الفصل السادس

وقائلة لما أردت وداعها
حبيبي أحقًّا أنت بالبين فاجعي؟!
فيا رب لا يصدق حديث سمعته
لقد راع قلبي ما جرى في مسامعي
وقامت وراء الستر تبكي حزينة
وقد نقبته بيننا بالأصابع
تسلِّم باليمنى عليَّ إشارةً
وتمسح باليسرى مجاري المدامع

كان ميعاد قيام الباخرة الخديوية يوم السبت فعزمت على السفر من الرمل يوم الخميس، ثم أرسلت كتابًا إلى صديقي في المدرسة، الذي أرسل إليَّ تلغرافًا يعزيني في والدي وكتابًا يسألني فيه عما إذا كنت عازمًا على الرجوع إلى المدرسة، وكتبت له أن ينتظرني يوم الخميس بمصر حيث إنني عزمت على المبيت فيها ليلة الجمعة ومبارحتها إلى السويس في الصباح. فلما كان يوم الأربعاء صباحًا جاءني منه كتاب يسألني في السفر إلى مصر يوم الأربعاء ليمضي معي يومين بدل يوم واحد، فشاورت سكينة في ذلك — ولَعَمَري ولقد رأيتها بعيني وهي تذبل كالوردة المقطوعة من فرعها — فقالت: أتفضل إخوانك علينا؟ ألم يكفني سفرك القريب حتى تحرمني من يوم أتمتع فيه برؤيتك؟ فيا حبيبي، إننا أحوج إلى دقيقة بل ثانية نتمتع فيها بمرأى بعضنا، ولا تعجِّل الفراق.

والهم يأتي لا تعجل قربه
فلنشرب المعسول قبل الصَّاب

فأجبتها: «يا سكينة، بالرغم عني أن أبعد عنك لحظة واحدة، ولكن ما قُدِّر لا بد من وقوعه، فإن لم أسافر اليوم فسأسافر غدًا»، وما انتهيت من عبارتي حتى أخرجت صندوقًا صغيرًا وأعطتني منه صورة حسناء، قائلة: «خذ هذه ولا تنس صاحبتها»، فتأملتُ الصورة، فرأيت محاسنها تكاد تتكلم عن جمالها الفتَّان، ثم أعطتني مِنْدِيلًا مطرَّزًا بيدها منقوشًا عليه اسمي واسمها، فطويت الصورة فيه ووضعتها في جيبي، ثم أخذت بيدها وسرنا إلى الحديقة نمر على محالِّ جلوسنا ومرتع أُنْسنا التي قضينا فيها ساعات طوالًا، نتناشد أحاديث الغرام، وندير كئوس الهوى، وكلما مررنا على محل تتناثر الدموع وتخفق القلوب وتلتهب نار الصدور، وعلى مثل تلك الحال ذهب النهار بنوره وجاء الليل بظلامه وخيالاته، ولقد قضينا رَدَحًا من الليل ونحن جلوس في الحديقة، لا رقيب سوى القمر الساطع ولا نَمَّام سوى النسيم العليل، نتذاكر الماضي بأسف زائد، وننظر إلى المستقبل بفؤاد واجف، حتى شعرنا بالبرد فتركنا الحديقة وذهبنا إلى المنزل وذهب كل منا إلى حجرة نومه، فلم يكن من نصيبي إلا السهاد وأنا أفكر في السفر، وطال الليل حتى خِلت الصباح ليس بآتٍ، ولسان حالي يقول:

يا ليل طُلْ أو لا تطُلْ
لا بد لي أن أسهرك

ثم غفلت عيني قرب الصباح ولم أستيقظ إلا وسكينة بجانبي، فسألتني عن نومي فقلت لها: «إني لم أنم إلا قرب الصباح»، فقالت: «أنا لم أنم أبدًا». وبعد أن لبستُ ملابس السفر أمرت الخادم بالذهاب إلى المحطة قبل الميعاد، ثم جاء والد سكينة وقدم لي كيسًا مملوءاً من النقود الذهبية وحزَّمني بالحزام المملوء من الذهب، وبعد ذلك قال لي: أنا ذاهب إلى المحطة، فلا تتأخر بعد أن تودع من في المنزل.

فلما خلت بنا الحجرة قبَّلت سكينة في جبهتها لأول مرة ولآخر مرة في حياتي، وودعتها الوداع الأخير ما بين زفرات تتصعَّد ودموع تتحدَّر، فكان المنظر يذيب القلوب ويفتِّت الأكباد، وكلما هممتُ بالخروج تمسكني وتتوسل إليَّ أن أتأخر ريثما تطفئ بعض أشواقها فخفت أن يفوتني القطار، فقلت لها: صبرًا يا سكينة صبرًا.

يود الفتى في العيش نيل مراده
ولكنها الأيام في حكمها تجري
فيا من هواها لا يغيره النوى
أعدي لبعدي ما استطعتِ من الصبر

فقالت ولآلئ الدموع تتناثر على خدها:

وهل صبر لبعدك يا حبيب
ولوعات الغرام لها لهيب؟!

ولم نزل على هذه الحال، أنا أهُمُّ بالخروج وهي تمنعني، حتى جاء الخادم قائلًا: هلمَّ بسرعة؛ فلم يبق على القطار إلا عشر دقائق.

فلما سمعت كلماته ودعتها الوداع الأخير، وخرجتُ كالسهم لا أعي ولا أسمع ما تقول، فوصلت إلى المحطة والدموع ملء عيني وأنا أتذكر أيام صباي في تلك البقعة وأني راحل عنها في مثل ما تزيد الحسرة ويولِّد الأكدار. وبالاختصار، ركبت القطار مع والد سكينة حتى محطة سيدي جابر، وفارقته عند سير القطار الذاهب إلى مصر بعد أن زودني بنصائحه المفيدة. ولما خلوت بالعربة وتذكرت أول مرة سافرت إلى المدرسة ومعي المرحوم والدي هَمَلت الدموع من عيني، والتفتُّ إلى الرمل والقطار ينهب الأرض نهبًا، وخاطبت تلك البقعة الزاهية الزاهرة:

عليك سلام الله أيها الموطن العزيز السعيد، موطن صباي ومرتع شبيبتي، ليت شعري أيسمح الزمان بالعودة إلى شقيقي الوحيد أم يضن بهذه الأمنية؟ آه، ما كان أسعدني حين كنت طفلًا صغيرًا! ألا ليتني لم أكبر وليت الزمان لم يتحول:

يا رجاء نأي مكانًا قصيَّا
وهناء ما عشت فيه مليَّا
لهف ذاك الرجاء قد كان نبتًا
قد سقته مدافع العين ريَّا
هصرته يد القضاء وأذوتْ
ذلك الغصن حين كان طريَّا

أفٍّ لدهر لم يصفُ يومًا إلا تكدَّر في الثاني، دهر شأنه الغدر بكل حر! وأنتِ يا حبيبة الروح، لا تنسي أيامًا قضيناها في هذه الربوع، واذكريني فإن ذكرك يخفف بلواي على بعد الديار وشَطِّ المزار، إن قلبي ليتفطر حينما أرى نفسي مبعدة عن ديار تمتعت بهوائها ورُبِّيت بخيرها وحظيت فيها بأُويْقات السرور، إلى ديار لا أعرف فيها إنسانًا.

وما زلت غارقًا في بحار هذه الأفكار حتى وصل القطار إلى محطة مصر، فوجدت صديقي مع بعض التلامذة في انتظاري، وبعد التسليم والتعزية شكرتهم على حُسن تعطفاتهم، وركبنا عربة ولم أشأ أن أذهب إلى نُزل كديفيال فإنه يجدد أحزاني، بل أمرت السائق بالذهاب إلى نُزل آخر. ولما وصلنا جميعًا واستوى بنا الجلوس في إحدى غرف النُّزل، سألني صديقي عن عزمي، فأخبرته بالأمر من أوله إلى آخره، فلما سمعوا قصتي أَسِفوا لفراقي، وقال أحدهم: «بودي لو أتمكن من مساعدتك بأية طريقة كانت، وكنت أحب أن تتمم معنا دراستك، ولا شك أن أساتذتك يتكدرون لفراقك لما كانوا يعهدونه فيك من الاجتهاد، ويأملونه منك لخدمة البلاد»، فأجبته: «إني أشكرك يا صديقي على مثل هذه العواطف الشريفة، وأشاركك في الأسف لفراق وطن رُبِّيت فيه وتمتعت بهوائه وأظلتني سماؤه، وإن قلبي ليقابل الخطر المحدق بي بكل ثبات وعزيمة، عالمًا بأن ما كان سوف يكون، ولكنَّما يزيد أسفي فراق الذين أحبهم ويحبونني من الإخوان والأصدقاء، ولعدم تمكني من خدمة بلادي معكم في مثل هذا الوقت، وأنا معيد عليكم ما سمعته من البك …، صديق والدي، فقد قال لي: «إن تقدم بلادكم مرتبط بكم، وأنتم زهرة مصر فانشروا رائحتها الزكية، يشمها الداني والقاصي، ولا تتكاسلوا أو تتهاونوا في أمرها استخفافًا بأنفسكم أو استصغارًا لقدركم، ولا إخالكم إلا تعرفون عن شبان أوروبا ما أعرفه وزيادة. وليكن في علمكم أن تأخر بلادكم تُسألون عنه كما يُسأل أكبر الكبراء وأثرى الأغنياء وأفقر الفقراء والقوي والضعيف؛ فكونوا في أمتكم بمثابة الخطباء المُذكِّرين بمجد أجدادهم، حاثِّين على اتِّباع الفضائل ونفي الرذائل، وبذلك تقوى عصبيتكم وتجدون من أهل بلادكم من ينشطكم على أعمالكم، فأنتم أحوج إلى التعاون والتضافر منه إلى الشقاق والتنافر، «ولا تفرَّقوا فتذهب ريحكم»، ودونكم تاريخ الأندلس وكيف تفرقوا شَذَرَ مَذَرَ، كأن القوم ما كانوا حين انقسموا طوائف طوائف ودبَّت فيهم روح حب الرئاسة، وتركوا الدِّين وراء ظهورهم ففتك بهم الغير بما تُشق له المرائر وتتفتت له الأكبدة، كما قال شاعرهم يمثل حالهم:

فطفلة مثل حسن الشمس إذ طلعت
كأنما هي ياقوت ومرجان
يقودها العلج للمكروه مكرهة
والعين باكية والقلب حزنان
لمثل هذا يذوب القلب من كمد
إن كان في القلب إسلام وإيمان

وهذا مَثَل تتمثلون به، وتلقنونه لأخدانكم وأولادكم، وانظروا إلى كتب الفرنسويين الابتدائية كيف أنهم يكتبون أول جملة فيها: «الألزاس واللورين أخذتها ألمانيا. يجب على كل فرنسوي أن يردها إلى بلاده»، ومثل ذلك من العبارات الوطنية؛ ليغرسوا في قلوب الناشئين حب بلادهم والسعي وراء استعادة ما أُخذ من حقوقهم. وانظروا إلى الأمم التي نجحت في رفع شأنها، ولا تستبعدوا الطريق فمن جدَّ وجد ومن سار على الدرب وصل.» ولقد نبَّه فكري إلى أشياء كثيرة بعباراته الرقيقة، فلا حُرم منه الوطن ولا حُرمت منه الإقامة. فقال صديقي: أما أنا فكما تعهدني لا أدع فرصة تمر عليَّ دون أن أنشِّط إخواني وأُحثَّهم على اتباع طرق الفضيلة، ويسوءني أن أرى بعض أولاد الأغنياء منكبِّين على الملاهي، عاكفين على الملذات البهيمية، طارحين العمل وراء ظهورهم، غير ذاكرين واجب بلادهم، وذلك نتيجة عدم بث روح الكمال وحب الفضائل فيهم من الصغر، ولكن الحال أحسن من ذي قبل، والشبان في دور يبعث على الأمل في النجاح، وفقنا الله لما فيه الخير والفلاح! ولكن إذا كنت مسافرًا غدًا فلا بد من الذهاب إلى المحافظة لأجل الحصول على جواز السفر، وإني أتشرف بالقيام بهذه الخدمة فإن لي في المحافظة قريبًا يساعدني.

– إني أشكرك يا صديقي، فإني حصلت على جواز السفر من الإسكندرية.

– وكتبك التي بالمدرسة لمَن تتركها؟

– خذها ووزعها على إخواني وأصدقائي، واكتب على كل كتاب «هدية من فلان إلى صديقه فلان»، واكتب تحت ذلك «حب الوطن من الإيمان».

فقال أحد الحاضرين: «حيث أبقيت لنا تذكارًا يدل على شرف مبدئك، فأرجوك أن تأخذ مني صورتي دليلًا على ودادي»، فقال صديقي: «وأنا كذلك»، فشكرتهم جميعًا على حسن تعطفاتهم، وأخذت صورتيهما. ثم أشاروا عليَّ بزيارة المدرسة قبل السفر فوافقتهم وإن كان ذلك يجدد الأحزان. وبعد أن وصلنا إلى هناك وكان قبل الغروب بساعة، قابلني بقية التلامذة، وعزوني على موت والدي، ومثلهم حضرات الضباط الكرام، ثم دُرت في أنحاء المدرسة حتى وصلت إلى شجرتي المحبوبة التي كنت أمضي أغلب أوقاتي ليلًا تحتها، وهي بجوار السور الغربي المحيط بسكن الناظر المفضال، ولما وقفت تحتها ذرفتُ دمعة، لم أشعر لها إلا وهي تسيل على خدي، فأسرعت بالمنديل لمسحها، فلمح ذلك صديقي، ومسك يدي قائلًا: «الصبر». ثم تركنا ذلك المكان الذي يجدد الأحزان، وسرنا إلى محل المذاكرة، فلما وصلت إلى محل جلوسي قعدت قليلًا متفكرًا فيما جرى وفيما سيجري، وفتحت الدرج فوجدت مكتوبًا على ظهره:

إذا تذكرت أيامي التي سلفت
أقول بالله يا أيامنا عودي

وعلمت أن كاتبه صديقي، كتبه ليذكرني به، فشكرته على حفظه العهود، ثم سرنا إلى محل النوم، وهناك جلست على سريري الذي أمضيت عليه ليالي عديدة، لا فكر لي غير سكينة. وبعد أن جُبنا أطراف المدرسة:

ودعتها ودموع العين تنهمل
والقلب من شدة الأحزان مندمل
والقلب غاب وضلَّ الفكر أجمعه
حتى تخيل أني ساكر ثمل

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤