الفصل الثالث

أنقذونا … الحقونا …

يتذكر د. رياض تجربة أول تحرك للقارب «لندا» وما صادف ذلك من شيء أشبه بالمغامرة على سطح النيل.

***

بعد أن وضعنا كل أمتعتنا داخل «لندا» حضر إلى الشاطئ شخصان، حسبناهما من سكان النجع الذي كنا نراه على بعد عالٍ فوق حافة صخرية، لكن اتضح أنهما من العبابدة يرعون إبلهم، ويبدو أن توقف «عمدا» ونزولنا منها قد أثار فضول سكان النجع، كان الريس محمد علي شاجة أحد سكان النجع، وهو البحار المكلف بحراسة القارب، وكنا نأمل في حضوره فور توقفنا؛ ليعرف ما الخبر، وما الذي يريده هؤلاء الغرباء من القارب، ولماذا وضعوا فيه حاجياتهم.

ولما طال صمتهم سألناهم هل الريس محمد موجود بالنجع، فقال أحدهم إنه متغيب منذ الصباح؛ فقد خرج بقاربه الشراعي وسوف يأتي عما قريب، وقد فتح الحديث عن الريس محمد شهيتهم للحديث والتساؤل: من نحن، ولماذا جئنا، وماذا نبغي، وماذا نفعل بالقارب. وأشبعنا فضولهم المنطقي، أخبرناهم أننا سنأخذ القارب في رحلة طويلة، فاعترضوا وقالوا إن ذلك غير ممكن بدون وجود الريس محمد، وطمأناهم أننا ما جئنا لنأخذ القارب بدون إذن الريس محمد فقط، بل إنه سيرافقنا في الرحلة ملاحًا ومرشدًا.

وفي تلك الأثناء كان عدد من الأطفال والسيدات قد حضروا إلى المكان، اقترب الأطفال في حين ظلت البنات والنساء على مبعدة غير يسيرة، ولكي تتجنب زوجتي الحر الشديد الذي يرتفع إلى أقصاه في الثالثة والرابعة بعد الظهر، وقد كنا كذلك، فقد ذهبت إلى البنات والسيدات لتتجاذب معهن أطراف الحديث، وتركت كل شيء معنا، وأخذت أنا وأسعد نديم نرتب أمورنا داخل القارب.

لقد حضر الأستاذ أسعد نديم معنا لأسباب؛ فإلى جانب معرفتي الوثيقة به كطالب دراسات عليا في معهد الدراسات الأفريقية الذي أُحاضر فيه، فقد حضر من قبل مركز البحوث الاجتماعية بالجامعة الأمريكية، الذي يعمل به باحثًا، لكي يعرفنا بأهل دهميت التي سبقت له زيارتها، وعلى وجه خاص بالحاج شاهين عبد اللطيف الذي يستأجر منه مركز البحوث بيتًا يخزنون فيه حاجيات معسكر البحث المقام هناك، وبالتالي التحدث مع الريس محمد أن يذهب ويعود معنا نظير مقابل ندفعه له.

على أنه كان هناك سبب جوهري آخر لتفضل أسعد الحضور معنا، فلقد سبق له أن تعرف على هذه القوارب حينما بُنيت في القاهرة لحساب مركز البحوث، وقاد بنفسه أحد القوارب الثلاثة في النيل أثناء التجربة، ولما لم أكن أعرف شيئًا عن هذه القوارب، فقد كان أسعد هو وسيلتي لتعلم قيادتها والقيام برحلتنا، لكن خبرة أسعد — كما أخبرني قبل قيامنا من القاهرة — خبرة محدودة بساعة زمن أو نحوها، وإن كان قد أكد لي أن قيادة القارب وتشغيله من الأمور غير العويصة، وزيادة في الحيطة أحضر أسعد كتاب تشغيل المحركات، وأخذ يقرؤه بعناية لكي يتذكر إجراءات التشغيل.

وعلى الشاطئ أخذت أرقب أسعد وأعاونه؛ كي أستطيع أن أؤدي العمل بعد أن يتركنا ويعود للقاهرة، بدأنا بخزانات الوقود فتعرفنا على طريقة اتصالها بالخراطيم التي تذهب بالبنزين إلى المحرك، ولكل محرك خزان، وكان هناك أيضًا خزانان إضافيان في باطن القارب، ثم رفعنا الخزانات الأربعة، وكان باثنين منهم بعض البنزين، فأفرغناه في خزانٍ واحد، وأشار المؤشر إلى أن به حوالي النصف أو أقل قليلًا، واستخرج أسعد من القارب كيس العِدد والمفاتيح اللازمة للصيانة السريعة، وفتحنا الصفائح الأربعة التي أحضرناها معنا في «عمدا»، وسكبنا الزيت بمقدار جالون لكل صفيحة، ثم ملأنا الخزانات الأربعة بهذا الوقود المختلط، كل هذا تحت سمع وبصر الرجال والأطفال حولنا.

وكان الحر الشديد والشمس اللاذعة قد أخذت منا كل مأخذ، فدخلنا القارب ومددنا السقف القماش على أعمدته الصغيرة، فلم يعد بالإمكان أن يقف الشخص بطول قامته، بل عليه الانحناء قليلًا حسب طول قامته؛ لتجنب ضرب الرأس في العوارض الخشبية التي ينزلق عليها القماش.

وفي ظل السقيفة هذه بدأنا نمعن القراءة في كتاب إدارة المحرك، ونروح ونجيء بين عجلة القيادة ومفاتيح البنزين ومحول السرعة «الفيتيس»، وكلها موجودة في المقدمة، وبين المحركات المثبتة في خلف القارب، ونتحسس الأسلاك والخراطيم وما إلى ذلك، حتى اعتقدنا أننا قرأنا ما يكفي للبدء في إدارة المحرك للتجربة، وتدار مثل هذه المحركات المائية بواسطة حبل قوي ذي يد مصنوعة من المطاط، وعلى الإنسان أن يأخذ اليد المطاطية في راحة يده ويقبض عليها بأصابعه، ثم يجذبها تجاهه بكل قوة لكي يبدأ المحرك في الدوران.

وأخذ كل منا حبل محرك وبكل عزم جذبنا الحبال، لكن أحد المحركات دار دورة واحدة فقط ثم سكن، وجذبنا مرة ثانية وثالثة ورابعة … وفي كل مرة تضعف قوتنا عن الجذب الشديد، ومع الحرارة العالية وجدنا أنفسنا وقد طفر العرق من كل مسام الوجه والرأس والجسم، وسال العرق في مسيلات متعددة على كل الجسد، ولم نستطع أن نقاوم فألقينا بأنفسنا على الكنبة.

وجاء فتى صغير يقول إن السيدة التي معنا قد صعدت إلى النجع في صحبة نساء النجع، وإنها تطلب حقيبة يدها وآلة التصوير الخاصة بها، فأعطيته ما طلبت وانصرف.

وعاودنا الكرة، ولكن بالنسبة لمحرك واحد نتبادل الجذب أنا وأسعد حتى لا تضيع قوانا سدى، وبعد فترة استراحة ثانية أخذنا نفكر لماذا، وقلنا لا بد أن هذه هي حال المحركات التي تظل خاملة فترة طويلة من الزمن، وأن علينا أن نواصل الجهد حتى تدور المحركات، وفي مرة دار المحرك؛ لم تكن «طقطقة» التروس التي اعتدنا سماعها طوال الساعة الماضية، بل دار دورات منتظمة، وكانت فرحة غامرة أثلجت صدورنا، لكن الفرحة ما أن غمرتنا حتى غاصت مرة أخرى؛ فإن دورات المحرك التي استمرت ما يقرب من ثلاثين ثانية ما لبست أن قل انتظامها …

ثم اهتز المحرك كله هزتين عنيفتين ثم … صمت.

لكن دوران المحرك ولو لفترة صغيرة أحيا فينا الأمل بعد يأس، ورحنا نكرر الجذب في المحرك نفسه، مرة يدور، ومرات يظل كالبغل العنيد يأبى الحركة، وظللنا هكذا إلى أن أصبح يدور مع كل جذبة، وانتقلنا إلى المحرك الثاني، وبعد جهد جهيد وإرهاق شديد دار هو الآخر مرة واحدة لفترة قصيرة، ثم أبى تمامًا أن يتزحزح عن موقفه!

ومع الجهد الذي بذلناه والعرق الذي غَسَلَنا، أخذنا نفرغ في جوفنا كميات كبيرة من الماء الذي أصبح ساخنًا في زجاجاته المصنوعة من البلاستيك، وربما بلغ ما شربناه خلال تلك الفترة جالونًا من المياه.

وبعد راحة قصيرة، ولما كانت الساعة قد أشرفت على نحو السادسة، ولم يكن الريس محمد قد عاد بعد، ولم تكن زوجتي قد نزلت من النجع، فقد قررنا أن نقوم بجولة صغيرة نجرب فيها المحرك الذي أصبح يعمل ويدور، وحينما أعلنا ذلك قال واحد من الرجلين الذين كانا مسمرين إلى مكانهما منذ أكثر من ساعتين يرقبان في تعجب وفضول ما نفعل؛ إنه يود أن يصحبنا في هذه الجولة، أما الآخر فقد انصرف.

واستجمعنا شجاعتنا وأدرنا المحرك، وقفزت إلى عجلة القيادة ويدي على محول السرعة كي أدفعه إلى الأمام لكي تنتقل الطاقة إلى المروحة الغائرة في الماء، ورفع العبادي المرسي «الهلب» ودفع القارب دفعة بعيدة عن الشاطئ كي لا تصطدم المروحة بالطين، ثم قفز هو الآخر داخل القارب، وأخذتُ أدير عجلة القيادة للتحكم في اتجاه القارب، لكني وجدتها تتحرك في سهولة غريبة، مما أثبت لنا أن فحصنا لم يكن تامًّا، فقد كانت الأسلاك التي تربط العجلة بالمحركات لتدير المراوح يمنة ويسرة مفككة، لكن ذلك لم يكن أمرًا ذا بال؛ لأنه يمكن توجيه المراوح بواسطة عصا مثبتة في المحرك، على أية حال فقد دفعت محول السرعة إلى الأمام، وأمسك أسعد بعصا الدفة، وزدت من سرعة القارب بواسطة عصا مثبتة بجانب عجلة القيادة، وانتظرنا أن يُسرع القارب للأمام، لكن ذلك لم يحدث!

لقد كان القارب يتحرك فعلًا، ولكن بواسطة تيار الماء وليس بقوة دفع المحرك، زدت من دفع عصا البنزين إلى أقصى قوة، لكن ذلك لم يؤد إلى دفع القارب، وإن زاد من صوت المحرك فقط، حينئذ علمنا أن الطاقة لا تنتقل إلى المروحة لسبب ما، ولكن كيف ينفعنا الآن معرفة السبب وقد أصبحنا على مبعدة كبيرة من الشاطئ؟! لقد مضى على انهماكنا في محاولة تسيير القارب وتوجيهه وتبيُّن أن هناك عطلًا؛ ما لا يزيد عن ثلاث دقائق، لكن المكان الذي كنا نرسو فيه قد بعد مسافة كبيرة، ولا يوجد على الشاطئ أحد يمكن أن نُناديه.

وخيم علينا قلق كبير، وصمت شامل؛ ماذا نفعل و«لندا» تسير طوع التيار، ولا تترك لنا بارقة أمل أن نستطيع كسب ودها؟ فهي لا تُسلم الزمام إلينا، ولولا أن لندا كانت موسوقة تمامًا بأمتعتنا ومعداتنا لكانت حركتها أسرع مع تيار النهر السريع، لكنها ظلت في اتجاهها منذ الدفعة الأولى تسير في خط مائل كما لو كانت ستقطع النهر بزاوية محسوبة، ولكن هل سيظل الأمر على هذا النحو، أم ينقلب اتجاهها تدريجيًّا ويصبح أحد الجوانب هو الذي يتلقى صدمات الموج؟

ولم يكن هذا هو الهاجس الوحيد، فقد فوجئنا بماء يرتطم في القاع يمنة ويسرة كلما اهتز القارب وقطع موجة من التموجات العديدة التي يزخر بها تيار النهر، وانتابنا فزع مكتوم: أيحتمل أن يكون بالقاع شرخ أو كسر يتسرب منه الماء إلى الداخل بعد أن ثقلت لندا؟ وأخذنا نرقب الماء بين الحين والحين فنجده في ازدياد ملحوظ، وبدأت العلب الفارغة في القاع تتحرك مع حركة الماء، محدثة أصواتًا أحالتنا إلى كتلة اختلط فيها الخوف والفزع، لكن تماسك كل منا محاولًا إخفاء مشاعره تحت ابتسامة باهتة.

وكان لا بدَّ أن نفعل شيئًا، وانتابتنا حركة محمومة فقررنا أولًا أن نرفع المحرك من الماء لنرى العطب، ولكن كلما رفعنا المحرك ازدادت سرعة لندا، فقررنا أن نترك المحرك ليزيد الثقل نتيجة الاحتكاك بالماء، وتداولنا قليلًا ثم اتفقنا على نزح الماء من باطن القارب كخطوة أولية، وبكل ما وجدناه من علب فارغة أخذنا ننزح الماء نحن الثلاثة بهمة ونشاط، وحينما كلَّت أيدينا كان الماء قد تناقص بصورة ارتحنا لها وبردت أعصابنا.

ولكن ماذا بعد ذلك؟ هل ستظل لندا ميممة شطر الشمال حتى نصطدم بصخرة من مئات الصخور البارزة هنا وهناك شمال منطقة دهميت؟ وتساءلنا: لماذا لا تكون مثل هذه القوارب مجهزة بمجداف أو اثنين يمكن استخدامها في مثل هذه المواقف الطارئة؟ قطعة طويلة من الخشب العريض كان يمكن أن تفيد في توجيه القارب على الأقل، وبحثنا في القاع عن أي شيء يفيد دون جدوى، «ولقد ظلت هذه رغبة لم تتحقق، فقد سألنا في كل مكان رسونا فيه فيما بعد عن مجداف، لكن أحدًا لم يكن عنده ما نُريد!»

وكان موقفنا سيئًا؛ فإنه قد وضح لنا أنه لا إنقاذ إلا إذا رآنا أحد القوارب الشراعية الكبيرة، وغامر بعبور النيل إلى حيث كنا في وسط المجرى تمامًا، ورمى إلينا بحبل وجرَّنا إلى أي شاطئ، ولقد أعاد إليَّ موقفنا في النيل صورة تجربة مماثلة مررت بها وزوجتي في إحدى بحيرات النمسا أثناء دراستنا هناك في أوائل الخمسينيات — أي منذ نحو عشر سنوات — وكان هناك مكان محبب إلينا هو منطقة «سالزكامرجوت» Salzkammergut المليئة بالبحيرات، ففي إحدى المرات كنا على ضفاف بحيرة «تراونزيه» Traunsee، شاطئها الشرقي جبلي تشرف عليه قمة «تراونشتاين» Traunstein استأجرت قارب تجديف — كعادتنا — للاستمتاع بالمناظر الطبيعية، ومياه البحيرة يسبح عليها الكثير من الإوز البري «التم»، وفي طريق عودتنا إلى الشاطئ اكفهر الجو فجأة بعد أن كان صافيًا رائقًا كالعادة في الصيف، وأسرعت بالتجديف قبل أن يحدث ما لا تُحمد عقباه، ورأينا القوارب الشراعية تملأ أشرعتها الرياح، وقد بادرت كلها بالفرار إلى المرسى الآمن، وسرعان ما أقفرت البحيرة الواسعة من المراكب، وبدا لنا أن قاربنا ينجرف مع تيار كبير متجه للشمال، ولم نعرف ماذا نفعل، فالتجديف لم يعد يُجدي، ويبدو أن الناس قد تجمعوا على الشاطئ يشيرون إلينا، ولكننا لا نراهم ولا نسمعهم، وفجأة خرج قارب شراعي من المرسى متجهًا نحونا، ويبدو أن قائده ملاح متمرس، وحين اقترب ألقى إلينا بحبل تشبثنا به وجرنا إلى المرسى، حيث شاهدنا الناس في لهفة لإنقاذنا، وحيوا الملاح الشهم بالتصفيق، وعرفنا منهم أن البحيرة الكبيرة تتعرض في بعض الأوقات لعواصف فجائية، وأنه كان من الممكن أن تقذفنا الرياح وقوة التيار إلى صخور الجبل على الشاطئ الشرقي، وبعدها لم أغامر مرة أخرى في البحيرات الجبلية.

تذكرت هذه التجربة وتمنيت لو أن قاربًا شراعيًّا من القوارب الثلاثة التي بدت لنا على البر الغربي وقد امتلأت أشرعتها بالهواء؛ بادر بإنقاذنا، وصاح زميلنا العبادي ينادي ملاحي هذه المراكب، وعرفنا أنه يصيح: أنقذونا … الحقونا … حنغرقوا … ولكن أحدًا — فيما يبدو — لم يسمعنا.

وأثار انتباهنا أمر توقعنا أن يكون أوخم عاقبة من مجرد الطواف مع التيار إلى الشمال: فقد لاحت لنا في الأفق السفينة السياحية «نفرتيتي»، وهي من النوع الذي يُسمى هيدروفيل الذي يرتفع فيه جسم السفينة بعد سرعة معينة عن سطح الماء، وتظل زحافاتها ملامسة للماء، ويؤدي ذلك إلى سرعة كبيرة ربما بلغت ٦٠كم/ساعة نتيجة تقليل احتكاك جسم السفينة بالماء، وكانت «نفرتيتي» تقوم في تلك الفترة برحلات تجريبية بين أسوان وكلابشة؛ تمهيدًا لقيامها في الموسم السياحي الشتوي برحلات سريعة بين أسوان وأبو سمبل، وأثناء سيرها مرتفعة، كانت تشبه طائرًا من طيور الماء ذات الأرجل النحيفة الطويلة كالفلامنجو، أو وحش بحري أسطوري، أو جرادة بشعة تضخمت مئات المرات. كتمنا أنفاسنا و«نفرتيتي» تقترب منا بسرعتها العظيمة، فهي لا تستطيع أن تغير خط سيرها لتبتعد عما يُصادفها إلا بزاوية منفرجة مع تقليل تدريجي للسرعة، وفي داخلنا تساءلنا: هل رأى القبطان «لندا» الصغيرة طافية بلا معين في قلب النهر؟ وإذا كان القبطان قد رآنا وتنبه لوجودنا وابتعد قليلًا عنا، فهل ستنجو «لندا» الصغيرة المثقلة بحمولتها من الأمواج الكبيرة التي ترسلها «نفرتيتي» أثناء عبورها قريبًا منا؟ ومثل هذه الأفكار القاتمة مرت أمام مخيلتنا بسرعة متوقعين الخطر ونحن عاجزون عن أن نفعل شيئًا.

ولكن لحسن الحظ لم تكن نفرتيتي تتوسط النهر، بل كانت أميل إلى الجانب الشرقي، شأنها في ذلك شأن معظم المراكب والسفن التي تتجنب التيار المائي الشديد في وسط النهر، وبذلك وصلت إلينا أمواجها ضعيفة غير عميقة، هزت «لندا» هزات خفيفة، أو لعل ما توقعناه من موج كبير جعلنا نحس أن أمواج «نفرتيتي» ليست كبيرة، لكن الحقيقة التي بدت لنا بعد تدبر الأمر حين وصلنا الشاطئ واستراحت أعصابنا، أن الموج لا يتناسب مع السرعة؛ لأن الزحافات هي التي تلامس الماء وليس جسم السفينة كله، أو هكذا كان ظنُّنَا فيما بعد.

وبعد مرور «نفرتيتي» وزوال الخطر زفرنا بارتياح، ولما لم يكن هناك تغيير جوهري في موقفنا فقد أخذنا نقطع الملل ونخفي اليأس بحديث عن «نفرتيتي» وما هي سرعتها القصوى، وكم من الركاب تحمل، وعجائب التقدم التكنولوجي.

ثم انتهى الحديث وقضينا فترة في صمت وتأمل داخلي، بحيث لم نتنبه إلى الشراع الكبير وهو يتحرك نحونا إلا بعد أن صاح زميلنا العبادي فرحًا، مشيرًا إلى المركب الذي يقترب منا في خطوط متعرجة حسب الريح والتيار، والتقط العبادي الحبل الذي ألقته السفينة الشراعية بلهفة عظيمة، فقد كان الوحيد بيننا الذي يُرسل مشاعره على سجيتها دون تحفظ، وطلبنا من ريس المركب أن يعود بنا إلى مرسى نجع قناوي، فقال: لقد بعدتم عنه نحو خمسة أو ستة كيلومترات، ولا يمكنني أن أسحبكم إليه ضد التيار. لقد كان موقفًا محرجًا، فالدكتورة كوثر ما زالت هناك، ولا بدَّ أنها قلقة أشد القلق لغيابنا، ولعلها سمعت صوت المحرك يتوقف، أو لعلها شاهدت «لندا» تطفو إلى وسط النهر عاجزة عن الحركة!

وفكر أسعد في الموقف ثم قال: إننا لا بدَّ قريبون من النجع الذي يوجد فيه الحاج شاهين في دهميت، فلماذا لا ننتهز الفرصة وننزل إلى البر الشرقي ونتكلم معه على الترتيبات اللازمة. وطلبنا من الريس أن يرسو بنا على البر الشرقي، ونزلت أنا وأسعد وربطنا «لندا»، بينما ركب الزميل العبادي المركب الشراعي المتجه إلى البر الغربي مع توصيتنا أن يرسل أحدًا إلى نجع قناوي يُطمئن زوجتي والريس محمد إذا كان قد عاد. ولكن للأسف كانت المسافة إلى نجع قناوي بعيدة، وكانت الساعة قد أشرفت على السابعة والنصف، وحين عاد لا بد أنها كانت الثامنة، والشمس تغيب بسرعة، فلم يتمكن من إبلاغ الرسالة إلا متأخرًا.

كان رَسْوُنا على البر الشرقي قرب حقل من الحقول، سرعان ما خرج منه رجلان سألهما أسعد عن الحاج شاهين، قال أحدهما إن الحاج في أسوان، لكن والده موجود في الحقل المجاور. توجه أسعد إلى الحقل وبقيت جنب القارب أسترجع ما حدث وأنا في عظيم الدهشة، وبدأ الغروب سريعًا، ومعه أحسست بانخفاض سريع في درجة الحرارة مع نسمات خفيفة منعشة، وطال الحديث بين أسعد ووالد الحاج شاهين، وكنت أستطيع أن أتبين هيأتهما بين عيدان الذرة، لكني لم أسمعهما، ثم جاء أسعد وأخبرني أن والد الحاج سيتوجه إلى بيته، وسيرسل لنا حمارًا لنقل أمتعتنا؛ خوفًا من تركها وحدها في القارب طوال الليل.

وأخذنا نتجاذب أطراف حديث طويل قبل أن يصل الحمار، وكانت الظلمة قد لفَّتنا تمامًا، ولم يصعد القمر بعدُ إلى أعاليه كي يعطي بعض الضوء، ونقلنا أحمالنا من القارب إلى البر الطيني ذي الشقوق الواسعة، وطلب مني أسعد أن أذهب مع الحمولة الأولى ويبقى هو مع المتاع إلى حين حضور الحمار مرة ثانية، وأخبرني أننا موجودون شمال مسكن الحاج شاهين بنحو كيلومترين على وجه التقريب، ولكني طلبت منه أن يذهب أولًا، فهو على معرفة الآن بالوالد، ويمكنه أن يدبر بعض الأمور معه أو يتجاذب معه الحديث إلى حين وصولي إليهم.

وركب أسعد وأمامه حمل كبير، وبين ذراعيه أحمال أخرى وعلى كتفيه بعض آلات التصوير، فقد كنت وزوجتي قد أحضرنا أربع آلات تصوير وآلة سينما ١٦ملم تزن وحدها نحو ثمانية كجم؛ لتسجيل الظاهرات في حركتها، إضافة إلى جهاز تسجيل صوتي يعمل بالبطارية الجافة، وآلة سينمائية أخرى أحضرها أسعد، وإلى جانب ذلك صناديق بها الأفلام وشرائط التسجيل ولمبات فلاش للتصوير الليلي، وبدا أسعد أصغر من المحمولات على ظهر الحمار.

وجلست فوق صندوق من صناديقنا وقد أطبق الصمت على المكان، ورحت أفكر فلم أستطع التفكير؛ فقد كنت مجهدًا من عناء هذا اليوم الطويل: من أسوان، إلى غرب أسوان، إلى السفينة عمدا، إلى نجع قناوي، إلى مغامرة النيل … ورحت أتسلى بإضاءة البطارية التي أحملها بين الحين والآخر، أحاول أن أحدد أماكن الشقوق وحقل الذرة الذي يحيط بي، أو أوجه الضوء إلى الشرق محاولًا تقصي نهاية السهل الفيضي وبداية الحاجز الصخري دون جدوى، وأقوم أتمشى قليلًا محاذرًا أن أفقد توازني فوق أحد الشقوق الواسعة، ولا بد أنه قد مضى عليَّ قرابة الساعة وأكثر قبل أن أسمع وقع الحوافر، جاء رجلان ومعهما حماران؛ لأن باقي المتاع كان كثيرًا، وأنا متعب لا أكاد أسير المسافة كلها على قدمي.

حملت جهاز السينما الضخم على كتفي وآلات تصوير أخرى، وساعدني أحدهم على ركوب الحمار ووضع أمامي بعض الحقائب، وحُمِّلت الصناديق والحقائب الأخرى على الحمار الآخر، وسار موكبنا الصغير طويلًا في المنطقة السهلية، ولم أبدأ في التنبه إلى وصولنا إلى المنحدر المؤدي إلى أعلى إلا عندما مال الحمار بي إلى الخلف، وزادت زاوية الميل كثيرًا لدرجة أن الحقائب التي أمامي كانت تدفعني إلى الخلف، وأحمال كتفي تشدني إلى الأرض، وبعد فترة وجدتني شبه واقف على الأرض والحمار انفلت من تحتي! ويجب أن أعترف أنني لست ممن يجيدون ركوب الحمير أو غيرها بحكم نشأتي في القاهرة وانعدام الصلة بالريف، وبعد وقوعي أخذنا نلملم ما انفرط من أغراض، وفضَّلت ارتقاء المنحدر على قدمي، وبعد فترة التوى بنا الدرب ووجدنا أنفسنا بين البيوت، وسرنا حتى بوابة ضخمة دلفنا منها إلى حوش واسع بدا أكثر اتساعًا في ضوء القمر الذي كان قد تسلل في صمت إلى أعلى.

إلى اليمين كان أسعد جالسًا على عنجريب طويل وعلى مائدة صغيرة فانوس من النوع المقاوم للريح، وفي ظل القمر جلس شيخ لم أتبين ملامحه، وإن كان الضوء القليل المنبعث من الفانوس قد أعطاه وقارًا كبيرًا؛ تحت العمامة الكبيرة كان وجه صغير نَمَتْ حوله لحية بيضاء صغيرة، وكان ذلك هو والد الحاج شاهين عبد اللطيف، وألح الشيخ أن يأمر لنا ببعض الطعام، لكن كان معنا بعض السندوتشات الباقية من الغداء، ورحبنا بالشاي الذي قدمه لنا، ومضت نصف ساعة في عبارات الترحيب المعتادة، وبلغت الساعة نحو الحادية عشرة، والجهد بلغ منا مبلغه، وأخيرًا دخلنا غرفة واسعة واستلقى كل منا على عنجريب حتى الصباح الباكر.

أنعشتنا رطوبة الصباح مع رشفات الشاي والبيض الذي أعده أهل الشيخ، وفي ضوء الصباح بدا لي الشيخ وسيمًا وافر الأدب جم النشاط رغم تقدمه في العمر، يتكلم في صوت خفيض به بعض رعشة، ويرد على السؤال بعد تروٍّ وفي إيجاز، كما هي عادة أهل النوبة من كبار السن.

وتجولت حول المنزل قليلًا، ثم صعدت إلى السور، فتفتحت عيني على منظر آخذ بالمجامع، فالبيت على ربوة عالية والدرب ينحدر ملتويًا بين البيوت، وينفرج المنظر عن مساحة شاسعة من الخضرة الزاهية، وبعدها يمتد النيل كشريط طويل يقسم المنظر البانورامي المفتوح قسمين: فعبر النهر كان الشاطئ الآخر يمتد عاليًا وفوقه تناثرت البيوت البيضاء، وقد سجلت ما رأيت بالسينما والصورة، ولكن كلما نظرت إلى الصور أرى أن العين البشرية ترى أشياء أجمل بكثير مما تسجله عدسة التصوير؛ لأن العين لا تجتزئ المنظر، بل تراه شمولًا متكاملًا.

وعلى قدر ما كان هذا المنظر ينبض بالخضرة والماء والحياة، كانت التفاتة إلى الخلف تكفي لأن أعرف أين أنا من خط الحياة والموات، فالجبال الجرداء تضرب ستارًا حاجزًا بين النوبة الحية والصحراء التي تتناثر فيها بعض أشجار السيال الشوكي في مناطق متفرقة محدودة.

وحوالي الثامنة كنت لا أزال مأخوذًا بالمنظر أدقق النظر إليه بواسطة العدسات المقربة في جهاز السينما، وفجأة ظهرت زوجتي من خلال العدسة ومعها نوبي طويل القامة وحولهما زفة صغيرة من الأطفال، كانوا يصعدون الدرب الطويل متجهين نحونا، وكانت جائعة، فهي لم تذق طعامًا منذ سندوتشات ظهر أمس، وعلى الفور أعد الشيخ عبد اللطيف طبقًا من البيض المقلي والشاي، وأخرجنا من مؤننا بعض الجبن والخبز، وكانت وليمة إفطار شهية.

وبعد استراحة قصيرة أخذنا نتدبر أمورنا، وقررنا أن نرسل بعض أحمالنا بالبوستة على عدد من المحطات، كما فعلنا من قبل بصفائح البنزين؛ وذلك لكي نتجنب شحن كل شيء معنا في القارب الصغير، فبعض ملابسنا النظيفة وجانبًا من المؤن وضعناها في حقيبتين نتسلمهما في سيالة والمالكي؛ باعتبارهما محطات متوسطة، نأخذ منها بعضها في الذهاب، والباقي في رحلة العودة.

وفي الوقت الذي كنت فيه وزوجتي منشغلين بإعادة ترتيب الأغراض، كان أسعد قد نزل إلى الشاطئ مع الريس محمد لإصلاح القارب، ولم يمضِ وقت طويل على ذهابهما حتى سمعنا صوت المحرك يعمل، فنظرنا فإذا بالقارب يسير ويدور عدة دورات، كان الريس محمد يختبره.

وحين عاد أسعد إلى النجع، كان الريس محمد قد توجه بالقارب — وقد ربط إليه مركبه الشراعي — إلى نجع قناوي ويخبر أهله بسفره معنا، ويترك لهم ما يعينهم على المعاش إلى أن يعود، وقال لي أسعد: إن المحرك كان يحتاج إلى لمسة سحرية؛ فما أن جذب الريس محمد حبل المحرك الآخر حتى دار على الفور، وكنا قد ذكرنا له أن المحرك الذي دار معنا لم يكن ينقل الطاقة إلى المروحة، فقال لنا إننا كنا سيئي الحظ؛ لأن هذا المحرك معطل منذ فترة، ولو كنتم ركزتم على المحرك الثاني، لكان قد دار فعلًا وجنبكم مغامرة الأمس. واختتم: لكن جت سليمة! كذلك سألناه عن المياه التي كانت تزيد في جوف القارب فقال: إن ذلك راجع إلى بقاء القارب بضعة أشهر راقدًا في مرساه تحت أشعة الشمس؛ فجفت أخشابه وتشققت، وحين عاد القارب إلى الماء تسربت المياه إليه، ويجب نزحها من حين لآخر لمدة يومين أو ثلاثة أيام حتى يبتل الخشب تمامًا، فيتمدد وتغلق الشقوق تمامًا، وهذا هو ما حدث بالفعل في الأيام التالية.

وإلى أن عاد الريس محمد كنا قد تغدينا، وتركنا الحقائب التي سترسل على باخرة البوستة إلى سيالة والمالكي عند وكيل بريد دهميت ونحن مطمئنون تمامًا؛ فالأمانة هي سمة أهل النوبة الكرام، وفي الثانية بعد الظهر بدأ موكبنا يتحرك إلى «لندا»، وفي الثالثة والربع رفع محمد المرساة وأخذ العجلة بين يديه، بينما نحن نلوح للجمع الذي جاء لوداعنا على الشاطئ، وكانت فرحتنا عظيمة إذ بدأت رحلتنا الحقيقية بالفعل، وكان هدفنا هو كلابشة، حيث توجد عمليات نقل معبد كلابشة الذي تقوم به البعثة الألمانية، هناك كنا نأمل أن يصلح أحد المهندسين العطب الذي أصاب محرك «لندا» الثاني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤