل أن تنتظرني على المحطة يوم الجمعة المقبل؛ لنذهب معًا إلى المنزل الذي استأجرناه بالقاهرة لهذا المقصد. واقبل سلام حبيبتك.

سكينة

وددت لو منحني الخالق فصاحة سَحْبَان لأشرح للقارئ مقدار السرور الذي سرى في فؤادي حين اطَّلعت على هذا الجواب، الذي أحفظه الآن بين أوراقي، ولعجزي عن الشرح أترك الأمر للقارئ النبيه ليتصور حالتي حينما أعلم أن رفيقة صباي وحبيبة فؤادي ستكون بالقرب مني، وأراها على الأقل كل أسبوع، ولا بد أن أذكر هنا أن حبي لها بعد المسامحة بلغ درجة الهيام ودخل في دور جديد، ورأيتُ محاسنها تزداد يومًا عن يوم، فللهِ ما ألطف أخلاقَها! وما أسحر عيونها!

ولكن حبي لها لم يكن له عندي هيئة غرام حينذاك، وطالما منعت نفسي عن التعلق بها لسببين؛ أولهما: أني لم أكن واثقًا من حبها لي، وأنها ربما أحبت آخر، ثانيًا: أن لم يكن لي أمل بزواجها لاختلاف آبائنا في درجة الثروة، فإن والدي لم يكن إلا تاجرًا ووالدها من المُثْرِين الكبار، ولكن لا ينفع العَذْل والمنع فإن الهوى أصاب فؤادًا خاليًا فتمكن، ولقد غرست بذوره في قلبي فنما وفرَّع. وما زلتُ أعد اللحظات وأستطيل الأوقات حتى جاء يوم الجمعة، فأخذت من الناظر إذنًا في الصباح وذهبت لانتظارها، وما جاءت الساعة الحادية عشرة حتى أقبل القطار ورأيتُ سكينة ووالدها ووالدتها وخادمها وخادمتها، فسلمت عليهم، وحين سلمتُ على سكينة كان قلبي يخفق خفقانًا لا مزيد عليه من شدة الهوى، ثم ركبنا عربتين في إحداهما سكينة ووالدتها وخادمتها، وفي الثانية والدها وأنا والخادم. ولما وصلنا إلى المنزل، وكان في شارع الإسماعيلية، وجدناه ذا حديقة غناء، ورأينا خادمهم الثاني موجودًا هناك ومعِدًّا الغداءَ ولوازم المنزل، وكان مفروشًا من أصحابه كما هو الشأن في كثير من بيوت الإفرنج.

وبعد تناول الغداء خرج والد سكينة لبعض أشغال في القاهرة، وخرجتُ معها إلى الحديقة بعد أن استأذنت والدتها في ذلك، فلما استوى بنا الجلوس في قُمْرية «كشك» وسط الحديقة، قالت سكينة: «ما أسعدني الآن بوجودك معي!» فأجبتها والفرح ملء قلبي: «أنت تتكلمين بلسان فؤادي، فأنا أكثر منك سرورًا»، فقالت: «ألم ترَ السبب في استئذان والدتي للتنزه معك؟»

– لا شك أنك تحبين الحدائق، وتميلين إلى محاسن الطبيعة.

– ذلك أمر ثانوي.

– ولكن ما هو الأوليُّ؟

– ظننتك تفهم، ولكن لو كان في قلبك ما في قلبي لفهمت القصد.

– أما ما في قلبي فذلك موضوع آخر غير التنزه والفسحة والإذن والحديقة.

– وهل تظن أن الذي في قلبي هو الفُسحة؟ قلت لك: لو كان في قلبك ما في قلبي لفهمت.

– آه لو تعلمين ما في قلبي!

– وما فيه؟

– سؤال ليس له عندي جواب، أو بعبارة أخرى لا أقدر على إبدائه.

– وما الذي يمنعك عن إبدائه؟ أليس بيننا من روابط المحبة الأخوية ما يجعلك على ثقة مني؟ أتخاف أن أفشيه إن كان سرًّا؟

– أنا واثق منك، ولكن …

– لا تجعل للكلفة بيننا مجالًا، وأفصح عن مرادك.

فنظرتُ إلى جمالها الباهر فرشقتني عيونها بسهام شعرت لها بخفقان في قلبي، ولم أقدر أن أتفوه بكلمة واحدة بل مسكت يدها وضغطت عليها، ثم وضعتها على صدري، فاحمرَّت خدودها. ولما كانت هذه الفتاة في غاية من النباهة فهمت مرادي، وقالت: «أنا أشعر بخفقان في قلبك، ولعله ناشئ عما يسمونه بالغرام، فهل وقعتَ في شِبَاك الهوى؟»

– نعم، وقُضي الأمر.

– تنبه لنفسك فالغرام صعب.

هلا سمعت عن الهوى إن الهوى
صعب وسهل متلفٌ لحَشاكا

– أنا عارف، ولكن ما قُدِّر يكون.

– ومن هي تلك الفتاة التي سلبت عقلك؟ لعلها جميلة.

– نعم جميلة، وأي جمال!

– وهل تحققت أنها تحبك كما تحبها؟ وإلا كنت معرضًا نفسك للخطر؛ فإنهم يقولون:

ومن الشقاوة أن تحب
ولا يحبك من تحبه

– ذلك لا أعرفه، وإنما يظهر لي أنها لا تكرهني.

– «لا تكرهك» شيء و«تحبك» شيء آخر؛ فإن الإنسان ربما كان يميل لواحد من الناس ولا يكره الآخرين.

– سواء أحبتني أو لم تحبني، فإني هويتها وما عدت أحب غيرها والسلام.

– ولذلك فإني أراك متغيرًا.

ثم صمتت وتغير لونها.

أما أنا فزاد بي الهيام، ولم أسمع منها كلمة تدل على حبها لي، وسكت وأنا أنظر لها وهي مطرقة، والله عليم بما في الصدور. وما زلنا جالسين كأننا أشباح بلا أرواح حتى وقع نظرها على شجرة نرجس فقطفت نرجسة وقالت لي: ما أحسن هذه الزهرة التي تشبه عيونًا من فضة بأحداق من ذهب!

– لا، بل هي تشبه عيون الحبيبة.

– لقد تمكن منك الغرام لتلك الغادة، هل تعرف للنرجس وصفًا؟

– نعم، أتذكر قول الشاعر:

والنرجس الغض تسبينا لواحظه
وفي الرياض علينا قام نمام

– هذا وصف العشاق، فاسمع وصف الطبيعيين:

عيون من لُجيْن شاخصات
بأحداق كما الذهب السبيك
على قُضُب الزبرجد شاهدات
بأن الله ليس له شريك

– أنا أعرف تشبيهًا كهذا، وهو:

مداهن تبر في أنامل فضة
على أذرع مخروطة من زبرجد

وبينما نحن في مقارنة التشبيهين وإذا بوالدها قد دخل علينا، فنظرتُ إلى الساعة فوجدتها ستًّا، ونسيت أن أعود إلى المدرسة في هذه الساعة لتناول العشاء، فاستأذنت من سعادة البك فسألني أن أتناول العشاء معهم، فأبديت له عدم إمكاني لأني لم آخذ إذنًا، ولكن إن شاء الله سأعود في الأسبوع الآتي، فلما عرف أن لا بد من ذهابي أذن لي. ولما سلمت على سكينة ضغطت على يدي قليلًا، وهمست في أذني قائلة: «دع غرام التي هويتها والتفت إلى أشغالك»، فما كان أصعب هذه العبارة على فؤادي المندمل! فنظرتُ إليها نظرة تشفُّ عن معانٍ لا يفهمها إلا ذوو الغرام وخرجت. وبعد أن ركبت عربة أمرت السائق أن يسير إلى قصر النزهة فسارت العربة وأنا في عالم آخر عالم الفكر والتخيلات، أتفكر فيما قلته وفيما قالته وفي المدرسة، ولم أستيقظ إلا حين مرت العربة على كوبري السكة الحديد، وسارت في شارع شبرا بين حفيف الأشجار وضوء المصابيح وهبوب نسيم المساء حتى وصلت المدرسة، فنقدت السائق أجرته ودخلت المدرسة فلم أرَ التلامذة، فظننتهم في المذاكرة، وأن أغلبهم لم يأتِ من الخارج، فصرت أتمشى في الحوش وأنا متفكر في سكينة وجمالها، حتى وقفت بجوار السياج الموجود بين الحوش ومنزل الناظر تحت شجرة هناك كنت أحب الوقوف تحتها، وكان القمر ساطعًا والنسيم عليلًا والمنظر لطيفًا يؤثر على العقول ويضاعف لواعج العاشق، ويولد روح الشعر والتخيل الجميل كما قال فيه الشاعر الأندلسي الوزير ابن عبدون:

يا نفحة الزهر من سراك وافاني
خلوص رياك في أنفاس آزار
والأرض في حلل قد كاد يحرقها
توقد النار لولا ماؤها جاري
والطير في ورق الأشجار شادية
كأنهن قيان خلف أستار

وبينما أنا أتفكر وإذا بيد وُضعت على كتفي بلطف، فالتفت فرأيت صديقي … فقال لي: أنت هنا وأنا أبحث عليك في الحوش والمذاكرة ومحل الأكل!

– أنا هنا من الساعة السادسة وما فوق.

– لكن لم أرك في العشاء.

– وهل أكلتم؟

– أي نعم، من ساعة مضت.

– ظننتكم لم تأكلوا للآن.

– مسكين! ألم تأكل؟ وأين كنت من الساعة السادسة؟ أكنت واقفًا هنا؟! … أنت كثير التفكر يا صديقي، لا بد أن أفكارك منشغلة بأمر مهم، هل أنت في حاجة للأكل؟

– لا؛ لأني أكلت متأخرًا.

– وأين كنت اليوم؟

– في انتظار بعض أقاربنا على المحطة.

ولما كان صديقي المذكور من الشبان المطَّلعين على أشعار العرب وآدابهم وهو من النابغين في الشعر، سألته أن يُسمعني بعض أبيات غزلية، فلما سألته ذلك قال: ولماذا تطلب أشعارًا غزلية، هل أنت مُغرم؟

– لا، ولكن أحب الشعر العربي، وخصوصًا المؤثر منه، فهل تحفظ شيئًا من شعرك أو من شعر غيرك؟

– يعجبني قول ابن زريق:

أستودع الله في بغداد لي قمرًا
بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودعتُه وبودي لو يودعني
صفوُ الحياة وإني لا أودعه
وكم تشفَّع أني لا أفارقه!
وللضرورات حال لا تشفِّعه

وما كاد يفرغ من إنشاده حتى دق جرس المذاكرة، وبعد ساعة ذهبنا إلى عنابر النوم فنمت، والقارئ اللبيب يعرف كيف كان نومي وسهادي. ولما استيقظت في الصباح أدَّيت فرضه، وعلى مثل هذا الحال من الشوق والقلق مرَّ الأسبوع، وذهبت إلى منزل سكينة ولما دخلت وجدتها في انتظاري في الحديقة، ثم بعد السلام أخذت تسألني عن المدرسة وأحوالي حتى استطردت إلى ذكر غرامي، وقالت: ألا تقول لي اسم من هويتها لكي أتوصل إليها وأميل قلبها نحوك فإن الغرام أَنْحَلك.

– أنا لا أكلفك الذهاب إليها، ولا أظنك تقصدين الذهاب، اللهم إلا إذا كان كلامك هذا من باب المغالطة.

– ماذا تقصد بذلك، ومن باب المغالطة؟

– أنت تعرفين من أهواها، لو كان في قلبك ما في قلبي.

– وحرمة تربيتنا معًا لا أعرف من تعني ومن تهوى! غير أني أقول لك إنك أخطأت في حبك لها خطأً عظيمًا.

– أنت تجرحين عواطفي قبل أن أجرح عواطفك، نعم إنها من عائلة أغنى من عائلتي ولكن الحب يجمع بين الكبير والصغير.

– أنت تقول إنني جرحت عواطفك، وأنت قد جرحت عواطفي من أسبوع مضى وما زلت تجرحها، ولم تكن هكذا آمالي منك. دعنا، هل حبيبتك غنية؟ وفي اعتقادي لو كانت تحبك كما تحبها لا تمنع ثروتها من الاقتران بك.

– كفاني محاولة يا سكينة، أنتِ لا تحبينني كما أحبك، ألا تعرفين من أهواها؟

– قلت لك لا أعرفها وحياة حبك لها!

– كفى يا سكينة، ألا يعرف الإنسان، ألا تعرفين نفسك؟!

فلما سمعت مني هذه الكلمة احمرَّت خدودها وطوَّقتني بذراعها، وبقينا كأننا سكرى من خمر الغرام المودع في طبقات النسيم، ولم أدرِ إلا وقد مر علينا على الأقل نصف ساعة زمانية ونحن ذهولٌ من لذة الهوى، فحمدت الله حيث لم يأت والدها أو والدتها أو خادمتها فيروننا على تلك الحال، ثم قالت سكينة: إني كنت واهمة في حقيقة أقوالك، فأنت تحبني كما أحبك. وأخذت يدي ووضعتها بين يديها وضغطت عليها فشعرت بحرارة تدب في مفاصلي، ومسكت يدها وقبَّلتها، ثم قلت لها: «الآن يرتاح فؤادي؛ فأنتِ تحبينني كما أحبك.»

– وهل عندك شك في ذلك؟

– إن الشك هو الذي أضناني.

– لقد أسأتني بسوء ظنك، فكيف أحب غيرك؟

– بل أنتِ أسأتني بسوء ظنك، فكيف لا أحبك؟

– إذن فلنعش كما نشاء، وكما يشاء الغرام.

وبعد هذا اليوم الذي ابتدأ فيه غرامنا الحقيقي، صرت أقابلها كل أسبوع في منزلهم، ففي ذات أسبوع خرجت من المدرسة وذهبت إلى المنزل، فلما دخلت محل الاستقبال وجدت والدها جالسًا وبيده جريدة، فلما رآني سلَّم عليَّ وأجلسني بجانبه، وأخذ يسألني عن أحوالي في المدرسة وعن عدم مقابلتي له أغلب أيام الجُمع، فأجبته: «إنني كنت دائمًا أحضر هنا، ولكن لم أكن أراكم في المنزل، وكنت أمضي أغلب الوقت مع سكينة نتباحث في الدروس — دروس الغرام»، فسألني: «هل تقرأ الجرائد؟» فأجبته: «إني لا أعتني بها، ولكن لي صديق في المدرسة مولع بقراءتها حتى إذا مر عليه يوم بدون أن يعرف الأخبار فإنه يتكدر.»

– ومن هو هذا الصديق؟

– هو فتى من الشبان الأذكياء، وكل التلامذة تحبه وتمدحه؛ لأنه يحب وطنه كما يحب نفسه.

– ولِمَ لا تكون مثله، هل الوطن وطنه وليس وطنك؟

– نعم، إنه وطني وأغار عليه وأحب له السعادة، ولكني لا أهتم كثيرًا بالأمور السياسية، ولا أشغل وقتي بها كما يعتني ذلك الفتى، فإنه يجمع التلامذة وقت الفراغ ويتكلم عما يجب على الشبان أن يعملوه لرفع شأن بلادهم من بث التعليم وتهذيب جُهَّال الأمة، ولكني أظن أن كلامه يذهب أدراج الرياح؛ فإنه إذا لم تهتم الرجال الكبار بمصالح البلاد فإن الشبان لا يعملون شيئًا، فهم كشجيرات بجانب أشجار كبيرة.

فقال: «ولكن الأشجار الكبيرة تتساقط أوراقها وتنكسر فروعها، وليس فيها ماء نمو ولا غذاء حياة، وأما الشجيرات فوإن كانت صغيرة ولكنها آخذة في النمو، وعندما تجف الأشجار الكبيرة الضخمة غير النافعة تفسح مكانًا للشجيرات تنمو فيه وتتمتع بجو الصفاء لا يشاركها مشارك، وإذا كانت هذه الشجيرات معتنى بأمرها من الصغر نمت نموًّا عظيمًا وأَفْرَعت وأثمرت أحسن ثمار تستفيد منه البلاد في الحال والاستقبال، وإلا فالعكس ظاهر. ولا شك أنك اطلعت على كثير من تواريخ الأمم التي ارتفع شأنها بعد انحطاطها، ورأيت أن الشبان هم الذين أقاموا عمادها وانتشلوها من وهدة الدمار والانحطاط، فاعلم يا ولدي أن مصر في احتياج إلى أفراد يسعون لصالحها كما يسعون لصالح أنفسهم، متحدين، مرتبطين بالجامعة الوطنية، لا فرق بين المسلم والمسيحي والإسرائيلي، ولا يعرف ذلك إلا المتعلمون، ما لهم وما عليهم، وأنتم ذخيرة هذا الزمن، وكأني بمصر وهي تنتظركم انتظار المريض للطبيب؛ لتقوِّم بكم ما أعوجَّ من أمورها، فكونوا معها لا عليها.

وهب أنكم لا تجنون ثمار اجتهادكم، ولا إخالكم إلا جانيها في حياتكم، فإنكم تبقون ذكرًا حسنًا لأبنائكم يتناشدونه بعدكم. وأنتم تقولون إنهم غرسوا شجرة الإهمال فأكلتم ثمرها استعباد الغير لكم، فاغرسوا أنتم شجرة النشاط تتمتعوا برؤية نموها في حياتكم وتجني بعدكم أولادكم ثمرها؛ السعادة والحرية، ويدعون لكم لا عليكم، والله لا يضيع أجر من أحسن عملًا.»

فأجبته قائلًا: «إننا نسمع عن شبان أوروبا من الأعمال والنشاط ما يحير أفكارنا، ولا سيما حيث نسمع أنهم يتركون بلادهم ويذهبون إلى بلاد أخرى، والإنسان منا يخاف أن يخرج من بلده، كل ذلك يجعلنا نظنهم من طبقة أعلى من طبقتنا في القوى العقلية والبدنية.»

– لو اعتبرت الحقيقة فأنتم أفضل من شبان أوروبا الذين نسمع بمدحهم؛ لأن آباءهم غرسوا لهم السعادة فجنوا ثمارها بالراحة والشرف وساعدوا على زيادة نموها، وأما أنتم فالحالة معكم بالعكس، فإنه فضلًا عن أن آباءكم لم يغرسوا لكم شيئًا فإنهم لم يتركوكم وشأنكم بل زادوا الطين بلة، وأما عن سفرهم إلى خارج بلادهم فذلك أمر لا يُستغرب، ولا يُكسبهم فخرًا عظيمًا؛ لأنهم أنَّى يحلوا يُكرموا، وأنَّى ينزلوا يُعظَّموا، يخرجون من بلادهم لا يملكون شَرْوَى نقير فيعودون وقد ملئوا الأَوْطِبة من الأصفر الرنان، كل ذلك بمساعدة إخوانهم في مستعمراتهم التي أوجدها لهم آباؤهم، والمكسب يولِّد النشاط، وأنتم أين تذهبون إن أردتم؟ أإلى أوروبا فتموتون من الجوع إن فقراءَ وتصرفون أموالكم إن أغنياءَ، والوبال في الحالتين، أم إلى البلاد المتوحشة تذبحون وتقتلون، ولا من يسأل عنكم، لا سفير ولا وزير، ولا تحميكم قوة مثل قوة بلادهم؟ شبانهم يترنمون بما فعلته أجدادهم لرفع شأن بلادهم وأنتم بمن تترنمون وبمن تفتخرون؟ شبانهم سعداء وأنتم تعساء. فاسعوا لإزالة هذه التعاسة، إن لم يكن عنكم فعن آبائكم.

فلما رأى علامات التأثر ظاهرة واليأس باديًا على وجهي، قال: «لا تظن أن الزمان يستمر على هذه الحال؛ فإنكم ولا شك أحسن من إخوانكم الذين تقدموكم، فأنتم تُرَبَّون الآن وتعرفون ما لكم وما عليكم ولذلك ترون تعبًا في حياتكم، أما الشبان الذين تقدموكم فقد كانوا أسعد بالًا لجهلهم، و«لذة الدنيا لمن جهلا»، والحالة تبشر بالنجاح، وإن التأثير الذي ظهر على وجهك يدلني على حسن عواطفك وحبك لبلادك وإخوانك، فساعد صديقك الذي تقول عنه؛ فإن الأمم تشقى برجال قلائل وتسعد برجال قلائل.

ولما قرب ميعاد المدرسة استأذنته وخرجتُ وأنا منشرح الصدر من محادثة ذلك الرجل العاقل الكامل، وتأسفت قليلًا لأني لم أقابل سكينة التي بلغني أنها ذهبت لزيارة بعض العائلات مع والدتها، وعلى مثل هذه الحال مرت السنة وأنا أقابل سكينة كل يوم جمعة، ولما جاء فصل الصيف ذهبت أسرة سكينة إلى الرمل، وقد قضينا مدة المسامحة في تمثيل رواية الغرام، حتى جاء وقت المدرسة وودعتُ حبيبتي بفؤاد مندمل من الفراق، ولكن على أي حال مسرور بحبها.

ولما وصلتُ إلى المدرسة واجتمعت بالإخوان وأمضينا الأسبوع وخرجنا يوم الجمعة، تذكرتُ أيام وجود سكينة بالقاهرة، والأوقات التي أمضيتها معها في مثل ذلك اليوم، ثم خطرت ببالي أيام المسامحة، ولكني كنت أخفف لواعج الغرام لثقتي بحبها، ولم أعلم ما تخبئه الحوادث وتبطنه الأيام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤