مقدمة

دوافع الكتابة عن النوبة التي كانت

بدأ اهتمامنا بالنوبة أيام كنا طلبة في معهد الدراسات السودانية في العامين ١٩٤٩–١٩٥١م، وهو المعهد الذي أنشأه أستاذنا وأستاذ الجغرافيا في مصر والعالم العربي الدكتور محمد عوض محمد، كمعهد عالٍ للدراسات النيلية والسودانية تابع لجامعة فؤاد الأول — القاهرة حاليًّا — يدرس فيه خريجو الجامعة من مختلف التخصصات موضوعات عدة، منها الجغرافيا والأنثروبولوجيا والتاريخ والآثار، وهيدرولوجية مياه النيل في إطار السودان ووادي النيل، ويُحاضر فيه نخبة من الأساتذة والعلماء والمتخصصين، نذكر منهم الأساتذة محمد عوض، شفيق غربال، سليمان حزين، عبد المنعم أبو بكر، حسين فهمي، حسن عثمان، محمد محمود الصياد، رشدي سعيد، وغيرهم ممن لم تسعفنا الذاكرة أسماءهم.

وقد بلغ الاهتمام بالنوبة أشده حين تخرجنا من المعهد وأراد محمد رياض أن يسجل رسالة للدكتوراه بعنوان «قبيلة المحس في بلاد النوبة»، واشتهر لفترة بين زملائه باسم «نوبة محس»، لكن السنين دارت ودرس محمد رياض موضوعًا عن قبيلة الشُّلك في السودان الجنوبي، بينما درست كوثر عبد الرسول موضوعًا أفريقيًّا آخر عن شمال نيجيريا، وذلك في الأعوام ١٩٥٣–١٩٥٦م في جامعة فيينا (النمسا).

ومرة أخرى كان لكتابات أستاذنا الدكتور محمد عوض عن عمليات استقرار البدو ومراحله في مصر، ثم دراسته لموضوع تهجير النوبيين السودانيين الذين ستغرق أراضيهم بعد تكوين بحيرة السد العالي، إلى مواطن في شرق السودان الأوسط؛ أثره الكبير في إعادة اهتمامنا بموضوع النوبة المصرية، وحينما ظهرت في الأفق عملية تهجير كاملة للنوبيين إلى أماكن جديدة في شرق حوض كوم أمبو، قام مركز البحوث الاجتماعية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة بمخطط دراسي لسكان وثقافة سكان النوبة، وذلك بمنحة من مؤسسة فورد الأمريكية، وقد ظهر أن مكونات النوبة السكانية تشمل مجموعات صغيرة غير الكنوز والنوبيين، وعلى رأسها عشائر تنتمي إلى العبابدة، استقرت تمامًا في مناطق متعددة في بلاد الكنوز والعليقات، واشترك محمد رياض في المخطط الدراسي لمركز البحوث الاجتماعية سالف الذكر ببحث عن عبابدة عمدية سيالة، وقد قمنا — رياض وكوثر — بدراسة ميدانية في سيالة والعلاقي في يناير-فبراير ١٩٦٢م.

وقد شحذت هذه الدراسة حمية البحث لدينا عن النوبة بوجه عام؛ فقمنا سويًّا برحلة نهرية استعرنا فيها أحد «لنشات» الجامعة الأمريكية في النوبة، وبدأنا الرحلة من مرسى اللنش في نجع قناوي — عمدية أمير كاب — وتوقفنا في محطات مختارة من أجل المسح العام الميداني في عمديات قرشة والعلاقي وسيالة والمضيق من بلاد الكنوز، والمالكي والسنجاري من بلاد العليقات وكورسكو التي تتميز بخليط من العليقات والنوبيين والعبابدة، ثم الدر وتوشكى غرب من بلاد النوبيين — يشار إليهم أحيانًا باسم الفديجة — وكان المخطط أن نستمر حتى بلانة وأدندان، لكن ظروف تيار النيل الجارف، مع الدوامات وغير ذلك من العوائق أثناء الفيضان؛ حال دون إتمام الرحلة جنوبًا، فقفلنا راجعين، وقد استغرقت هذه الرحلة شهر سبتمبر ١٩٦٢م بأكمله.

ومن خلال هذه الرحلة تبينا أهمية عمدية كورسكو؛ لما فيها من اختلاط عشائري لمجموعات لغوية مختلفة نتيجة موقعها الجغرافي على بداية طريق وادي كورسكو، الذي هو أقصر طريق مباشر إلى شمال السودان، لهذا عقدنا العزم على العودة مرة أخرى للقيام بدراسة لمنطقة كورسكو وما جاورها من عمديات — السنجاري والمالكي والريجة وأبو حنضل — واستغرقت هذه الدراسة شهرًا آخر؛ منتصف يناير إلى منتصف فبراير ١٩٦٣م.

وهكذا تجمعت لدينا معلومات وملاحظات عن النوبة المصرية خلال موسمي الصيف والشتاء، وشاهدنا متغيرات البيئة النوبية بين امتلاء خزان أسوان وتفريغه، وشكل النهر الطبيعي خلال الصيف وتدفقه القوى وتأثيره على حركة النقل التجاري، وتنقل الناس بين العمديات، والمساحات الزراعية خلال الصيف-الخريف، والسكون الاقتصادي خلال الشتاء-الربيع، إلا من الأنشطة الاقتصادية التي يقوم بها بعض من سكان الصعيد في النوبة، وخاصة صيد السمك وعمل الفحم النباتي، هذا فضلًا عن الخدمات التي تؤديها بعض أجهزة الدولة وبخاصة التعليم والصحة والأمن والبريد.

وقد نشرنا نتائج هذه الدراسات باللغتين العربية والإنجليزية في الحوليات العلمية في حينها، لكن بقي لدينا رصيد كبير من مذكرات الميدان، ومئات الصور كسجل متمم لمعرفة بيئة وحياة النوبيين، قبل أن تغرق تحت مياه بحيرة السد العالي، التي تُسمى في كثير من الأحيان بحيرة ناصر، وكذلك لدينا بعض السجل الصوتي لأغاني المناسبات، لكننا لا ندري ماذا نفعل بها؛ لأنه لا يوجد أرشيف صوتي قومي في مصر حسب معلوماتنا. وبقي الحلم يراودنا أن ننشر هذه المعلومات كسجل تاريخي باسم «وصف النوبة»، على غرار كتاب الحملة الفرنسية المشهور «وصف مصر»، وقد بدأنا العمل في الكتاب عام ١٩٦٦م، ثم توقفنا لانشغالنا بإصدار كتب علمية وأبحاث في منطقة الخليج العربي. وفي خلال تلك المدة ظل كتاب النوبة هاجسًا يلح علينا من آن لآخر.

وأخيرًا عكفنا منذ عامين على هذا الكتاب، ليس كبحث عما كانت عليه النوبة قبل السد العالي فقط، ولكن لنعرف كيف تكيف الناس وتلاءموا مئات السنين في هذه البيئة القاسية، لعلنا نستفيد درسًا من دروس التكيف والتلاؤم في حالة التنمية الجادة لإقليم النوبة حول بحيرة ناصر وأذرعها وخلجانها الممتدة في الوديان والأخوار المتآخمة.

ولعلنا نعرف من يقوم بالتنمية؛ الحكومة أم الأهالي؟

ومن هم الأهالي؟ نوبيون فقط أم أيضًا من سكان الصعيد الأعلى؟

وما وجه الشراكة بين الحكومة كمتخذ للقرار، والأهالي كمنفذين لمشروعات يرونها أرجح؛ لأنهم أقرب إلى الأرض ومعادلاتها الصعبة، من القرار المبني على دراسات جدوى فيها من العموميات ما يحتاج دائمًا إلى المحك التجريبي؟

لعلنا نُوفق فيما نرجوه من فائدة علمية وثقافية ووطنية.

والله والوطن من وراء القصد.

المؤلفان
القاهرة في ديسمبر ١٩٩٧م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤