الفصل الخامس

البَيْن وعياله ونكائده

تعرَّفت شخصية البين ومأثوراته في تراث الحكايات الفولكلورية، ثم اكتملت لي شخصيته الخرافية في الموال الأحمر، وكشخصية ماثلة في كوميديات مسرح الفصول المضحكة أو مسرح الفلاحين المرتجل.

فعادة ما تجد فرق المزيكة والفصول المضحكة أو الأفصال مجالها وجمهورها في السركات — أو التروكة — التي تقام في الاحتفالات الجماهيرية والموالد، يضاف إليها مختلف الألعاب والنمر البهلوانية والأكروباتية والكلاونية عامة، ما بين بنورة المسحورة والمرأة الطائرة.

يضاف إلى هذا صناديق الدنيا، التي كانت تقدم نمرًا وروايات ومأثورات؛ السفاري عزيزة، أو السفيرة عزيزة، وورد وسلبند، وهي بلاد مندثرة خرافية، ونعناعة وتعذيب البين لها.

وللبين بشكل عام حكاياته ومأثوراته وخرافته التي لا تنقطع، خاصة في تراث الملاحم وأشلاء السير المندثرة، مثل «الملك معروف وابنه الشاطر حجازي ووزيره البين».

فالبين في كل الحالات رمز الشؤم والشر، مثله مثل ست أو ستخ أو طيفون في تراث مصر الفرعونية، قاتل أوزيريس ومغتصب عرشه، كما أنه طيفون بالمقابل في تراث الحكايات السامية العربية الأسطوري.

إلا أن من مزايا البين أنه كائن خرافي محترق مذرًى في الهواء، إنه ذلك الشر الذي يخالط الشهيق والزفير في المعتقد الجمعي الشعبي، لذا فهو يمتلك ذرية كاملة تنمو وتتوالد بشكل متوالٍ مثلها مثل أجيال البشر.

ومن الصعب حصر مأثوراته في التراث العربي، إلا أنه يرد على نحو متحدد في «الملك معروف» ومأثوراته وفابيولاته.

فقبل احتضار الملك معروف عيَّنه وصيًّا على عرش ابنه ووريثه الشاطر حجازي، إلا أنه حبس حجازي في هاوية وانفرد بالسلطة، مغتصبًا في ممالكه بشكل شرير ضار، لكن ما إن ينتصر الشاطر حجازي ويسترد ملكه حتى يقتل البين ويذري رماده في الهواء هو وابنته، التي عشقت حجازي ومكنته من سرقة سيف والدها البين «الطلسم» والإجهاز عليه، وبرغم هذا آثر حجازي عدم الزواج منها وقتلها ونثر رمادها في الهواء؛ استنادًا إلى موقفها في خيانة أبيها وبالتالي قبيلتها، موصيًا بالولاء للقبيلة قبل الزواج والحب.

وأصبح كل من حلت به كارثة أو حدث شؤم يصرخ: يا ترى أنا اصطبحت بالبين ولَّا عياله؟!

كما تناثرت رموزه وحيواناته وطيوره؛ غراب البين، ووجه البين، ودبيب البين، فلم تبرأ من تمثُّل شخصيته وشروره السير والملاحم، وكذا مسرحيات الأفصال والحكايات خاصة الخرافية، وبكثرة كبيرة للغاية، بالإضافة للمواويل الحمراء، التي عادة ما تتحدث عن نكايا الزمن والدهر، والأيام، والخطوب، مجانسة وموحِّدة بينها وبين البين كما يتضح في هذه العينات البسيطة التالية التي جمعتها للبين ونكائده. وللتوسع يُرجع لكتابي «أدب الفلاحين»، ١٩٥٧.

فالبين في النص التالي يقوم بإعداد طبيخ من الحنضل، لكي يروح ينتقي ويسقي المحرومين والشقيانين والمعدِمين بدلًا من مغتصبي حقوقهم.

كما أنه في «الخماسي» الذي يعقبه يتبدى كإله كامل، فهو الذي يهب الناس الغُلْب والشقاء، حتى إن مخاطبه «الغلبان» دعاه إلى مشاركة ما هو مغروز فيه: «يا بين تجيش على الغلب تشاركني؟!»

البين طبخ طبيخ حنضل ومر على العللة وبينقِّي
سقى الظنايا وبيت المحرومين نقي
البين ضربني بشرموخ شوم ومعقي
كتير من الناس قاللي روح تستاهل
شبكتني بالغرام هو الغرام ساهل؟
ياما جهلنا واتاري الجهل بيعقي

•••

البين لما عطاني الغلب باركلي
صابح مسافر لقيته في الطريق باركلي
أنا قلتلو يا بين تجيش ع الغلب تشاركني؟
قاللي أنا مرسال والمرسال لا ينضرب ولا ينهان
وانت هدية وآدي الدلَّال بيعاكلي

وها هو البين يتوعد مهددًا بكسر الأيدي، والأحمال، والغربة بلا رجعة:

البين قاللي رباية عز لاهينك
أكسر شمالك واخليك بس بيمينك
واشيلك حمل عمر ما نظرته عينك
واغربك غربة منها الرجوع قليل
لجل ما تعرف عدوك من محبينك

كما أن للبين أسلحة حربه من مقاليع ونبال:

البين ضربني بنبلة ع التراب طبِّيت
أنا قلت ليه يا بين؟
قاللي إكمنك ع الأصل الردي طبيت
تستاهل يا قلب مين يخزنك في جب
شوف الدهب من غلوه بيتخزن في العب
وانت درت بخُرْجك م الصدف عبِّيت
يا قلبي قوللي على وقعتك وازاي ما انطبيت

إنه هنا يتبدى كقبيلة عاتية:

حروح فين من البين وخال البين وعياله
وآدي أهل الفصاحة لأخد التار وعياله١
يلعنك يا زمن ما انت عمايلك معايا سود
زليت أنفس كانت تشبه لأسود
مثل سمعناه من اللي قبلنا قالوه
من صادف البين قليل إن فاج لعيالو

•••

البين قاللي إيش اسمك؟
قولتلو جمعة
قاللي بتضحك وتلعب؟
قولتلو صنعة
أضحك والعب واكايد العزال
لكن يا بين عليه حاكمة الصنعة

•••

البين جعد على اعلا بون وشاورلي
وسكن عضاي في اليمين وشمالي
زرده من الليف بخزام سد مفتوللي
البين كبكب الغلب في منديل وعطاهلي
أنا رحت ع السوق باشري لحمي بإيدي
إلا وجزار قطع الكبد ويَّا اللي
أنا رحت ع الطباخ شخط فيه
عاودت أبكي ولحمي ني
إلَّا وخبر شين أتى ما رمتنا وفتناه ني
أنا صبرت لما الليل انجسم وفجري بان
فتحت خان لهم وياما تكسرت بيبان لي
إلَّا وعليل جض قولتلو سد بلالي
أنا لا عاوز شر تجيبولي
ولا طبيب تجيبولي
قاللي سن سلاحك واقتل في العدا وجاديك
وهات غزالك من موطنك جنص ولي

في الموال السابق يتضح مدى تجبر البين، ومدى حلوله في أعضاء جسد من يعن له البطش به في شماله ويمينه كمثل مرض عضال، حتى إنه إذا ما ذهب إلى السوق لشراء لحم قطع الجزار كبده ولِيَّته، وإذا ما ذهب إلى الطباخ أعاده يبكي ولحمه نيء:

البين عاداني وحسب ما رام سماني٢
نده وقال يا غراب وانا مكتوب سماني
باعني لغجر صبر مش لتجار سماني
خايف أقول آه يطلع في البلد سراي
وباضحك بسني لكن الحنك بطلان
من قلة وليف زين أشكيلو على سري
فرحوا العوازل وقالوا الجدع م العيا بطلان
جاني طبيبي على بكرة وخد سري
أنا قلت ما تفرحوش يا عوازل
وتقولو الجدع م العيا بطلان
أنا عشرتي مع قليل الأصل سماني

•••

البين جابني في حاصل الضيق وجاللي ادخل
واندار سجاني كاس الحنضل وجلة خل٣
ولفِّيت الكون وانا فردي وجلة خل٤
ولقيت الكون لا باخد ولا بدي
البين فصلي تياب الحزن جا علي جدي
وجا عزولي يباركلي وجاللي ادخل٥

وقد يتخذ البين هيئة القاضي والسائل داخل رقعة مأثوراته:

أنا اللي عاشرت حداد يدق النبل ع السندان
قرا الهجاية وكتب الميم ع السين دال
البين قاللي:
ليكشي رفاجة؟
قلت ناس أندال
أنا اللي حصدتهم في الندى ياما رموا أغمار
أنا اللي درستهم ما لميت منهم أجرة الجمَّال

•••

البين جاب لي غراب نوحي وقالي شوف
إنت حتجيلك ليالي مثل دا وتشوف
تستاهل العين محوار نار ورفروف صوف
اللي تفوت الأصيل وتدور مع المتلوف

•••

يا بين داير ورايا إيه بقى عندي؟
قلعت عيني اليمين اشفق على العين دي
ما قال البين والله لا آخدك عندي
أقطع يمينك واخليك بالشمال عندي

ويمتلك هذا «البين» قدرات فائقة حقًّا على التكاثر والتقمص والتحولات، إنه في المأثور التالي يتخذ هيئة طبيب أو حكيم جوَّال يستطلع بنفسه جروحات الناس، ويوزع عليهم مواجعهم وهمومهم مصطحبًا بغلًا وصبيًّا:

الناس بها جرح وانا بيَّا تلتميت مية
ولما جاني البين وخروجه م الدوا موثوق
كشف على الجرح ملتقاش دوا عنده
ركب صبيه على بكرة وقاللو سوق

وللبين حكايات ومأثورات قصصية من نوع البالاد الشعرية جيدة التصميم، تكشف في هذه الحكاية التالية عن مواقف إيجابية لعليل نازل البين وحاربه وجهًا لوجه، برغم غلبه أو فقره وعوزه وعلته:

يا أهل الله العجب لعليل له قلب
لاقى البين في شدة الغلب،
اتحزم وقابل البين أمه تقوللو:
يا سلام يا ابني على القلب دا اللي لك
قابلت البين وزدتني يا عليل على الغلب
دا غلبين
أبوك يا عليل كان ابتلى قبلك وعاود طاب
دا بلاك يا عليل يحكي يلا جدك
أبوك يا عليل كان ابتلى قبلك وعاود طاب
أم العليل سافرت سنة حول
أشهر تلاقي أيام
تلاقي طبيب ابنها ع الأرض ماسكة جان
في سجن ضيق والجان عليه سجان
مرات العليل شافت بلا جوزها نطت من الحيطان٦
أخت العليل جت في داك الدن وانحطت٧
وجابت دراهم في حق العاهرة خطت
نده العليل يا اختي تعاليلي
شيلي اللزق يا اختي واسعي في تعليلي
قالتلو سلامتك ياخويا في الحي هات إيدك
فين رفجتك العزاز يشوفوا سقم حالك وتعديلك؟
صرفت مالك عليهم كنت لم ايدك
قال لها لا انا عاوز رفجتي
ولا حد من احبابي ياجيني
خديني من ايدي ووديني على النهر
أغسل جروحاتي وانقِّي غشي دا اللي بي٨
طلب العليل جبن قالت أم العليل جبن آه؟!
جبن اللبن يا عليل يتعبك
كل يا عليل م الثماه
سافرت أم العليل جابت طبيبين
إشي راكب واشي مشاة
يا فرحة أم العليل نهار الطبيب مشاه

وفي هذه الأقصوصة البالاد التي يحكيها الموال عن عليل انفضت عنه كل الناس حتى زوجته، التي نطت من الحيطان وسقطت كبغي، وأصبح العليل وحيدًا إلا من أمه وأخته وتجربته.

وفي النص التالي يتوجع قائله من تعذيب البين له، بل إن البين يتوحد صراحة هنا بالجبرية، إلا أنه يتحداه وينازله مستشهدًا بما تواتر في السيرة الهلالية:

ليه انت يا بين لك حربه وسجاله؟
تضرب بلا نبل في المهجة وسجاله
دا البين ركب على بكرته
وعلى من بعد ساج حاله
من صغر سني يا بين واحكامك عليَّا جبر
لفعل معاك يا بين كما فعل الزناتي في جبر
هو انت يا بين مش خايف من الآخرة ونزول الجبر؟!
دا البين طبخلي صبر في حلة وساجاني

وتطل السلفية وعبادة السلف في هذا النص عن البين، الذي استمد قائله تشبيهاته من عمله في الجرن، وكيف أن البين كان يهدم له عمله بخلطه القمح على نخالته من تبن وغَلَت:

البين كواني وبعد الكي غلبني
تبني تعلي وإيه يفيدك بعد ما تبني؟
وقعدت ادرِّي خلط قمحه على تبني
وقعدت ادري خلط قمحه على الغلت٩ تاني
وكله عند الله مكتوبلي ومشتالي ومتداري
واللي عملته في ابويا ضروري يخلصه ابني

إن البين ذلك الكائن الخرافي المتجبر يملك على الدوام التحكم في «شعائر» انتقالاته، بذله وإصابته بالعمى وحرمانه من الابن أو الضنى:

يا بين داير ورانا بالأسى ماريناه
جرحت والفرقة دي مدة سنين ماريناه
وصبحت معي جرح ساكن في الحشا ماريناه
هو انت يا بين عندي تابعه ولا دين
لف البلد يا بين تلاقي ما ورايا ولا دين
وعميت العين وشبنا حتى الضنى ماريناه
١  واعية له، أو مدركة واعية.
٢  ما أراد أسماه.
٣  وقلة خل.
٤  وقليل الخل والأصدقاء.
٥  وقال لي إنك تخيل، من خيلاء.
٦  تركته وهربت وسقطت، أصبحت عاهرة.
٧  في ذلك الدن، أي من النيالة النيلة، وأصبحت منحطة أو عاهرة.
٨  وأزيل وأتخلص مما علق بي من غش.
٩  الغلت: حبوب زراعية من الحشائش الضارة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤